المقال السادس
الصراع داخل دين التصوف السنى

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً


معالم التصوف السنى
1 ـ فى العصر المملوكى جمع دين التصوف السنى بين تناقضات دينى التصوف والسنة لصالح التصوف الذى سيطر على أفئدة الناس متمعا بالحظوة لدى المحكومين والحاكم على السواء. كما جمع التصوف السنى ـ كدين أرضى جديد ـ بين المتفق عليه بين دينى التصوف والسنة وهو تقديس البشر من أئمة وصحابة وآل البيت والأولياء الصوفية السابقين دون نقد أو سب لأحد كما يفعل الشيعة. واشترك الفريقان فى الحج الى الوثن المنسوب للنبى محمد عليه السلام فى المدينة وفى تقديس بناء الكعبة والحجر الأسود.
ليس فى الاسلام تقديس لبشر أو حجر .الحجر الأسود مجرد حجر لتحديد بداية الطواف ، والطواف فى الاسلام ممنوع فيه لمس الكعبة حتى لا تتحول الى وثن مقدس، والكعبة مجرد بناء حجرى غير مقدس، وقع وأقيم أكثر من مرة . إنه فقط يحدد مكانا اختاره الله تعالى ليتجه اليه المؤمنون فى الصلاة وفى الحج.
لم يقتصر الأمر فى دين التصوف السنى على تقديس الكعبة بالمخالفة لعقيدة الاسلام وانما تعدى الأمر ليصبح تقديسا لكل الأضرحة المقامة على جثث أو ذكرى الأولياء الصوفية وغيرهم من الأئمة والصحابة والأولياء الصوفية.كان الفقهاء والقضاة ـ ممثلوا السنة ـ هم قادة الاحتفال بالموالد وروّاد التبرك بالأولياء الصوفية أحياءا وأمواتا.
2 ـ اصطنع التصوف السنى مرجعية مزيفة ربطته بالاسلام عن طريق تأويل قوله تعالى ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) يونس 62 ) على أساس أنها تعنى فقط الأولياء الصوفية، وتناسوا الآية التالية( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) والتى تجعل ولاية الله صفات عامة لكل مؤمن وتقى قبل وبعد نزول القرآن الكريم.كما تجاهلوا هجوم القرآن الكريم على اتخاذ المشركين لأولياء مقدسة بزعم أنها تقربهم لله تعالى زلفى ويعتقدون فيها النفع والضرر والشفاعة والحياة الأبدية فى القبور ، وهو بالضبط ما كان يفعله عرب الجاهلية وندد به القرآن ثم عاد المسلمون اليه تحت عباءة التصوف السنى ـ ولا يزالون يفعلون.
كما اعتمد التصوف السنى المرجعية المزيفة التى ارساها الشافعى فى (الرسالة ) والتى أوّل من خلالها ألأمر الالهى بطاعة الرسول بأنها طاعة الأحاديث التى تم تدوينها ونسبتها كذبا للرسول محمد عليه السلام بعد وفاته بقرنين وأكثر. وبالتالى فقد تحول أئمة الحديث الذين ماتوا فى القرن الثالث الهجرى فى العصر العباسى الى آلهة معصومة فى دين التصوف السنى بحيث أصبح نقد البخارى كفرا ، و كان من المعتاد أن يعقد العصر المملوكى فى رمضان من كل عام ( ميعادا ) لترتيل البخارى ، وتنافست المؤسسات الصوفية فى تقسيم البخارى الى أجزاء أو ( ربعات ) أى أرباع مثل المصحف ، وعكفوا عليه حفظا وترتيلا دون فهم بمثل ما كانوا يفعلون مع القرآن الكريم .
كان البخارى أكثر كتب الحديث تقديسا فى العصر المملوكى ، وورثنا منه هذا التقديس. والسبب فى تفضيل العصر المملوكى للبخارى أنه بدأ بارساء عقيدة الاتحاد الصوفية فى حديث مشهور يزعم أن الله تعالى قال : ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) ثم ينتقل الى تقرير عقيدة الاتحاد والحلول زاعما أن الله تعالى يقول عن الولى الصوفى : (كنت يده التى يبطش بها وقدمه التى .. الخ ).
