استراتيجية إدارة الإرهاب

كمال غبريال في الأحد ٠٢ - يونيو - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

نحاول في هذه السطور استقراء الوضع الحالي في الشرق الأوسط بعد ما سمي بالربيع العربي وحل شفراته، على ضوء ما شهدناه من موقف الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى في العالم ومعها حلفاؤها في المعسكر الغربي، إذ يبدو الموقف ملغزاً بغموضه وتناقضاته، ففيما قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بالجزء الأعظم أهمية في انتصار الثورة الليبية على القذافي ونظامه، نجد ما شهدنا من سيطرة شراذم الإرهابيين على مختلف مقاطعات ليبيا وما حدث للبعثة الدبلوماسية الأمريكية في بني غازي، وكأنه نتيجة مأساوية تدلل على فشل ذريع لدوائر صناعة واتخاذ القرار في أمريكا، كما نجد الوضع في مصر الذي ساندت فيه الولايات المتحدة الإخوان المسلمين للوصول للحكم، يبدو مرشحاً غداً أو بعد غد للوصول إلى حالة مشابهة إلى هذه الدرجة أو تلك للوضع في ليبيا، وقد بدأت جحافل الإرهابيين تتوارد على سيناء من كل حدب وصوب، ناهيك عن تربع رؤوسهم في السلطة أو بالقرب منها.
المذهل والباعث على التساؤل أيضاً، أنه رغم وضوح ما تقدم للعيان، وليس فقط للدارسين والخبراء، أن نجد السياسة الأمريكية والغربية عموماً تسير بنفس المنهج ونحو ذات المصير في سوريا، التي أعلن قطاع من ثوارها انتماءهم العلني والرسمي لتنظيم القاعدة، هذا بغض النظر عن تنويهات تشير إلى حرص أو تحسب تكتيكي، لا يؤثر على التوجه الأساسي المستقيم للغرب حتى الآن، باتجاه تحويل سوريا أيضاً إلى بؤرة لتجميع كوادر الإرهاب العالمي.

