ق 3 ف 4: الرد القرآنى على العقيدة السلفية فى تقسيم العالم الى معسكرين

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٥ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين )

القسم الثالث المعارضة الوهابية التى أنجبت أسامة بن لادن 

 الفصل الرابع :  قراءة  نقدية للجنة الشرعية السلفية 

مقدمة  للفصل الرابع :

تتناول هذه القراءة النقدية لشرع اللجنة ثلاثة فروع  :

الفرع الأول  :القضية الاساسية في فكر اللجنة ،وهي ما نسميه بالتولي والتبري في العلاقة مع الغرب ،أي موالاة المسلم ومعاداة الغرب الكافر ،والعمل علي اقامة دولة اسلامية تواجه الغرب .

الفرع الثانى : شريعة المسعرى فى التعامل مع حقوق الانسان ،الفوائد البنكية والشيعة ،المرأة و الحرية والاعلام .

والفرع الثالث  : تقييم عام لسلفية اللجنة من وجهة نظر قرآنية  وتاريخية .

 

الفرع  الأول :نقد عقيدة اللجنة فى التبري والتولي في العلاقة مع الغرب والعمل علي اقامة الدولة الاسلامية الموحدة في مواجهة الغرب :

الرد القرآنى على العقيدة السلفية فى تقسيم العالم الى معسكرين :

أولا :

1 ـ التبري والتولي هي موجز عقائد الفرق الشيعية ،وتعني موالاة علي ابن ابي طالب وذريته والتبرؤ من ابي بكر وعمر وعثمان وام المؤمنين عائشة والزبير وطلحة ومعاوية وعمرو ..الخ ..ممن كانوا علي خلاف مع علي .

2 ــ واخذ المسعري ورفاقه هذه العقيدة (التبري والتولي ) ونظروا بها الي الغرب ،وهم بذلك يعيدون الثقافة التي كانت سائدة في العصور الوسطي حيث انقسم العالم الي معسكرين ،احدهما مسلم والاخر غربي صليبي ،ودارت بينهما حروب دينية علي التخوم والحدود ،ويدفع ثمنها الاقلية المسيحية داخل  معسكر ( المسلمين ) بالاضطهاد ، وكل معسكر يتهم الاخر بالكفر ويعطي لنفسه احتكار الحقيقة والفوز بالجنة ،قبل ان يحكم الله تعالي بين البشر يوم الدين .

3 ــ لقد تخلص الغرب ــ تقريبا ـــ من هذه الثقافة منذ اعتناق العلمانية ،وتأكد هذا بتحول  العالم الي قرية كونية صغيرة تمحي فيها الحدود وتعلو فيها قيمة الانسان وحقوقه الطبيعية والاجتماعية علي حساب تقلص سيطرة الدولة والحكام المستبدين ..ومن هنا فإن الدعوة الي تجميع المسلمين في اطار دولة واحدة تعتنق فكرا سلفيا مذهبيا واحدا وتواجه به بقية العالم في صراع ديني هذه الدعوة لا تلائم العصر ولا تلائم الواقع ،بالاضافة الي انها تدعو لحرب دينية باسم الاسلام الذي جاء به خاتم النبيين عليه وعليهم السلام رحمة للعالمين وليس لاعلان الحرب على العالمين ..

ثانيا :

وقبل ان نستعرض اراء المسعري ولجنته ورفاقه فأننا نوضح من جديد رؤيتنا القرآنية في هذه القضية علي النحو الاتي :

1-    الحروب في الاسلام دفاعية وليست هجومية ، وهى مؤقتة تنتهى بانتهاء إعتداء الطرف المعتدى(البقرة 191 :194  )( الأنفال 38 : 39 ) (التوبة 36 ).

2-    ان المقصد الاساس من الحروب الدفاعية للاسلام هو تقرير الحرية الدينية ،حتي لا يكون اكراه في الدين وحتي تتمتع الفتنة في الدين (البقرة  193 ،  217 ) ( الانفال 39 ) ،ومصطلح الفتنة في القرآن يعني الاضطهاد الديني في التعامل بين البشر (البقرة 217 ) ،وشأن المشركين هو اكراه الاخرين علي اعتناق الدين السائد ،وهذا مرفوض إسلاميا حيث لا إكراه فى الدين ( البقرة  256 ، يونس 99 )، فالحرية الدينية فى الاسلام مطلقة ، فقد خلق الله تعالي  البشر أحرارا ، من يشاء ان يؤمن ومن يشاء ان يكفر وعلي اساس  الاختيار يكون الجزاء يوم القيامة (الكهف 29 ،الاسراء 107 ، فصلت 40 ، الزمر 7 ) .ولهذا يجب ان يكون الدين خالصا لله تعالي يحكم به علي البشر يوم الدين ( الزمر 46 ).