3 ـ كان الصوفية الأوائل يكرهون الحديث ويقاطعون مجالسه لأنه يعبر عن دين التصوف المخالف لدينهم ، واقرأ ما كتبه فى ذلك ابن الجوزى فى كتابه ( تلبيس ابليس ) . ولكن عقد الصلح بين دينى السنة والتصوف ترتب عليه اشتغال كبار الصوفية بالحديث ، أى بتأليفه ووضعه وتزويره ونشره ، و تبارى أئمة التصوف اللاحقين فى تأليف أحاديث ( نبوية ) تدافع عن عقائد التصوف ومقالاته. ووضع الأحاديث فى تدعيم التصوف السنى اشتهر به الغزالى ت 505 فى كتابه (احياء علوم الدين) الذى قال عنه النووى : ( كاد الاحياء أن يكون قرآنا ) ، وقد قام العراقى بتخريج الأحاديث التى ذكرها الغزالى فى ( الاحياء ) وأثبت بطلان معظمها بمنهج المحدثين ، وقال عن المئات منها أنه ( لا أصل لها ) فى إشارة دبلوماسية الى أنها لم تعرف من قبل ، أى أن الغزالى هو الذى اخترع ذلك الحديث بنفسه.
استمرت صناعة الحديث تتكاثر بعد الغزالى حتى أن علماء الحديث الحنابلة أنفسهم كتبوا ينتقدون تلك الكثرة من الأحاديث. وأبرز من كتب فى الأحاديث الموضوعة ابن الجوزى فى ( الضعفاء والمتروكين ) وفى كتابه ذى الأجزاء الستة ( غريب الحديث ) وقد كتبه سنة 581. وعلى نسقه كتب ابن تيمية رسالته ( أحاديث القصّاص ) وابن القيم فى ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ) والسيوطى فى ( اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة ) والطريف أن السيوطى جمع كل الأحاديث المتداولة فى عصره فى كتابيه ( الجامع الكبير ) و( الجامع الصغير ) واخترع السيوطى نفسه عشرات الأحاديث ملأ بها رسائله والتى لا تزال مخطوطة لا تجد من يجرؤ على نشرها .
4 ـ وبدأ الصوفية الأوائل دينهم بانتحال الوحى الالهى عن طريق الهاتف أو رؤية الله تعالى أو الرسول فى المنام زاعمين أن الله تعالى أو الرسول خاطبهم بهذه الطريقة. وبذلك لم يكونوا محتاجين لاختراع أحاديث نبوية واختراع سند ورواة لها. والمتطرفون منهم زعموا أن العلم اللدنى الالهى يفيض فى قلوبهم من الله تعالى بدون واسطة طبقا لنظرية الاشراق الغنوصية التى تجعل العلم الالهى يتدفق على قلب العارف ، فيقول أحدهم ( حدثنى قلبى عن ربى ..) أو ( قيل لى .. ).
وهوجم الصوفية الأوائل بسبب هذه المزاعم . إلاّ أن الغزالى ملأ كتابه (الأحياء ) بالمنامات والهواتف ومزاعم أخرى من نوعية أن الله تعالى ( أوحى لبعض الصالحين ) أو ( أوحى لبعض الأنبياء ) ويذكر آراءه بزعم أنها وحى الاهى لبعض الصالحين أو لبعض الأنبياء دون أن يذكر اسما أو أن يحدد ماهية الكتاب السماوى الذى ينقل عنه. وبذلك جعل آراءه وحيا سماويا، أى جعلها دينا أرضيا ، وفق عادة مخترعى الأديان الأرضية. وهو إفك يهون الى جانبه إفك مسيلمة الكذّاب الذى لم يزد عن ادعاء النبوة فجاء أولئك يزعمون الألوهية والجلوس فى الحضرة الالهية ورؤية الله تعالى فى المنام وفى اليقظة وحلوله فيهم أو اتحادهم به. وهذا ما اجتهد الغزالى فى تسويغه فى مواضع شتى نثرها بدهاء شديد بين سطور (الأحياء ) مستعملا أكاذيب المنامات والوحى حتى اكتسب الوحى الصوفى مصداقية فى العصور التالية ولم يعد محلا للانكار.
