كتاب الحج ب2 ف 6: قريش تصدّ عن التواتر الصحيح (سبيل الله والمسجد الحرام )

آحمد صبحي منصور في السبت ١٦ - فبراير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الثانى : الدين السّنى وصناعة تشريع الحج .

الفصل السادس : قريش تصدّ عن سبيل الله والمسجد الحرام

أولا : مفهوم الصّد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بين الاسلام والكفر

1 ـ للدفاع عن ملكيتها للبيت الحرام وسيطرتها على فريضة الحج مارست قريش منع النبى والمؤمنين من أداء فريضة الحج ، ومنعتهم من دخول مكة . والسبب هو أن القرآن الكريم أكّد أن البيت الحرام للناس كافة ودعا الى نبذ عبادة الأصنام بما يهدّد تجارة قريش بالدين . لذا قامت قريش بعملين معا : حاربت الاسلام والمسلمين ومنعت المسلمين من الحج ،أى قامت قريش بالصّد عن المسجد الحرام و بالصّد عن سبيل الله . عن صدّهم عن سبيل الله ( القرآن الكريم ) مع علمهم بأن القرآن هدى يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) محمد ) ، ويتوعدهم رب العزة بتضييع أعمالهم الصالحة فيقول:( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)(محمد). وعن صدّهم عن المسجد الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة يقول جل وعلا :(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) (الحج ).

2 ـ ولقد سبق القول بأن كلمة ( الناس ) بمعنى جميع البشر قد تكررت فى تشريع الحج وفى الحديث عن البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمنا ، وفرض الحج اليه على المستطيع من الناس ، مهما كانت عقيدته وملته ودينه ، طالما كان مسالما ، بينما يحرّم رب العزة على المشركين المحاربين المعتدين مجرد الإقتراب من المسجد الحرام ، يقول جل وعلا للمؤمنين المسالمين :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 28 ) .

الحديث هنا عن المشرك الكافر بالاعتداء و القتل وسفك دماء الأبرياء .وقد قلنا ـ ونعيد القول للتذكير و التأكيد ـأنّ للكفر و الشرك معنيين : فى التعامل مع الله تعالى هو تغطية الفطرة السليمة بالاعتقاد فى شريك مع الله جل وعلا واتخاذ أولياء و شركاء مع الله ، وتلك العلاقة مع الله تعالى فى العقيدة و العبادة مرجعها الىالله تعالى ليحكم فيها بين الناس لأن كلواحد من الناس يرى نفسه على الحق ويرى مخالفيه على الباطل . الذى يهمنا هو الكفر السلوكى بمعنى إستخدام الدين فى الاعتداء والظلم، أى الإكراه فى الدين أوالاضطهاد الدينى أو الفتنة بالمفهوم القرآنى ، والتى تصل الى الحروب والتهجير القسرى والتعذيب ومحاكم التفتيش ، والصّد عن سبيل الله والصّد عن المسجد الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة وعلى قاعدة المساواة.

 3 ـ لا يقع فى الصّد عن سبيل الله الشخص المسالم المؤمن بحرية الدين له ولغيره على حدّ سواء . سواء كان هذا الشخص مؤمنا بالله جل وحده لا شريك له أم كان ممّن يقدس البشر والحجر ، المهم أنه يحترم حق كل إنسان فى حريته الدينية . هذا هو المسلم من حيث السلوك المسالم . وقد قلنا ـ ونعيد القول للتذكير و التأكيد ـ إن للاسلام معنيين : معنى عقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد و الخضوع لله جل وعلا وحده لا شريك له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ( الأنعام 162). وهذا الجانب العقيدى خاص بعلاقة كل فرد من البشر بالله جل وعلا ، ويرجع لحريته فى الايمان و الكفر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذه العلاقة بين الانسان وربه ، وكل انسان مسئول عن اختياره أمام الواحد القهار يوم القيامة . أما المعنى السلوكى فالاسلام هو السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مسلم ظاهريا بغض النظر عن عقيدته و دينه الرسمى و مذهبه . وللناس هنا الحق فى الحكم علىأى إنسان طبقا لسلوكه ، هل هو مسالم أم معتد مجرم ، وهناك من القوانين الالهية و الوضعية التى تحافظ على حقوق الانسان من تعد يقع عليه من أخيه الانسان .

4 ـ. ( الصّد ) هو تطرف زائد على الكفر ، كما قال جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) ) النساء ) ، أى كفروا قلبيا ولم يكتفوا بهذا ، بل قاموا بالصد عن سبيل الله بالاكراه للغير فى الدين، هنا يكون ضلالهم عظيما ، ولن يغفر الله جل وعلا لهم لو ماتوا بلا توبة: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168))، ومصيرهم جهنم :( إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)(النساء ).

