الإسماعيليون والإخوان..مقاربة سلوكية (1:2)

سامح عسكر في الخميس ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

في دراسة موجزة للمستشرق الإنجليزي برنارد لويس يرى أن الشيعة الإسماعيلية هي أكثر فرق الشيعة ذوات النزعة الثورية، وقال في كتابه.."الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام"..أن الإسماعيلية امتلكت من القوة في القرن العاشر الميلادي ما يجعلها أن تعلن عودة الإمام الغائب وتحكم الشمال الإفريقي بأكمله، وقد حدث ذلك وأعلن الإسماعيليون ولادة دولتهم الناشئة تحت اسم.."الدولة الفاطمية"..التي يحكمها المهدي ...ولم تقف حدود تلك الدولة على الشمال الإفريقي بل تخطته إلى حُكم سوريا في الشام والحجاز في شبه الجزيرة، أي أن الشيعة الإسماعيلية كانوا يحكمون كافة ربوع المسلمين بما فيهم مكة والمدينة، ولم يفلت من براثنهم سوى العراق وإيران اللتان كانتا تحت سيطرة الدولة العباسية في بغداد والسلجوقية في إيران، وكلتا الدولتين في العراق وإيران كان يحكمهم الأمراء السنة ..مما يُوحي بأن الخلاف بين الإسماعيليين والعباسيين والسلاجقة كان له بُعداً طائفيا راسخا.

حقيقة لابد من قولها أن الشيعة الإسماعيليين كان ظهورهم هو الأبرز طوال تاريخ المسلمين، ولم تكن للشيعة الإمامية قوة معروفة إلا بعد زمان الصفوي الإيراني الذي أنتج أول دولة شيعية إمامية قوية في تاريخ المسلمين، فقد سبق دولة الصفوي دولتين إماميتين هما الحمدانية في القرن التاسع والبويهية في القرن العاشر، ولكن كلاهما كان به من الضعف ما أنهى سطوتهما بسرعة...يكفي أن نعلم بأن السلاجقة السنيون هم الذي قضوا على البويهيين الشيعة في العراق، وفي تلك الفترة-أي في القرن العاشر والحادي عشر الميلادي-كانت الخلافة العباسية في سنواتها الأخيرة، ومع احتضار العباسيين إلا أن شعوب المسلمين كانت تبحث عن قائد يجمع صفوفهم بعد هذا التشتت الطائفي الذي ضرب المنطقة وأفرز بعد ذلك قدوم الحملات الصليبية والتتارية لتدمير واستهلاك المسلمين.

ربما لا يعلم البعض أن الطائفية هي التي ضربت أوصال المسلمين في هذا الزمن حتى أوهن ذلك جسدهم، وسمحت للصليبيين والتتار أن يعيثوا في الأرض الفساد، وكأن التاريخ يُعيد نفسه الآن، فما حمل صلاح الدين على حرب الفاطميين وما حمل السلاجقة على حرب البويهيين وما حمل الفاطميين على حرب الحمدانيين إلا هذا العداء السني الشيعي الموروث، ذلك العداء الذي يطل برأسه الآن في صورة الجماعات السنية والفصائل الشيعية التي تحشد كل فرقة أتباعها لزرع الكراهية في القلوب...حتى أن الدولة الفاطمية -التي قضت على الدولة الحمدانية- كان نظامها الديني إسماعيلي ، بينما الدولة الحمدانية كانت شيعة أمامية!..وهذا يعني أن العداء لم يكن مقصوراً على السنة والشيعة وحدهم، بل في كل مذهب يحاربون بعضهم سعياً وراء السلطة...فلا يظن جاهل أن قضية السلطة هي التي ستوحد المسلمين، فالشقاق يأتي منها والكراهية تنبعث من دخانها المشئوم.

