الإلحاد..نقطة نظام

سامح عسكر في الأربعاء ٢٣ - أكتوبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

البعض منا يذهب في سُبات عميق وهو مطمئن لمكانة الدين بين الناس، أو أنه لم يبذل مجهوداً لمعرفة آرائهم في ما يجري وتأثيره على عقائدهم بل ورؤيتهم للأخلاق..لقد فشى في البلاد ظهوراً جديداً للإلحاد والمروق من الأديان كنتيجة طبيعية لفقر الخطاب الديني وجهل القائمين عليه، علاوة على سلوك القائمين على الدين والمتحدثين باسمه، فمن الطمع والجشع السياسي إلى الكذب والخيانة إلى استحلال الدماء جميعها تُسكِن بذور الإلحاد بين صفوف الشباب، وعليه كان السؤال، هل دخلنا في مرحلة شك على غرار ما حدث في عصور النهضة والتنوير الأوربيين؟..أم هي الفوضى الهدامة؟.. أما هي الخلاقة التي بشرنا بها الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق؟

أما هي مرحلة زمنية قصيرة تضطرب فيها الأحوال ثم تعود لطبيعتها؟..وهل يمكن أن تعود لطبيعتها بعد هذا الكم الرهيب من الغزو المعلوماتي والتواصل الإنساني الذي بدا وكأنه حصان طروادة لتعميم ثقافة الأقوى؟..الإجابة صعبة ولا يمكن التكهن بما سيحدث لأننا عاجزين عن تفسير ما يحدث أصلاً..لم يعد هناك معنىً للكلام وقد رأينا من يُجاهر بالخيانة ويرفع لواء القتل والتدمير دون حياء...نعم دون حياء، ففي الماضي كان الجبابرة يقتلون ثم يترفعون عن المسئولية، أما الآن فما أسهل أن تقتل الأبرياء ثم تجد من يوافقك ويشد من أزرك بدعوى الانتقام..

لقد اختل العقل الإنساني وبالذات في مناطق الصراع العربية، فأصبح الدين والمذهب مرجعية للظلم والكذب وسفك الدماء، وتراجعت بل وانحسرت الأخلاق إلى معدلات تنذر بالخطر على الحياة في هذا الكوكب، لعل ما يحدث هو نتيجة لتأثير الميثوس mythos على حياة البسطاء بل وبعض المثقفين..والميثوس يعني الأسطورة أو الخيال أو الأمنيات التي تجاوز واقع الزمان والمكان، وفي تقديري أن العقل العربي متشبع بهذا الميثوس إلى درجة أفقدته التواصل بينه وبين نفسه، فكلما أراد النهوض..نهض على سرابٍ خادع ليس له وجود فيتعرض للتجارب القاسية التي تفاقم من الأزمة وتصعد بها إلى مستويات الانتقام فتشيع الكراهية على الصغائر.

ربما ليست المسألة بهذا السواد..وما يُعطي بعض الطمأنينة هو حاكمية العقل البشري المتمدن، والذي أصبح يرفض أي أشكال التمييز على أسس الاعتقاد، ونحن هنا لا نتحدث عن عقل جمعي، فلا وجود لهذا العقل كما بحثنا في الماضي، بل هو عُرف إنساني نتج عن ثورة المعلومات واتحاد العلوم، وهو ذاته العقل الفردي الذي يقرأ المعلومة ويرصد ويفسر الظواهر ، وهو نفس العُرف الذي ذرع بذور التمرد على الأديان، أي أننا تأثرنا –في المنطقة العربية- بهذا العُرف الإنساني ، وهو الذي مهد إلينا الديمقراطية كي نفهمها بهذا الشكل كمرحلة لابد من تجربتها كضرورة للوصول إلى اليقين.