3-    والذى يتدخل في اكراه الناس بأن يفتنهم في دينهم ويحاربهم بسبب ذلك فإن من واجب المسلمين رد عداوته بقتاله حتي تمتنع الفتنة وحتي يكون الدين لله تعالي خالصا لله تعالي يحكم به علي البشر يوم الدين  ، وهذا معني قوله تعالي عن المشركين الذين كانوا يفتنون المسلمين في دينهم (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) ) الانفال )(  وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)  البقرة 193 ) أي ان انتهوا عن ذلك فليس هناك عدوان الا علي من يظلم فقط .وان انتهي المشركون عن الاعتداء فقد يغفر الله تعالي لهم (الأنفال 38-40 ). ولذلك فأن اول ما نزل الاذن علي المسلمين بالقتال كان لرد القتال الواقع عليهم بعد ان اخرجهم المشركون من ديارهم بغرض الا يقولوا ربنا الله ،وجاء في نفس الاية ان المقصد من تشريع القتال هو حصانة بيوت العبادة لليهود والنصاري والمسلمين ،حيث يذكر اسم الله كثيرا (الحج 39 :40 ).

4-    معني الاسلام الظاهرى في التعامل بين الناس هو السلام ، والمسلم هو من يسلم الناس من لسانه ويده ،وحتي في وقت المعركة فأن المشرك المحارب اذا تلفظ بالسلام اصبح مسلما يجب حقن دمه (النساء 94 ) وان استجار المشرك المحارب المعتدى وقت الحرب فيجب اجارته وايصاله سالما الي بيته بعد ان يسمع كلام الله ليكون ذلك حجة عليه عند يوم القيامة (التوبة 6) .ومعني الاسلام القلبى في التعامل مع الله تعالي هو التسليم والانقياد وطاعة  الله جل وعلا (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)  الانعام   ) .

5-    وكل الرسالات السماوية نزلت بالاسلام أي بالسلام مع البشر والطاعة والانقياد لله تعالي وحده لا شريك له . كلها حملت نفس المعني ولكن كان كل رسول يتكلم بلسان قومه   ( ابراهيم 4 ) ، وكل رسول في القصص القرآني كان ينطق بالاسلام دينا له ولكن بلسان قومه ، فكلهم مسلمون بمختلف الألسنة والأزمنة والأمكنة : (البقرة :128 ،131 ،133 ،136 آل عمران  52 ،76 ،84 ، 85 يوسف 101 ،يونس 72 ،84 ،90- ،النمل 30 ،31 ،44- مجرد امثلة ) ، فالدين عند الله جل وعلا هو الاسلام بمختلف الألسنة  ولكن الذى كان ــ ولا يزال يحدث ــ هو زيغ الشر عن الحق ووقوعهم فى الاختلاف ، وبغيهم على الرسالة الاسلامية التى تزلت على رسولهم ، : ( آل عمران 19 ) ، فيستلزم الأمر إرسال رسول جديد ورسالة سماوية جديدة يؤكد ما سبق من رسالة الاسلام ، الى أن نزلت الرسالة الخاتمة باللسان العربية قرآنا كريما محفوظا من لدن الله جل وعلا الى قيام الساعة ، ومصدقا لما سبقه من كتاب أو رسالات سماوية. وتكرر نفس الزيغ ، إذ أن الشيطان لم يقدم رسالته وسيظل يغوى بنى آدم الى نهاية العالم . ولهذا يقول ( المسلمون ) فى مللهم ونحلهم وطوائفهم ما إعتاد أن يقوله أسلافهم قبل القرآن ، ويكررون نفس أقوال المشركين التى حكاها عنهم رب العزة فى القصص القرآنى . ولهذا فإنه فى يوم القيامة لن يقبل الله جل وعلا دينا غير الاسلام ( آل عمران  85 ).

6-    بهذا فالاسلام دين عالمى للبشر جميعا يدعوهم للسلام فى التعامل فيما بينهم ويدعوهم الى إسلام القلب لله جل وعلا ، بأن يكون الايمان به وحده الاها لا شريك له ، وأن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا وحده ، بلا تقديس لبشر حتى لو كان هذا البشر من الأنبياء .

