ق1 ب 3 : مشاكل البناء الايدولوجى للإخوان الوهابيين النجديين

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٦ - يونيو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين )

القسم الأول :  المعارضة في عهد عبد العزيز آل سعود : الإخوان وعبد العزيز

الفصل الثالث : التكوين الأيديولوجي للإخوان أساس المعارضة السعودية في عهد عبد العزيز

مشاكل البناء الايدولوجى للإخوان الوهابيين النجديين

1- الركيزة الاساسية في مشكلة المعارضة الاخوانية  هي في بنائهم الأيديولوجي ،أو بناؤهم حسب شريعة العصور الوسطي ( فى الحقيقة أشدها تطرفا وتزمتا ) ،ثم عليهم ان يواجهوا بهذا البناء الأيديولوجي المتطرف   عصرا آخر مختلفا عن ثقافة العصور الوسطي . كان عبد العزيز يشاركهم في  هذه  الثقافة  وهو الذى علمها لهم ، ولكنه  ادرك تغير العصر عن غيره من العصور ،وحاول ان يعيش العصر ويتوافق معه . فكان الخلاف ثم الشقاق ثم الصراع.

واذا كان الافتراض جائزا في البحث التاريخي ،فلو اننا افترضنا ان الاخوان هم الذين انتصروا في صراعهم مع عبد العزيز ،فان مصيرهم سيكون الي زوال ،لأنهم لا ينتمون الي نفس العصر . لقد عاش الديناصور بكل جبروته مسيطرا علي الارض ،فلما انتهي عصره وجاء عصر الثدييات اندثر مع اندثار عصره ،ونري أمثلة مشابهة في التاريخ الإنساني ،وفي تاريخ المسلمين ..

2 ـ في واقع الامر كانت  الدولة التي اقامها النبي محمد علي السلام متناقضة مع عصرها ،حيث ساد وقتها تقديس الحكام والكهنوت فيما بين إمبراطوريتي  الفرس والروم .واقام النبي عليه السلام دولة تسير علي المنهج القرآني والسنة الحقيقية للنبي في التطبيق للقرآن ،وهي بمفهوم عصرنا الراهن ،دولة الديموقراطية المباشرة وحقوق الانسان وحرية الفكر والعقيدة والعدل الاجتماعي والسلام القائم علي القوة والعدل .وهذه الدولة طبقت الشريعة الاسلامية الحقة أروع تطبيق بشرى ، وكان الوحى يتابع النبى عليه السلام بالتصحيح والتوجيه ، بما يجعل ممكنا إقامة دولة اسلامية حقيقية بشريعة قابلة للتطبيق  البشرى . ولكن هذه الدولة التي اقامت علي ارض الواقع حلما طالما تغني به الفلاسفة لم تستطع ان تصمد بعد موت النبي ،اذ لم يتركها في حالها اولئك الذين دخلوا في الاسلام متأخرين وهم الامويون القرشيون والاعراب ،والفريقان معا يمثلان الثقافة السائدة في العصور الوسطي المناقضة للاسلام ،ومن الصراع بين الفريقين تم التحول البطيء في دولة المسلمين ،من بيعة السقيفة الي الفتوحات الي الحروب الاهلية الي اقامة دولة استبدادية عسكرية اموية ،ثم في النهاية اقامة دولة دينية عباسية ،تحمل في داخلها كل ثقافة العصور الوسطى وملامحها الاستبدادية وتصوغها بتدين مصنوع يتفق معها ومع السائد في العصر .

والتناقض واضح بين دولة النبي وبين الدولة العباسية التى جرى فيها تدوين شرائع بشرية للمسلمين تجسّد  ثقافة العصور الوسطي . ومن اجل ذلك لم تستمر دولة النبي سوي عشرة اعوام مع كونها اقامت حلم المستضعفين في جنة بشرية علي الارض ،بينما استمرت دولة بني العباس اكثر من خمسة قرون .والسبب واضح .ان دولة النبي كانت تناقض الثقافة السائدة في العصور الوسطي ،بينما كانت الدولة العباسية اصدق تعبير عن هذه الثقافة .لذلك استمرت الخلافة العباسية حتي بعد سقوط الدولة العباسية ،استمرت في الدولة المملوكية تعطي شرعية لحكم المماليك الأرقاء في ما بين (1517:1250) م .واستساغ الناس ان يحكمهم المماليك الظالمون طالما يتمتعون بموافقة الخليفة العباسي الذي كان يقوم بمبايعة كل سلطان مملوكي يصل بقوته وتآمره الي الحكم .ثم بعد ان اسقط العثمانيون الدولة المملوكية حمل السلطان سليم العثماني معه اخر خليفة عباسي من القاهرة الي الاستانة وجعل نفسه الخليفة بعده ،ليحكم بنفس الشريعة العباسية .وظلت الدولة العثمانية تتوارث الخلافة الي ان ألغاها اتاتورك سنة 1924 م أي في منتصف عصر الأخوان الوهابيين النجديين( 1910-1930 ) .

