التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
انتشار التصوف في العالم ( الإسلامي ):

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٦ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

  التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخا 

إنتشار التصوف في العالم ( الإسلامي ):

1 ــ عن اضطهاد الرواد الصوفية الأوائل على يد السنيين المتشددين  يقول ابن الجوزي المؤرخ الفقيه الحنبلى فى كتابه ( تلبيس إبليس ) ألذى أفرد معظمه فى الانكار على الصوفية : ( أول من تكلم في بلدته فيترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري، فأنكر عليه ذلك عبد الله بن الحكموكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك ، وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنهأحدث علما لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة ، وقال السلمي : وأخرج أبو سليمانالداراني من دمشق وقالوا أنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه ، وشهد قوم على أحمدبن الحواري : أنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة ، وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقوله حيث أنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي (ص) معراج ، فأخرجوه من بسطام ،  وأقام بمكة سنتين ثم رجعإلى جرجان .. وحكي رجل عن سهل بن عبد الله التستري أنه يقول أن الملائكة والجنوالشياطين يحضرونه وأنه يتكلم عليهم ، فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح ،فخرج إلى البصرة فمات بها .. وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات ،فهجره أحمد بن حنبل ، فاختفى إلى أن مات )(51).

لم يستمر هذا الاضطهاد طويلا ، إذ ما لبث أن إنتشر التصوف وساد واصبح أربابه بعد خمسة قرون يضطهدون ابن تيميه الفقيه السنى الحنبلى وأصحابه . هذا التطور الذى إستلزم قرونا نشير فى لمحة سريعة ، وإن كان يحتاج الى بحث خاص لا محل له هنا.

2 ــ لقد ساد دين السّنة عمليا العصر الأموى ومعظم العصر العباسى ، ثم مع وهن الخلافة العباسية وسيطرة عصبيات عسكرية على بغداد وقيام دول مستقلة تتبع الخلافة العباسية إسما خارج العراق ، بل قيام دولة شيعية بخلافة فاطمية قوية نافست الخلافة العباسية فى بغداد ، فأصبح ( التصوف السنى ) هو البديل حيث يحتاج الحاكم الأعجمى الى شيخ صوفى يتراقص أمامه بديلا عن الفقيه السّنى الحنبلى الذى يريد السيطرة باسم ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) .

وبانتشار التصوف فى الدولة الفاطمية وفى الدول التابعة إسما للخلافة العباسية كان منتظرا أن يتم إستخدامه سياسيا ، فظهر ( تصوف شيعى ) يعمل لصالح الفاطميين والشيعة و ( تصوف سنى ) يلعب لصالح القوة الحاكمة السنية  . وبإنهاء الخلافة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبى ظل التصوف الشيعى يعمل فى الخفاء ضد التصوف السّنى . فعمل صلاح الدين الأيوبى على أن يحارب التشيع والتصوف الشيعى بالتصوف السنى.  وما لبث التصوف السنى أن إحتكر الساحة فى العصر المملوكى التالى بعد العصر الأيوبى ، بل وإضطهد السنيين المتشددين الحنابلة الذين لم يكونوا ينكرون على التصوف نفسه بل على بعض المتطرفين من الصوفية . وهذا ما سيظهر فى حركة ابن تيمية ومدرسته .

3 ـ  لقد شهد العصر العباسى الثانى تغيرات سياسية متداخلة ومعقدة :

3 / 1 : من الشرق بدأ الخليفة المعتصم والمتوكل فى إستقدام الأتراك قوة عسكرية ، وجعل الخليفة المتوكل من السّنة دينا رسميا وبدأ فى عهده نفوذ الحنابلة ، وسيطر القادة الأتراك على الخلفاء ، ثم ضعفوا فوقعت الخلافة العباسية تحت سيطرة بنى بويه الشعية ، وضعف بنو بويه وتنازعوا فيما بينهم السلطة وتقاسموها   فحلّ محلهم الأتراك السلاجقة ، وضعف السلاجقة وتنازعوا السلطة وتقاسموها ، وظهر فى داخلهم البيت الزنكى ( عماد الدين ، ثم نور الدين زنكى ) وضعفوا فورثهم صلاح الدين الأيوبى وتأسست الدولة الأيوبية ، وضعف الأيوبيون وتنازعوا السلطة وتقاسموها فغلبهم مماليكهم وتأسست الدولة المملوكية وجاء عصرنا المملوكى الذى شهد تدمير بغداد على يد المغول وإنتقال الخلافة العباسية للقاهرة .

3 / 2 : من الغرب تأسست الدولة الفاطمية فى المهدية ( تونس ) ثم زحفت وإستقرت فى مصر ، ومن مصر توسعت فضمت معظم الشام ، بل وصلت سيادتها فترة قليلة الى بغداد ، ثم ضعف الفاطميون وسيطر الوزراء على الخلفاء الفاطميين ، وانتهى الأمر بأن أنهى صلاح الدين الأيوبى الخلافة العباسية وأقام الدولة الفاطمية التابعة إسميا للخلافة العباسية .

