فتاة الاسكندرية التي أحبت الفلسفة
هيباتيا شهيدة النور

فؤاد زبيري في الخميس ٢٠ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

فتاة الاسكندرية التي أحبت الفلسفة
والمعرفة وعزفت عن الحب
إذا كان هناك من الحب ماقتل.. فإن الحقيقة تؤكد ذلك.
وهذه القصة التي حدثت في الاسكندرية عام 415م تؤكد هذه الحقيقة المؤلمة، وأن المشاعر كثير ماتقود إلي الهلاك. بطلة هذه القضية هي الفتاة التي ولدت بالاسكندرية عام 370 للميلاد، وماتت عام 415م.. كانت هذه الفتاة البالغة الجمال بنت الفيلسوف (يتون).. وكان من الطبيعي وقد عاشت في بيئة تحب الفلسفة، وتنشد المعرفة.. وتتوق الي أن يصبح العقل هو هادي الإنسان في حياته، كان من الطبيعي أن تقلد والدها، وتعتز بالثقافة اليونانية وبفلسفة أفلاطون وأرسطو، وأصبحت لها شهرتها في شرح فلاسفة اليونان، مما مهد لها الطريق أن سند إليها كرسي الفلسفة في جامعة الاسكندرية.

وكان هذا العصر عصر صراع بين الفكر المسيحي النامي، وبين الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية.. وكانت الاسكندرية مسرحا لهذا الصراع بين رجال الدين، وبين الذين لا يرون هناك تناقضا بين العلم والدين وكانت (هيباتيا) تري هذا الرأي.. وأنه ليس ثمة تعارضا بين الدين والعلم، وانه لا يخشي من الثقافة علي الدين، بل علي العكس فإن الثقافة توسع المدارك وتهوي إلي اليقين.
وكان في الاسكندرية كاهن متعصب يدعي (سيربل) ويري أن الفلسفةتفسد الدين.
وكان يحكم الاسكندرية حاكم مستنير يؤمن بالثقافة اليونانية، ومتأثر بها، فكان من الطبيعي أن يحمي هذا الحاكم (هيباتيا).. ويساندها ويعمل علي أن تنشر أفكارها.. وهذه الافكار لا تهدد الدين.. لأن الدين في القلب والوجدان ومن الصعب زعزعته، كما أن أراء أفلاطون وأرسطو تنير العقول، ففتح أفاق عريضة للإعتداء بالعقل في الحياة..
وكان الناس يستمعون إلي (هيباتيا) وهي تعقد الحلقات في الشوارع، حيث تجلس علي الارض، وحولها أتباعها، ويستمعون لصوتها العذب الجميل وهي تشرح لهم أراء فلاسفة اليونان العظام..

***


كان هناك أحد حراس الحاكم واسمه (ابو لونيوس) يهيم بها حبا، وكانت هي تعرف ذلك، ولكنها أخبرته أن قررت أن تعيش حياتها مع الفكر والفلسفة، وأنها لن تتزوج، وأنها تقدر شعوره، وعليه أن يبحث عن أخري تملأ عليه حياته، ولكن هذا الشاب كان مفتونا بها، وكان حبه لها يفوق اي تصور، وقرر أن يقترن بها مهما كانت الصعوبات ومهما كانت أشواك الطريق!
وهداه تفكيره أن يؤلب عليها الجماهير التي تحيط بها عند شاطيء البحر، ويستمعون إليها، وكثيرمن هؤلاء من أتباع (سيريل المتعصب) وعندما تثور عليها الناس، ينقذها، ويذهب بها إلي مقر الحاكم، وهناك يقنعها أن مكان المرأة الطبيعي هو البيت والزواج وخدمة زوجها، وقضاء الوقت في غزل الصوف وعمل البيت، وبذلك يفوز بها، وتصبح زوجته الأثيرة الي نفسه الذي يقضي معها رحلة العمر!!
***


وذات يوم وهي تتجه صوب شاطيء الاسكندرية بقامتها المديدة، وجمالها المفرط، ومتشحة بمئزرها الأبيض، وشعرها الغزير يتهدل علي كتفها. وهي تتجه إلي صخرة بجانب الشاطيء، كان (ابدلونيوس) يتسلل مع الناس (المتجهة الي سماعها.. قالت لهم:
الله معرفة ونور، وهو جل جلاله إذا كان قد أودع فوره في قلوب الرسل والانبياء، فذلك ليقبس الإنسان النور منهم، ويدرك أن في وسعه بهذا النور أن يفكر بعقله المستقل، ويتصل بنور الله نفسه.
فالفلسفة لا تعترض الدين إذ الدين عاطفة وضمير، والفلسفة بحث في أصل هذه العاطفة وهذا الضمير.. إعلاء لشأن الإنسان، وتمكينا له من فهم سر وجوده، ومعالجة شئون دنياه، والجميع بين ضميره الديني وعقله البشري في وحدة داعية ورائعة ترمز إلي الوحدة الكاملة الكبير التي هي الله'.
***