7-    والذي يحقق الاسلام في التعامل مع الناس يكون مسالما فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته ، لأن العقائد مرجع الحكم فيها لله تعالي وحده يوم القيامة ،حيث تكرر في القرآن ان الحكم لله تعالي وحده في اختلافات البشر في الامور الدينية ، وسيكون هذا الحكم ( يوم الدين ) بعد إنهاء ( يوم الدنيا ) .  ويكفي في ذلك قوله تعالي قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46 الزمر ) ، فالذى سيحكم علينا يوم الحساب هو فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة . أى الله جل وعلا وحده . والى أن يأتى يوم القيامة يجب على البشر أن يعيشوا فى سلام مع بعضهم مهما بلغت إختلافاتهم فى الدين ، فكل واحد منهم سيكون مساءلا أمام الله جل وعلا يوم الدين ، والله جل وعلا لم يعط أحدا من البشر تفويضا بأن يتحكم فى حريات البشر الدينية ، أو أن يقيم لهم يوما للدين قبل يوم الدين . إن الحكم فى الخصومات والاختلافات الدينية ليست للخصوم من البشر ، فلا يصح أن تكون خصما وحكما ، ولكن مرجعها لله جل وعلا يوم القيامة ، وفيه سيئول الناس الى فريقين أحدهما فى النار والآخر فى الجنة ( الحج  19 : 24 ). ولم يكن من حق النبى محمد عليه السلام فى حياته أن يحكم على خصومه بدخول النار لأنه ليس له من الأمر شىء ، فالأمر لله جل وعلا إن شاء تاب وإن شاء عذبهم ، وهو جل وعلا الأعلم وحده بالغيب : (  لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) ) آل عمران ) .هذا عن معنى الاسلام القلبى وحرية البشر المطلقة فى هذا الاسلام القلبى ، وتأجيل الحكم فيه الى رب العزة يوم القيامة . أما الاسلام السلوكى فى التعامل مع البشر فالحكم فيه للبشر لضبط حقوق الفرد وحفظ نفسه وماله وشرفه ، وهذا ميسور فى قدرة البشر لأنه تعامل ظاهر بالسلوك والتصرفات.

8-     والذي يحقق الاسلام في تعامله مع الناس فيكون مسالما فى سلوكه ويحقق الاسلام فى قلبه فى عبادته وطاعته مخلصا  لله تعالي وحده منقادا له عز وجل فأن من جقه ان يدخل (دار السلام ) أي الجنة : ( الانعام 127 ) ويكون لفظ السلام هو تحيتهم في دار السلام تقولها لهم الملائكة (  الحجر 46 ) ويقولها لهم رب العزة جل وعلا (يس 58 )

9 ـ  ومعني الايمان هو نفس المعني في القرآن .لأن ( آمن ) مأخوذ من الأمن والأمان . وفي اللسان العربى وفي القرآن فإن (آمن بـ ) تعني اعتقد  .فالايمان الاعتقادي لا يكون الا بالله تعالي وحده الاها لا شريك له وهذا معني (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)   :البقرة )، (فآمن بـ ) تعني التعامل مع الله تعالي في العقيدة القلبية ، أما (آمن لـ ) فتعني وثق واطمأن ، أي التعامل مع البشر علي قاعدة الامن والامان ،وجاء ذلك في قول اليهود لبعضهم (وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) ال عمران 73 ) أي لا تثقوا ولا تطمئنوا ..واستعمل القرآن (آمن بـ ) وآمن لـ ) في رصف خاتم النبيين عليه السلام في قوله تعالي (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) :التوبة 61 ) أي يؤمن بالله تعالي ايمانا حقيقيا أنه لا اله الا هو جل وعلا ،ويؤمن للمؤمنين أي يثق فيهم ويطمئن لهم.