كان الإسماعيليون في صراعهم الثوري يعتمدون على إزاحة النظام السياسي القديم ثم تنصيب الإمام المختار، وهم في ذلك يتشابهون مع الجماعات الدينية التي يظهر من رؤيتهم للسلطة على أنها الإمامة المقدسة، فما حمل الجماعات على تقديس الرئيس المصري المعزول محمد مرسي فوق منصة رابعة العدوية هو الذي حمل الشيعة الإسماعيليون على الثورة ضد الأمراء والخُلفاء، وهو الهدف الذي يخلقونه باستمرار ويتجدد بتجدد الزمان...هذا الهدف متوحد بين ثورة الإسماعيلية وثورة تلك الجماعات المعاصرة، أن يتم نشر العدل والرخاء بدلاً من الظلم والاضطهاد، أن يساوي الحاكم بين القوي والضعيف، ولكن ما جعل الإسماعيلية تفشل في تحقيق هذا الحُلم هو ما أفشل تلك الجماعات في أول اختبارٍ لها في حُكم مصر، فالسلطة مختلفة في حقائقها بين الواقع والتنظير، بين البرامج والشعارات، ويظهر أن الفشل بعد الثورة يكشف عن عدم وجود برنامج إصلاحي حقيقي يبتعد عن إثارة العواطف .

الفارق بين ثورة الإسماعيلية وثورة تلك الجماعات الدينية المعاصرة هو أن الإسماعيليين كانوا يبنون خطابهم المقدس ومبايعتهم للحكام على أساس القرابة للنبي ، بينما تبني تلك الجماعات خطابها السياسي على أساس التقديس للفرد ضمن الجماعة وإعلاء الذات كونها تقترب من فهم النبي للإسلام وتحقير الآخر كونه ناقص العقيدة وفقير العلوم وبحاجة دائمة لمُرشد يهديه إلى الحق...ولكن ما يميز الإسماعيلية عن الجماعات هو أن الإسماعيليين كانوا يعشقون العلوم العقلية والعرفانية ، فظهر منهم الفلاسفة واستطاعوا مجادلة ذوي الأديان والعقول، ونجحوا في صياغة مذاهب عقلية خاصة بهم ، وهذا الوضع أكسبهم شيئاً من المنطق، بينما الجماعات فشلت فشلاً ذريعاً في اكتساب هذا المنطق كونهم ينظرون لتلك العلوم العقلية نظرة تقليدية خالية من الإبداع وروح المنافسة، فشاعت بينهم نزعات الوصاية، وهذا الشيوع هو ما أنتج لديهم التفرق لأكثر من عشرات بل مئات الجماعات كل واحدة تختلف عن الأخرى إلى حد التكفير.

على جانبٍ آخر فالنظرية الثورية تشمل أن لكل حاكم قوي وظالم معارضة ضعيفة، وسينتج عن ضعفها ميولاً لكتم عقائدها وآرائها خشية الانتقام، وهذا ما نسميه بعقيدة.."التقية"..وتلك لم تكن مقصورة على المذهب الشيعي –كما هو مشهور-بل هي ممتدة في المذهب السني وأشهر من استعمل التقية هي جماعة الإخوان المسلمين، وهي مع تقيتها لا تتشابه مع نظائرها من بقية الجماعات الإرهابية التي جهرت بعقائدها وطرحت رؤاها الحقيقة في الإعلام...فالحذر والاحتياط هي السمة الأبرز للشحن الثوري الذي يستغل ضعف هذا الحاكم ليُعلن الثورة عليه، حدث هذا مع الإسماعيليين من قبل وقد حدث مع جماعة الإخوان، فالإخوان كانوا يكتمون الثورة بل في أدبياتهم الخاصة أعلنوا أن جماعتهم ليست ثورية، بل هي إصلاحية دعوية، ثم تغير الحال بعد ثورة يناير من العام 2011 فأصبحوا يرفعون شعار الثورة كلما شعروا بالحاجة إليه، ويمكن استطلاع ذلك من أحوالهم اليوم كانوا يكرهون الثورة وهم في سدة الحكم ثم رفعوا شعار الثورة بعد أن عزلهم الجيش .

وهم في ذلك يكررون المشهد الثوري الشيعي الذي يرفع لواء الثورة حين يحكمهم الغريب، بينما يحاربون الثورة إذا جاءت من الخصوم.

