من ذكرياتي مع الفريق السيسي(3-2)

سامح عسكر في السبت ٠٧ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كنت أعمل في مكتب العمليات حتى الليل، وفي يوم تركني الجنود القُدامي وذهبوا للنوم على أن أكمِل خريطة تأمين أحد المواقع الحيوية، وقد أخذت مني الخريطة جُهداً كبيراً حتى ساعات الفجر، وبعد الانتهاء من الخريطة ذهبت للنوم وكان صباح يوم الجمعة، لا طوابير فيه حتى التاسعة صباحاً، وبعد التاسعة وقت مفتوح حتى صلاة الجمعة...

في هذا الصباح جاءت زيارة مُفاجِئة لقائد اللواء 120 ، وكان من المفروض أن يطلع على خريطة التأمين التي سهرت فيها حتى الصباح، وكان قائد المنوب في هذا اليوم هو رئيس العمليات ضابط لا أتذكر اسمه تقريباً اسمه مقدم.."عصام عبدالفتاح"..وكان رجلاً طيباً ونبيلاً لا يعرف أساليب العسكرية، لذلك ظل في هذا المنصب.."رئيس العمليات"..ولمن لا يعرف فمنصب رئيس العمليات في الوحدات الصغيرة في الكتائب ليس له أهمية، وأهميته تبدأ من الوحدات الفرعية كاللواء والفرقة.

لذلك ظل هذا الضابط في هذا المنصب وهو بالمصري.."لا يعرف الألف من الكوز الدرة"..فهو لا يفهم ما نرسمه في الخرائط، وكل شاردة وواردة لابد أن يستطلع رأي السيسي فيها، وكان السيسي بارعاً في الخطط والعمليات الحربية والتأمينية، بل أتذكر جيداً أن هذا كان حال أغلب ضباط الكتيبة، حتى أنه من كثرة الخرائط التي رسمتها حتى أواخر أيامي بالخدمة.. وصفني-حينها- قائد الكتيبة المقدم أركان حرب.."صفوت زين العابدين".. أنني ضابط مجند..وبلفظ آخر ضابط مع إيقاف التنفيذ، فكنت أرسم الخطط الحربية بعد تقلدي منصب.."شاويش المكتب"..ومنعاً للزيادة ولأن لا يكون ذلك إفشاءً لأسرار عسكرية أحتفظ بمسميات الخرائط ودرجتها.

نعود إلى زيارة قائد اللواء فكانت زيارة مفاجئة وطلب من قائد المنوب -هو رئيس العمليات-أن يطلعه ويشرح له خطة التأمين التي نحن بصددها، ولأن هذا الضابط كان جاهلاً فلم يفهم ما كنت سهرت عليه حتى الصباح، بل وعلق قائد اللواء على الخريطة واكتشف فيها بعض الأخطاء ثم أعطى للمقدم عصام جزاءً فوريا ثم انصرف، وبعدها غضب الضابط غضباً شديداً ولكن من طيبته ونُبله صعد إلينا في المكتب وهو يقول.."منكوا لله"..ولم يتعرض لأحدنا بأي شئ آخر.

في اليوم التالي عرف السيسي بما حدث لرئيس العمليات، فاستدعى جنود المكتب عدا العبد لله، ولم أفهم لماذا استثناني من هذا الاستدعاء إلا بعدما سمعت صوته العالي وهو يزجر الجنود القدامى ويتهمهم بأنهم السبب لما حدث لرئيس العمليات، كان السيسي رجلاً طيباً ونبيلاً،لذلك كان يتعاطف مع المقدم عصام لأنه يحمل نفس الصفات، ولكن السيسي كان أكثر دهاءً وحكمة، وكانت علومه العسكرية تجعله عندما ينهمك في الرسم وتخيل الخطط الحربية أن تعتقد بأن للرجل فيضاً من العلوم تخرج بسهولة ويُسر على شكل حروف وأشكال هندسية.

