الذاتي والموضوعي في أزمة التنوير

سامح عسكر في الخميس ٢١ - أغسطس - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

عندما ظهرت الحركات الأصولية في العالم العربي وَضح أنها تخلط بين الدين كحقيقة والتراث كتاريخ، وظنت-أو خدعت نفسها- أن ربط التراث بالدين هو من كمال الإيمان، والحقيقة أن هذا الأسلوب كان طريق القدماء قبل عصر الحضارة والتنوير الأوروبي، يستوي فيه أصحاب كل الديانات، ولكن ما لفت نظري هو ادعاء بعض التنويريين المعاصرين أن ما يقوم به الأصوليون هو لا يمثل حقيقة الدين، على فرض أن الحقيقة في جانب هؤلاء الدعاة الذين خملوا أمام الغزو السلفي للعرب، وقعدوا عن مواجهتهم ونبش تراثهم الذي يدعون.

ربما كان لبعضهم العذر في أن يعرض عن ذلك لقاء حياته، فالأصوليون سلكوا كافة وسائل الترويع والإرهاب ضد المفكرين لإسكاتهم، حتى حملوهم على مساعدتهم في التمكين كما حدث في سوريا ومصر وتونس، صعد المتطرفون إلى الواجهة بفضل دعاة التنوير في سابقة بشرية اتسمت بالغباء والانحطاط، مما كان له ثمناً كبيراً دفعته تلك الشعوب بنِسَب مختلفة، والشئ بالشئ يُذكر أن هذه الحالة رافقها توجهاً ثوريا اجتاح الشارع العربي، وقد ساعد ذلك الحراك ما أصفه .."برواسب الأصولية المتراكمة".. التي غرسها السلفيون إبان عصر النفط، فقد جاء هذا العصر بالطاقة السائلة والثمينة لصالح دول ومجتمعات هي مصدر الأصولية الإسلامية في العالَم أجمع.

المهم أن ما فعله التنويريون كان عن براجماتية خلطت ما بين الذاتي والموضوعي، وهو ما أوقعهم في وحل الجماعات حتى رأينا تلك الجماعات انتفضت في أكبر ميادين مصر والجيش لا يحرك ساكناً ، بينما التنويريون يقبعون في غرف الأحزاب ينتظرون ويستعدون للمعركة القادمة مع الجيش..!

ولتوضيح الفارق بين الذاتي والموضوعي أعرج على قصة لطيفة وقصيرة، قام أحد الرعاة من نومه ثم همّ بإحصاء غنمه عند الشروق فلم يجد أحد الغنمات، فذهب إلى شيخ الرعاة وسأله عن ما حدث ، فرد عليه الشيخ أن عفريتاً من الجن هو الذي سرقها، قال الراعي : كيف ذلك ولم يحدث من قبل، قال الشيخ: أن هذا العفريت هو من جنود الله الذي غضب عليك لذنبٍ فعلته وما يعلم جنود ربك إلا هو، هنا سكت الراعي فور سماعه القرآن، واطمئن أن ما حدث هو تكفير لذنوبه، ثم رضي ولم يعقب.

وفي لقاءٍ بين الراعي وأحد أقاربه المثقفين حكى له ما حدث، فرد المثقف: أن شيخ الرعاة يكذب، لا يوجد عفاريت تسرق الأغنام، هذا سارق حويط ربما يكون قد اتفق مع شيخ الرعاة، أو أن الشيخ نفسه هو السارق، هنا انتفض الراعي وثارت ثائرته وقرر الذهاب للشيخ وسؤاله عن حقيقة ما حدث، فرد الشيخ بما قاله من شأن العفاريت، فلم يصدقه الراعي ونشبت بينهما معركة قتل فيها الراعي الشيخ، ثم انتقم أحد أقاربه من الراعي وقتله.

