ميثولوجيا الصحابة

سامح عسكر في السبت ٢٧ - سبتمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

حين يتعلق الإنسان بشخص أو بجماعة فهو إما يسبقها بعشق شديد -سواء للمدح المبالغ فيه أو للتنقيص من خصومه- وإما أنه لم يبذل جهداً كافياً للتعرف عليه، والإنسان في العادة ينزع إلى الجهل بالأشياء، وحينها لو أحب شخصاً دون دراية به سيقع في تقديسه والتهويل من أمره حتى يظن السامع أن العالَم والكون خُلِقَ من أجله، ويمكن القول بأن الآلهة البشرية والحيوانية قديماً وحديثاً مرت بهذه الأطوار، من حب وعشق إلى جهل بالطبيعة ثم تقديس وعبادة غير مبررة.

وبمرور الزمن وبكثرة مدح وتناول تلك الشخصية تبرز في الذهن على صورة كائن هلامي ، تزداد قداسة مع كل أزمة بينه وبين خصومه ، أو أن يلجأ أتباعه ومحبيه لخلق صورة تقريبية تجعله وسطاً بريئاً من كل انحراف أخلاقي حتى يساوق هذه الصورة المصنوعة في الذهن سلفاً، ولكن في النهاية هذه الصورة ليست شرطاً أن تكون صحيحة ، حيث كان مصدرها الأول شخص أو جماعة ليسوا أبرياء من النقص والتدني، أو أن تكون صورهم صالحة لزمانهم ومكانهم في وقت لا تصلح لزمان أو مكان آخر، أو كانت دوافعهم –لخلق هذه الصورة-هي دوافع حسنة لعلاج أزمة مؤقتة سواء اجتماعية أو دينية أو سياسية..وبالتالي هي ليست رؤية مطلقة يصح وصفها.."بالرؤية دينية".

الميثولوجيا أو الأسطورة أو الخرافة تنشأ بهذه الطريقة، وهي صناعة صور غير حقيقية لوضع معين أو لشخص وجماعة معينة، وقد تتسبب غالباً في نشوء أديان جديدة أو افتراق أصحاب الدين الواحد، ولنا مثال في السنة والشيعة حيث كانت.."ميثولوجيا الصحابة"..هي السبب الرئيسي في الفتن الطائفية بينهم، فرقة تعتقد بقدسية الصحابة وفرقة أخرى تراهم خصوم سياسيين وبالتالي هم لديهم بشر، وهكذا كان الصراع منذ 1400 عام وحتى الآن، ونرى في كل إحياءة لتلك الفتنة معالم الصراع القديم متجلية بكل ظروفها وأساليبها ومصطلحاتها القديمة.

حتى أن الأكثرية لا تنتبه غالباً إلى التفريق بين المجمل والمعيّن من الصحابة، فيعتقدون أن الصراع يقوم على مجملهم..وهذا غير صحيح، فطالما كان الخلاف سياسياً فمن الطبيعي أن يكون هناك مؤيدين ومعارضين من الصحابة، وبالتالي نعود إلى الجذر والقاعدة حيث اختلاف الصحابة على المُلك وهو المؤثر في ضمير المسلمين وفي واقعهم حتى زمننا هذا.

إن أكثر المجتمعات السنية المؤمنة بالخرافة هي أعظم المجتمعات تقديساً للصحابة وأكثرها تأهيلاً لأن يكونوا هم وقود الفتنة الطائفية، ينطبق الحال على الشيعة..فأكثر المجتمعات الشيعية المؤمنة بالخرافة هي أعظم المجتمعات تقديساً لآل البيت، هي الميثولوجيا المتجلية التي هي محور كل صراع ، كان أوليفييه روا في الجهل المقدس يرى أن تلك الحالة تُنذر بتفجّر الطائفية التي يصفها.."بالحالة الدينية"..القائمة على محورين، الأول: فقدان الهوية الثقافية، والثاني: فقدان الصفة الإقليمية، ويعني ان انكفاء المجتمع على وضع معين من الخرافة ثم انفتاحه فجأة –ومن ثم اختفاء الصفة الإقليمية والهوية الثقافية-يعني صدام طائفي لا مفر من حدوثه بدعوة مقاومة الوثنية.