بعد التسليم بمبدأ الوحى للولى الصوفى أصبح معتادا فى العصر المملوكى الاعتقاد فى قدرة ( المجاذيب ) أوالمختلين عقليا على محادثة الله تعالى بزعم أن عقولهم قد (جذبتها الحضرة الالهية). وبتكاثرمزاعم المنامات والهواتف وفى ادعاء المنامات والكرامات والهواتف جرؤ على انتحالها بعض الفقهاء المتأثرين بالتصوف. كان منهم السيوطى الذى لم يكتف بتزييف الأحاديث وانما كان يزعم أن رسول الله محمدا عليه السلام كان يسعى اليه فى اليقظة ليسأله عن الحديث والتفسير ويقول له : هات يا شيخ الحديث . وهذا ما ذكره الشعرانى عنه فى طبقاته الصغرى.
5 ـ و بتسيد التصوف السنى أصبح من لوازم الاعتقاد فى الشيخ الصوفى جرأته فى الشطح ـ أى سب الله تعالى ورسله الكرام ـ واشتهر بذلك مدعو الجنون من المجاذيب، و الجزء الثانى من الطبقات الكبرى للشعرانى حافل بتاريخهم. وكان يسعى الى التبرك بهم شيوخ الفقهاء والقضاة وهم أعمدة السنة فى دين التصوف السنى .
6 ـ وساعد على تردى الحال غياب فضيلة الأمر بالمعروف الاسلامية والنهى عن المنكر والتى تطرف الحنابلة فحوّلوها فى العصر العباسى الى إكراه فى الدين وتسلط على الناس واعتداء عليهم وتدخل فى حريتهم الشخصية وبها اضطهدوا مخالفيهم من الصوفية والشيعة وأهل الكتاب. جاء التصوف بتطرف مضاد وهو عدم الاعتراض وعدم الانكار، والتسليم لكل انسان بحاله. وبعقد الصلح بين التصوف والسنة لصالح التصوف فقد تم التخلى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى دين التصوف السنى وحل محله عدم الاعتراض وعدم الانكار فى الحياة الدينية والاجتماعية. وانتقل هذا الى الحياة العلمية والعقلية فتحول الاجتهاد الى تقليد وتحول التقليد فى العصر المملوكى الى جمود وتخلف فى العصر العثمانى. وبالتالى فقد أصبح البحث فى النواحى التى يتناقض فيها دينا التصوف والسنة من المحرمات. ومن يجرؤ على هذا من الفقهاء فمصيره الاضطهاد مهما بلغ شأنه ومهما كانت الحجج التى يستند اليها.
وهذا يفسر الاضطهاد الذى وقع على ابن تيمية ومدرسته.
وفى نفس الوقت فان أوباش الصوفية الذين يعلنون عقائد التصوف الأصلية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ـ على نسق الحلاج ـ كان مصيرهم أيضا المحاكمات والاتهام بالردة واحتمال القتل مالم يتظاهروا بالجذب .وأحيانا كان يتم الصفح عنهم بحجة الجنون. والتفاصيل فى بحثنا الذى صادره جهل الأزهر سنة 1979 ثم نشرته المحروسة فى القاهرة فى ثلاثة أجزاء سنة 2005 تحت عنوان ( الحياة الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف) .
أصناف شيوخ التصوف السنى :
ولقد أسفر دين التصوف السنى عن كتابة تراث مختلط متنوع ، بعضه ينتسب للتصوف فقط وآخر ينتمى للفقه فقط وثالث يجمع بينهما. هذا التراث ملأ مكتبة بغداد التى دمرها المغول سنة 658 ، ثم أعاد العصر المملوكى كتابة ذلك التراث والزيادة عليه وشرحه وتلخيصه والتعليق عليه.
الباحث فى هذا التراث لا بد له أولا أن يفهم الفوارق الأساسية بين أديان السنة والتشيع والتصوف ومصطلحات وعقائد وأدبيات كل منها قبل وبعد العصر المملوكى مع فهم كامل للخلفيات السياسية والاجتماعية لتلك الفترة الزمنية لأنها التربة التى نبتت وازدهرت فيها الحياة الدينية الواقعية للمسلمين ودينهم العملى وهو ( التصوف السنى ).
من يبحث كتب الحديث والعقائد والفقه الوعظى بدون ذلك الفهم لا بد أن تصيبه نعمة الجهل التى يتحلى بها الشيوخ فى الأزهر والباحثون الأفندية المترفون المتفرنجون .