10ـ ــ. والذي يحقق الايمان في تعامله مع البشر فيثق به الناس  ويكون مأمون الجانب لا يعتدي علي احد فهو مؤمن مهما كانت عقيدته ،لأن العقائد مرجعها لله تعالي يوم القيامة يحكم فيها بين الناس .والذي يحقق الايمان في تعامله مع البشر بحيث يأمنه البشر ،ويحقق الايمان في عقيدته مع الله بالايمان بالله وحده الاها لا شريك له فأن من حقه الأمن يوم القيامة طالما لم يظلم رب العزة بالشرك ولم يظلم احدا من الخلق بالاعتداء والبغى . وهذا معني قوله تعالي (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الانعام) وفي الجنة  يتمتع بالامن والسلام (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) الحجر) ويأمن من اهوال القيامة :(لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) الانبياء) (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)النمل)  

11 ــ وبالتالي ايضا فأن معني الشرك والكفر في التعامل السلوكى مع البشر هو الاعتداء والظلم والبغي ،وهو ايضا نفس المعني في التعامل مع رب العزة حيث ان الشرك ظلم عظيم ،وحيث يوصف المشرك بالظلم والاجرام والبغي والطغيان علي البشر وعلي شرع الله سبحانه و تعالي ،علي ان شرع الله تعالي يعني يحفظ حقوق البشر او حقوق الانسان- في الدنيا ،فجعل العقوبات للاعتداء  علي النفس والعرض والمال ،بينما جعل العقوبات الخاصة بالتعدي علي حقوق الله تعالي في الاخرة ،مثل تقديس البشر و الحجر ،واهمال الفرائض التعبدية والرياء والنفاق ..لأن الذي  يملك الحساب علي ذلك هو الاعلم بالغيب والسرائر ..اما نحن كبشر فنحكم فيما نستطيع الحكم عليه وهو الاعمال الظاهرية الخاصة بعلاقات البشر وما فيها من سلام وامان أوظلم وعدوان .ولهذا يأتى استعمال الكفر والشرك فى التشريع للبشر حسب التعامل ، أى يمكن التعرف على المشرك الكافر حين يقوم بالاعتداء ظلما وعدوانا ، وتأتى التشريعات القرآنية تصفه بالشرك والكفر طبقا لاعتدائهم الظالم ، كقوله جل وعلا للنبى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38)   ) الانفال ) يعنى إن ينتهوا عن إعتدائهم يغفر الله جل وعلا ما سبق . وكقوله جل وعلا فى قتال المشركين المعتدين إذا إتحدوا عللى قتال المؤمنين المسالمين : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)  ) التوبة ).

والله جل وعلا هو (مَعَ الْمُتَّقِينَ ) أى الذين لا يعتدون على أحد ولا يظلمون أحدا ، وهذا ما يأتى فى تشريع القتال الدفاعى فى الاسلام ، لا يقول الله جل وعلا للمؤمنين إنه معهم ، بل إنه جل وعلا معهم إن كانوا متقين :(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) ( البقرة ). أما إن كانوا متعتدين فإن الله جل وعلا لا يحب المعتدين : (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) ) البقرة ).  

ولهذا فإن المؤمنين المسالمين الذين لا يعتدون إذا هاجمهم عدو يعتدى عليهم عندها يدعون الله جل وعلا وليهم لينصرهم على القوم الكافرين المعتدين يقولون:(أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286). البقرة ) فالكافرون هنا هم المعتدون حسب السلوك الباغى المعتدى .  وهؤلاء المعتدون الكافرون لا يحبهم رب العزة لأنهم عصاة معتدون : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ).هذا عن الكفر أو الشرك السلوكى بالاعتداء والغى والظلم للبشر المسالمين .

 أما عن الكفر والشرك القلبى ومقدار ما فى القلب من إيمان فذلك لاشأن للبشر فيه ، ولا مجال فيه للتشريع بين البشر، فالمرجع فيه لله جل وعلا الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وقد أخبر رب العزة أن الأغلبية الساحقة من البشر لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بالله جل وعلا وحده ، مهما بلغ حرص النبى على إيمانهم : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) يوسف )، وأنهم إذا آمنوا به فلا بد أن يخلطوا إيمانهم بالايمان بآلهة وأولياء مع الله ، أى لا يؤمنون بالله جل وعلا إلا وهم مشركون :(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)يوسف)، ويوم القيامة وهم فى النار سيطلبون الخروج منها فيُقال لهم: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) غافر ). وفى الكفر إيمان ولكنه إيمان قليل لا يغنى عن صاحبه شيئا يوم القيامة ( السجدة 29  ) بل إنه هذا الايمان القليل يستحق صاحبه اللعنة الالهية (البقرة 88 ، النساء 46 ) . المؤمن الحق يزداد بالقرآن إيمانا ، والكافر يزداد بالقرآن كفرا (( الانفال 2 ) (المائدة  64 ، 68 ، التوبة 124 : 125  )،  فهذا الايمان القلبى يزداد وينقص حسب مواقف كل إنسان، يقول جل وعلا عن بعض المنافقين فى بعض المواقف : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) آل عمران 167 )، فما يكتمه القلب لا يعرفه إلا رب العزة ، وهو الأعلم بإيماننا بعضنا من بعض . (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) 25 النساء )، لذا حكم رب العزة جل وعلا بأن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ، ولكن التعامل معهم لم يكن بالحرب لأنهم كانوا مسالمين لا يحاربون المؤمنين .