وبالتالي ينقلب هذا الصدام على المحيط الثقافي ويراه بصورة المتآمر مع كل زفرة من زفرات ذلك الصراع، لذلك أربط بين انتشار الإرهاب السني المعاصر وبين رؤيتهم للصحابة، حيث كانت تلك الميثولوجيا هي المفجّر الأول لصراعهم الطائفي مع الشيعة-طبعاً والشيعة ليسوا أبرياء من مسببات ذلك الصراع- ولأن هذا الصدام الطائفي هو السبب في شيوع المؤامرة، لأن الصدام انتقل من المحلية إلى العالمية سواء بتفسير كل موقف لدول العالم وشعوبه على أنه حرب على الإٍسلام ودعوى للوثنية..أو أنه جاء كرد فعل على الفشل في إقناع الآخرين بمعتقده وبالتالي ظن أن ما يحدث هو النهاية الحتمية له ولدينه ففضّل أن تكون نهايته ونهاية دينه واحدة.

هذا المشهد السابق يحدث دائماً حين يعجز الإنسان عن تبرير معتقده، فيشرع في تفسير العلاقة بينه وبين الله والطبيعة على أنها قائمة على شخوص معينة أو جماعات معروفة، فهي الأمل الأخير لديه في تصويب أفعاله وأن لا يُصدم حين يرى الباطل حقاً.

وبالتالي حين يعجز عن تفسير هذه العلاقة يُرديها إلى قوة خير عظيمة ومثالية في تأمين الحياة له ولضمان بقاء عبادته لله على الوجه الأمثل، وهذا هو سر تقديس الإنسان وعبادته لنفسه، وربما أردى هذه القوة إلى الحيوان أو النبات أو الطير، بحيث تُصبح معها تلك الكائنات مقدسة، ولكن حين يبحث عن العلاقة بين الإنسان المقدس وتلك الكائنات فيتوصل إلى نتيجة يقوم معها بترميز قوة هذه الكائنات على شكل إنسان، وبالتالي ظهر لنا من عقائد القدماء بشراً برأس صقور أو أسداً برأس إنسان، وهو تعبير بدائي قديم عن امتزاج معاني القوة لهذه الكائنات المقدسة معه.

كذلك لا يخل مجتمعاً يقدس الصحابة من أصل وجذر لهذا العمل في عقائده السابقة، فالمصريون مثلاً حين قدسوا رسل المسيح كان عن أصل تقديس آلهته الفرعونية القديمة وأعوانهم، وحين قدسوا الصحابة كان عن أصل تقديس رسل المسيح، وبالتالي نشأت علاقة في الضمير الديني بين ما أسميه.."بالمقدس المطمور"..والمقدس الظاهر، والمطمور جاء من طَمَرَ أي غطى، والمطمور هو الشئ المغطى بحيث لا يراه أحد، وهو الجذر والمعنى لكلمة الكُفر، وهذا يعني أن المصريون كفروا بآلهتهم الفرعونية واستبدلوهم برسل المسيح، ثم كفروا برسل المسيح واستبدلوهم بالصحابة، وغدا قد يكفروا بالصحابة لصالح رسل وأعوان آخرين.

هنا يبرز دور الكهنة كمرجح في انتهاء كل صراع بين القديم والجديد، فالكهنة القدماء يحرصون على بقاء ودوام تقديس معبوداتهم سواء لأغراض مادية أو معنوية، ومن ذلك نفهم لماذا يتصدر الكهنة مشاهد الصراع بين القديم والجديد، وغالباً ما يأتي الجديد برداء يجمع بين الواقع والأخلاق والمصالح فيميل الناس إليه، أما القديم فهو يعجز عن تقديم صورة واقعية لمعتقده فيُفرط في الميثولوجيا والأسطرة كرد فعل عن دفاعه المفرط وشعوره بالخطر، لذلك يظهر أن مع كل حركة تجديد وتغيير يصل فيه مستوى القداسة للقديم إلى معدلات غير مسبوقة بحيث تكون هي المنتهى ولا شئ بعده.

