صناعة الخبر
أنا أعرف، إذن فأنا جاهل!

محمد عبد المجيد في الجمعة ٠٦ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

أنا أعرف، إذن فأنا جاهل!

مصانع الخبر مثل بيوت الأزياء التي توحي لك بأنك حر في اختيار ما ترتديه بعدما مارست حريتك في شراء ما ترغب به من محل ذهبت إليه بمحض إرادتك، فدلتك عيناك على ما سيتم تعليقه لاحقاً في دولاب ملابسك أو على جسدك، وهل هناك فارق؟

المضحك هي قناعاتك اليقينية أن كل خطوات شراء ملابسك وأزيائك المنتقاة بعناية وإرادة هي بدافع شخصي دون تدخل قوى خارجية، ملموسة أو غير مرئية، في اختياراتك!

كذلك مصانع الخبر فالمواد الأولية موجودة مسبقاً، والعقل المدبر أو المحرك أو المفبرك أو المخطـِّط لا يحيد عن هدفه إلا إذا غيرت الرياح مصالحه، فتتغير اتجاهاته.

تجلس أمام الشاشة الصغيرة مرات عدة في اليوم الواحد، وتـُـلصق مؤخرتك في المقعد المفضل لديك، ويُخرج من الشاشة قاريءُ النشرة يديه بخفة لا متناهية فيمدّها ناحية رقبتك ليربط السلسلة بمهارة فائقة بحيث لا تشعر بها أو تختنق بعُقدتها وإلا غضب منك أصحاب مصانع الخبر.

لكن لا تنس فأنت حر تماما في أن تشرب قهوة أو ترتشف قدحا من الشاي بالنعناع، وأنت حر في أن ترفع قدميك فوق مسند أو تحررهما فوق أرض الغرفة! وأنت حر في أن تتابع الخبرين الأولين في القناة الفضائية المفضلة لديك أو في قناة أخرى يُزيد حُسن المذيعة وجمالها ورقتها ولمعان شفتيها التصاقك بالمقعد، ولكن لا يهم فالخبران متشابهان تماما، أما الثالث والرابع فقد ترك لك صاحب مصنع الأنباء حرية متابعة أي منهما وفقا لطائفتك أو عقيدتك أو حزبك أو اهتماماتك المسموح لك بها.

تصبح المتابعة عادة، وتتحكم العادة في نوبات الجوع المعرفي لديك، وفي كل الأحوال فأنت حتى لو تضورت جوعاً فسيتم تلقينك بنفس طريقة عمل الملقن تحت خشبة المسرح ولن ينتبه الجمهور إلى علو صوته.

تبدأ مرحلة الإدمان، ويسرق التلفزيون من وقت الكتاب، ويوحي لك بأن الصورة خبر، ثم يقنعك أن الخبر معرفة، وأخيرا تتجمع في جعبتك جبال هائلة من الأخبار المماثلة، نوعا وكماً ومادة، لغزل البنات وهو يذوب تحت لسان طفل فيعود إلى أهله فرحا بوجبة الطعام الدسمة التي ابتلعها، وهضمها قبل أن ينتهي من اللعب!

أنت لا تختار أخبارك لتعرف، ولكن الأخبار تختارك لتتورم بها تحت عناوين جذابة توشي، كذباً، بقدرتك الهائلة على بناء أرضية صلبة للنقاش والحوار والجدال.

الخبر الأول عن سوريا، والثاني عن العراق، والثالث عن الرئيس الأمريكي والرابع عن مصر أو اليمن أو السعودية، ولا مانع من لعبة الكراسي الموسيقية فتحل أخبار دولة مكان أخرى، لكن يظل الخبر كما رسمته الأيدي المصنـِّـعة والمخطـِّـطة فالفضائيات تستجيب، وتربح، وتصمت عن مصدر الخبر.

ثلاثة من الأخبار الأربعة الأولى مليئة بالآكشن، ففيها قتل وانفجارات وسيارات مفخخة وكيماويات ورعب إسرائيلي وعضلات إيرانية مفتولة وخطبة عثمانية ينسى العالم بها الرجل المريض ومرور حاملة طائرات في الطريق إلى مياه دافئة وتهديد رجل مختبيء في كهف بجبل في أفغانستان ثم إيحاء بأن الحرب الباردة لم تنته بعد.

يأتي ضيوف الفضائيات وقد انتفخت صدورهم وتضاعف يقينهم أنهم يعرفون فقد تابعوا الأخبار الأربعة الأولى في قنواتهم المفضلة، وقرأوا فيسبوكيات وتويتريات وبعض الصحف الالكترونية.

الغريب أن سؤالا مفاجـِـئاً للمثقف والقاريء ومدمن الأخبار عن أهم أحداث موريتانيا والصومال والجزائر وماليزيا والكونغو وكوستاريكا والتصحر والتغيرات البيئية والمناخ في الشمال وانقراض بعض الحيوانات وسرطان الثدي والحياة اليومية في كوريا الشمالية وعدد الذين ماتوا من التعذيب في السجون العربية لعام 2012 وملايين غيرها من الأخبار المعلوماتية التي لم تقترب منها الشاشة الصغيرة ولم يكترث لها صانعو الخبر هناك .. في مكان ما، يفغر السؤالُ فاه الذي زعم معرفة تلفازية اقتربت به من مستوى العلماء.

تواضعوا بهذا القدر من المعرفة، يرحمكم الله، فكلنا مربوطون بنفس المقعد، والسلسلة ذاتها، وسيدنا الذي هناك، في مصانع الخبر، يتحكم في مساحة التجويف في جماجمنا.

كلنا كونتاكينتيون بصورة أو بأخرى، وقد نعيش ونموت دون أن نصافح سيدنا الذي هناك في مكان ما.

عندما يبحث الخبر عنك فيجدك في انتظاره، فأنت لا تعرف ولو كنت تعرف، وعندما تبحث عنه في غفلة عن أباطرة مصانع الخبر، فأنت في الجانب الآمن واليقيني من المعرفة.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 6 سبتمبر 2013

اجمالي القراءات 9068