 3- وبدأ عبد العزيز في تأسيس دولته (1902-1930 )علي اساس ديني يقوم علي التدين الوهابي التيمي الحنبلي السني ،ويناضل ضد التدين الشيعي والتدين الصوفي المتسيد حوله. وادرك حاجته الي تحويل قوة البدو الحربية المتقلبة الانتهازية الي قوة عقائدية تتربي علي اساس التدين الوهابي ،فقام بتكوين الاخوان عقائديا بالفكر الوهابي التيمي الحنبلي الذي ينتمي في حقيقة الامر الي العصور الوسطي ويتصالح معها بقدر ما يخالف الثقافة الحديثة التي بدأ العالم يعرفها ،وتقوم اوروبا وانجلترا علي رسم هذه الثقافة وتطبيقها وفرضها علي المستعمرات ومناطق النفوذ، ومن هنا اصبحت ثقافة الاخوان الاصولية السنية مخالفة للعصر والقائمين علي العصر، فكان لابد ان تختفي قوة الاخوان مهما بلغ حماس الاخوان .و لو كان عبد العزيز نفسه متفقا مع اخوانه في كل ملامح هذه الثقافة حينئذ كان سينتهي مصيره الي ما آلت إليه سابقا الدول البدوية المتحركة واصحابها (حركة الزنج ،حركة القرامطة) الذين اجادوا فن التدمير واقامة المذابح وانتهوا سريعا الي لا شئ حتي في العصور الوسطي التى ينتمون اليها .  

ومن هنا يمكن القول ان دولة النبي محمد عليه السلام بكل ما فيها من مثل عليا كانت غريبة عن العصور الوسطي فانتهت سريعا كأي جملة اعتراضية تخالف المألوف. وبنفس المنطق فان حركة الاخوان التي تم بعثها في العصر الحديث بعقيدة وثقافة تنتمي الي العصور الوسطي وتخالف العصر الحديث، كان لابد ان تنتهي سريعا بكل ما فيها من مذابح وحماس وتضحية وفداء واخلاص لما يعتقدون انه الاسلام . وهو نفس المصير الذى ينتظر كل محاولات الحركات الوهابية السياسية  ( أو ما يسمى بزعمهم الاسلام السياسى ) كالاخوان المسلمين وسائر تنظيماتهم السرية و العلنية .

4-ومشكلة عبد العزيز انه اضطر الي تحويل البدو الي اخوان كي يضمن لنفسه جنودا عقائديين يستمر ارتباطهم به كارتباط الانسان بعقيدته ،وبالتالي يتخلون عن انتهازية البدو وعصبيتهم القبلية ،وبالتالي ايضا يمكن ان يفتح بهؤلاء البدو كل ما كان في حوزة جده سعود الكبير .واساس المشكلة في انه اعدهم دينيا بثقافة العصور الوسطي او بالادق اشد ثقافة العصور الوسطي تطرفا وتعصبا وتزمتا ،وهي ثقافة تصلح لتكوين عقيدة حربية ولكنها تحمل في داخلها عوامل فنائها لأنها ان لم تجد ما تأكله تأكل نفسها . وحين اجبرت انجلترا (ممثل العالم في ثقافة العصر الحديث)عبد العزيز علي ان يعيش ثقافة العصر ويتوقف بفتوحاته و ( جهاده ) اذا اراد ان يعيش ملكا في هذا العصر ،بدأت المشاكل بين عبد العزيز واخوانه ، وتحولت شوكة عبد العزيز التي يحارب بها خصومه الي شوكة متفجرة داخل عباءته .وقد صبر علي اذي هذه الشوكة الي ان استفحل خطرها ،واصبح حتما ان يوسع احد الطرفين مكانه للاخر ،وكان لابد من العلاج بالجراحة .

