عالم الكلمات

كمال غبريال في الخميس ١٠ - يوليو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 
وأنت تحاول إقامة المنطرحين، وإيقاظ النائمين، وتنبيه المخدوعين، عليك أن تحرص ألا تجرح مشاعرهم الرقيقة، لئلا يقومون عليك، ويدهسونك بحوافرهم!!
تثور الآن ثنائية الشباب/ العواجيز، ينعت الشباب العواجيز بالعبودية وما شابه، وينعت الكبار الشباب بالحماقة والخواء. ورغم انتمائي الكامل عمرياً لجيل العواجيز، فإنني بكل ما أوتيت من قوة مع الجديد، الذي من المفترض أن يمثله ويحمله الشباب. مع الإطاحة بكل احتقار وازدراء بأغلب ما هو قديم. إطاحة بالأفكار وليس بالأشخاص. فكم من شباب يصرخون بأفكار شيوخ عفى عليها الزمن، وكم من شيوخ يسبقون مجتمعاتهم بسنوات وعقود وربما بقرون.
قال الشاب الثائر: تسقط دولة العواجيز!!
قال العجوز: كيف لي أن أقتنع أنك شاب حقاً، وكل ما تردده على مسامعي، قد سبق وسمعته، ورددت بعضاً منه في شبابي، بينما أحاول معك عبثاً، أن تفهم الجديد الذي تحياه سائر الأمم الشابة؟
تمرد الأبناء بل وثورتهم على جيل الآباء، أمر طبيعي وسُنَّة من سنن الحياة دائبة التغير والتطور. وفي الحالة المصرية أو الشرقية عموماً، يعد هذا التمرد والرفض أمراً رائعاً طال انتظاره. المشكلة في الشعوب التي طالتها رياح الرفض الأخير، أن بواعث الرفض كانت كلها سلبية، بمعنى أن الرفض جاء ضيقاً بالموجود، وليس توقاً لجديد انبهر به الشباب. رغم أنه قد أتيح لهذا الجيل عبر وسائل الاتصالات الإلكترونية والفضائيات، الاطلاع على نماذج وقيم الحياة في العالم المتطور. يبدو أن ما حدث هنا، أن شحنات العداء الديني والتاريخي للعالم الغربي، والتي دأب الحكام ودهاقنة القديم على حقن الأجيال بها، حالت دون الانفتاح الفكري للشباب على العالم الحر. فكان ارتدوا إلى الماضي، القريب منه والبعيد. أيضاً هناك ضحالة التعليم أو بالأصح نظام التجهيل المصري والعربي عموماً، الذي أنتج أجيالاً عاجزة عن التفكير العلمي، وعن التوصل للحقائق عبر البحث العقلي المستقل. فكان أن لجأ الرافضون للواقع، للنقل الآلي عن الماضي. فكان ما نشهد الآن من أجيال من المفترض أن تكون هي أمل الغد الجديد، أن نجدها عبئاً على نفسها، وعلى الحاضر والمستقبل.
ربما نشأت أجيال الشباب الحالية على عدم تحمل المسئولية في حياتهم الشخصية. لهذا نجد أغلبهم وليس الجميع بالطبع، لا يستشعرون مسئوليتهم عما حدث لبلاد ما تصورناه الربيع العربي. أيضاً يريدون الكثيرون وليس الجميع، الاستمرار في حالة التخريب والفوضى باسم الثورة، دون تقدير لعواقب هذا، على شعوب تحتاج للغذاء والكساء والمأوى الآمن.
في عالم الكلمات يتغذى الناس على الشعارات، ويعتقدون فيما لم يتأكدوا منه عملياً، لحاجتهم السيكولوجية لما يعتقدون فيه. ويتخلون عنه في صمت يوم تنتفي هذه الحاجة. وقد يختزل الأمر في مظهريات، وتتحول المقولات والشعارات إلى قشرة سطحية، يحتفظون بها من قبيل الكسل العقلي، أو التقية.