3 / 3 : من الشمال الأوربى حيث كان الصراع العباسى البيزنطى سجالا فى العصر العباسى الأول ، تحول فى العصر العباسى الثانى الى إنتصارات متوالية للبيزنطيين فكانوا يتوغلون الى داخل العراق والشام و( حلب ) ، ثم بضعف البيزنطيين ظهرت الحملات الصليبية ( حملة الشعوب : بطرس الناسك و والتر المفلس ، ثم حملة الأمراء التى ضمت واحتلت القدس وأقامت إمارات صليبية فى الشام وآسيا الصغرى) ، وتواصلت الحملات الصليبية الى مصر ، وبسبب الحملة الصليبية التى قادها لويس التاسع وهزمها مماليك الصالح الأيوبى تأسست الدولة المملوكية التى هزمت المغول ، والتى فى النهاية دمرت الوجود الصليبى وطردت الصليبيين من عكا آخر منطقة كانت فى ايديهم .

4 ــ بإختصار : هذا هو المسرح السياسى الذى ظهر فيه ( التصوف السنى ) وساد . نقول ( التصوف السنى ) وليس التصوف العادى الذى برز فى مرحلة الريادة الصوفية ( الجنيد ) ورفاقه . بعد تلك الأرضية التاريخية التى نبت فيها وساد ( التصوف السنى ) واستمر خلال عصرنا المملوكى،  نتوقف مع أهم عوامل ساعدت على تأسيسه وتسيده .وهى : الحنابلة / العوام ، الغزالى ، وصلاح الدين الأيوبى .

5 ــ سيطر الفقهاء الحنابلة على الساحة رسميا فى خلافة المتوكل العباسى ، وحتى يسيطروا على الشارع صنعوا حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) وأصبح تغيير المنكر دستورا لهم فى التسلط على الناس ، واصبح من حق من ينتسب اليهم أن يمارس نفوذه ويتعيش من هذا النفوذ ، فاتسعت الساحة للعوام وأرباب الجرائم ، وبمجرد ان يلتحق أحدهم بحلقة ( حديث ) ويكتب ( حديثا ) يكون من حقه الأمر بالمعروف وتغيير المنكر، ودخل العوام فى دين الحنبلية أفواجا بحيث كانت ( مجالس السماع ) للحديث تضم آلاف الناس فى المدن والحواضر العباسية . وتنافست تلك المجالس فى تأليف الأحاديث وكتابتها ونشرها فبلغ عددها ملايين . وبتغيير المنكر تمكن أوباش الحنابلة الجهلاء من قطع دابر المعتزلة ( أصحاب التيار العقلى ) و الحركة الفلسفية العلمية التى أنجبت ابن سينا والرازى الطبيب وجابر بن حيان ..الخ ، بل وقطعوا دابر الأشاعرة السنيين المتكلمين فى الملل والنحل وكانوا خصوما للمعتزلة ، بل إضطهدوا الطبرى إمام السنيين فى شيخوخته  وحاصروه فى داره الى أن مات . وبهذا إنفردوا بالساحة وليس معهم سوى جهلهم وتعصبهم.

6 ــ هذا التسلط والجهل أدى الى نتائج أهمها : خوف الحكام المحليين من نفوذ الحنابلة ، وضعف المستوى العام للفقهاء السنيين بحيث توقف الاجتهاد ، وأصبح إتباع الأئمة هو سبيل النجاة فتأسست المذاهب  السنية الفقهية : مالكية وأحناف وشافعية وحنابلة . وبتكاثر الأحاديث المصنوعة يوميا وصيرورتها جزءا من الدين السّنى فقد أصبحت متاريس تعوق الانطلاق فى الاجتهاد الفقهى مخافة التعرض لنقمة الحنابلة بتعصبهم وتسلطهم وجهلهم ، لذا كان السبيل المتاح والأسلم هو فى إتّباع الأئمة السابقين . هذا الوضع السياسى ( الخوف من نفوذ الحنابلة ) والوضع العلمى ( ضعف مستوى الفقهاء السنيين ) واكبه الصراع  السياسى مع التشيع ودولته الفاطمية وتصوفها الشيعى الذى ينتشر داخل العالم ( السّنى ) . وهذا المناخ ساعد على نجاح أبى حامد الغزالى ت 505 .فى إرساء التصوف السنى وقفل باب الاجتهاد ليحمى التصوف من الانتقاد العقلى ، وليستمتع التصوف بالتسليم .

