عودة مصر لرشدها

كمال غبريال في الأحد ٢٢ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً


 الجو بمصر الآن ملبد بالأسئلة والهواجس، وإجابات هائمة ليس لها ما يؤكدها، على السؤال الأخطر وربما الأوحد، إلى أين تتجه مصر؟. . سؤال يصدر عن قلق وحيرة، لهما بالتأكيد ما يبررهما. نعم استطاعت مصر خلال ثمانية عشر يوماً، من 25 يناير حتى 11 فبراير 2011، التخلص من نظام سياسي امتد لثلاثين عاماً، وربما الأصح لستين عاماً. ثم استطاع الشعب خلال أربعة أيام، من 30 يونيو حتى 3 يوليو 2013، الخلاص من نظام تصورنا جميعاً أنه سيستمر لعقود، وتصور زبانيته أنه سيستمر لقرون. وفي الحالتين أثبت الشعب الذي ظل ساكناً عبر دهور طويلة، قدرته متى نهض على هدم البائد المرفوض. لكن ما تلا تنحي مبارك يوم 11 فبراير 2011 وحتى الآن، يؤكد غياب الرؤية النظرية، والعجز العملي، عن التقدم ولو خطوة واحدة للأمام، باتجاه الحرية والحياة الأفضل، المفترض أنهما أهداف أي ثورة شعبية.