5 ـ وتتدرّج أنوّع ( الصّد ) من أيسرها ، وهو ( الصّد بالدعوة سلميا فقط ) الى أبشع أنواع الصّد ( الصّد بالقتال والفتنة فى الدين ). يبدأ الصّد عن سبيل الله بالدعوة. ومن حق كل صاحب نحلة أن يمارس حريته فى الدعوة الى ما يعتقده ، ولكنه بمجرد أن يدعو الى دين أرضى يقدّس فيه البشر والحج فإنه يقوم بالصّد عن سبيل الله قوليا ، لأنه بذلك يدعو الى النار . وهنا يكون مشركا بدعوته ، ويحرم تزويجه أو تزويجها تنفيذا لقوله جل وعلا : ( وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)( البقرة ). فالسبب فى منع الزواج والتزويج هنا هو الدعوة الى النار . وهذا الداعية الى الشرك بالله جل وعلا وتقديس البشر والحجر يعلن عقيدته ويدعو اليها ، وبالتالى فلا تستقيم الحياة الزوجية بينه وبين شريك حياة يخالفه فى دينه ومعتقده ، إذ يتحول فراش الزوجية من سكن ومودة ورحمة الى ساحة معارك . ولكن تحريم الزواج هنا لا ينفى حق هذا الداعية للشرك فى أن نتعامل معه بالبرّ والقسط ، طالما لم يقم بالاعتداء العملى بالقتال وطرد السملمين المسالمين ، وطالما لم يقم بالتحريض على الاعتداء والطرد ،يقول جل وعلا:( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة ) .

6 ـ يصل الصّد عن سبيل الله الى أحطّ درجاته بالكفر السلوكى . وهنا يكون النهى عن (موالاة ) المشركين الكافرين المعتدين الذين أخرجوا المظلومين المسالمين من ديارهم أو ساعدوا على إخراجهم بالتحريض والدعم المالى والمادى : (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة)،هنا النهى عن موالاة المعتدين أى التحالف معهم ضد المظلومين، فالموالاة والبراء بمعنى التحالف عند الحرب وليس فى أوقات السّلم . وبالتالى ففى حالة الحرب والطرد والتهجير القسرى الظالم يكون واجبا شرعا قطع الصلة الزوجية بين زوجين أحدهما مسلم مهاجر بسبب الاضطهاد والآخر كافر فاجر معتد يمارس الاضطهاد الدينى ، وجاء هذا التشريع فى الآية التالية من سورة الممتحنة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)( الممتحنة ). والتفصيل فى بحث لنا منشور هنا عن البراء والولاء.

ثانيا الجمع بين نوعى الصّد ( عن سبيل الله والمسجد الحرام )

1 ـ الصّد عن سبيل الله يشمل الصّد عن المسجد الحرام وعن سبيل الله وهو القرآن ، الرسالة الالهية الأخيرة ، وفيها إصلاح ملة ابراهيم ، ومن ملامح الاصلاح هذا إصلاح فريضة الحج وألا يكون البيت الحرام ملكا لطائفة من الناس . وبهذا يتداخل الصد عن المسجد الحرام مع الصّد عن القرآن أو الاسلام أو سبيل الله.

2 ـ ومن هنا يقترن نوعا الصّد فى حالة قريش . يقول جل وعلا :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا )(217)(البقرة ). هنا ( الصد عن سبيل الله ، والكفر بالله ) و ( الصد عن المسجد الحرام ، وإخراج أهله منه ) وملاحقة المؤمنين بالهجوم الحربى لإرجاعهم الى دين الأسلاف والردة عن الاسلام ، أى الفتنة فى الدين أو الإكراه فى الدين ، وهو بتعبير ربّ العزة أكبر من القتل . وهذا الصّد بكل أنواعه ارتكبته قريش مع النبى عليه السلام والمؤمنين . وعلى سنّة القرشيين يسير الوهابيون السلفيون. وعن صدّهم عن المسجد الحرام يقول جل وعلا: ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) (الأنفال).ثم يقول رب العزة عن صّدهم عن سبيل الله :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(36) الأنفال ).

ثالثا : تحالف قريش مع الضالين من أهل الكتاب فى الصّد عن سبيل الله  

1 ـ فى ضوء مصلحتها التجارية أفسحت قريش لأهل الكتاب الحج بينما منعت المسلمين . كان هناك تحالف بين قريش وقبائل كلب المسيحية المتحكمة فى طرق التجارة فى الشام ، وتحالفات أخرى مع قبائل عربية مسيحية ، علاوة على تحالفات وعلاقات بين قريش وأحبار ورهبان معادين للاسلام داخل الجزيرة العربية أشار اليها القرآن الكريم . وأولئك شاركوا قريش فى الصّد عن سبيل الله ، فواجههم رب العزة بالتأنب والتحذير: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)آل عمران ).

