خلط السياسة بالدين : من ( خضر العدوى ) الى ( راسبوتين )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٨ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

 أولا :

1 ـ من الشخصيات التاريخية العجيبة فى العصر المملوكى : الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي.

كان صاحب تأثير هائل على السلطان الظاهر بيبرس البندقدارى ، أشجع وأقوى السلاطين المماليك ، والذى لم يكن يسمح لأحد ان يكون له نفوذ فى دولته ، ولكن سمح بنفوذ للشيخ الصوفى خضر العدوى ، وهذه من إحدى العجائب ، ويزول العجب حين نعرف السبب ، إذ كان السلطان بيبرس ـ وفق السائد فى عقيدة العصر المملوكى الصوفية ـ  يعتقد فى كرامات الأولياء الصوفية وعلمهم بالغيب ، فإعتقد بيبرس أن خضر العدوى هذا من الأولياء الذين يعرفون الغيب ، لأن خضر هذا قابل بيبرس قبل أن يتسلطن ، وقت أن كان هاربا فى الشام ، وتنبأ له بأنه سيكون سلطانا على مصر . بيبرس وقتها كان هاربا من رفيقه وصديقه القديم ( السلطان قطز ) ، فتشجع بعد هذه النبوءة وعاد الى مصر وصالح صديقه القديم قطز مع رفاق آخرين من المماليك البحرية الهاربين ، واتحدوا معا ضد المغول ، وبعد أن هزموا المغول فى عين جالوت أقدم بيبرس على قتل السلطان قطز ، وتولى مكانه ، وأصبح للشيخ خضر العدى مكانة لدى ( السلطان بيبرس ) فقد إعتقد أن الشيخ خضر مكشوف عنه الحجاب ويعلم الغيب . وهذا أيضا من العجائب لأن الشيخ خضر كان مشهورا بالفسق والقتل للابرياء النصارى بدافع التعصب .

والمصادر التاريخية فى أوائل العصر المملوكى نقلت تاريخ الشيخ خضر العدوى باعتباره شيخ الظاهر بيبرس ، وأظهرت  سيرة خضر العدوى الشخصية  فاسقا لامثيل له فى عصره . يقول النويرى صاحب نهاية الأرب وهو معاصر للشيخ خضر ، إن الشيخ خضر  بدأ حياته يخدم بعض الأكابر فى الجزيرة فى العراق فأمر هذا الأمير بخصي ( خضر )  لأنه أفسد بعض جوارى الأمير ، فهرب خضر قبل تنفيذ الحكم عليه إلى حلب ، وخدم عند الأمير ابن قراطابا فأحبل جارية للأمير ، فطلبه الأمير فهرب إلى دمشق ، وزعم أنه شيخ صوفى ، وأقام بمغارة فى زاويته بجبل المزة ، فاشتهر وليا صوفيا. وعلى عادة الشيوخ الصوفية كان يقوم بتبشير من يراه طموحا من الأمراء المماليك بأنه سيكون سلطانا . وفعل ذلك مع الأمير الهارب بيبرس البدقدارى ، فأشعل حماسه للعودة لمصر كى ينتقم من رفيقه صديقه اللدود قطز . وهذا ما كان . ولهذا اعتقده الظاهر بيبرس فى ولايته ، وبنى له زوايا ، فقام الشيخ خضر بتحويل هذه الزايا الى أوكار للجرائم ، يقول النويرى أن ( الفقراء ) أى الصوفية من أتباع  الشيخ خضر كانوا : ( يحملون له أرباب الجرائم من اللصوص وغيرهم ويتعاطون الفسق .!) أى حوَ ل زاويته لوكر  للجرائم والزنا . وذكر النويرى أن الشيخ خضر كان يتباهى بفجوره علنا ، يقول النويرى ــ ونحن نعتذر مقدما عن النقل ــ ( وكان يكتب إلى صاحب حماة وغيرها من الأمراء : " خضر(نيّاك) الحمارة ". وكتب بذلك إلى قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز ورقة ، فأغضى عنها ، ثم أخرى كذلك . فلما وصلت له الورقة الثالثة أحضر رسوله ، وقال : " قل له والله لئن وصل إلى ورقة بعد هذه فيها مثل هذا أحضرته لمجلس الحكم وقابلته بما يستحقه بمقتضى ماكتب بخطه" ، فامتنع بعد ذلك من مكاتبته . ) أى هدده بأن يحاكمه باللشذوذ الجنسى مع الحمير طبقا لما يقول عن نفسه ، فخاف خضر ، وسكت عن ارسال رسائله الى قاضى القضاة .! .