5- ومشكلة الاخوان النجديين  انهم بدو أعراب منعزلون في صحرائهم بعيدون عن العالم الخارجي ،وجاءتهم الدعوة السلفية والتثقيف الايديولوجي في الهجر بما يتواءم مع عقليتهم ،وبما يعطيهم ما يريدون بمسوغ ديني معتمد علي تراث مستمر ومستقر مكتوب وغير مكتوب توارثته ( نجد ) ، استمر من حركة الردة ،مرورا بحركة الزنج والقرامطة الي حركة ابن عبد الوهاب ، وقد جرت معظم احداثه في نجد وحولها  . اذ عاش البدو مرحلة اختلط بها الزمان بالمكان بالماضي والحاضر، وتحول هؤلاء البدو الي اخوان يريدون اعادة دولة النبي ،ليس كما جاء في القرآن ولكن كما دونها المؤرخون في العصر العباسي، والاخوان حين خرجوا للعالم بهذه الايديولوجية وجدوا العالم كله ضدهم ،ليس فقط النصاري الكفار ممثلين في انجلترا التي تهيمن علي المنطقة ولكن ايضا في المسلمين الاخرين الذين يصفونهم بالمشركون ،سكان الشام والعراق .و فى إعتقاد الاخوان فإن هؤلاء ( الكفار والمشركون ) لا يتيحون فرصة للاخوان للاغارة كي يقوموا بفتح الشام والعراق وغيرها بمثل ما حدث في الفتوحات العربية الاولي، والانكي من ذلك ـــ من وجهة نظر الاخوان النجديين ــ  انهم يقيمون داخل بلادهم حصونا لتحمي بلادهم من فتوحات الاخوان !!! ثم الانكي اكثر واكثر أن عبد العزيز نفسه يسايرهم ويوافقهم ويواليهم ..وهذا كله مخالف لما تعلموه علي يد فقهاء عبد العزيز نفسه ..

6 ـ واولئك الفقهاء مشكله اخري .ومشكلة الفقهاء ان الحل الاسلامي السياسي يستلزم اجتهادا يؤكد حقائق الاسلام الكبرى فى الحرية الدينية المطلقة والحرية السياسية والعدل و السلام والاحسان أو التسامح . وهذه القيم العليا هى نفسها القيم التى وصلت اليها البشرية بزعامة العربية فى العصر الراهن ، ودونتها فى المواثيق الدولية الحقوقية ، نلك المواثيق التى تُعتبر أقرب كتابة بشرية للشريعة الاسلامية الحقيقية التى جاءت فى القرآن الكريم ، وطبقها النبى عليه السلام . وبالتالى فليس مقبولا ولا معقولا ان تقيم دولة تحمل شعار الاسلام ظاهريا بينما تعتنق شريعة غاية فى التطرف وفى التناقض مع الاسلام ومع ثقافة العصر الراهن .

 واساس مشكلة فقهاء نجد في ان ظروف نجد الجغرافية ليس فيها الجديد الذي يحرك الفكر بالاجتهاد، فهي منطقة منعزلة بطبيعتها ،والاحساس فيها بالزمن رتيب دون اختلاف .والغرباء الذين يقدمون علي نجد من المسافرين والحجاج لا يري فيهم اهل نجد الا ضحايا للسلب والنهب او الابتزاز، وفقهاء نجد يحملون نفس العقلية المحافظة ،واذا كان العصران المملوكى ثم العثماني هما عصر التقليد في الحواضر الاسلامية في العراق والشام ومصر فان التقليد يتحول في صحراء نجد الي جمود، ولابد للفقهاء في نجد ان يكونوا حراسا لهذا الجمود . وحتي عندما حصل محمد بن عبد الوهاب علي مؤلفات ابن تيمية وتشربها ،وترك نجد وعاد اليها داعيا فانه لم يأت بجديد في دعوته العقيدية يختلف عما قاله ابن تيمية، ثم انه ثانيا اقتصر علي الجانب العقيدي دون ان يتبحر فيه علميا كما فعل ابن تيمية في رسائله الكثيرة ،كما لم يتبحر فقهيا مثل ابن تيمية ،وهنا يكمن الفارق بين المجتهد النجدي محمد بن عبد الوهاب والمجتهد الثاني ابن تيمية مع ان كلا منهما تفوق علي المستوي العلمي لعصره ،وتفوق علي الفقهاء اللاحقين في مدرسته .

7-ولا تقتصر المشكلة في بيئة نجد وفقهائها المحافظين الكارهين للاجتهاد .وانما تتعدى المشكلة طبيعة المكان الي طبيعة الزمان . والزمان والمكان قد تجمدا في نجد عند ثقافة العصور الوسطي، وحين صعد عبد العزيز بنجد الي مستوى العصر الحديث- او حين حاول ذلك  ازدادت المشكلة تعقيدا ،اذ كانت نجد بثوراتها في العصور الوسطي تبدو متطرفة بمقياس العصور الوسطي نفسها ،فكيف بها بنفس التقاليد تواجه العالم المعاصر وبادعاء ان ذلك هو الاسلام الذي يتناقض مع التعصب والتطرف والتزمت وسفك الدماء البريئة؟