ولتوضيح الأمر لدى الباحثين الجادّين فى التراث والعقائد الدينية للمسلمين فان أعلام التصوف السنى من الفقهاء و الصوفية ينقسمون الى فئات أربع حسب تاريخهم وتراثهم المكتوب :
1 ـ صوفية فقهاء: أى هم صوفية فى الأصل ولكنهم تخصصوا فى الفقه وبرزوا فيه ، وإنصبّ تراثهم وتاريخهم فى الدفاع عن التصوف وربطه بدين السنة ، وهاجموا صعاليك الصوفية فى عهدهم لسحب البساط من تحت أقدام الفقهاء السنيين المنكرين عليهم وحتى ينحصر الانكار على بعض الصوفية دون مساس بدين التصوف نفسه. بدأ هذا على استحياء بالقشيرى المتوفى (465 ) ثم توسع فيه الغزالى ( ت 505 ) وتزعمه الشعرانى 973 فى العصرين المملوكى والعثمانى.
2ـ فقهاء صوفية: وهم معظم القضاة ومعظم المؤرخين وعلماء الحديث والفقه الذين عملوا فى المؤسسات الصوفية ودانوا بالعقيدة الصوفية بدرجات متفاوتة دون جدال على نسق الاتباع والتقليد وفق قاعدة هذا ما وجدنا عليه آباءنا. والأمثلة كثيرة من ابن الحاج العبدرى 737 والذهبى 748 و السبكى 771 وابن خلدون 808 والمقريزى 845 وأبى المحاسن 874 وابن حجر 852 والعينى 855والسخاوى المؤرخ المحدث 902 والسيوطى ت 911 وزكريا الأنصارى رفيق السيوطى.
3 ـ صوفية فقط : يجمع بينهم كراهية الفقه المعبر عن دين السنة وفى المقابل كانوا يؤمنون بعقائدهم الصوفية من وحدة الوجود ( الاعتقاد بأن الله تعالى هو نفسه المخلوقات والمادة ) والاتحاد بالله تعالى و الحلول فيه وادعاء الالوهية. وكان العصر يسمح لهم بذلك اذا قالوها فى صورة شعرية أو تحت زعم الشطحات وغيبة العقل والوجد و " الحال الصوفى ". وكان أتباعهم يكتبون فيهم المدائح والمناقب ويؤلفون فى حقهم الكرامات .
أولئك الصوفية كانوا أنواعا شتى :
* نوع تبحر فى التصوف النظرى الفلسفى وقواعده ، مثل أبى مدين الغوث التلمسانى 594 و ابن عربى 638 وابن الفارض 632 و عبد الحق ابن سبعين 667 وعفيف الدين التلمسانى 690 والقاشانى 735 وابن عطاء السكندرى وعبد الكريم الجيلى وزروق الفاسى .. وكانوا قلة مالبث أن اختفت عندما عمّ الجهل وتسيد التصوف العملى القائم على انتشار الطرق الصوفية ودخول العوام فيها.
* نوع تخصص فى التصوف العملى بانشاء الطرق الصوفية وجمع الأتباع لأغراض سياسية أو دنيوية ،.والى هذا الصنف ينتمى كبار الأولياء الأولياء المقدسين حتى الآن مثل الرفاعى 578 و البدوى 675 والدسوقى 676 والشاذلى 656 ومحمد وفا 765 .. الخ
* ومنهم من كان مدعيا للجنون أو ( مجذوب ) أى جذب الله تعالى نفسه ليجلس فى الحضرة الالهية يينما يبقى جسده فى الأرض ، ومنهم من كان يفخر بأنه لا يقرأ ولا يكتب مثل الحنفى والفرغل والمنوفى و الخواص والدشطوطى . كل منهم كان يتحدث بالعلم اللدنى قائلا جهلا مركبا وخرافات ولكن كان أتباعه يكتبون فى مناقبه وكراماته كتبا خاصة مثل ( مناقب القطب الأمثل سيدى محمد الفرغل ) واسم (فرغلى) منسوب الى هذا الولى الأمى الموجود ضريحه فى صعيد مصر يحظى بالتقديس حتى الآن ، و ( السّر الصفى فى مناقب سيدى الحنفى ) تأليف الشيخ البتنونى و ( مناقب سيدى المنوفى ) لابن اسحاق خليل المالكى. أو يكتب بعضهم فى مناقب الأولياء ضمن ما عرف فى العصر المملوكى بكتب المزارات التى كانت كالدليل السياحى لمن يزور الترب ومقابر الأولياء ، ويعطى تاريخا لبعض الأولياء الموتى وكراماتهم ، كما فعل ابن الزيات 814 فى كتابه ( الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة ) والسخاوى الصوفى 900فى كتابه ( تحفة الأحباب ).