وانتقل خضر إلى القاهرة تسبقه شهرته فى الولاية والفسق ، فأنشأ له علاقات ببنات المماليك ، وكان ذلك السبب المعلن لمحاكمته وانتهاء علاقته بالظاهر بيبرس ، يقول ابن كثير عنه ( الشيخ خضر العدوى إفتتن ببعض بنات الأمراء ، وكن لايحتجبن منه ، فوقع فى الفتنة، فلما وقع ماوقع فيه حوقق عند السلطان ، ..فاعترف لهم ، فهم الظاهر بيبرس بقتله ) (تاريخ ابن كثيرج13/278. ).

وبعد ثلاثة قرون من موت الشيخ خضر العدوى إشتهر الشيخ الشعرانى بكونه إمام الصوفية والفقهاء ، فى أوائل العصر العثمانى فى مصر . وقد عاصر الشعرانى نهاية حكم المماليك وتحول مصر الى ولاية عثمانية . وقد ترجم الشعرانى للشيخ خضر العدوى فى كتابه ( الطبقات الكبرى ) . وننقل ما قاله عنه :( شيخ الملك الظاهر بيبرس، كان حظياً عنده مكرماً لديه، له عندهالمكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية، فيكل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعاً يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالاًكثيراً، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئاً كثيراً جداً، وكان معظماً عندالخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له‏.‏وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشفالسلطان بأشياء كثيرة ( أى تكلم فى الغيبيات )، وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهبما فيها لأصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة التي بالإسكندرية وهي من أعظم كنائسهم، نهبهاوحولها مسجداً ومدرسة أنفق عليها أموالاً كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسةالخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والأمتعة،ومد فيها سماطاً، واتخذها مسجداً مدة . ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم‏.‏ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليهاعند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه، ثم أمر بإعدامه وهلاكه وكانتوفاته في هذه السنة، ودفن بزاويته سامحه الله‏.‏وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضراًموافقة لاسمه، وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبةالشيخ خضر‏.‏) . والطريف أن الشعرانى حين نقل ترجمة الشيخ خضر العدوى فى مفتتح الجزء الثانى من طبقاته أغفل الجزء الخاص بحياته الخلقية ، وحين اضطر للكلام عن سبب محاكمته أمام الظاهر بيبرس قال : ( وكان السلطان ينزل لزيارته ويحادثه بأسراره ويستصحبه فى أسفاره ، فرمى أولاد الحلال بينه وبينه  فنقم عليه وحبسه).( الطبقات الكبرى2/2.) إذن أولاد الحلال هم السبب فى نكبة الشيخ البرىء خضر العدوى !! .

2 ـ المستفاد من سيرة الشيخ خضر العدوى تعانق الاستبداد السياسى والانحلال الخلقى فى إطار إستخدام الدين الأرضى ( الصوفى ) فى السياسة ، بما يسمح بنفوذ شيخ منحلّ فى عصر سلطان شديد البأس على شاكلة الظاهر بيبرس ، فكيف بسلطان ضعيف ؟

ثانيا :

1 ـ مع إختلاف الزمان والمكان والظروف نجد تشابها بين الشيخ خضر العدوى فى العصر المملوكى فى القرن الثالث عشر الميلادى بالراهب راسبوتين الروسى فى حكم آل رومانوف فى القرن العشرين . نجد أيضا تعانق الاستبداد والانحلال الخلقى فى إطار إستخدام الدين فى السياسة .