كان أن صاح السيسي في الجنود وقال لهم أنتم مسئولون عن ما حدث، وأن العسكري المستجد-اللي هو أنا-ليست عليه أي مسئولية، بل أنكم تركتموه في المكتب يتحمل هذه المسئولية وحده وذهبتم للنوم، وبرأني الرجل فلم يُعطيني أية جزاء، خاصةً وأنني حينها كنت على درجة جندي مجند، وهذا يعني أن أي جزاء سيقع عليّ سيكون سبباً في تغيير درجة الشهادة، أما العُرفاء"جمع عريف أو أومباشا ..والرُقباء جمع رقيب أو شاويس كانوا لا يتضررون من الجزاء إلا من الناحية المالية.

فقام السيسي بجزائهم 10 أيام حجز مع القطع، ولكن كما قلت هذا الجزاء هو جزاء مالي يُستقطع من الراتب الشهري، وأما درجة الشهادة فلا تتغير، وقد سمعت بعدها أن السيسي رفض الجزاء وأمر بإلغائه، فكما كنت أسمع عنه حتى بعد رحيله أنه كان رحيماً بالجنود، وكان يحرص أن لا يؤذي عسكري أو ضابط أو صف ضابط أذىً شديداً يحملهم على كراهيته.

أكثر ما عاب السيسي هو أنه كان ينتفض لزيارة أصغر قائد يرأسه وهو رئيس أركان اللواء، رغم أن الضابطين عُقداء أركان حرب ولكنه كان يضبط الكتيبة حزماً في استقبال أي قائد مهما كان صغيراً، ولكن البعض لا يعد هذا عيباً ..ربما لأن من ذلك طبعُ العسكرية وهو الانضباط والصرامة، سوى ذلك فلم أمكث مع الرجل ولم أحتك به بما يسهل عليّ رؤية المعائب.

ليس هذا بحثاً عن العيوب ولكنه محاولة لتقديم الصورة كاملة غير مزيفة، فالرجل لم يكن يحب الظهور كثيراً، وكان المشهد غائراً بصور الضباط ورئيس العمليات "الغلبان" في مواجهة الجنود، وكان السيسي قائداً من الخلف تحضر صورته وتعاليمه مع كل طابور، إضافة إلى أن للرجل لمسة جمالية كان يحب فيها تجديد الآثار واللوحات القديمة والمناظر الطبيعية سواء في ميس الجنود"الكافتيريا" أو ميس الضباط.

كلفني السيسي بتجديد المنظر الطبيعي في ميس الجنود، فأقدمت على تجديده ولكن أخطأت فقمت بتغيير المنظر بالكلية وشرعت في رسم منظر جديد وانتهيت منه بعد ثلاثة أيام-على ما أتذكر-أيضاً كلفني بتجديد جميع لوحات الكتيبة على حوائط السرايا وتعليمات الأمن في السلاحليك، فشرعت في ذلك ولكن لم يُمهلني الوقت ولم أنتهِ من كتابة جميع اللوحات، وكل ما انتهى لدي هو 5 لوحات فقط كتبتهم في 7 أيام والبقية وعددهم فاق ال30 لوحة كتبتهم في عهد المقدم أركان حرب.."شريف الصم"...وهو القائد الذي خلف السيسي في المنصب.

وقد سعدت كثيراً لأن لوحاتي مكثت فترة طويلة دون فساد حوالي 4 أعوام، حتى أنه في ثاني استدعاء للاحتياط كانت جميع لوحاتي موجودة دون تغيير سوى انطفاء اللون قليلاً بعوامل الزمن والجو، ولكن في الاستدعاء الثالث وجدت أنهم جددوا جميع لوحاتي على حوائط السرايا، ولم يتبقى من أثر الكتابة سوى توقيعي أسفل اللوحة.."سامح عسكر"..أما لوحاتي داخل السرايا فبقيت كما هي، بما فيها مسجد السرية وأسماء الله الحسنى ومنظر القبِلة وسائر الأشياء التي رسمتها في المسجد.

اجمالي القراءات 9171