ماذا يحدث وماذا تفعل أمريكا الآن بالتحديد، إذا استبعدنا احتمال اتصاف قادتها وخبرائها ومؤسساتها بجهل وسذاجة تفوق الخيال؟!!
بعد حادثة 11 سبتمبر 2001 بدأت الولايات المتحدة حملة مستقيمة ("صليبية" وفق التعبير اللغوي لجورج بوش الابن) "لمواجهة الإرهاب"، بهدف استئصاله تماماً من معاقله، فكان غزو أفغانستان، تلك المساحة الجبلية التي تسكنها قبائل بدائية الحياة، تعيش على الرعي وزراعة المخدرات، بما يعد بيئة مثالية لاحتضان الإرهاب، سواء استضافة لمجاهديه، أو تزويده بفيض لا ينضب من المجاهدين الجدد من أبناء القبائل الفقيرة حد التضور جوعاً، ذلك على ضوء تمويلات لا تنضب أيضاً قادمة من مراكز الثروة البترولية العربية.
"مواجهة الإرهاب" في أفغانستان اعتمدت أساسياً على قتل العناصر الإرهابية، أي على التصفية الجسدية، مع هامش ضئيل من محاولة تأليف قلوب القبائل عن طريق رشوة أو شراء شيوخها، ومحاولات عسيرة باهظة التكلفة لتنمية المجتمع الأفغاني حضارياً، لكي يكون هناك بين الأفغان متحضرون يدافعون عن حضارتهم بأنفسهم من أجل أنفسهم، وليس من أجل الأجنبي حامل السلاح الذي يرشوهم أيضاً بالمال ليقاوموا الإرهاب نيابة عنه.
لا نقول أن الحملة على الإرهاب قد فشلت في أفغانستان، بل بالعكس فقد حققت "استراتيجية المواجهة" أقصى ما يمكن أن تصل إليه من نتائج، فقد تم إضعاف تنظيم القاعدة هناك وقتل زعيمه، ووضع قادته الباقين في تلك الجبال في وضع الهارب أكثر منهم في وضع المتربص المدبر لعمليات خطيرة جديدة، لكن من الواضح أن هذه الاستراتيجية غير قادرة على تحقيق الهدف النهائي وهو "استئصال الإرهاب"، فمنظمتي طالبان أفغانستان وباكستان جمعتا صفوفهما من جديد، وتوصلت طالبان أفغانستان لأن تكون قوة يحسب لها ألف حساب على الأرض، إلى حد السعي لإشراكها في حكم البلاد، ومازال هناك مجاهدون عرب وتمويلات عربية تشكل "فائض إرهاب" في السوق الشرق أوسطية، في حين أن الملاحقة العسكرية العنيفة التي انتهجها الغرب في المواجهة قد فقدت مع طول المدة قوتها الدافعة، وآن أوان البحث عن استراتيجية بديلة يمكن تسميتها "استراتيجية الإدارة"، بدلاً من "استراتيجية المواجهة"، وفيها يتم احتواء الإرهاب والسيطرة عليه، وممارسة ضغوط منخفضة التكلفة مالياً وبشرياً، لتكون بذلك أكثر قدرة على الاستدامة، ذلك إلى أن يتلاشى أو يكاد.
لا أظن أن هناك مؤامرة غربية أو أمريكية قد تم تدبيرها وتنفيذها لتمهيد أرض الشرق الأوسط للاستراتيجية الجديدة، بل تطوعت شعوب المنطقة من تلقاء نفسها، ضيقاً بحياتها وحكامها الطغاة الفاشلين، لتقديم البديل الاستراتيجي للسيطرة على ظاهرة الإرهاب باسم الإسلام، عن طريق تقديم بلادهم لتكون اليوتوبيا التي يحلم بها المجاهدون في سبيل الله، سواء جاءت هذه المنحة عن قصد أو غير قصد من قبل الجماهير التي ثارت من أجل حياة أفضل.
شعوب الشرق الأوسط التي فتحت أحضانها وأبوابها للمجاهدين ليست هي المجتمعات البدائية المتخلفة حضارياً كما هو حال أفغانستان، بل هي مجتمعات متحضرة، بما يعني ارتباط حياتها بالمنظومة الحضارية العالمية، فليبيا تعيش على البترول الذي يستخرجه ويشتريه الغرب، ومصر وتونس وسورياً شعوب تعيش في الأعم وفق حضارة العصر وعلاقاته الاقتصادية، وهي في نفس الوقت شعوب يشيع في العديد من قطاعاتها الفكر الديني المعادي للآخر، بل ويعد الإرهاب الموجه للعالم الغربي من الفعاليات المحببة والأثيرة لقطاعات كبيرة من الجماهير، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المتشبعين بفكر العروبة المعادي للعالم الغربي والمرتبط بوشائج أيديولوجية بالتأسلم السياسي، كان من حقنا المغامرة بوصف هذه القطاعات المعادية للغرب بالأغلبية الكاسحة وسط هذه الشعوب.
بعد سويعات من اندلاع الثورات العربية ظهرت موازين القوى الجماهيرية واضحة لا تكاد تخطئها عين الخبير أو الغشيم، وبدا وفقاً للآليات الديموقراطية التي تم اصطناعها (تعسفياً) أن الأمر لابد وأن يؤول إلى أيدي الأذرع السياسية لجحافل الإرهاب العالمي، التي تربطها جميعاً بنية تحتية غير معلنة وإن كانت واضحة وضوح سطوع الشمس، وهنا كان على الاستراتيجية الجديدة "لإدارة الإرهاب" أن تتقدم، فكل الأوليات على الأرض تصرخ بأنها هي الحل البديل، فكانت هرولة العالم الغربي للدفع بالأمر للوصول إلى منتهاه، وتسليم هذه البلاد (ديموقراطياً) لمن أرادت الجماهير تسليمها إليهم، ومن أراد الغرب تحقيق استراتيجيته الجديدة عن طريقهم.
إذا تم تحويل مناطق تمركز وجذب بقايا الإرهاب العالمي إلى منطقة الشرق الأوسط، لتخضع لعملية إدارة، فإن هذا سيحقق المزايا التالية:
 سيتخلص العالم الغربي من عبء التكلفة البشرية والمادية والسياسية لمطاردة الإرهاب عبر القتال العسكري.
 تواجد الإرهاب في مجتمعات متحضرة على علاقات اقتصادية بالعالم الغربي سيتيح السيطرة ومحاربة الإرهاب عبر التحكم الناعم بالضغوط الاقتصادية على هذه الشعوب، سواء كانت ضغوطاً إيجابية بالمنح والمساعدات، أو سلبية بالمنع والحصار.
 سوف تكون الشعوب بقطاعاتها المدنية والمتحضرة شريكة في محاربة الإرهاب دفاعاً عن نفسها وعن حياتها.
 جذب العناصر الإرهابية من أنحاء العالم للمواطن والملاذات الآمنة الجديدة سيساهم في تخفيف ضغوطهم هنا وهناك، علاوة على أن استشعار القيادات الإرهابية لما لابد وسيعدونه انتصاراً لمشروعهم، سينقلهم سيكولوجياً وواقعياً من مرحلة القتال إلى مرحلة اقتسام الغنائم والتمتع بها، وسوف يبدأون أيضاً في تصفية بعضهم بعضاً اقتتالاً على تقسيم الكعكة.
 لن يؤدي تواجد الإرهابيين في مواطنهم الجديدة إلى تزايد المنخرطين في صفوفهم، بل العكس هو المحتم أن يحدث، فشعوب الشرق المفتتنة بالفعاليات الإرهابية هنا وهناك، والتي تعتبر بن لادن بطلاً إسلامياً أو "صلاح الدين" العصر الحديث أو "رامبو" المسلمين، هذه الجماهير ذاتها حين يسيطر الإرهابيون بممارساتهم وأفكارهم على حياتها ستنقلب عليهم، لتكون هذه هي بدايات النهاية الحقيقية لفكر الإرهاب والردة الحضارية من العالم الإسلامي.
 يمكن في غمرة نشوة تيار الإسلام السياسي بما حققه من مكاسب بمعونة وتحت رعاية وسيطرة أمريكية غربية أن يتم مقايضته بتصفية "القضية الفلسطينية"، وهو ما نرى الآن إرهاصاته.
هكذا يمكننا القول أن الإخوان المسلمين بسيطرتهم على الحكم في دول الربيع العربي سيقومون بدور الأداة لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لإدارة الإرهاب، وربما أيضاً إن تيسر إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وأن شعوب الشرق الأوسط عليها إن أرادت أن تتخلص منهم، أن تفعل ذلك بنفسها من أجل نفسها، وهذا يعني أنه قد تم توظيف الإخوان في مهمة تؤدي لإنهائهم أسطورتهم بأيديهم، فدخولهم هنا وهناك إلى قصور الرئاسة هو بمثابة دخول أسماك القرش الوحشية بنفسها إلى شبكات فولاذية ملقاة لها، ليتم إخراجهم بسهولة بعد ذلك من المياه السرية العميقة والمظلمة، ليتحولوا إلى جثث هامدة على رمال شواطئ العلانية والمسئولية أمام الشعوب. . ربما هناك من يعتبر ما تقدم جزءاً من "لعبة الأمم"، أو واحدة من جولات "أحجار على رقعة شطرنج"!!
kghobrial@yahoo.com
 ايلاف 

اجمالي القراءات 6796