للحرية جدارة واجبة

كمال غبريال في الأربعاء ٠٢ - يناير - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

تصل المأساة قمتها حين تتحول إلى ملهاة، وتوصيف ما يحدث في مصر الآن تعدى بالفعل توصيف مأساة، ليدخل في طور الملهاة، فمحاولة عصابات لا تمتلك غير مقومات الجهل والعداء للحياة وللإنسانية السيطرة على سائر مفاصل الحياة في مصر ذات التاريخ العريق في الحضارة هو ملهاة أكثر منها مأساة، وفي الجانب المقابل هذه النخب التي تلعب دور المعارضة، ظناً منها أنها ببعض البيانات والمؤتمرات الشعبية المصحوبة بتظاهرات ألفية يطلقون عليها وصف "مليونية" سيسقطون الضباع من فوق ظهر الفريسة، هؤلاء أيضاً يلهون بمأساة شعب، الحقيقة التي علينا إدراكها أنه إن كان نظام يوليو 52 قد سقط، فأننا نعيش الآن على فضلاته "موالاة" و"معارضة"!!
نعم نهض الشعب المصري مبكراً بأكثر مما كنا نتوقع رافضاً ما أطلقت عليه التظاهرات "حكم المرشد"، وحقيقة أيضاً أن الشعب بدأ يتجه فعلياً ولو ببطء ليكون جديراً بالتمتع بحقوق الإنسان وفق المعايير العالمية، لكن من الخطأ الإفراط في التفاؤل، وتصور أننا بإزاء بوادر ثورة ثانية من داخل هذا النظام تصحح مسار ثورة 25 يناير، وتغير من نهايتها المؤلمة أو المفجعة، فما نراه الآن من رفض وتظاهرات، سواء من الشباب أو من القضاة أو وكلاء النيابة الرافضين لخطة إسقاط القضاء وتحويله إلى ألعوبة في أيدي أصحاب اللحى، هذه كلها يمكن أن يعتبرها البعض بداية "نوبة صحيان" تتطور إلى ثورة، لكنها يمكن أيضاً أن تكون مجرد رفرفة وارتعاشات جسد الذبيحة قبل أن تفارقها الروح تماماً وتخمد بين أنياب تنغرس فيها!!
لكي تبدأ بالفعل مسيرة جديدة نحو آفاق الحرية والحداثة لابد لها من مقدمات ومنطلقات جديدة، وإذا كانت شعارات الثورة الأولى أو راياتها مازالت صالحة، فإن الأيدي الرافعة لتلك الرايات والمتصدرة للمسيرة والموجهة لها لابد وأن تكون مختلفة تماماً، وإلا لن تكون الحركة المنتظرة مسيرة للأمام، وإنما دوران حول الذات، وها هي ذات الأيدي التي قدمت ثورة الشباب ودمائهم على طبق من ذهب لطيور الظلام، تعاود الآن ذات الكَرَّة، بمحاولتها أخذ الشباب الرافض والدخول به إلى دهاليز نظام حكم لا يتمتع بذرة من الشرعية، تحت راية العمل على "التغيير عبر القنوات الشرعية"، وكأن الأنفاق التي أُدْخلنا إليها يمكن أن يؤدي الولوغ فيها إلى العثور على نور وليس ظلمة وأوحال بلا نهاية.
عبثاً تهتف للحرية إن كنت أسير رؤى متكلسة تعجز عن ترجمة حريتك إلى إبداع وفكر حر حقيقي، عبثاً تنادي بحرية لن تثمر غير قيود بديلة حتى لو كانت أقل إحكاماً، فليس لدينا بمصر نخبة من طلاب الحرية بحق، لدينا طلاب ديموقراطية تؤدي لتداول السلطة، لنستبدل أغلال الحاكم المتمكن بأغلال معارضة تنشد تمكين أنيابها الكليلة من الانغراس في لحومنا. . لهذا بالتحديد أرفض ما يسمونه "التحالف مع الشيطان" لإنقاذ بلادي من وحش متمكن لتقع في براثن وحش متربص. . إذا كنت أرفض أن يتواجد أسافل الناس على كراسي الحكم، فلا يعني هذا أن ألتحق بالأرزال من الناس في المعارضة، فيما البعض منهم يرفع من صوته بالمعارضة للإخوان ليرفع سعره في سوق النخاسة، أغلبهم "يلعبونها معارضة" كما تفعل جماعات "حزب الوسط" و"مصر القوية" وما شابه. . لقد آن أوان رحلة الحداثة والتطهر من مخلفات ماض بغيض، حتى لا نظل إلى الأبد نترنح وننتقل من كارثة لمصيبة.
نتهم الشارع المصري بالجهل والسذاجة والعجز عن النقد الذي يمكنه من مراجعة ما يقدم له، وأنه أسير التلقين كليل النظر، يعجز عن رؤية ما يحدث حوله في العالم الحر المتقدم، وإن رأى وعرف يرفض الحداثة، ويظل متقوقعاً قابضاً على خبزه الجاف وثقافته العتيقة، والحقيقة أن هذه الصفات كلها تنطبق بالأكثر على النخبة، فيما خلا النادر الاستثنائي الذي يؤكد القاعدة.
لدينا العروبيون والناصريون الذين عجزوا حتى الآن عن إدراك سقوط دعاوى الوحدة العربية والقومية العربية العملي على أرض الواقع، إذا لم نرد محاسبتهم على انخداعهم الفكري بأسطوريتها وتهافتها النظري، وليس ذلك لغير أنهم ليسوا أهل فكر وإن اشتغلوا به، ولأنهم أهل تلقين يبتلعون ما يقدم لهم دون ما قدرة على النقد الذاتي والفرز، مفتقدين للخيال الإبداعي القادر على إنتاج بديل يملأ فراغ خرافات وهلاوس نفذت من العظام للنخاع.