نناقش في هذه السطور تحديداً، واحدة من الإجابات واسعة الانتشار الآن، على سؤال المستقبل. فثمة من يقدمون أنفسهم باسم "الثوار"، ويقولون أن مصر تعود الآن إلى عصر مبارك، على ضوء ما يرونه بمسمى "سيطرة العسكر"، متحالفين مع من يسمونهم "الفلول" و"الدولة العميقة". معتبرين ذلك من قبيل الثورة المضادة، أو سيطرة "الرجعية" على الثورة. بعض بالملايين ممن رفض "هوجة يناير" منذ البداية، وصدقت تنبؤاته في ركوب الإخوان لها، يبتهج ويستبشر خيراً بهذا التوقع. فيما يعتبره آخرون بمثابة هبوط اضطراري، لطائرة فشلت في رحلة طيرانها وتهددها السقوط، فرضوا من الغنيمة بالإياب كما يقال.
سوف نحاول مقاربة هذا التوقع، رغم بروز توقعات أكثر منه اقتراباً من واقع الحال بمصر الآن، مثل قيام تحالف بين القوى السلفية والعسكريين، تسلم بموجبه السلطة والإدارة للعسكريين، ومن يوظفونهم من الكفاءات الفنية المدنية (تكنوقراط)، ويكون للسلفيين المرجعية الدينية الدستورية، في ظل نمو تحالف أو هيمنة للفكر السلفي على الأزهر، توجيهاً للبلاد نحو دولة دينية، بالبطء أو بالسرعة الممكنة، وفق ما تقتضيه وتسمح به الظروف المحلية والعالمية.
لكن لاشك أن التوقع الأكثر تفاؤلاً، على ضوء معطيات الواقع الراهن الآن، هو هذا الذي يسميه "الثوار"، العودة إلى عصر مبارك. بالطبع المتسمون باسم ثوار يقولون ذلك بمعرض التخويف ولطم الخدود، حسرة على ما ضاع من جهد ودماء وآمال. لكن الحقيقة أن هذه العودة بالصورة التي يتصورونها صارت مستحيلة لأسباب كثيرة، لعل أهمها "تسيس" جل الشعب المصري، وقد ظل لعقود عازف عن "السياسة وبلاويها"، ثم جيل الشباب الذي انكسرت في نفوسه هيبة السلطة ومؤسساتها الأمنية، علاوة بالطبع على أن التمرد على نظام مبارك لم يبدأ فقط بحركة 25 يناير 2011، وإنما ظهرت الاحتجاجات الفئوية قبل ذلك بفترة طويلة، تململاً من فشل النظام في الإدارة المثلى لموارد البلاد الطبيعية والبشرية، رغم تحقيقه نجاحات جزئية معتبرة في هذا الشأن، ذلك بغض النظر عن الجمود السياسي، الذي قد يعني النخبة بالدرجة الأولى. ومن غير المتصور العودة الآن إلى "عصر مبارك"، بمعنى العودة لذات نقطة القلق والتوتر التي ترتب عليها كل ما حدث بعد ذلك. فالحقيقة أن نظام مبارك في سنواته الأخيرة، لم يدخر جهداً في تهيئة البلاد للفوضى القادمة!!
الحقيقة أن هناك بالفعل بشائر وملامح، لما يمكن اعتباره تجاوزاً هذه العودة لعصر مبارك، لكنها ليست العودة إلى ما قبل 25 يناير 2011.
فور قيام الثورة المصرية في 25 يناير 2011، اتخذ مبارك على مدى أيام الثورة، أربعة قرارات هي: عدم الترشح مرة سادسة للرئاسة، ثم عدم ترشح نجله جمال للرئاسة، وتعيين الفريق/ أحمد شفيق رئيساً للوزراء، وتعيين د. حسام بداروي أميناً عاماً للحزب الوطني، والرجلان من أفضل الكفاءات المصرية كل في مجاله، الفريق/ أحمد شفيق من حيث كفاءته الإدارية، ود. حسام بدراوي بليبراليته وعلمه وإخلاصه المعروف لقضية تحديث مصر. . هذه القرارات الأربعة كانت تعني بداية لمرحلة جديدة، يتم فيها رفع ديكتاتورية الحكم مدى الحياة والتوريث عن كاهل مصر، ثم تقديم التيار الإصلاحي المصري، الذي كان متواجداً داخل الحزب الوطني، وتحديداً في لجنة السياسات، دون أن تعطى له فرصة حقيقية للسير وفق رؤاه الحداثية، والتي أعلنها لنا بوضوح وتفصيل، خلال ما سمي بورقة لجنة السياسات، التي صدرت عن المؤتمر الخامس للحزب الوطني في نوفمبر 2008، وتحوي خطة ورؤية طموحة وعقلانية علمية لمصر حديثة، تنافس دول النمور الأسيوية في النمو، وقد أعاقت الديكتاتورية السياسية وعناصر الفساد تفعيل هذه الخطة، وبقيت حبيسة الأدراج أو سَلَّة المهملات.
كانت القرارات الأربعة كافية بالفعل لتحقيق أهداف الثورة بشقها الشعبي، عبر البدء الفوري في تطبيق هذه الدراسة، لولا عاملين، أولهما الخوف من التلاعب بالثورة والثوار، ومسايرتهم لبعض الوقت، لحين الانقضاض عليهم وتعليقهم على المشانق، فهذا هو مصير الثوار الذين يتوقفون في منتصف الطريق، أما العامل الأخطر، والذي أدى لاستمرارية الثورة حتى كادت تهدم مصر على رؤوس أهلها، فكان المتربصون للانقضاض على السلطة، رغبة في السيطرة، أو رغبة في الهدم لذاته، سواء من الإخوان المسلمين، أو ممن يسمون أنفسهم الآن "تيار الثورة المستمرة"، من العروبيين والفوضويين اليساريين والشيوعيين القدامى، الذين استفاقوا فجأة على ثورة الجماهير، ووجدوها فرصة يستعيدون فيها أحلام شبابهم التي كانت قد "ذهبت مع الريح".
الآن ما قد يعتبره البعض عودة محتملة لعصر مبارك، لن يكون إن حدث في الحقيقة كما يتصورون ويصفون، من عودة فشل الإدارة والفساد والديكتاتورية، لكنه سيكون عودة إلى نقطة الرشادة في ثورة يناير، والتي كانت قد حققت بالفعل أهدافها، بالقرارات الأربعة السابق الإشارة إليها، خاصة وقد أضيف إليها إزاحة أعداد كبيرة من أركان الفساد في عصر مبارك، مثل صفوت الشريف وفتحي سرور، وجيوش جرارة من المطبلاتية والمزمرين والمتسلقين الطفيليين في الحزب الوطني.
لا نقول أن الطريق لما نعتبره "عودة مصر إلى رشدها" ممهد الآن، ومفروش بالرمال أو الورود، فهناك القوى الكامنة التي ظهرت الآن على السطح، وصار يحسب لها الجميع ألف حساب وحساب، مثل القوى السلفية، التي كانت أيام مبارك قد تخندقت خلف مقولة "تحريم الخروج على الحاكم"، وسرعان ما تخلت عنها، لتبدأ جهاد العودة بمصر إلى القرن السابع الميلادي. والقوى التي تسمي نفسها ثورية، وقد عرفت جيداً الآن طريقها للفعاليات الجماهيرية الصاخبة، المؤثرة والموجعة لأي نظام، وتحمل رؤى فوضوية وعروبية ويسارية، وهي ذات القوى التي كانت العامل الأهم في إحجام نظام مبارك عن الاستجابة للنداءات المحلية والعالمية، للقيام بإصلاح من داخل النظام. فالقوى اليسارية والناصرية بصياحها وسيطرتها على وسائل الإعلام، كانت وراء تباطوء خطوات نظام مبارك باتجاه الإصلاح الاقتصادي، والتخلص من إرث الاشتراكية الناصرية الوبيل، والتحول باستقامة للاقتصاد الرأسمالي الحر، كما كانت قوى الإسلام السياسي العائق الأكبر، أو على الأقل الحجة المعلنة من قبل النظام، لعدم التطور باتجاه الحياة الديموقراطية، وهي الحجة التي ثبت وجهاتها فيما تلا الثورة من أحداث.
ليس لدينا من الدلائل ما يشير إلى أي طريق سوف تسلك مصر وشعبها والممسكون بمقاليد أمورها الآن، لكن من وجهة نظر كاتب هذه السطور، أن ما سميناه "عودة مصر لرشدها"، هو أكثر الاحتمالات تفاؤلاً، بالطبع ليس بصورة مطلقة، ولكن في ظل معطيات الواقع الراهن.
kghobrial@yahoo.com
 ايلاف
 
 
اجمالي القراءات 9688