وانقسم الناس وهم يستمعون الي هذه الحكيمة الجميلة وهي تتحدث عن عدم التناقض بين الفلسفة والإيمان.
بعضهم يؤيدها ويهتف لها..
والبعض الآخر يعارضها ويهتف ضدها وذهلت الفتاة وهي تري حبيبها (أبدلونيوس) يقف بين الجماهير ويهاجمها ويؤلب عليها الناس، ويطلب منها الكف عن نشر الفلسفة والعلم، حتي يستقر الأمن في المدينة المنقسمة، وكان معه خمسة من رجال الحرس، لقد صرخ في وجه الفتاة الجميلة المثقفة:
هذا كلام الزنادقة والكفرة يافتاة.. لن نؤخذ به، ولن ندع العقل البشري الناقص يستكبر علي القوة التي خلقته.
الدين والعلم لا يتفقان، نحن لسنا في حاجة الي علم.. في الكتاب المقدس وحده لكل الحقائق وكل العلم!
***


هاج الناس..
قال إتباعها إنه يثير المتعصبين وأن الحاكم نفسه نصيرا للعلم.
قال لهم:
إن مهمة الحاكم الحفاظ علي الأمن، وهيباتيا تنشر الفوضي، وأنه بوصفه رئيس الحرس يجب أن يصون سلامة المدينة وسلامة الحاكم وأن يحفظ الأمن، ويفضي كل مظاهرة وكل إجتماع!
***


كان يحرص الناس علي (هيباتيا) والفتاة غير مصدقة لما تسمع وتري.. الرجل الذي يدعي أنه يهم بها حبا، يؤلب الناس عليها، ويتهمها بالالحاد، وبث الفوضي، ويطالبها بأن تعود الي البيت، لأن مكان المرأة الحقيقي هو البيت، حيث تغزل الصوف.. ثم يتمادي في بغضه وكراهيته لها، ويريد أن يثور الناس عليها، فقالت بصوت مرتفع للجماهير:
هذا الرجل يخدعكم.. يريد أن يسومكم ا لجهل والفقر باسم الدين، لينعم هو وأمثاله بالدنيا علي حسابكم.
الدين هو العدل..
الدين هو الحرية..
صرخ أحد المتعصبين:
إنها تحرف.. تقول أن علمها هو الدين، وإذن فالعلم في زعمها يحل محل الله..
لا ترحموها!!
وذهلت الفتاة الجميلة المثقفة، وهي تري أن الندوة قد تحولت إلي ثورة ضدها، وأن هذه الجماهير المتعصبة، قد أعماها التعصب، وأنها أنقادت بحكم غريزة القطيع إلي هذا الرجل الذي إنقلب حبه لها إلي كره، بل إنه يريد أن يغري بها الدهماء لقتلها، إنها تسمع هدير الناس والمطالبين بدمها، وحاول البعض أن يذهب الي قصر الحاكم لانقاذ الفتاة، ولكن الوقت لم يعد في صالحها.. لقد تغيرت الجماهير، وقررت الثورة عليها والفتك بها..
وهنا أدرك (ابدلونيوس) أن خطته قد فشلت، وأنه لن يستطيع أن يخطف الفتاة إلي قصر الحاكم، وأنهم سوف يقتلونها، فحاول هو ومن معه من الحراس الدفاع عنها،ودافعوا عنها بالفعل دفاعا مستميتا والجماهير ترمها بالحجارة حتي سقطت إعياء، وشاهدت الرجل والحرس يدافعون عنها باستماتة ففهمت أن الرجل كان يهاجمها ويؤلب عليها الناس بدافع أن يخطفها ويذهب بها إلي الحاكم، وهناك يقنعها بالتفرغ للحياة الزوجية..
عرفت ذلك وهي تراه يصد عنها قذائف الحجارة ويفتديها بنفسه، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، فقد أدمتها هذه الحجارة حتي ماتت بين يديه، ومات هو الأخر وهو يحتضنها ويبكيها بفعل الرمي بالحجارة، وهكذا ذهبت الفتاة العظيمة كما يقول ابراهيم المصري ضحية أنانية الرجل وفريسة التعصب، وشهيدة الحرية والفكر والضمير.

اجمالي القراءات 9698