لدينا أيضاً "آخر اليساريين (المحترمين)" في العالم، وقد راجع يساريو العالم أنفسهم في سائر أركان الأرض، في روسيا والصين وأوروبا الشرقية والغربية، فيما بقي يساريونا عاجزين عن إفراغ ما في بطونهم في أقرب مراحيض، ليستطيعوا تقبل حقائق العالم الجديد وهضمها، هو نفس العجز المصري أو إن شئت العربي، مازالوا يتحدثون عن صراع الطبقات، وعن عدالة اجتماعية تذبح الرأسماليين لتوزع الفقر بالتساوي على شعوب تنتظر "المن والسلوى" من سماوات الدولة المركزية المهيمنة، رغم صراخهم ليل نهار مطالبين بالحرية السياسية، وكأن نصف المخ الأيمن لهؤلاء يعمل بعكس اتجاه النصف الأيسر!!
لدينا من هؤلاء وأولئك محترفو المعارضة من مخلفات عصري السادات ومبارك، أتقنوا دورهم المعارض المجمل والمكمل لنظام حكم أحادي لا يعترف بتبادل سلطة، وعرفوا واحترفوا الارتزاق بتمثيل دور الثوار الرافضين، وقد صدقوا أنفسهم ولم يصدقهم الناس، حتى وإن مثلوا بالنسبة للعامة بصراخهم الحنجوري مجالاً لتنفيس الكبت من قهر الأوليجاركيات الحاكمة الفاسدة، تماماً كذلك التنفيس الذي نجده في أفلام العنف ومباريات مصارعة المحترفين، تلك التي لا تقل خداعاً عن حنجوريات أصحابنا هؤلاء، وماذا تحتاج جماعة الإخوان المسلمين الآن وهي تُعمل معاولها في هدم الدولة المصرية أكثر من معارضة حنجورية عالية الصوت تسير في ركابها، تجمل بها وجهها أمام الشعب وأمام العالم الخارجي، وتكرس بصراخها شرعيتها الساقطة عبر دعوتها الجماهير للمشاركة في الاستفتاءات والانتخابات، أليست هذه هي الديموقراطية والكرم الحاتمي، أن يكون للطغاة ودعاة الظلمة والتخلف معارضة تقول كل ما تريد، ليفعل الإخوان وملحاقتهم أيضاً ما يريدون؟!!
هؤلاء جميعاً هم نفس شخوص "جبهة الإنقاذ الوطني" وهم من تصدروا لقيادة ثورة الشباب في مرحلتها الأولى، واتضح أنهم ما بين ساذج وغير كفء وعميل ومدلس، والآن من الحماقة قبول تصدرهم انتفاضة الشعب الوليدة ضد حكم ينتمي لعصور بادت، هي ليست اسماً على مسمى "جبهة الإنقاذ الوطني"، هي جبهة إنقاذ لشخوصها من النسيان وإنهاء الخدمة دون معاش تقاعدي. . يكفي أن لا أحداً منهم يفكر أو يجرؤ على المطالبة الواضحة بعلمانية سياسية ومجتمعية. . الثورة تغيرات جذرية ثقافية واجتماعية واقتصادية تكون محصلتها النهائية تغيرات سياسية، والعكس غير صحيح بأية حال، فالبدء بالتغييرات السياسية لن ينجب سوى المزيد من الفشل والتخبط والتخلف، فقد يكون من المرجح أنه كان لدينا في المرحلة الماضية أكثر النظم السياسية سوءً، وإنما المؤكد أننا نرزح منذ عقود في أسوأ ثقافة وسلوكيات وقيم، تجسدت في نخب هي الأسوأ بجدارة، ومن هنا بالتحديد علينا أن نبدأ، ثقافة جد مختلفة بنخب جد مختلفة.
سيختلف الأمر جذرياً بالتأكيد حين تبدأ السيولة والحراك المجتمعي والثقافي عند القاعدة بفعل ما يحدث بالبلاد التي أمسك بزمامها أجهل الخلق أجمعين، ومن هذه القاعدة الجديدة لابد وأن تخرج شخصيات ورموز جديدة تمتلك رؤى جديدة ومبتكرة، رموز قادر على التواصل مع العالم الحر، وليس العداء له والمواجهة معه طبقاً لمفاهيم أكل عليها الدهر وشرب، مثل الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية والرأسمالية أو العولمة المتوحشة وسائر المفاهيم من قاموس أكل السوس صفحاته.
"الربيع العربي" فرصة لكي تعرف وتتعرف شعوب الشرق الأوسط على حقيقة نفسها، فبعدها ستعرف كيف تتطهر ثم تتحرر، فلا حرية حيث يضرب العفن بالجذور. . أمام الشعب المصري وشبابه فرصة ومهلة لكي يتعلم ويفكر ملياً، فطيور الظلام ستظل جاثمة فوق رؤوسنا ردحاً من الزمن سيكون أكثر من كاف لمراجعة كل أوراقنا ومعتقداتنا وثوابتنا، وعندما تبزغ أنوار جديدة في القلوب والعقول (وليس في قصور الرئاسة) سيجد الشباب بينهم قادة جدداً، هم الذين سيصلون بالشعب المصري وسائر شعوب المنطقة إلى أرض الميعاد، أرض الحرية والانفتاح والسلام والحداثة.
kghobrial@yahoo.com

  المصدر ايلاف 
اجمالي القراءات 6937