قال كلاماً كثيراً رائعاً ومطمئناً، لكن هل تحقق بالفعل أي مما قال؟. . كان صديقي الطيب في أقصى درجات الحماس واليقين، وهو يبرر عجز الكلمات، بالمزيد من الكلمات. لن يبارح أي شعب مكانه في قاع الحضارة الإنسانية، طالما بقيت للكلمة في ذهنه قوة الفعل. طالما استغنى بالكلمة عن الفعل. طالما ظل يردد الأقوال من هذا المصدر أو ذاك، وكأنها هي الواقع. طالما ظل يأتنس ويأمن لوعود الكلمات، وظل يخوض الحروب بالكلمات، ومن أجل الكلمات.
نجد الاعتقاد في نجاسة بعض الأشياء المادية والكائنات الحية، وكذا الاعتقاد في نوال البركة من بعضها، هما وجهان لعجز العقل الشرقي عن استيعاب وتمثل المفاهيم المجردة. . معرفة القراءة والكتابة وحدها، أو حتى الحصول على شهادات دراسية عالية، لا يكفي لمحو ما يمكن تسميته "الأمية الفكرية". أي الانتقال من "العقلية الشفاهية" إلى "العقلية الكتابية". فالأمر يحتاج للتدريب والتعليم الجيد، ليتعلم الفرد ويستوعب ما أوجدته "الكتابة" من إمكانيات، أحدثت ثورة في مجال الفكر، بما أتاحته من إمكانيات للتركيب والتعقيد في الأفكار.
العقلية الشفاهية تفتقد القدرة على التحليل، وعلى استيعاب الأفكار المركبة. فهي تعتمد في قراءة الأحداث وتفهم الأفكار، على الموروث الشفاهي من القوالب الفكرية، التي تحفظها في شكل أمثلة شعبية أو مقولات مأثورة، أو مفاهيم ذات تركيب بسيط، يقوم على ثنائية التضاد، فهذا أبيض أو أسود، خير أو شر، مع أو ضد.
وعندما ترد عليها فكرة مركبة، لا تستوعبها في ذاتها، وإنما تلجأ لتوفيقها مع أقرب قالب فكري تحتفظ به. فتفقد الفكرة المركبة بذلك محتواها. أي يفشل المرسل إليه في استيعابها كاملة. وهنا الصعوبة التي يواجهها صاحب "الفكر الكتابي" مركب التكوين، في إيصال فكره في مجتمع تسودة "الثقافة الشفاهية".
ربما نظرة عابرة على التعليقات التي ترد على عبارات مكتوبة عبر "عقلية كتابية" في المقالات ومواقع التواصل الاجتماعي، تعطينا مثالاً لما نقول، حيث يندر أن نجد تعليقاً، نستطيع أن نحكم عليه أنه قد استوعب ما ورد كاملاً، وبنى تعليقه على هذا الأساس. فالأغلب أن نجد صاحب الرد قد اقتطع من العبارة الجزء الذي تصادف أن وجد له قالباً فكرياً مختزناً لديه، ليحشر بعضاً من العباره فيه، تاركاً باقي الأفكار بالعبارة وكأنه لم يرها.
في طفولة الثقافة، نجد التشخيص، وفي نضجها نجد التجريد. في التشخيص يتم تقديس رجال الله والقادة والأجداد، وفي التجريد يتم تقديس القيم الإنسانية العليا، كالحرية والعدالة وبذل الجهد والتراحم وما شابه. في بلادنا بدلاً من أن نصلح الأحوال، نكتفي بأن نطلق عليها أروع التوصيفات والعناوين والألقاب.
ما لم تنتقل أي أمة من طفولية ثقافة التشخيص التي تصنع الطغاة، إلى ثقافة التجريد التي تتبنى القيم الإنسانية، سنظل نزحف على بطوننا في مستنقعات التخلف.
اجمالي القراءات 6644