2 ـ وعملت قريش كل وسعها لتصدّ النور القرآنى فلم تفلح ، فإنتشر القرآن الذى يكرهونه ـ رغم أنوفهم ـ يقول جل وعلا عنهم : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) الصّف). وعمل حلفاؤهم من أهل الكتاب كل وسعهم فى الصّد عن القرآن الكريم ففشلوا ، وقال جل وعلا يكرر نفس الحقيقة فى سياق الحديث عن أعداء القرآن من أهل الكتاب : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)( التوبة ). وبعد الآية الكريمة أكّد رب العزة جل وعلا أن كثيرا من الأحبار والرهبان يحترفون التجارة بالدين خداعا للناس وصدّا عن سبيل الله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(34) التوبة).

رابعا  : استخدام المال فى الصّد عن سبيل الله  

1 ـ قوله جل وعلا : :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(34) التوبة) يدخل بنا الى إستخدام المال فى الصّد عن سبيل الله.

2 ـ إستخدام المال أو التجارة بالدين هى عادة سيئة لم تبدأ بها قريش ، ولم تتوقف بعد قريش فلا يزال دور المال قويا فى الصّد عن سبيل الله ، وفى اكل أموال الناس بالباطل باستغلال دين الله جلّ وعلا.  ومنشور ومشهور أن السعودية ( التى تزعم إمتلاك البيت الحرام وتتحكم فى الحج اليه وفى الحجاج فى البيت الحرام ) أنفقت 50 بليون دولار فى نشر الوهابية ، مع وجود فقراء فيها أكلت الأسرة السعودية حقوقهم كى تنشر الوهابية خارج حدودها بتزمتها وارهابها وتطرفها. ولقد تخلص الغرب بنظمه العلمانية من مهمة نشر المسيحية ، ولا تنفق أمريكا ربع دولار فى نشر المسيحية ، وحتى الكنائس الغربية مع قيامها بمهمة التبشير فإنها على هامش التبشير تنفق البلايين فى عمليات الاغاثة والتعليم ورعاية المرضى والاعانات الانسانية . ولكن لا تزال السعودية ـ محور الشّر ـ تسير على سنّة قريش وثقافة التعصب فى العصور الوسطى .

3 ـ ونعود لقريش وصدّهم عن المسجد الحرام ، يقول جل وعلا: ( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)(الأنفال). بعدها يقول رب العزّة عن إنفاقهم المال فى الصّد عن سبيل الله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(36) الأنفال ). فهم ينفقون اموالهم للصّد عن سبيل الله .

4 ـ وقد أخذ الله جل وعلا الميثاق على أهل الكتاب ، ومنه ألا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ،أى ألّا يتاجروا بالدين ، فعصى معظمهم : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) آل عمران )، وتكرر نفس الأمر لهم فى القرآن الكريم ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) البقرة )( فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) المائدة )، وبعض أهل الكتاب أطاع وامتنع عن التجارة بالدين : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)( آل عمران ). ونفس النهى نزل   (لأهل القرآن ):( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) النحل ).

5 ـ ولكن أئمة الكفر من قريش أدمنوا حتى النهاية الصد عن سبيل الله والتجارة بالدين ، وأن تشترى بآيات الله ثمنا قليلا ، إحترف بعضهم شراء الأساطير لشغل الناس عن الانتباه للقرآن صدّا عن سبيل الله: ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) لقمان)، ثم تطور الصّد ( الثقافى ) ليصبح صدّا باستعمال السلاح ، فعن غزوة بدر يصف رب العزة خروج قريش للحرب بخيلائها وبطرها وصدها عن سبيل الله جل وعلا :( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الانفال )، وفى آخر ما نزل من القرآن الكريم  يقول جل وعلا عن نقضهم للعهود وإعتدائهم : ( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) التوبة ).

خامسا : العقوبة فى الدنيا والآخرة على من يصدّ عن سبيل الله

1 ـ تنتظره عقوبة فى الدنيا ، وعقوبة الجحيم فى الآخرة ، وقد عوقبت قريش فى الدنيا ، وينتظر الكفار منهم الذين ماتوا وهم كفار عقوبة الخلود فى النار . يقول جلّ وعلا  عنهم : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) الانفال ) . هنا البدء بالتكذيب والاصرار عليه الى درجة أنهم يدعون الله جل وعلا أن ينزل بهم العذاب لو كان القرآن حقا . وتأتى إشارة بتعذيب دنيوى قادم لقريش عقابا لهم على صدّهم عن المسجد الحرام :( وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) الانفال).

