أكذوبة خير القرون وتأثيرها على خريطة الأفكار(3)

سامح عسكر في السبت ٢٧ - أبريل - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

في الحلقة السابقة رأينا أن التقليد هو أساس من يرفض دعوة الله، وأن أكثر الناس هم مُقلدون بالطبيعة..ويرفضون الدعوة بحُججٍ شتى من بينها الآبائية ومن بينها عدم الشُكر ومن بينها التقصير في فِعل الخيرات، وقد كانت تلك الحُجج سائدة في عهد النبي على ألسنة الكُفار والمنافقين وأعمالهم، وأن القرآن قد سجّل ذلك بوصفهم بأن أكثرهم لم يكونوا مؤمنين..وعلى هذا الحال تبقى عقيدة خير القرون رهينة لجيل أو زمان يتفوق على آخر بالمُجمل، وهذا الرهان ليس بمُحال إذ التاريخ يُثبت أن العديد من الأزمنة والأجيال كانت أفضل من غيرها من حيث الحضارة أو التضحية، ومع ذلك فلا تكون قواطع لأن التاريخ في رؤيته العامة يُحاكي رؤية النافذين في السُلطة أو المثقفين أكثر من رؤى الجماهير.

كذلك في متن الحديث –المؤسِس لتلك العقيدة-لا يوجد سياق تأريخي يحكي كيفية ما قاله النبي ومتى وأين وفي أي ظرف، وهذه الأسئلة هامة لاستنطاق جُملة من المعلومات أهمها إذا قال النبي ذلك في زمانٍ سبقه موت أو استشهاد أحد الأخيار أو الصحابة أو ممن أسلموا وماتوا مُبكراً ، هل سيكونون من ضمن القرون أو الأجيال المقصودة بالخيرية أم ماذا؟..وإذا كانوا كذلك فما القول فيما ثَبت عن أنس بأن .."أمة المسلمين مثل المطر لا يُدرَى أوله خير أم آخره"..وما القول في أن تفسير الجيل يعني الأحياء وليس الأموات، وإلا فالأموات أجيال سابقة على الأحياء، فهل مات من المسلمين قبل أن ينطق الرسول بهذا الكلام أم أن الرواية حدثت في أول يوم من أيام الإسلام ؟!

معنى هذا الكلام أنه حتى لو ثبت الحديث فهذا لا يعني أن المقصود هو الجيل أو القرن-بمعنى الزمان-بل المقصود هم مجموعة من الأشخاص يتبعهم البعض بإحسان، وهذا يتسق مع مبدأ .."إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..ولا يقف هذا الرأي عند الجيل أو القرن الثالث بل سيمتد إلى آخر الأمة في آخر الزمان...وهكذا تكون المسألة مقبولة وصالحة للتأويل كرد منهجي على من يفترضون بأن الصحابة بالمُجمل هم المقصودون رغم أن القرآن لم يذكر لفظ الصحابة قط بل قال.."المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان..ومحمد والذين معه"..وهكذا فالقرآن يجعلها عامة كي يدخل فيها آل البيت وسائر الصالحين، كذلك لرفع الحرج عن من يُخطئ في تعريف الصحابي فيضم إليه مُجرماً أو فاسقاً أو كافراً من حيث لا يدري..

على جانبٍ آخر ..من يعتقد في خيرية القرون الأولى على ما سواها تختلط لديه معاني الحِزبية و الوطنية والقومية ،فبينما يؤمن بأن المسلمين في هذه القرون لم يكونوا إلا أقلية في المنطقة العربية..يؤمن في ذات الوقت أن عموم الخيرية ثابت للعرب دون استثناء، ويعتمدون في ذلك على الوعي الجمعي العربي الذي يجمع ما بين الإسلام والعروبة .."كهوية قومية" وما بين الإسلام والمسلمين.."كحِزب ووطن"..رغم أن أكثرية أهل الإسلام في هذه القرون لم يكونوا عربا، وأن اللغة العربية أخذت موقعها بتوالي الزمن وبتوسّع الغُزاة في الفتوحات التي يسميها البعض.."بالإسلامية"..حتى أنه قيل في أكثر من مصدر تاريخي مُعتبر بأن جيوش الفاتحين الأمويين كان أغلبها من ذوي الديانة المسيحية في الشام، كذلك في أن خريطة انتشار اللغة العربية جاءت من جنوب الجزيرة حيث عرب قحطان العاربة إلى شمالها حيث عرب عدنان المستعربة،وأن اللغات المصرية والفارسية والعبرانية والكلدانية كانت أكثر انتشاراً في المنطقة العربية في تلك القرون، فعلى أي هوية جاءت أحكام من يُثبت الخيرية هكذا بالمُجمَل؟