أو يجمعونهم فى تراجم عامة مثلما فعل الشعرانى فى ترجمة مشاهير الأولياء فى ( الطبقات الكبرى) و ( الطبقات الصغرى )وعلى مثاله كتب له المناوى 1031 طبقاته الكبرى والصغرى.
4 ـ فقهاء فقط ، وكلهم حنابلة .
مثل ابن الجوزى 597 ابن تيمية 728 وابن القيم الجوزية 751 وابن كثير774 ثم البقاعى 885. هؤلاء رفضوا السلبية وعدم الاعتراض ، وأحيوا الانكار الحنبلى القديم . إلا أنهم انكروا فقط على شيوخ التصوف المعاصرين لهم مع الاحترام للصوفية السابقين والتسليم بدين التصوف نفسه منخدعين بمقالة الجنيد سيد الطائفة الصوفية الذى ربط التصوف بالسنة.هؤلاء الفقهاء الحنابلة اصطدموا بالفكر السائد فى عصرهم وحاولوا اعلاء شأن الجزء السنى على الجزء الصوفى فى منظومة التصوف السنى ، فكان نصيبهم الاضطهاد مع علو قدرهم علميا واجتماعيا.

اضطهاد ابن تيمية في العصر المملوكي :

بدأت محاكمة ابن تيمية حين احتج علي كتاب الفصوص لابن عربي الذي يصرح بعقيدة الصوفية في وحدة الوجود أو انه لا فارق بين الله والكون ،وكان ذلك في شهر رجب 705هـ في الشام ، وكان الشام تابعا للسلطنة المملوكية ،وكان السلطان الفعلي وقتها بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الحكم من السلطان الشرعي محمد بن قلاوون ،وكان ابن تيمية باعتباره اكبر فقهاء عصره يؤيد حق الملك الشرعي ومن هنا كان الجاشنكير غاضبا عليه فأيد الصوفية في اضطهاده .
ثم عقدت لأبن تيمية محاكمة اخرى في مصر حيث اعتقلوه في جب القلعة وارادوا الحكم بقتله ،وانصبت محاكمته حول امور فقهية لأن خصومه منعوه من مناقشة عقائد ابن عربي خوف الفضيحة، ومع ذلك ارادوا الحكم بقتل ابن تيمية في تلك الخلافات الفقهية اليسيرة . واثناء اعتقاله في السجن حاولوا الحصول علي اعترافه بعقائدهم ويعرضون عليه الصلح والافراج ولكنه رفض ، وفي النهاية افرجوا عنه ونفوه الي الاسكندرية علي امل ان يقتله اعداؤه فيها ، الا انه صار له اتباع في الاسكندرية ، ثم اطلق بيبرس الجاشنكير سراحه . واستمرت المناوشات بينه وبين الصوفية حتي انهم عادوا لمحاكمته وسلطوا عليه سفهاءهم فضربوه والحوا علي السلطان في سجنه فسجنه.
واسقطت ثورة شعبية مصرية السلطان الجاشنكير و قد تخلى الصوفية والجند عن الجاشنكير فهرب وجئ بالسلطان الشرعي محمد بن قلاوون صديق ابن تيمية، وكان وقتها ابن تيمية معتقلا . وأعدالصوفية العدة لإستقبال السلطان الناصر محمد الذي سبق وان تخلوا عنه من قبل ليستعيدوا مكانتهم عنده وليكفروا عن تخليهم عنه من قبل.
وصحيح ان السلطان الناصر محمد بن قلاوون افرج عن ابن تيمية واتباعه واكرمه وجعل ابن تيمية مستشارا له ، الا ان السلطان الجديد استجاب لدسائس شيوخ الصوفية ، وكانت لديه هواجسه من شخصية ابن تيمية وكثرة اتباعه وشدته فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر،فصدق الاشاعات الصوفية عن الطموح السياسى لابن تيمية. وكان الناصر محمد بن قلاوون قد تعلم الكثير من عزله مرتين من السلطة ، ويريد الاحتفاظ بسلطنته الثالثة مستبدا بدون أى نقد لذا انحاز الي الصوفية مضحيا بصديقه القديم ابن تيمية ، فاقام للصوفية اكبر خانقاه وهي خانقاه سرياقوس وافتتحها في حفل جامع سنة 725هـ ، وفي السنة التالية امر باعتقال صديقه القديم ابن تيمية بسبب فتوي سابقة له عن تحريم زيارة القبور.
