مغبة إسراف المتدينين في تدينهم
ظهــر الفساد بما كسبت ألسنة وأيدي المتدينين - الملكيين أكثر من الملك -

يحي فوزي نشاشبي في الإثنين ٢٥ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم  الله  الرحمن  الرحيم

ظهــر الفساد

بما  كسبت  ألسنة ُ  وأيدي  الذين  هم  أكثر  ملكية  من الملك

هناك  تعبير شائع باللغة الفرنسية، هو بمثابة لوم  أو مؤاخذة  واستنكار، لأولئك  الذين يسرفون في الحرص في أي اقتناع  بأي موضوع أو أي توجيه، حيث  أنهم لا  يكتفون  بالكلمة الطيبة الهادئة والهادفة وبالحكمة، حيث يدفعهم جماح  حرصهم إلى اقتراف ما  لا تحمد عقباه، وربما يكونون في كل ذلك معتقدين أنهم على صواب، وأنهم  يحسنون  صنعا. وهذه  العبارة  الفرنسية  المؤاخِذة  تنصح  بهذا :

IL  ne  faut  pas  être plus  royaliste  quele  roi.

أي:  لا  ينبغي  أن  يكون المرء  ملكيا  أكثر من  الملك.

  • ولا  أدري إن كان جائزا هذا الإقتباس والقول: لا ينبغي أن يكون الداعية  ربانيا  أكثر  من  الخالق ؟

وأما عن الفكرة  الداعية إلى  ضبط  هذه  الخواطر،  فهي  تلك  الآية  القرآنية التي 

اخترقت الذهن صدفة  وبدون  سبب  ظاهر، أو ربما  لتداع  معنى  ما  غير واضح؟ وهي  قوله سبحانه  وتعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]..

فمن المنتظر والمتوقع أن يوافقني القراء بأن هذه الآية يلتجئ إليها المتحدثون  والكتاب من المرشدين والوعاظ تأييدا لإرشاداتهم، وهم في الغالب يميلون إلى الإستدلال بهذه الآية القرآنية وسرد الأمثلة من مختلف التصرفات التي تدرج في عصيان الله، وعدم الإلتزام بتعاليمه، والبعض الآخر يسوق أمثلة أخرى لها علاقة بظاهرة التلوث في البر والبحر من جراء التقدم الهائل للبشرية، لاسيما منذ القرون الأخيرة، وذلك التسابق المحموم في شتى مجالات الصناعة، وبدون أية روية أو أي حساب من حيث العواقب، وأثر كل ذلك على طبقة " الأوزون " المعتدى عليها هي الأخرى والمنتهكة حرمتها، وما أصبحنا نعاني منه من سلبيات، دون أن ننسى البحار والمحيطات وما تحتويه من مخلوقات لم تسلم من ويلات التلوث، وما إلى ذلك، من الإنتهاكات في مجالات أخرى زراعية. 

وإن كل ما ذكر يمكن أن يكون صحيحا، ومادة  للمرشدين حقّ الإستدلال بها.

لـكن، وهذا  هو  بيت  القصيد :

ألا يمكن أن يكون هناك مجال آخر هو أكثر أهمية وخطورة وأولوية ؟ ومع ذلك ما زال مجالا باقيا في الظل ؟ بعد أن أصيب هو الآخر بفيروس سلبيات الملكيين عندما يكونون ملكيين أكثر من الملك؟ أو بفيروس المرشدين المتدينين عندما يكونون – وهم كذلك في الغالب – أكثر مما أرادته إرادة الله ومشيئته وحكمته !?

فإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد أن تتمتع مخلوقاته بالحرية التامة في حياتها الأولى، وتفعل فيها وبها ما تشاء أن تفعله وتتحمل المسؤولية في ذلك كاملة غير منقوصة، وقد أكد ذلك في صيغة جواب قسم بأن النفس السوية هي التي تتمتع بالحرية وهي التي ألهمت فجورها وتقواها، كما جاء الجواب للقسم الآخر بإن سعي البشرية  لشتى بفضل تلك الحرية الممنوحة.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد لبرنامجه أن يسود ويكون كما أراده  سبحانه وتعالى له. وإذا  كان يتكون من :

في سورة الكهف الآية [29]: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا29﴾.

(إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) (137) (النساء)

{ فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطرأي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب،

قال تعالى :(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس : 99] .
 

( قُلْ إنَّما عِلـْمُها عِنْدَ اللهِ وَلـكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمونَ3].

( إنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلـكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنونَ )[4].

( وَما أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنينَ )[5].

( وَإنَّ أكْثَرَكُمْ فاسِقونَ )[8](

( مِنْهُمُ المُؤْمِنونَ وَأكْثَرَهُمُ الفاسِقونَ )[10].

(وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) 159 ال عمران

-(دْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)  النحل 125.

{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} (البقرة:193)، وقوله سبحانه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} (الأنفال:39)

وعليه:

فما  بال  هؤلاء  المتدينين المسرفين  في  تدينهم !?

ما بالهم يفقدون أي زمام، بل ويقولونها  تلميحا  قويا ثم تصريحا لله عز وجلّ بلغة ألسنتهم، ثم بأفعالهم ... يقولون لله العلي العظيم: إن بإمكانهم هم  المخلوقين  الغيورين على هذا الدين أن يحققوا أهدافا أسرع  في إطار برنامج الخالق، ولسان حالهم يقول بأنهم مع ذلك  فهم طامعون وطامحون إلى أن يقدر الله لهم  ذلك الحرص – وقدر درجة  الإفراط  فيه – ويجعلهم  من  المقربين.

نعــم :

إن كان الله الرحمن الرحيم : يريد  أن  تكون  الدعوة  بالحكمة والموعظة الحسنة، فالمتدينون الملكيون أكثر من الملك يريدونها دعوة كلها  غلظة وفظاظة  "وسادية" وتهديد وترويع  وتلويح بكل ما هو قاتم .

وإذا كان الله الودود :يريدها أن تكون دعوة تبليغية تبشيرية     وبرباطة جأش وبكل هدوء ، وبكل ما في كلمة حرية (للطرفين: الداعي والمدعو)  من معنى، فالمتدينون الملكيون أكثر من الملك ، يفضلونها  دعوة بلا صبر وبكل ما في  الغطرسة  والسيطرة  والتشنج  من معنى .

وإذا كان الله العظيم سبحانه وتعالى: قد أقسم بأن يملأ جهنم من الجنة والناس، فإن هؤلاء المتدينين المفرطين في تدينهم (الملكيين أكثر من الملك) قد قرروا أن يقلبوا الوضع رأسا على عقب لأنهم يعتقدون أن حرصهم محمود، - بل المنتظر منه أن يقربهم إلى الله زلفى - سيمكنهم من أن يفعلوا أحسن وأفضل، بل وقد أقسموا هم بأن يحققوا الإنجاز الكبير ويملأوا الجنة. ومن يدري ?لعل طموح هؤلاء الملكيين أكثرمن الملك، وهم فاقدون أي زمام، من يدري لعلهم يطمحون إلى أن يبلغوا الدرجة التي تجعل الجنة هي التي  ستستجيب للسؤال  فتقول : هل من مزيد !?

وإذا كان الله العظيم سبحانه وتعالى:قد تساءل في حديثه المنزّل تساؤلا يمكن أن يفهم منه تساؤلا  توجيهيا موجها إلى عبـــده  ورسوله  (عليه الصلاة والسلام): (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس : 99. 

وبالتالي، فكأنّ هذا التساؤل الصادر من الله  نفسه ، الموجه إلى  عبده ورسوله،(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)،كأنه بمثابة تحذير حتى لا يقع عبده ورسوله في مغبة تجاوز  حدود مهمته وهي التبلبغ لا غير. وإذا كان محمد العبد والرسول ، قد  وعى حقا وحتما هذه التعليمة الربانية، فإذا اعتقد المؤمن الحقيقي ذلك، - وإن ذلك ما يجب على المؤمن الحقيقي  أن يعتقده اعتقادا  تاما إذا كان جادا في الأمر - فإن ذلك يعني أن النبي(عليه الصلاة والتسليم) لم يحدث له أبدا إبان دعوته أن فقد الزمام وأن تحول بشكل أو بآخر  إلى ربانــيّ أكثر من ربه.