لو قالوا أنها هوية عربية قلنا فالعرب كانوا أقلية، وأن الأكثرية منهم مسلمين ليسوا عرباً ولكن بعضهم كانوا أكثر التزاماً وإيماناً من العرب، ولو قالوا أنها إسلامية فهذا نقض لخيرية أكثر شعوب المنطقة بوصفهم كانوا غير مسلمين ، لأن ثبوت الخيرية كان للمسلمين على نحو الحديث وشُرّاحه الذين صنعوا لنا عقيدة تجذرت في نفوسنا ....وابتُنِيَت عليها مُصطلحات صنعت لدينا أزماتٍ عِدّة، فالإسلام لم ينتشر ولم يُنافس الأديان الأخرى في المنطقة إلا مع بدايات القرن الثالث أو الرابع الهجري وفي هذا مقام بحث سنتعرض له إذا اقتضت الضرورة ذلك..صحيح أن هناك من يقول بأن العرب-في تلك القرون- كانوا هم مصدر الإسلام وقوته وكانوا هم أكثر من ضحوا لأجله.. ولكن لا يعفينا ذلك من القول بأن الثقافة العربية بتقاليدها وأنظمتها وقواعدها كانت هي المُسيطرة على عقل المُشّرع الإسلامي بوجهٍ عام، وللفصل فلا يختص ذلك بالوحي.. فالوحي لم يُضِف للعرب قيمة إلا أن القرآن كان مُنزلاً باللغة العربية، فيما عدا ذلك فالكل سواء، وعليه فالثقافة العربية التي طغت على التشريع الإسلامي كانت محل نظر للكثير من الباحثين الذي رفضوا تلك النظريات التمييزية للعرب وإضفائها-كثقافة-على الدين.

وفي تقديري أن أكذوبة.."خير القرون"..من هذه النظريات، بل هي الأخطر على الإطلاق، وكثيرا ما ينتبه المتعصبون لذلك فيكفّون أو يقتصدون في نزعاتهم العِرقية حِفظاً منهم لمقام الأخيار الأُوّل والذين كانوا في معظمهم من غير العرب، ومن هؤلاء "الأخيار"الكثير من أصحاب المذاهب الفقهية أو المحدثين ونحو ذلك ممن عُرِفوا بأنهم كانوا فُرساً أو عَجَما..

صحيح أن العرب كان من بينهم حُنفاء.. كانوا هم من بين النواة الأولى للمسلمين في الجزيرة العربية، وأن هؤلاء الحُنفاء كانوا موحدين ليسوا هوداً أو نصارى، وأنهم كانوا يعتقدون في دينهم بأنه إتباعُ لأبي العرب إبراهيم وولده إسماعيل-عليهما السلام-ولكن هذا يجعلنا نعتقد في أن الخيرية لو كانت في الحنيفية –بوصفهم عربا-فهي لعقائدهم وأعمالهم وليست لكونهم أحفاداً ومُقلدين للأنبياء ، وإلا لكانوا عُباداً للأوثان وظلوا على دينهم حتى زمان الرسول وحاربوه..ومن تلك النتيجة نرى بأنه لو صحّ بأن النبي قال بالخيرية للقرون الأولى... فالأولى بها هم الحُنفاء الذين ظلوا على عهدهم مع الله رغم انتشار وسيادة الكُفر، ولا يتساوون في ذلك مع من أسلم في زمان النبي أو بعده وكان الإسلام فيها ذو عِزّةٍ ومَنَعة ولم يُجاهدوا أنفسهم كما جاهد الحُنفاء، وإلا ما هي الحِكمة في أن يُعطيَ النبي الخيرية لأُناسٍ كانوا أقل تضحيةً ممن سواهم؟..خاصةً إذا علمنا بأن أكثر من كانوا حول النبي لم يُضحّوا بأموالهم وأنفسهم، فما بالنا وأن هؤلاء كانوا في أكثرهم غير مؤمنين أصلاً كما حكى القرآن في أكثر من موضع.

اجمالي القراءات 7996