12 ــ  ونأتي في النهاية الي الموالاة ..لنراها في التحالف وقت الحرب ،فالحرب كما عرفنا يلجأ اليها المجتمع المسلم المسالم للدفاع عن النفس ولتقرير حرية العقيدة للجميع ضد قوة معتدية تريد فرض هيمنتها السياسية والفكرية ،وحينئذ يجب علي كل المسلمين ان يولوا بعضهم بعضا في هذه الحرب الدفاعية ضد العدو المعتدي ..فاذا انحاز بعضهم الي المعتدي صار مثله. أما اذا كان المخالف لنا في الدين مسالما او علي الاقل لم يعتد علينا ولم يخرجنا من ديارنا ولم يساند المعتدي علينا فالواجب علينا ان نحتفظ بعلاقات المودة معه (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9 ) الممتحنة   ) .وعليه فأن ايات الموالاة في القرآن تعني ان نكون ( مع ) المؤمنين المسالمين المعتدي عليهم (ضد) المعتدين في حالة الحرب فقط ..وشأن التحالفات عند الحرب أن تكون ( مع هذا ) ( صد ذاك )،وإما ان نوالي هذا او نوالي ذاك ..وليس هناك موقف ثالث فيمن تحدد ظروفه الاختيار بين موقفين لا ثالث لهما .[70]

13 ــ الواقع أنّ انغماس المسلمين في الصراعات السياسية الداخلية والخارجية باعد بينهم وبين تلك التوجهات القرآنية ،وبالتالي اكتسب الاسلام معني محليا عربيا ،وفقد صبغته العالمية الانسانية ، وتحول الي معسكر عربي يواجه المعسكر الغربي في العصور الوسطي بسبب الحرب بين العرب والروم بالفتوحات فى عصر الخلفاء الراشدين واستمرارها قرونا فيما بعد مما أكّد تقسيم العالم المعروف وقتها الى معسكرين ، أحدهما يرفع لواء الاسلام والآخر يرفع لواء الصليب . ، وتحولت الموالاة من معناها الاسلامي الذي يهدف للتعاون علي البر والتقوي ونصرة الضعيف ضد الاثم والعدوان الي مناصرة الدولة في حروبها التوسعية او الثأرية أو العكس .وانعكس هذا على التشريع ، وتم تسويغه بأحاديث سلفية تخالف القرآن وبتحريف مفاهيم القرآن الكريم فى معنى الاسلام والايمان والكفر والشرك والسنة ..الخ ، وبأكذوبة النسخ التى تعنى عندهم إلغاء التشريعات القرآنية ، مع أن النسخ فى اللسان العربى والقرآنى يعنى الاثبات والتكتابة والتدوين وليس الإبطال والإلغاء . وبهذا تأسس الفقه السنى ، وتنوعت مذاهبه ، أشدها تزمتا هو المذهب الحنبلى ، الذى جدده ابن تيمية فى العصر المملوكى ، ثم أحياه ابن عبد الوهاب فى ( الوهابية ) .ويزعم أصحابه إحتكارهم للإسلام مع تناقضهم التام مع الاسلام فى عقيدته وتشريعاته وقيمه وأخلاقياته . والغريب أن تصل البشرية حديثا الى ما يقترب من العظمة القرآنية الأخلاقية والتشريعية ، إلا ان المسعري ورفاقه الذين يستعملون وسائل الاتصال الحديثة في القرية الكونية التي اخترعها الغرب ،يعيدون انتاج الثقافة الفقهية الدينية التراثية السلفية بتعصبها ليكيدوا للغرب ،وهم يعيشون داخل الغرب متمتعين بكرم ضيافته ورعايته لهم ..وما هذه بأخلاق الاسلام..ولكنهم بحسبون انهم يحسنون صنعا ..وهذا هو ما ننكره عليهم ..ونأتي الي عرض افكارهم ..

اجمالي القراءات 8431