لا ننكر أن الإسماعيلية والشيعة بالعموم تعرضوا لاضطهاد وكذلك الإخوان وبقية الجماعات، وقد حدث ذلك نتيجة لعدائهم للسُلطات، فاضطروا إلى إخفاء عقائدهم خوفاً من بطش الحكام، وكما أن للإسماعيلية غُلاة ومعتدلين فللإخوان والجماعات غُلاة ومعتدلين، وحين تأتي الأجواء بالحرب على الأسس العقدية للمذهب ينشط كل فريق لترويج أفكاره عبر نظرية المؤامرة...فمن السهل على كل فريق أن يروج لأفكاره داخل غلاف من المؤامرة لا يراه إلا العاقل والشكاك، بينما أغلب الناس لا يرون هذا الغلاف وهم يُسلّمون في العادة إلى أن الأزمات هي نتيجة لمؤامرة الأشرار على الأخيار، وبما أنهم يعتقدون في أنفسهم الخير –كعادة كل الناس-فكل مخالف –حينها-هو من الأشرار، لذلك كلما تفشو نظرية المؤامرة في مجموعة من الناس كلما يزداد معها معدل الكراهية للجميع.

من الجماعات الشيعية الإسماعيلية والتي اشتهرت بقوة التنظيم هي جماعة الحشاشين ، ونستغرب كيف روى المؤرخون أخبارهم بالذم والقدح واتهامهم بأبشع التهم -منها الزندقة والإلحاد- ومع ذلك لم نقرأ لرؤسائهم كتاباً واحداً يؤكد هذه الصورة ، لن نخوض في عقائدهم فكافة أخبارهم جاءت من الخصوم و يصعب معه الوقوف على حقيقة الجماعة العقائدية وتقييم موقفها الصحيح من الدين...ولكن ما أجمع عليه المؤرخون أن الحشاشين كانت تمتلك أقوى تنظيم سري وفرقة اغتيالات سياسية في الشرق الأوسط برمته، حتى أنها قتلت أشهر وزراء السلاجقة في التاريخ وهو الوزير.."نظام الملك"..وبمجرد ذكر السلاجقة يتبين لنا حقيقة صراع الحشاشين مع السلاجقة وكيف أنه كان صراعاً طائفياً بين السنة والشيعة..

نقطة هامة يجب التركيز عليها فالمناهج التعليمية العربية لم تتعرض للخلفيات العقائدية لتلك الدول، فنحن ندرسها وندرس تواريخها ولكننا في عُزلة تامة عن الأسباب الحقيقية للصراع، وفي تقديري أن ذلك من أسباب شيوع التطرف الديني بأشكاله المختلفة التي أغفلت علاج هذا الداء.

نعود إلى الحشاشين

يمكن القول أنه وبمجرد انتساب الحشاشين للإسماعيلية يصلح معه القول بأن الحشاشين كانت تمتلك مجموعة من المفكرين والعُقلاء الذي أثروا مناطقهم بالحُجّة والبيان، وعلى عكس الكثيرين فأعتقد أن للجماعة رؤية خاصة للكتاب والسنة لم تختلف كثيراً عن ما هو شائع في حينه، ونظراً لانتشار تلك الفرقة في سوريا وانضمام الجماهير لها يمكن القول أنها اكتسبت نفس صفات الشيعة الفكرية والسياسية ،وأهم هذه الصفات هو تميزهم بالعقل والجدل وإبداعهم في النظريات الكونية والعرفانية...ذلك لأن أهل هذه المناطق- التي يسكنها الحشاشون -كانت تزخر بالعلوم والفلسفات المتعددة سواء إسلامية أو مسيحية أو يونانية،بينما لو كانت بُعِثت في جزيرة العرب فما الذي كان يُجبرها على احتراف تلك العلوم والبدو لا يمتهنون سوى الشعر والخيال الرقيق؟..قد يكون ذلك حجة مقبولة للذود قليلاً عن تلك الفرقة التي لم يصلنا من أخبارها سوى الذم والقدح، بينما نغفل عن أشباهها في زماننا المعاصر فنُخطئ التقدير

اجمالي القراءات 8668