وحمل الاعتقال الاخير لابن تيمية كل الحقد الصوفي عليه ،اذ كان يفرح بالسجن حيث يتفرغ للعبادة والتأليف ، الا ان خصومة الصوفية في سجنه الاخير منعوه من الكتابة، مما اثر تأثيرا سيئا علي نفسيته فمات بعد عامين من السجن سنة 728هـ 1327م .

اثر الاضطهاد في حدة ابن تيمية في الافتاء بالقتل والتكفير :

وانعكس هذا الاضطهاد علي فكر ابن تيمية فكان اكثر حدة في التكفير لخصومه واكثر جرأة في الافتاء بقتلهم . و بنظرة سريعة الي فتاوى ابن تيميه نراه يوزع القتل علي كل من يخالفه في الرأي حتي خارج الصوفية ، فصاحب البدعة يقتل ، وما اسهل ان ترمي كل فرقة الاخرى بأنها صاحبة بدعة ،واذا عرفنا تنوع التدين لدي المسلمين ادركنا ان هذه الفتوى اذا ما تم تطبيقها لكانت قتلا للجميع بنفس الاتهام ،ويفتي ابن تيمية ايضا بقتل المسلم الذي يجهر بالنية في الصلاة حتي لو كان يعتقد ان جهره بالنية يأمره به الله تعالي ،ويفتي بقتل المسلم الذي لا يلتزم بآداء الصلاة في وقتها او يؤخر صلاة الفجر الي بعد طلوع الشمس او يؤخر صلاة الظهر والعصر الي بعد غروب الشمس ، ويفتي بقتل المسلم الذي يحضر المسجد ولا يشارك في صلاة الجماعة ، وفي كل ذلك يشترط ابن تيمية استتابة المتهم فان تاب والا قتل. الاخطر من ذلك كله انه يفتي بقتل أي مسلم بدعوى انه منافق يبطن الكفر ويظهر الاسلام ،أى يعطى الحجة لأي فرد لكي يقتل من يشاء من المسلمين بتهمة انه منافق ودون استتابة ،يقول ابن تيمية (اما قتل من اظهر الاسلام وابطل الكفر فهو المنافق الذي يسميه الفقهاء بالزنديق فأكثر الفقهاء علي انه يقتل وان تاب )

اضطهاد الفقيه البقاعي
اجهض الصوفية حركة الفقيه البقاعي سنة 875هـ في سلطنة قايتباي المملوكي أي بعد موت ابن تيمية بنحو قرن ونصف القرن،و قد ترسم البقاعي طريق ابن تيمية في الانكار علي المتطرفين الصرحاء من شيوخ التصوف ، فقد هاجم ابن عربي وابن الفارض وله في ذلك كتابان (تنبيه الغبي الي تكفير ابن عربي )(تحذير العباد من اهل العناد القائلين بالاتحاد )وقد اذاع انتقاده وتكفيره للشيخين المقدسين ابن عربي وابن الفارض اللذين ماتا قبل البقاعي بنحو قرنين ونصف القرن .فاضطهد الصوفية الشيخ البقاعي الي ان جعلوه يغادر مصر الي سورية. ولحقت كراهيتهم بمؤلفاته وتاريخه (تاريخ البقاعي )فلا تزال في معظمها اسيرة النسيان المتعمد والسرقة والتحريف مع انه سبق عصره في اجتهاد مبتكر في علم التفسير .