والمعنى أنه حين انتقل المصريون-مثلاً- من تقديس رسل المسيح للصحابة وصل فيه معدل تقديس الرسل إلى مستوى غير مسبوق، وكذلك مع الصحابة حيث سيصل معدل تقديسهم إلى مستوى غير مسبوق إذا شعر الكهنة بالخطر، وربما يثبت ذلك الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة الآن في العراق وسوريا ولبنان، حين شعر كهنة السنة بالخطر أفرطوا في تقديس الصحابة وظهر معتقدهم الحقيقي تجاههم أنها عبادة حقيقية لبشر وليس لله، ذلك لأنهم يميلون-كما سبق- لتفسير علاقتهم بالله والطبيعة على ضرورة وجود قوى خير أرضية مثالية تؤمّن لهم هذا المستوى المطلوب من العلاقة، والغريب أن هذا هو نفس المعتقد الذي اعتقده كفار قريش حين ظنوا أن أصنامهم جميعاً تقوم بتلك الأدوار...!

ولكن حين ننتقل إلى كيفية نشوء هذه القداسة سنجدها هي نفس الكيفية التي أدت لتغيير الأديان، فالدوافع التي دفعت المصريين والشوام والعراقيين لتغيير أديانهم هي نفس الدوافع التي أدت إلى بدء تقديس الصحابة في المجتمع العربي السني، حيث يعزو الحكماء كل شر يحدث إلى المعتقد القديم، فلو انصرف الناس عن الأخلاق وشاعت المظالم يقوم الحكماء والدعاة بتحميل الوضع القديم المسئولية، وبالتالي يتهيأ المجتمع لاستقبال وضع جديد سيكون بعقيدة جديدة.

بعض معتنقي الفكر اللاديني يحتجون بهذا التصرف على إبطال الأديان، وفي تقديري أن الخلفية التي يتحدثون منها هي التي زعمت ظهور الإسلام بعد تفشي المظالم وشيوع الفساد في المجتمع القرشي...وهذا غير صحيح، ولو كان ذلك صحيحاً لبطلت الأديان وانتهت فور ظهور الفساد وشيوع المظالم مرة أخرى..وهذا لم يحدث، فالثابت أنه وفور ظهور الإسلام-مثلاً-لم تختفِ المظالم ولا الخيانات ولا جرائم القتل والتشويه والكذب، بل تعاظمت هذه الجرائم في عصر الفتنة الكبرى وما بعدها ورغم ذلك لم يرتد الناس عن الإسلام، فالعلة في الأديان ليست الفساد-مع الاعتراف بوجوده في أي زمن- بل ربما كان يتمتع مجتمع ما قبل الأديان بأشياء أفضل ، ولكن في تقديري أن الأديان أسمى عن البحث في عللها، فهي حركة تنويرية تظهر مع كل حكيم يرى ضرورة الاتحاد وتطوير الحياة والفكر للأفضل.

فالنبي محمد كان لا يقنع بفكرة.."تعدد الآلهة"..فشرع في التفكير والبحث عن .."الإله الواحد"..ولم يكن يسلك المحرمات والانحرافات كالزنا وشرب الخمر، وكان يرى مظاهر وأد البنات ويستنكرها، والفوارق بين الطبقات..كل هذه من مظاهر الفساد في مجتمع العرب التي تصدى لها ولكن كان يعترف بأن مجتمع الجاهلية لديه خير عظيم من توقير الكبير والشهامة والشجاعة، وهي صفات تكفي للحفاظ على أي مجتمع من الانهيار، لذلك لجأ إلى الدعوة لتطوير الحياة والفكر ونادى بالوحدة، ثم شرع في بث نداء.."الأمة الواحدة"..ونقل بالوحي عشرات الآيات التي تحثهم على الاتحاد ونبذ الخلافات ، ورأينا أنه مع كل ذلك لم تنتهِ هذه الأشياء حتى في زمن دعوته ،بل ظلت قائمة ، وبعد موته تفرق العرب وتناحروا وحاربوا أنفسهم حتى زمان الفتنة الكبرى.

إن القول أن لكل دينٍ علة يعني أنه وفور انقضاء العلة لم يعد للدين معنى، لذا فالبحث عن عللها دربُ من الدجل وتحريف لمعنى الدعوة وأي حركة تصحيح ، وهو في الأخير حُجة لهم لإبطال الأديان مع كل ظهور للشر في العالَم .