2 ـ أذاع راسبوتين عن نفسه قدرته على شفاء الأمراض مستغلا الاعتقاد فى معجزات الرهبان الذى ساد روسيا وقتئذ ، وجمع بين شهرته تلك مع شهرة أخرى بالانحلال الخلقى والفحولة الجنسية ، وطوافه بالبلاد اشعل هذه الشهرة ، فتكونت حوله طائفة دينية مسيحية إسمها ( خاليستى ) تجمع بين الزنا وتعتبره طريقا للوصول الى الله ، لأن العاصى يتوب فيزداد تقربا لله ، ويعود للزنا ويعود للتوبة ، وهكذا .. وهو نفس الدعوة الصوفية فى العصر المملوكى ، وأيضا نفس عقائد بعض الشيعة فى العصر العباسى . وسرعان ما أصبح راسبوتين نجم المجتمع المخملى الراقى فى العاصمة الروسية التى كانت مولعة بالسحر والتنجيم وتحضير الأرواح ، مع الشبق الجنسى بطبيعة الحال . وقد أثار إعجابهم هذا الراهب القادم من سيبيريا  تسبقه شهرته الجنسية والغرائب التى تُحكى عنه من ( كرامات أو معجزات ) .وكانت الأسرة المالكة مهتمة بتعضيد رجال الدين فوجد راسبوتين أبواب القصر الملكى مفتوحة أمامه . خصوصا ، وقد إستطاع راسبوتين بوصفة بلدية علاج الأمير الصبى ولى العهد اليكسيس نيكوليافيتش من مرض سيلان الدم ، فاكتسب راسبوتين مكانة هائلة لدى الامبراطورة الكسندرا ، فأصبح مستشارها الشخصى والمؤتمن على أسرارها ، وله موعد اسبوعى يختلى فيه بها . هذا مع إدمانه السُّكر والعربدة وصحبته للعاهرات . هذا النفوذ السياسى مع الانحلال الخلقى خلق لراسبوتين أعداء كثيرين من الساسة ورجال الدين . وجرت محاولات لإغتياله نجا منها ، وإزداد نفوذه لدى القيصر الروسى ، خصوصا بعد هزيمة القيصر فى الحرب العالمية الأولى التى فقد فيها اربعة مليون قتيل روسى  ، فاعتبر الكثيرين راسبوتين السبب المباشر فى النكبات التى حلت بروسيا بسبب نصائحه للقيصر نيقولا ، حتى كان راسبوتين يتدخل فى تعيين وعزل الوزراء، وبسببه أطلق الكارهون على العاصمة الروسية بطرسبورج ( مدينة ابليس ) .

2 ـ وكان راسبوتين ـ مثل خضر العدى ـ يستغل إعتقاد الحاكم فى قدرة ( رجل الدين : الراهب أو الصوفى ) على معرفة الغيب ، وتأسس نفوذ خضر وراسبوتين على هذا الاعتقاد الخرافى . وقد هدد خضر العدى السلطان بيبرس بارتباط منيته بموت السلطان حتى يخيف السلطان من الأمر بقتله . وكذلك فعل راسبوتين مع القيصر نيقولا ، ليس لتهديد نيقولا الى كان يسمع له ويطيع ولكن لإثارة نقولا ضد الأعداء المتآمرين على قتل راسبوتين ، فأقنع راسبوتين القيصر بأنه ( إذا قتلنى أقاربك فلن يتبقى أى فرد من عائلتك حيا لأكثر من عامين ) . وتم قتل راسبوتين عام 1916  ، وبعد إغتياله بتسعة عشر شهرا إندلعت الثورة البلشفية عام 1917 ، ثم أعدمت قيصر روسيا وعائلته ( اسرة رومانوف ).

أخيرا

الى سطور التاريخ إنتهى المماليك وآل رومانوف وخضر العدوى وراسبوتين ، ولكن لم ينته خلط السياسة بالدين ، بدليل ما نعنيه الآن من السلفيين الوهابيين والاخوان المسلمين . .!!

اجمالي القراءات 14875