تسيد دين التصوف السنى للعصر العثماني:
1 ـ أضحي التصوف السنى أكثر تسيدا وسيطرة فى العصر العثماني، فجعله اكثر تخلفامن سابقه العصر المملوكى. وفى الوقت الذى كانت تنهض فيه أوربا وتكتشف العالم كان يجتهد ارباب التصوف مثل الشيخ عبد الوهاب الشعراني في نشر الخرافة واكاذيب الكرامات في جرأة يسمح بها عصره ،ويكتب في ذلك مؤلفات ضخمة مثل(لطائف المنن الكبري) وهو ملئ بالحديث عن مناقبه وكراماته وخرافاته وكيف أن من كراماته طىّ المكان والزمان والابحار حول العالم تحت الأرض وفوق البحاروالسحاب فى طرفة عين. وفي مؤلفاته الكثيرة يضع قواعد النفاق للحاكم والتسليم للشيوخ وعدم الاعتراض عليهم مهما قالوا. وقد ادرك الشعراني العصر المملوكي وفتح العثمانيين لمصر . وظل نفوذه الفكري سائدا يسوغ التخلف ويؤطّر للتصوف السنى وخرافاته بينما تتقدم أوربا وتكتشف العالم الجديد وتستعمر العالم القديم ، الى أن صحا المصريون على مدافع نابليون تدك الأزهر، عندها هرع الشيوخ الى مواجهة المدافع الفرنسية بقراءة كتابين من الأسفار المقدسة للتصوف السنى وهما البخارى ( عن السنة ) و( دلائل الخيرات ) عن التصوف.
من حسن الحظ أن عاش الجبرتى يؤرخ لهذه الفترة. ويتضح من كتاباته أن التصوف السنى ظل سائدا ومسيطرا برغم أن مدافعه الثقيلة ( البخارى ودلائل الخيرات ) لم تصمد أمام نابليون.
2 ـ كانت الحياة الاجتماعية والدينية فى العصر العثمانى خاملة لا تنبض فيها الحيوية الا حول القبور المقدسة وشيوخ التصوف الأحياء. تمركز العصر العثمانىحول التبرك بالأولياء الأحياء وتقديس قبور الأموات منهم واقامة الموالد حولها وفقا للتصوف السنى الذى كان نجومه العلماء والفقهاء وشيوخ الصوفية معا ، وحيث كانت الموالد والأضرحة ـ ولا تزال ـ تجمع مظاهر الشرك مع الانحلال الخلقى فى نفس المكان والزمان. وهو نفس ما يحدث الآن فى مولد البدوى ومولد الحسين ومولد السيدة زينب فى مصر. وننصحكم ألا تذهبوا الى هناك . .
يقول الجبرتى فى التعريف بأحد شيوخ الصوفية المعاصرين له:( الشيخ الإمـام المعمـر القطـب أحـد مشايـخ الطريـق صاحـب الكرامـات الظاهـرة والأنـوار الساطعة الباهرة عبد الوهاب بن عبد السلام ...) هذه أوصاف التقديس المعتادة لأولياء التصوف.
وبعد سرد مناقبه كالمعتاد يقول عن موته ودفنه (.. توفي في ثاني عشر صفر سنة 172 1 ودفن بجوار سيدي عبد الله المنوفي)
ثم يذكر الجبرتى ما حدث لقبره بعد موته : ( ونزل سيل عظيم وذلك في سنة 1178 فهدم القبور وعامـت الأمـوات ، فانهـدم قبـره وامتـلأ بالمـاء ) الذى حدث يثبت أنه لا كرامةله أو لقبره ولا لأى قبر طالما يقدر السيل على ازالتها وبعثرة عظامها ، ولكن يحدث العكس ،اذ يحل التقديس بالقبر الذى تلاشى والعظام التى ألقاها السيل. يقول الجبرتى ( فاجتمـع أولاده ومريـدوه وبنـوا لـه قبـرًا في العلوة على يمين تربة الشيخ المنوفي ، ونقلوه إليه قريبا من عمارة السلطان قايتباي، وبنوا على قبره قبة معقودة،وعملوا له مقصورة ومقاما من داخلها وعليه عمامة كبيرة،) أى تحول القبر من عهن منفوش الى ضريح مفروش لهدف نلمحه بين السطور ، فالذين أقاموا هذا المعبد المقدس هم أبناء الفقيد الراحل وتلاميذه، أى هى تجارة رائجة. لا يستلزم الأمر سوى الصلة ببعض الوجهاء ممن يعتقدون فى القبور المصنوعة.