وهذا العذاب وقع فعلا بهم ، واشار اليه رب العزّة بينما تجاهلته روايات السيرة . وقد نبّه عنه مقدما ربّ العزة حين يقول جل وعلا عن قريش :(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) الدخان )، ثم يقول للنبى عليه السلام أن ينتظر ليرى عذابهم الدنيوى ينزل من السماء بدخان يغشاهم ، ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) الدخان )، وتضرعوا لله جل وعلا أن يكشف عنهم العذاب معلنين إيمانهم بعد أن كفروا بالرسول واتهموه بالجنون : ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)، وكشف الله جل وعلا عنهم العذاب عالما جل وعلا إن توبتهم مزيفة، وعندها سيأتيهم عذاب ببطشة كبرى :  (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16)(الدخان).

ونزلت بهم البطشة الكبرى  بعذاب أقسى ، يقول رب العزة يخاطب النبى عليه السلام عن صدّ قريش عن سبيل الله: ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) المؤمنون )، ثم يقول جل وعلا عن تعذيب دنيوى عوقبت به قريش فلم ترتعد : (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) المؤمنون).

ونعود الى آيات سورة الأنفال عن الجمع بين العقوبتين ، يقول جل وعلا عن كفار قريش :(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال ) أى ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، وأنبأ رب العزة إنهم سينفقونها ، ثم يكون عقابهم الدنيوى بالهزيمة والحسرة ، وهذا فعلا ما حدث ، ومن مات منهم على كفره سيكون مصيره الى جهنم .

2 ـ ويقول جل وعلا فى عقوبة الخلود فى النار لمّن يرتكب الصّد عن سبيل الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) النساء )، فهم لم يكتفوا بالكفر ، بل زادوا عليه الصّد والاعتداء ، زادوا على الكفر العقيدى الكفر السلوكى ، فسيزيدهم الله جل وعلا عذابا :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)النحل ).

3 ـ وفى مجال الصّد عن سبيل الله فإنّ اشدهم عذابا هم أئمة و علماء وشيوخ الضلال ممّن يكتمون الحق ويتاجرون بالدين ، وسيكون الله جل وعلا لهم خصما يوم القيامة ، وسيلاقون عذابا يستحق ـ صبرهم عليه ـ  العجب ، يقول جل وعلا :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة )( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)  ( آل عمران )

سادسا : التوبة

ومجال التوبة مفتوح ، حتى لمن يصدّ عن سبيل الله بالحرب ، فإن كفّ وامتنع عن الاضطهاد والفتنة فى الدين والإكراه فى الدين فيجب التوقف عن حربه : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) (الانفال )، وهذا قانون تكرر فى سياق إعتداء قريش الأخير قبيل موت النبى على المؤمنين فى المسجد الحرام ونقضهم للعهود ، مما أسفر عنه نزول البراءة منهم إن لن لم يتوبوا فى مهلة الأربعة أشهر الحرم . وإن لم يتوبوا خلالها ويحفظوا العهود فقد أمر الله جل وعلا رسوله الكريم بإعلان حرب شاملة عليهم ، فإن تابوا وكفّوا عن القتال ونقض العهود أصبحوا أخوة للمؤمنين :( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) التوبة ).

هذه هى التوبة الظاهرية بالمسالمة والكف عن الاعتداء . أما التوبة القلبية الحقيقية فأمرها لله جل وعلا يوم القيامة ، ولن تكون هناك توبة لمن يموت على كفره وصدّه عن سبيل الله ، يقول جل وعلا عن التوبة فى الآخرة : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)محمد ).

أخيرا :

إحترفت قريش الصّد عن سبيل الله والمسجد الحرام تمسكا بتواترها الباطل ، وحفاظا على مكانتها وتجارتها بالدين . وتنوع الصّد من شراء لهو الحديث واستخدام المال  الى الحرب الهجومية ونقض العهود. وعوقبت قريش فى الدنيا بالهزيمة فى حياة النبى عليه السلام ، ولكن سرعان ما استعادت نفوذها وهيمنتها بعد موته عليه السلام ، فقد سيطر الأمويون . وانتصرت بهم قريش الباغية لسببين : العصبية القبلية المحلية و التوافق مع ثقافة العصور الوسطى التى تخالف الاسلام بقدر ما تتفق مع ثقافة قريش فى الاستعباد والاستبداد والظلم والتجارة بالدين . وتأثر الحج بهذا الانتصار القرشى فعاد التواتر القرشى فى المناسك الجاهلية تتمسح باسم الاسلام ، بل جدّ تواتر أسوأ فى مناسك الحج ، لا يزال ساريا . وستأتى التفاصيل بعونه جل وعلا . 

اجمالي القراءات 10341