ملخص هذة القصة في كيفية رؤيتنا للحقائق، فالحقائق ما بين علمية"موضوعية" مصدرها العقل، وحقائق دينية"ذاتية" مصدرها الوحي، جميع الأطراف في هذه القصة بحثوا عن الحقيقة بخلط بين الذاتي والموضوعي، بمعنى أن الحقيقة العلمية هي التي يضعها الإنسان كنتيجة لنشاط العقل، وكافة استنتاجات الراعي والشيخ والمثقف هي عن نشاط ذلك العقل، ولكن اعتقد الشيخ أن في الجريمة جانباً دينياً فصدقه الراعي، أما المثقف فهو وإن كان يعلم خرافة سرقة العفاريت للغنم إلا أنه لم ينتبه إلى أن موقفه المسبق من الخرافة جعله يتهم شخصاً بريئاً.."شيخ الرعاة"..بجريمة سرقة ، أو اتهام أحد أفراد قبيلته وجيرانه، ولم ينتبهوا جميعاً أن ذئباً شارداً من البراري المجاورة هو الذي تسلل في الليل وسرق النعجة...!

الراعي عندي هو عامة الناس، وشيخ الرعاة هم الأصوليون الذين استحكموا على عقول العوام، والمثقف هم النخبة الفاشلة التي تسببت بغبائها في توريط البلاد في فتن متعاقبة وتصفية حسابات شخصية ووهمية، نخبة عاشت ونشأت في كنف المؤامرة فلا فرق بينهم وبين مجاذيب الموالد وأصوليي الجماعات، وأصوليون آخرون مولعون بالخرافة والشعارات والخُطب العصماء، وعوام جهلاء لا قدرة لهم على التفكير، بل غالباً ما يكونون أداةً للحرب وهدفاً للجريمة.

إذا تأملنا هذا الجانب التنويري المعروف بالنخبة لا نرى فارقاً بينه وبين الأصوليين فيما يُعرف باعتناق الخرافة، كثير منهم-أو أغلبهم- لا زالوا يدرسون ويتكلمون عن الإعجاز العلمي في الإسلام، ويعتقدون أنهم بذلك يخدمون الدين ويساهمون في نشره، ويجب الانتباه أن هذا الفعل منهم ومن الأصوليين مرده إلى اعتقاد سائد قديم يربط بين الخرافة ونشر الدين، فكلما أراد أحداً الظهور ادعى الكرامة، أو تصور مجتمعاً ما شخصا به لمحات وقدرات إلهية من شفاء ودعاء وعصمة من الأذى...إلخ، لا قدرة لهم على تفكيك الأحداث والوقائع، بما يعني عجزهم عن التنبؤ، وقد حدث ..مما ساهم في قدوم الفتن تترى إلى بلاد العرب والمسلمين.

في أوروبا وإبان عصر التنوير اختلف الحال، قاد التنويريون معركة حاسمة لهدم الخرافة والموروثات العتيقة ، ذلك هو العقل الموضوعي لديهم، هو عقل علمي يقوم على مقدمات ونتائج صحيحة، وفور نشاطه اكتشف ببداهة أن ما عليه مجتمعات أوروبا هو خرافات وتقاليد بالية لا تصلح لصياغة وإنتاج حضارة، بينما الأصولي للوهلة الأولى عندما يسمع هذا التوجه يزداد تطرفاً ويسعى بنفسه لاستباق المعركة، وفي النهاية يخسرها مثلما يخسرالأصوليين المسلمين الآن معاركهم ضد البشرية جمعاء..

المثير أن التنويريين في أوروبا لم يكونوا في معظمهم ملاحدة كما يظن أصوليي الشرق، فجون لوك وسبينوزا وروسو وفولتير كانوا مؤمنين بالخالق على اختلاف عقائدهم، وصنعوا خطاً عقائدياً عاماً في أوروبا يقول أن العقل وحده كافٍ للمعرفة، وهو قادر على كشف الحقائق الموضوعية المرتبطة بالخالق مثل التفكر في الموجودات ، أما الحقائق الإلهية فهي ذاتية لا سلطان للعقل الوضعي عليها، وبالتالي استطاعوا التوفيق بين العلم والدين، وهو نفس التوجه الموروث من مدرسة ابن رشد الأندلسية التي في تقديري أثّرت كثيراً في الحضارة الغربية.

اجمالي القراءات 6672