هذا ما يفسره قول الجبرتى : ( وصيروه مزارا عظيمًا يقصد للزيارة ويختلـط بـه الرجـال والنسـاء‏.‏ ثـم أنشـأوا بجانبه قصرًا عاليًا عمره محمد كتخدا اباظة)
وفى مقابل بناء المعبد الجديد هدموا قبورا أخرى لآلهة قديمة فقدت الشهرة والأتباع . يقول الجبرتى عن المكان الذى خصصوه للدواب والحمير انه كان قبلها موضع قبور لآلهة أخرى (وسوروا له رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير، دثروا بها قبورا كثيرة بها كثير من أكابـر الأوليـاء والعلمـاء والمحدثيـن غيرهـم مـن المسلميـن والمسلمـات‏.)
بعدها يأتى المقصود وهو اقامة مولد وما يعنيه المولد من قرابين و نذور وولائم وموائد. يقول الجبرتى (‏ ثـم أنهـم أبتدعـوا له موسمًا وعيدًا في كل سنة، يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحريـة،) أى يأتى الفلاحون والأعيان من الصعيد والوجه البحرى للتبرك .
يقول الجبرتى عنهم ( فينصبـون خيامـًا كثيـرة وصواويـن ومطابخ وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأربـاب الملاهـي والملاعـب والغـوازي والبغايـا والقراديـن والحـواة) فطالما جاءت الزبائن فلا بد أن يأتى من يقوم بالترفيه عنهم من الفنانين والعاهرات ... و.. مدد يا صاحب المولد !!
ويصف الجبرتى الأعمال الخيرية والعبادات العملية لدين التصوف السنى التى كان ينهمك فيها أولئك الحجاج الأبرار فى المولد، فيقول عن حجاج المولد ( فيملأون الصحراء والبستان فيطـأون القبـور يوقـدون عليهـا النيـران ويصبـون عليها القاذورات ، ويبولون، ويتغوطون، ويزنون ، ويلوطون، ويلعبون، ويرقصون، ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهارًا، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر،) هذه هى صلواتهم ونسكهم وقيامهم بالليل... لواط وزنا جماعى لا يعرف القيود أو الحدود..
ويأتى سؤال بسيط : أين هم العلماء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ الجواب أيضا بسيط: كانوا القادة والأئمة فى حفلات الزنا واللواط . يقول الجبرتى كأنه يعرف السؤال مقدما : ( ويجتمع لذلك أيضًا الفقهاء والعلماء، وينصبون لهم خيامًا أيضًا، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة، من غير إنكار،)
سؤال آخر بسيط : لماذا لا يتصدى العلماء للاصلاح ؟ لماذا كانوا الأئمة فى الفسوق وفى الدعوة له ؟ الجواب بنفس البساطة : لأنهم اعتبروا الفسوق دينا وفق طقوس التصوف السنى. وكأن الجبرتى يعرف السؤال مقدما فقال عنهم : ( بل ويعتقدون ذلك قربة وعبادة‏.‏ ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلا عن كونهم يفعلونه ، فالله يتولى هدانا أجمعين‏.‏(
هذا هو التطبيق العملى للدين السنى وشريعته بغض النظر عن المكتوب فى كتب الفقه النظرى التى تتحدث فى الهواء بعيدا عن الواقع.
وبعض السطحيين يتحسر لأن دعوة الاسلام لم تصل الى القطب الشمالى والقطب الجنوبى ومجاهل الأمازون وفيافى أفريقيا..ولو تعقل لأدرك أن المسلمين بأديانهم الأرضية هم الأحوج لمعرفة الاسلام ، وانه لا بد للتبشير بالاسلام بين المسلمين أولا وأخيرا، ويكفى أن الاسلام بهم قد أضحى متهما بالارهاب فى هذا العصر بعد أن كان متهما بالتخلف والجمود والخرافة فى العصر العثمانى.

نعم ... فقد ظهرت الوهابية تحديا لدين التصوف السنى القائم على عدم الاعتراض وعدم الانكار؛ جاءت الوهابية ترفع لواء الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالطريقة الحنبلية ، بل تتطرف ـ فى عصرنا عصر حقوق الانسان ـ أكثر من حنابلة العصر العباسى . أقامت الوهابية دولا وحركات سرية كالاخوان المسلمين تطبق بالسيف والدم رؤيتها للأمر بالمعروف والنهى المنكر ، طبقا لحديث (من رأى منكم منكرا فليغيره ..) وهو الحديث الذى وضعه الحنابلة فى عهد الخليفة الواثق العباسى .

3 ـ وهذا يستحق بحثا مفصلا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية .
اجمالي القراءات 26819