التطور الطبيعي للثورة المصرية(2-2)

سامح عسكر في الأربعاء ١٨ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

وكأن الثورة المصرية لا زالت تجهل معالِم هذا الصراع، أن الإخوان يُمثّلون تجلياً فاضحاً للرأسمالية المُتغوّلة، وللبرجوازية الجاهلة والنفعية ، وأن مسألة الوعظ الديني تهدف إلى الإبقاء على العاطفة الدينية كأساس يمكن أن يكون سبباً في عودتهم مرة أخرى فيما لو فشلوا في الحُكم،..ثم أنا لا أبحث عن بديل للعاطفة الدينية، بل في تقديري يجب أن تكون بضوابط بمعزل عن الهوية، ومعنى ذلك أن الخوض في مسألة الهويّات سيجرنا إلى صراع هووي ديني ترفع فيه الجماهير الهوية الإسلامية مقابل المسيحية أو العلمانية..وهكذا..هذا غير صحيح ولا يجب أن يكون، فالهوية تُشكل الكينونة الخاصة لا العامة، وأن ما ترسّب في الثقافات من تسمية.."عقل جمعي"..هو عبارة عن وعي وأعراف ليست نهائية، بل في العصر الحديث نراها تنكسر بمجرد خبر أو معلومة.

أما كيف تكون العاطفة الدينية معزولة عن الهوية، هي في اعتبار أن نهضة المسلمين في الماضي لم تكن بسبب الإسلام بل بسبب الإنسان، لأنه لو أجزنا أنها كانت بسبب الإسلام .. فنهضة أوروبا كانت بسبب المسيحية أو العلمانية، وبذلك نضع الأديان والنماذج في المواجهة وتُعقد المقارنات التي استهلكت من قوى المفكرين الكثير، ولم يجنوا من ورائها سوى الضلال.

الكارثة في من يعتبر أن نهضة المسلمين في الماضي كانت بسبب الإسلام، أما تأخرهم وانحطاطهم فكان لأسباب سياسية واجتماعية، وهذا تناقض صارخ وكذب فاضح، إذ يلزم ذلك أن العقل المسلم هو عقل ديني في التقدم وعقل علماني في التأخر، وعليه كان السؤال يطرح نفسه..لماذا لا نُحيل أسباب التقدم والتأخر على الدين؟..فطالما كان الدين سبباً في التقدم سيكون سبباً في التأخر، وإلا نمتلك الشجاعة في الإعلان بأن التقدم والتأخر هو نتيجة لفهم الإنسان للحياة دون إدخال الدين في المسألة، ونكون قد حافظنا بذلك على الدين، وحرصنا على صيانته من كل نقيصة قد تظهر بسلوك الهَمَج والرعاع والمجرمين الذي يقتلون ثم تُصبح أديانهم محل اتهام..

طبعاً شباب الثورة المصرية ومفكريها ربما لا يفطنون إلى تلك المعادلات، وهو ما أوقعهم في حيص بيص لا يفهمون ما يجري، ولماذا انتشر الإرهاب،ولماذا فشل الإخوان،ولماذا زادت شعبية مبارك بعد ثورة يناير، بل جعلوا ثورتهم كائن هلامي مقدس لا يجوز الاقتراب منه ولو بالنقد، فلو أجزنا أن عجل السامري كان معبوداً لكانت ثورة يناير هي معبود حقيقي، فالإسرائيليون هم الذي صنعوا العِجل وعبدوه، وهؤلاء الشباب هم الذين صنعوا ثورة يناير وعبدوها، حتى بعد ظهور أخطائهم وما حدث من قصور فاضح وجرائم بعد الثورة فضّلوا أن لا يُراجعوا أنفسهم وينظرون للثورة بعين الواقع لا بعين الأحلام والأمنيات.

تلك الأحلام هي التي جعلت البعض منهم يُصبح فوضوياً دون أن يدري، يحرص دائماً على الثورة والرفض والتظاهر في الشارع ضد كل سلطة، حتى ضد السلطة التي أتى بها في ثورة شعبية كثورة يونيو، بل ويصفها بأقذع الأوصاف وما ينتج عنها من قوانين بأحطّ العبارات، وكأننا في حاجة إلى نابليون جديد يضبط إيقاع هؤلاء كي تبقى الدولة،ولو تطلب الأمر لسحقهم سيفعل.