إن تمدد الإلحاد هو نتيجة للعقلانية المفرطة والمشبّعة بعواطف متمردة على ظلم ذوي الأديان، وهو إشارة إلى نزوع الإنسان للانطلاق إلى فضاء أوسع من الخوف والأسطورة، ونحن هنا لا ننكر بالكلية على هذا التوجه، فالانطلاق لو كان بحدود وقواعد آمنة تُتيح لصاحبها الانتقال عبر منهج منضبط لكان من السهل التعرف على الأدواء العارضة وخلعها من السياق الديني المرفوض، فأكثر ما يعيب الإنسان هو القياس على النماذج ..وهو قياس ناقص، أي أنه لا يمكن الحكم على الأديان بأعمال البعض، حتى لو كانت الأغلبية فاسدة فالأقلية الحسنة تصلح كنموذج، فلماذا لا يجري اعتبار هذا النموذج معياراً نقيس به ظلم النماذج الأخرى؟

وماذا لو ظهر لنا أن أمر الأديان أكبر من أن يناقشه عقل؟..وماذا لو كانت للروح وظائف اعتقادية وسلوكية مُضافة ومرتبطة بالعقل؟..وهل العقائد هي مجرد أفكار وأقوال أم هي منظومة فكرية وسلوكية متكاملة؟..وهل المضمون الديني هو تعايشي أم لا؟..وماذا لو لم يكن.. فهل هناك نماذج متعايشة أخرى؟..وهل الإلحاد يصلح لأن يكون نموذجاً محمياً من نزعات وأهواء الإنسان؟..فإن لم يكن محمياً فما مصير من ماتوا فداءً للشيوعية الملحدة لا المؤمنة؟..بمعنى أن التحرك نحو هدف مرسوم مسبقاً بقصد إعادة إنتاجه للدفاع عن الرأي ليس من أمراض المتدينين فقط، بل هو مرض إنساني يصيب الجميع، فلا يمكن اعتباره سبّة في جبين الدين دون أن يكون دليلاً لهدم فكرة الإلحاد..

في تقديري أن فكرة الجواهر والأعراض تنطبق على الدين..فلكل دينٍ جوهر لا يمسه أحد إلا بسُلطة عليا تخلعه من سياق الدنيا وتقذفه في رحاب الدين، أو ما يسميه البعض.."بالكشف النوراني"..من جراء التزام الإنسان بالصدق وعلو منزلته العقلية والروحية والسلوكية...وهذا في حد ذاته تساؤل مشروع حول ماهية الإنسان ..هل هي مادية أو روحية أم هي الاثنين معاً؟ ..فلا يمكن اعتبار الفهم البشري ديناً دون التعرض للانقسام داخل كل فكرة دينية..والانقسام كذلك لا يمكن مناقشته دون التعرض للبنية الوجدانية والأخلاقية للإنسان، وهي بالمناسبة بنية بعيدة كل البعد عن إطار الدين، إذ هي موجودة عند جميع البشر وتأثيراتها على الجميع..كذلك فلو اعتبرنا أن الدين هو مجرد فكرة شأنها شأن جميع الأفكار.. فهل نجحت هذه الفكرة في إيجاد مجتمع منظم؟

الأسئلة كثيرة وهي تدور في محاور متعددة على مستوى الفرد والمجتمع بل والسياسة، وهي أسئلة مشروعة يجب طرحها قبل التعرض للانتقال الفكري سواء بتأُثير العقل أو بتأثير العاطفة، فنحن هنا لا نتحدث عن فكرة مقابل فكرة، بل نتحدث عن فكرة وردود أفعالها، فالفكرة التي تجابه الفكرة تكون في أجواء مستقرة مدعمة بالدلائل والقرائن، وأصحابها على مستوى عقلي وسلوكي جيد، حتى لو افتقدنا هذه الأجواء فقدومها مسألة وقت بتأثير التواصل، أما ردود الأفعال فعادةً ما يتحكم فيها المتعصبين، وقتها لن يبحث أحد عن صحة الفكرة، بل سيكون عنوان البحث هو الدفاع عن النفس والانتصار للعقائد.

اجمالي القراءات 7992