ربما كانت المشكلة ستظل محصورة داخل الصحراء اذا اقتصر ابن سعود علي النضال ضد خصومه داخل نجد وبين قبائلها ،ولكنه بحكم موقع  ( نجد ) علي حدود الشام والعراق والخليج الفارسي ،وبحكم الخبرة التاريخية لأهل نجد لابد ان يحتكّ بجيرانه ، أو أن يصعد بهذه الثقافة الفاتحة الي خارج حدود نجد حيث مصالح الانجليز-اكبر قوة في العالم وقتها-وبالتالي لابد من الاحتكاك والصدام ليس فقط بالقوة الاقليمية للمسلمين الصوفية والشيعة من عرب واتراك ولكن بالقوة الاوربية ،أي لابد من الاحتكاك بالعصر وثقافته ،ولأن هدفه الاساسي هو اقامة الدولة ،والاخوان وسيلته في تحقيق هذا الهدف فانه من المنتظر ان يتخلي عن الاخوان، اذا اصبحوا خطرا علي هدفه ودولته . وهو لا يستطيع اصلاح الاخوان او بمعني اخر لا يستطيع تثقيف الاخوان بحقائق الاسلام وقيمه العليا التى تتوافق مع العصر الحالي وتتواءم معه ،لأنه أولا لا يعرفها ، ولأنها ثانيا تتناقض مع هدفه السياسى ، إذ أنه ضد الاسلام أن تتخذ منه وسيلة للحصول على حطام بشرى . ثم إنه أمضى وقتا فى تعليم أولئك البدو تعايم الوهابية ولا يستطيع أن يخرج عليها حتى لو أراد ذلك . وأخيرا فإن العلماء الوهابيين أبعد الناس عن الاجتهاد بما يتفق مع العصر الحديث . وهم مع نفوذهم وتبعيتهم لابن سعود ومحاولة ارضائهم الا انهم اصل المشكلة ..لأنهم حراس الفكر الديني الذي تعلموه وتشربوه عبر تراكم زمني وتاريخي اتفق مع منهج بيئتهم المحافظة المتطرفة بطبيعتها . وبالتالي فانه اذا كان مستحيلا علي فيصل الدويش ان يقلع عن الغزو واستحلال المذابح والاموال للأبرياء فانه من المستحيل ان يري العلماء وصفا اخر لهذا الغزو الا انه جهاد للكفار والمشركين بغض النظر اذا كانوا سالمين او محاربين ..فالاخوان هم تلامذة أولئك الشيوخ ، ومنهم تعلموا الوهابية على أنها صحيح الاسلام .واولئك الشيوخ توقف بهم الزمن عند ابن عبد الوهاب، وابن عبد الوهاب توقف به الزمن عند ابن تيمية ،وابن تيمية توقف به الزمن عند ابن حنبل وابن حنبل كان فقهه انعكاسا لمحنته، وابن تيمية انعكست محنته علي فقهه ،وابن عبد الوهاب لم يجد سبيلا لمواجهة خصومه في العقيدة الا بهذا الفقه المتشدد الذي ينفي الاخر، وفقهاء عبد العزيز عاشوا هذا التراث وواجهوا به العصر الذي يرفضهم فكانوا اكثر رفضا له ، ووجدوا في التراث الديني التابع لهم ما يسوغ لهم تحويل الرفض الفقهي الي قتل وسلب ونهب للابرياء وغير الابرياء ، ومن هنا كانت لدى الاخوان الفتاوي الجاهزة مسبقا في رسائل ابن عبد الوهاب وكانوا يبادرون الي تطبيقها بدون اذن عبد العزيز ليتحمل هو النتائج السلبية او الإيجابية، ولان هذه النتائج تؤثر علي مركزه بل وربما مستقبله وتؤثر علي حقوق الدول الاخري وتحتم علي النفوذ الانجليزى ان يتدخل، فاضطر عبد العزيز للتدخل ضد عقيدة الاخوان ، فأصبح طبقا للوهابية نفسها متهما بأنه يوالي الاعداء المشركين ،ويفزعون للعلماء الذين علموهم (الدين ) فيظهر عجز العلماء عن الاجتهاد بما يلائم العصر ويجعلهم يتفقون مع الاخوان في الاساسيات .وتتحول الخلافات بين عبد العزيز والاخوان من خلافات فقهية الي معارضة سياسية ،ثم تتحول الي معارضة مسلحة وحرب اهلية ، كأن التاريخ يكرر نفسه .

ومن عادات التاريخ السيئة انه فعلا يكرر نفسه احيانا .خصوصا في نجد .

اجمالي القراءات 8471