لكن طبقاً لمفهوم التطور تتعرض الأديان إلى تحدٍ قاسٍ حيث وبمرور الزمن يختلط على الناس ما عرفوه عن الدين ورموزه وبين الواقع، فيتطور الناس في فهم الدين إما إيجابياً فينهضون وإما سلبياً فيتخلفون، والسبب هو في نجاحهم في فهم هذا التحدي الذي عرفه المؤرخ الانجليزي.."أرنولد توينبي"..بنظرية .."التحدي والاستجابة"..ومعناها أن كل أمة حين تواجه هذا النوع من التحدي يتوقف تطورهم على قدر استجابتهم، فإما يتقدمون وإما يرتدون ليس فقط عن الأديان ولكن يرتدون أيضاً عن الواقع، وهذا يفسر الأزمة التي يعيشها العرب الآن، فهم في المجمل يؤمنون بعقائد ومذاهب ليست واقعية بل في منتهى الرجعية والتخلف، والسبب في عجز العرب-حتى الآن-عن الاستجابة للتحدي الذي تعرضوا له حين اكتشفوا الفارق الهائل بينهم وبين الحداثة.

واعتقادهم في الصحابة رافق هذا الانحطاط وتطور من كونهم بشر لهم وعليهم إلى كيانات هُلامية مقدسة.. هي لديهم ممثل قوى الخير في الطبيعة، والسؤال الذين كان يرافق خيالهم دوماً ماذا لو لم يكن هؤلاء الصحابة موجودون؟ الإجابة أنهم سيكونون كفّاراً لأنهم ظنوا بتلازم الإيمان بالصحابة، وبالتالي نشأت المعادلة الشهيرة..."الطعن في الصحابة يساوي الطعن في الدين"..وبالتالي انتقل الصحابي من كونه بشر يصيب ويخطئ إلى نبي معصوم يقوم عليه الدين ويُهدم، وفي تقديري أن السبب في هذا الغلو هو تضخيم كل فضيلة وإخراجها من سياق الفضيلة إلى سياق الكرامة.

وبالبحث في كيفية نشوء هذا الغلو -بناءً على تلك الحجة- سنجد أنها نفس الكيفية التي نشأ بها الغلو في رسل المسيح، حتى صارت كتابات أي رسول هي إنجيل مقدس يجب تصديقه، وبالتالي ظهر عجزهم عن فهم العلاقة بين الله وبين الطبيعة، فهم-ولكونهم جزء من هذه الطبيعة-يلزمهم الإيمان بالله على ضمانات لا تتوفر بعد موت الأنبياء، وبالتالي أصبح كل معاصر أو من رأى ومدحه النبي هو ينطبق عليه نفس الصفات النبوية الرسولية بالضرورة، وهذا خطأ من جانب هام، أن النبي هو بشر حكيم أرسل الله إليه وحياً يتكلم بخبر السماء، أما الصحابي هو بشر قد يكون غير حكيم ولم يرسل الله إليه وحياً، وهنا فارق كبير لم ينتبه إليه من صاغ نظريات التقديس في الصحابة .

فالنبي مهما أخطأ لديه من الحكمة لتقويم وتوفيق أوضاعه، أما الصحابي فقد يتعرض لما يتعرض له سائر البشر من غرائز ونزعات تدفعه للكذب والخصومة والفُجر وأحياناً يرتكب الجرائم، وفضيلته في مصادقة النبي وتبليغه رسالاته كان يجب أن توضع في سياقها إذا فهمنا الغاية من معنى.."الرسول"..فهو في الأخير مُبلغ بخلاف النبي هو مبلغ وحكيم وموحى إليه، وهذا يعني أن الصحابي هو شخص عادي قد يكون حكيماً فيُبدع ويشتهر وقد يكون غير ذلك، ومهما قيل فيه من صفات غلو وتقديس هو في الأخير يُرد إلى قاعدته البشرية التي كان قوامها الخطأ والتصويب.