ومع كل ذلك، وعلى الرغم من أن أغلبية المتدينين يعرفون ذلك، فإنهم انساقوا وراء إسرافهم في تدينهم، وبدون أن يدروا وقعوا في شراك إبليس الذكي الذي وُفـّقَ أيما توفيق في أن يزين لهم  أفعالهم  لينعموا في هذه الدنيا إلى الثمالة وهم على أرائك (الملكية أكثر من الملك) ويمنيهم  بالدرجات العليا في الفردوس.

نعم، على الرغم من ذلك فإن هؤلاء المسرفين في تدينهم أداروا ظهورهم لهذه التعليمة الربانية، فلم يتورعوا في أن يفتروا ويزوروا على الله، وحولوها إلى تعليمة مُـكـرِهة الناس حتى يكونوا مؤمنين ويقادوا  إلى  الجنة  بالسلاسل على  الرغم من أنفهم.

وأما عنالأمثلة، ففمن المعتقد أنها متوفرة وبكثرة ، وأينما وجه الإنسان وجهه يُصدم بأفاعيل أولئك الملكيين الذين تجاوزت ملكيتهم الملك وإرادته ومشيئته وحكمته. .وإلا فما بالهذه المذاهب والطرق والنحل والملل وتطاحنها وتصارعها واستماتاتها لتميت وتسحق المذهب المقابل !?

وإذا كان الله العظيم سبحانه وتعالى:قرر أن تكون هناك أمة ، وتكون خيرأمة أخرجت للناس- جميع الناس - تأمر بالمعروف  وتنهى عن المنكر – وبكل معروف – فإن المتربصين ، أولئك  الذين هم  حريصون أكثر من حرص الملك  في تدينهم قد  أسرعوا في  الإفتراء  والتزوير على الله،  فأحدثوا نتوءات سمجة  في دينه  القويم ،ولم يتورعوا في  أن  يعرضوها  للناس ولسان حالهم يسيل لعابه  ليشفوا غليلا غريبا، وذلك  بتطبيق  شرعهم  هم الذي تولد عن حرصهم هم ،  بتطبيق شرعهم هم ، لا  شرع الله  في  الناس  وحكمته.  وقد  أتقنوا دورهم  أيما إتقان. والمتفق عليه حتما هو أنهم  بذلك لا  يمكن أن يوصفوا إلا بوصف  مغاير  تماما لوصف الله تعالى عندما قال : ( ... خير أمة  أخرجت  للناس ...).

 وأخيرا  إذا  حدث  أن وقع  الاتفاق على أن كل هذا  واقع  وحقيقة  سائدة  في عالمنا،  ألا  يجوز  لنا  أن نصف  هذه  الوضعية  بفساد  في  البر  والبحر وما  أدراك ما  هو من فساد، وبما كسبت أيدي هؤلاء  المتدينين المسرفين في  حرصهم  إلى  أن  تحولوا  إلى  ربانيــين  أكثر  من الرب  الرحمان  الرحيم ؟

ثم  إذا  كررنا مرة أخرى  تدبر تلك الآية  المشهورة وهي :  (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس : 99.

ثم إن مراجعة ولو  سريعة  خفيفة  لسورة سورة عبس - سورة 80 - عدد آياتها 42

سنستنتج  بكل يسر أن الله نبه  عبده ورسوله مرة  أخرى، قائلا  لــه : ( أما من استغنى فأنت  له  تصدى  وما عليك  ألا  يزكي...  كلا  إنها  تذكرة  فمن  شاء  ذكره ...) .

وبالتالي فلو  لم  يمتثل  الرسول لأمر الله وهو – ما عليك ألا  يزكى ،  وأن الأمر كله مجرد تذكرة  ليس إلا  فللعبد  كامل الحرية -  نعم  لو  لم  يمتثل رسول الله لخالفه لأصبح حتما ملكيا أكثر من الملك .

وعليــــه 

ألا ينبغي علينا أن نعتقد جازمين بأن عبد الله ورسوله لم يحد  أبداعن توجيه الله ولم يحدث له أبدا أن وضع  نفسه  ربانيا  أكثر من الخالق  العزيز  الودود ؟

 

 

 

 

اجمالي القراءات 9748