7 ــ من ملامح الجهل لدى الفقهاء السنيين تركيزهم على التفصيلات فى الفقه النظرى ، إتّباعا للدين الحنبلى فى تدينه السطحى المظهرى ، لذا فإن شروحهم الفقهية أهملت الجانب ( الروحي ) والعوامل القلبية  بينما بالغت فياستقراء الحركات الظاهرية في العبادات فتركوا المجال للصوفية يعبثون بالعقائد، هذا فيالوقت الذي إندثر فيه الاتجاه العلمي الفلسفي وانتهى دوره في التنوير العقلي ومناقشةادعاءات التصوف الخرافية بالجدل والمنطق ، فظهر الغزالي  خصما للفلسفة العقلية والحنابلة والتشيع معا ، وخلق إتجاها جديدا يجمع التصوف بالسنة المعتدلة ، وهو ( التصوف السنى ) وإتخذ منه حُجّة لقفل باب الاجتهاد بمقولته المشهورة ( ليس فى الامكان أبدع مما كان ) . وبانتصار الغزالى أصبح ممثلا للصوفية والفقهاء المعتدلين ، وساعده هذا على منع العقل من مناقشة مزاعم التصوف فى عقائده ، وتغليب الاتجاه الوجدانى ( الافلاطونى ) محل الاتجاه الفلسفيالعقلي، فلم يعد في الساحة إلا الغزالي والتصوف والاتجاه الوجداني طريقا للمعرفة .

8 ــ في كتابه "إحياء علوم الدين " نرى الغزالى وقد بعثر فيه بمهارة فذة عقائد التصوف ، وسط أكوام من الأحاديث الموضوعة بعضها كما يقول العراقي  شارح الإحياء : (لا أصل له ) أي اخترعه الغزالي بنفسه ، ثم تأويل الآيات القرآنية لاخضاعها لدين التصوف ، بالإضافة إلى أسلوبه الوجداني في المواعظ والرقائق ، وكتابته أبواب الفقه في الإحياء بمنهج جديد لم يعرفه فقهاء عصره، إذ يتحدث عن العوامل الباطنية منالخطرات والوساوس والرياء والإخلاص والتوكل والمراقبة ، فيبهر القارئ بهذا الفقهالجديد، ويجعله يبتلع عقائد التصوف التي تتناثر بين السطور تحت عناوين بريئة مثلالتوكل والزهد والحب الخ .

9 ــ جاء صلاح الدين الأيوبى فجعل ( التصوف السنى ) الذى قرره الغزالى هو الدين الرسمى الذى يواجه به التشيع بعد أن أسقط الخلافة الفاطمية ودولتها واسس دولته الأيوبية . وسارت الدولة المملوكية على نفس المنهاج فى إعتناق التصوف السنى .

10 ــ وساعد على هذا إعتناق العوام ـ وهم الأكثرية ـ دين التصوف السنى .

جذب الحنابلة اليهم ــ من قبل ــ غوغاء العامة الى حلقات ( السماع ) للأحاديث فأصبح العوام مسيطرين على الشارع بحجة تغيير ما يعتبرونه منكرا . وأتبع الصوفية طريقا آخر مختلفا فى إجتذاب العوام للتصوف ، فأطلقوا على مجالس الغناء واللهو الصوفى مصطلح ( السماع ) وجعلوه دينا ، وانفتحوا على العوام يرغبونهم في الانخراط فيالتصوف بإقامة حفلات السماع والطرب ، يقول ابن الجوزي (التصوف طريقة كانابتداؤها الزهد الكلى، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص ، فمال إليهم طلابالآخرة من العوام لما يظهرونه من الزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب )(52 ).

11 ــ  كما أتاح التصوف حرية مطلقة للإنحلال الخلقى وجعله دينا وطريقا للوصول ( للحق ) ، فمن يحب الزنا يمكنه طبقا للدين الصوفى أن يمارس الزنا على أنه عبادة صوفية ، ومن يدم الشذوذ يشجعه التصوف الذى يجعل الشذوذ شعيرة دينية وكذلك الحشيش .. وسيأتى تفصيل ذلك فى حينه . وبهذا تشجع العوام على الدخول فى التصوف السنى أفواجا ، فهو تصوف فى العقيدة وإلتزام مظهرى بالشريعة السنية .

 12 ــ ولم يجعل الصوفية من العلم شرطا في الدخول فى دين التصوف ، بل وقفواموقفا معاديا للعلم فاعتبروه علم الظاهر، بينما ادعوا أنهم اختصوا بالعلم الحقيقي (العلماللدني) الذي يأتي من الله بلا واسطة وبلا تعب أو مذاكرة . وسهل هذا الادعاء دخولالكثرة الكاثرة من العامة في سلك التصوف فزاد بهم قوة وصار معبرا عن العامة أكثريةالمجتمع ، والأكثرية يصفها القرآن بأنها لا تعقل ولا تفهم ولا تؤمن بالله إلا وهى مشركة .

13 ـ كانت الشطحات الصوفية نقطة ضعف فى التصوف ، ولكن تغلب عليها أئمة التصوف . كيف ؟

اجمالي القراءات 12312