لكن ميثولوجيا الصحابة صنعت موضعاً آخر لهم ، حيث جعلوا الصحابي منزهاً عن الكذب في ما يُعرف بعلوم الحديث، وإلهاً حدثت له معجزات خصوصاً ما قيل في حق الصحابيين عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب، حيث دفعت الخصومة الثأرية بين السنة والشيعة إلى تأليف قصص وتوهم معجزات وقدرات خارقة لكلا الصحابيين، ومن يقرأ في تراث كلا الفرقتين سيرى العجب العُجاب، وقديماً حين توهم الفراعنة بأن الكوارث على الأرض هي من غضب الإله رع وأعوانه من الآلهة....توهم العرب والمسلمون السنة أن الكوارث على الأرض هي من غضب النبي والصحابة عليهم فيما يُعرف لديهم.."بترك السنة أو التقصير في الدفاع عنها أو نسيانها "..لذلك هم يحرصون أولاً على تطبيق السنة كسبيل وحيد لضمان رضا الرب وبالتالي يضمنون دخول الجنة.

والسنة لديهم قائمة على الصحابة بشكل أساسي، فهم من رووا الحديث ونُقل عنهم، لذلك كانت أولى طرق دخول الجنة هي في طاعتهم للصحابة ، وطبقاً لميثولوجيا الصحابية التي داعبت خيالاتهم نرى أن طاعتهم للصحابي هي طاعة مقدسة ليست محصورة في طلب دخول الجنة ولكن لأن الصحابي أيضاً إله قدوة نزيه صاحب صورة مثالية تطورت حتى أصبح الصحابي كيان هلامي مقدس، وبالتالي لم يُجهدوا أنفسهم كثيراً في تبرير هذا الموقف لأنه موقف أخلاقي في النهاية.

المثير أنني حين تحدثت مع نفسي في هذا الأمر توقعت ردود أفعال لا تخلُ من المزايدة مثل من قال.."أنت تكلمت عن ميثولوجيا الصحابة فلماذا لم تتكلم عن ميثولوجيا آل البيت"..وفي اعتقاده أن هذا السؤال هو لتبرير موقفه وإقامة الحجة على أن المتكلم ينتمي لأحد المذاهب ، وجوابي من وجهين، الأول: أن هذا اعتراف وإقرار بصحة كل ما ورد في هذا التحليل، وبالتالي لزم عليه المراجعة والنظر، الثاني: أنه اعتراف آخر بالتقصير في انتسابه لآل البيت، فهو منقطع الصلة والشعور بهم وإلا لفهم مباشرةً أن الحديث عن ميثولوجيا الصحابة هو حديث عن ميثولوجيا آل البيت وأي شخص وأي جماعة بالضرورة.

وبالمناسبة فإن ميثولوجيا الصحابة قد امتدت لتشمل ميثولوجيا التابعين، وهم من خلفوا الصحابة في الزمن ومن ورائهم تابعي التابعين، وينسحب هذا بالضرورة إلى كل شيخ أو فقيه يؤثر في المعتقد السني أو صاحب نظرية أو وضع مميز في المعتقد، حيث نراه وقد حاز على نفس صفات الصحابي المقدسة من كونه شخص هلامي منزه يمثل قوى الخير في الطبيعة، وهو المعنى للعلاقة بين الله والإنسان ، وبالتالي أصبح رمزاً دينياً إذا ذهب ذهب الدين برمته، وهذا يفسر دوافع المتعصبين والمغالين حين ينتفضون لعالماً سنياً يكون هو لديهم أساساً لبقاء الدين في صورته النقية التي عرفوها من خلاله، وهذا السلوك-يعني تقديس الإنسان لنفسه-هو سلوك فطري بشكلٍ عام موجود داخل كل الأديان نظراً لما قلناه في السابق أن الأديان تتعرض لتحدياتٍ قاسية تفرض مراجعة فورية ورؤية أكثر واقعية تنجح في تفسير الأشياء الغامضة من حولهم.

ونظراً لأن التابعين هم من أماكن متعددة -وليسوا كالصحابة مثلاً جميعهم من عرب الجزيرة- رأينا تكراراً لما قد حدث في الحضارات القديمة كالسومريين والفراعنة من اتخاذ آلهة محلية هم ممثلي الإله الكوني خالق السماوات والأرض، لذلك نجد أن الإله المحلي في مصر قد يختلف عن مثيله في السعودية أو في اليمن أو في سوريا، كمثال من يعبد محمد ابن عبدالوهاب في السعودية وبديع الزمان النورسي في تركيا وابن تيمية في سوريا والأئمة الأربعة وشيوخ المتصوفة في مصر، وبعد قدوم عصر البترول وتنوع وسائل الاتصال نجح عبّاد محمد بن عبدالوهاب في نشر دينه خارج السعودية وأصبح لهم أخوة في كل بقاع العالم.