لا يُفهم من ذلك أن لي موقف من ثورة يناير،فمع كل الأمراض التي جاءت بها الثورة، ومعدل الأخطاء والجرائم التي حدثت، إلا أنها كانت ضرورية ضد أنظمة الحزب الواحد، واللغة الجامدة والفساد السياسي المستشري، إضافة للتخبط الاقتصادي والاجتماعي الذي سَمَح بانتشار وتغول البرجوازية الجاهلة والنفعية دون اعتبار لحقوق الفقراء والعمال، فزاد معدل الفقر والبطالة، ومعها انتشرت المحسوبية، وعجزت الحكومات عن المواجهة، والسبب كان في القيادة الجاهلة عديمة الرؤية والقيمة الإنسانية كي تشعر بأحوال الفقراء والمُهمّشين.

لكن لا يعني الاعتراف بضرورة الثورة هو إنكار تماسك الدولة في عهد النظام السابق، وما لحق الثورة بعد ذلك من أحوال شبيهة بالفوضى كانت هي التهديد الحقيقي للشعب لا فساد النظام السابق وعجزه، لأن الأمن -لازم النظام-كان هو الضامن لبقاء الشعب ودولته كي يُصلح من أحواله مرة أخرى، وهكذا هي الدنيا، سيظل الإنسان في صراع دائم.. شرط أن تكون هناك دولة ونظام، كمن يريد الدولة المدنية ولكن بجهله يقضي على الدولة فلا هو طال الدولة ولا هو طال المدنية، وبفضل الله وجهود الشعب فقد تنفست الجماهير الصعداء بثورة يونيو التي تُعد استكمالاً وتطوراً إيجابياً لثورة يناير، ولا يجب عزل الثورتين عن بعض، إذ الحراك الثوري لا زال مشتعلاً، والتحديات أمام الشعب والحكومة لا زالت حاضرة وبقوة.

أبرز وأهم ما حدث هو انتقال الثورة من الفكرة الإصلاحية إلى خليط ما بين الإصلاح والمحافظة، وكان ذلك ضرورياً لبقاء الدولة وحمايتها من عدو همجي ضاع كل ما صنعه في 80 عاماً في ثلاثة أيام، كان التحدي كبير، إذ بقياس شعبية الإخوان قبل صعودهم للسُلطة وشعبيتهم بعد السقوط سنجد فارقاً يحمل تعريفاً للشعب المصري ودولته ويشرح طبيعته، وهو أن الشعب متدين ولكن يكره الوصاية الدينية والكذب، وهو شعب فرعوني يكره ويثور على الحاكم الضعيف، وهو شعب عاقل يكره الحاكم الساذج، وهو شعب متحضر يكره الهمجية، وهو شعب صادق يكره الكذب ودروبه وألوانه ويحترم من يفي بوعوده.

كل ما سبق هو من أساليب السياسة وأصول التعامل مع الناس، فالمسألة سياسية إنسانية بعيدة عن الأديان والنماذج، ويبقى النجاح رهيناً للقدرات الخاصة وحضور الأخلاق، من يفطن لذلك تنجح توقعاته، كمن حذّر مما يحدث في سوريا من حراك جماهيري سيؤدي إلى تدمير البلاد وإشاعة روح القتل والذبح الطائفي، كان تحذيره مبنياً على أن قادة الميدان هم هؤلاء الكهنة وقد تحالفوا مع ذلك الشباب الجاهل والطائش، الذين رفعوا شعارات الحرية وكان أغلب من في المظاهرات لا يؤمنون بها أصلاً، بل يرفعون شعارات الموت للرافضة والنصارى والسحق للكافرين والمرتدين، فكيف تكون تلك المقدمات لا تُنتِج دماراً وقد شاهد العالَم أجمع أن ما حدث في سوريا هو من أعظم كوارث العصر مادياً وفكريا، كل ذلك باسم الثورة.

الآن وبعد هذا العرض يمكن القول بأن الثورة المصرية تطورت وتتطور طبيعياً ليس من خارجها..بل من داخلها، وأن التفاعل بين قيمها ومن يحملون هذه القيم هو الذي سيُفرِز في النهاية تنويراً، شرط أن تلتزم الجماهير جانب الإقصاء لهؤلاء الكَهَنة والمُنجّمين باسم الدين، وأن يعمل الشباب المصري على تثقيف نفسه دينياً بحيث تكون مراحل تطور الثورة تحمل في جُعبتها إصلاحاً دينياً يقضي على الاستغلال والفقر والجهل ، لأن الثورة دون الإصلاح الديني كالحرث في البحر، وأن الدول والشعوب تغيرت من الجيد إلى الأسوأ نتيجة لقعودهم عن النظر في الدين، ولنا في أفغانستان والصومال والسودان عِبرة بأن التغيير الحقيقي لن يكون ثورياً دون برنامج إصلاحي وفكري شامل.

اجمالي القراءات 7752