والسبب كما قلنا في القاعدة الأصيلة التي تفسر لجوء الإنسان لتأليه نفسه إذا لم يجد ممثلاً للإله في الطبيعة، وهم ما يعرفونه بالواسطة وقد استخدمه العرب في الجاهلية لتبرير عبادتهم للأوثان حيث قالوا.."مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"..والعبادة التي يقصدونها لا تعني بديلاً عن الله ولكنها من سبيل الطاعة وما توارثوه من قصص ومواقف وحكم عن هؤلاء الأولياء، فينتقل الصنم من كونه شخص وسيرة وموقف إلى إلهٍ يُعبد برأيه مهما طال الزمن.

جانب آخر في ميثولوجيا الصحابة أن الإنسان ينزع للمبالغة في تقديس من قام عليه دينه، بل ويتوهم أنه هو عماد الدين إذا سقط سقط الدين برمته، وهو ما يحدث في الخلاف الشهير بين السنة والشيعة، حيث يعتقد السنة أن معاوية بن أبي سفيان هو مؤسس دينهم بعد توحيد المسلمين في عام الجماعة وإعلانه عن اقتدائه بسنة الرسول، ومنذ ذلك الزمن أطلق السنة على مذهبهم.."أهل السنة والجماعة"..في إشارة إلى وحدة المسلمين بعد أحداث الفتنة الكبرى، وبالتالي نزع السنة إلى تقديس معاوية والمبالغة في مدحه كلما اشتد الصراع بينهم وبين الشيعة، والعكس صحيح حيث يبالغ الشيعة في مدح وتقديس عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده إذا اشتد الصراع بينهم وبين السنة، حتى أن كل من يخالف تلك القاعدة يُتهم بانتمائه إلى المذهب الآخر، وهذا لن يحدث إلا لاعتقادهم جميعاً بأن السبب في تفرقهم هو سبب سياسي لأصالة الخلاف بين علي ومعاوية، لذلك كانت العلاقة الجدلية بين السنة والشيعة ستظل من الأمور المبهمة والغامضة التي تتدخل فيها الأهواء والميول إلى يوم القيامة.

سيلزم ذلك بالطبع تأسيس وتقنين قواعد لتنظيم المسألة، فالسنة لديهم من الميثولوجيا حول الصحابة ما يكفي لتبرير والدفاع عن كل مواقف معاوية، بل وأن يلتمسوا الأعذار له في مواجهة خصمه اللدود عليّ بن أبي طالب، فقاموا بإنشاء علم الحديث القائم على فقه.."الجرح والتعديل"..الذي خرج الصحابة برمتهم من هذا الجرح، واعتقدوا أن كل خبر يصل إليهم هو صادق يجب الإيمان به كشرط من شروط صحة الدين.

لجأوا أيضاً إلى تبرير مواقف وجرائم الدولة الأموية وأبناء وأقارب معاوية من بعده، بل يكاد يكون الفقه السني قائم أساساً على نظرة الدولة الأموية لخصومهم من آل البيت وسائر فرق المعارضين من الخوارج والمعتزلة والقدرية والمرجئة، وغالب هذه التسميات قد لا تصح في ذاتها كونها ظهرت للذم والتنقيص والطرد، فكل من يخالف جبرية الأمويين هو قدري، وكل من يخالف ناصبيتهم هو رافضي، وكل من يخالف طغيانهم وتجارتهم بالدين هو مرجئ، وكل من يخالف تشبيههم وتجسيمهم هو جهمي معطل، وكل من يخالف كذبهم ورعايتهم لرواة الأحاديث والقصاصين هو زنديق منكر للسنة، هكذا هو حال أي سلطة حين تنتقم من معارضيها تصفها بكل أوصاف الذم والقذف، حتى وصل إلينا هذا التراث وتلك المصطلحات ليتم إحيائها إذا نشط كل من يحمل أفكار معارضي الأمويين الأوّل.

اجمالي القراءات 8839