الأبوية والديموقراطية

كمال غبريال في الإثنين ٠٥ - نوفمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

الديموقراطية في فكرتها الأساسية التي بدأت في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد هي آلية لاتخاذ القرارات العامة، عن طريق تصويت مجموع المواطنين المعتبرين وفق معايير ذلك العصر ممن يتأثرون بالقرار، بدلاً من الاعتماد على رأي فردي لحاكم أو حكيم، ويتأسس التقييم الإيجابي لهذا المنهج في اتخاذ القرارات على دعامتين أساسيتين، أولهما ضمان أقصى درجة ممكنة من الرضاء العام لمن سيتأثرون بالقرارات، وثانيهما أن القرار الذي يصدر عن مجموع لابد وأن يكون أكثر اقتراباً من الصواب من ذاك الذي يصدر عن فرد واحد مهما بلغت حكمته، وكلما زاد عدد المصوتين لصالح القرار كلما تيقنا أكثر من صواب ما توصلنا إليه، ومن هنا راجت فكرة الديموقراطية بتوالي العصور، حتى صار المصطلح أيقونة للحرية والتقدم واحترام إنسانية الإنسان.
ورغم أن ما أوردناه عاليه من مزايا الديموقراطية لا يجب أخذه ببساطة وبصورة مطلقة على أنه كامل الصحة في جميع الحالات والأحوال، وأن فيما نتصوره إيجابيات مآخذ خطيرة يمكن أن تكون قاتلة في بعض الأحيان، إلا أن هذا ليس موضوع مقاربتنا هذه، وربما نتعرض لهذا الأمر في فرصة أخرى، لكننا سنذهب هنا مع التقييم الإيجابي المطلق للديموقراطية، تظاهرنا حقيقة عملية هي أننا ربما لن نجد أبداً نظاماً إنسانياً مثالياً وخالياً تماماً من أي عيوب أو شبهة سلبيات، وأن الديموقراطية بما لحق بمفهومها من محمولات بعد بداياتها البسيطة الأولى هي أفضل ما توصل إليه الإنسان حتى الآن.
جاءت الديموقراطية كوريثة لنظم حكم أبوية وديكتاتورية، كان الحاكم فيها يلعب دور الأب أو المالك لكل الإقليم بما عليه ومن عليه، وتلعب الجماهير دور الأبناء أو الرعية، التي تنتظر من الأب المالك الراعي أن يوردها مواضع الكلأ والماء، وهذا بالتحديد ما كان الأب والراعي يتعهد به للناس، وكان الفشل في تحقيقه، أي الفشل في تحقيق السعادة والعدل والرفاهية للشعب يعني أن القائد فاشل وسيء، وكان على الجماهير بداية أن تكثف دعواتها وتمنياتها له بالهداية إلى الطريق المستقيم، وإذا ما تفاقم فشله تنتقل الى تمني موته ليرثه من هو أفضل منه، ثم تطورت نظرة الناس إلى الحاكم من قدر إلهي مفروض عليهم، يعد الخروج عليه خروجاً على مشيئة الله وطاعته، إلى النظر إليه بوصفه معيناً من قبل الجماهير لأداء وظيفة معينة، فإذا ما فشل فيها يحق لهم تغييره، سواء بطريقة الانتخاب الديموقراطي أو بالثورة عليه واستبداله عنوة، بقدر أو بآخر من العنف الذي يصل في بعض الحالات إلى سفك أنهار من الدماء.
إلى هنا ورغم ما طرأ على المفاهيم السياسية من تطورات جوهرية وخطيرة، وكان مفهوم "الديموقراطية" فيها بمثابة لؤلوة التاج التي ينبهر بها وتسعى للحصول عليها جميع الشعوب، إلا أن الأمر ظل في حدود أن الحاكم أياً كانت طريقة وصوله للسلطة هو المسؤول الأوحد عن مصير شعبه، أي بقيت الجماهير في نظر نفسها محصورة في دور الرعية، أي في دور المتلقي السلبي، وفي أحسن الأحوال ديموقراطية ترى الجماهير إذا ما ساءت الأحوال أن الحاكم قد انحرف بعدما أوصله الاختيار الشعبي إلى سدة الحكم، أو على أقصى تقدير أن الجماهير قد أخطأت في خيارها، وأن عليها وقد تدهورت أحوالها أن تختار بديلاً صالحاً للحكم. . ما نريد قوله أن النظرة "الأبوية" لنظام الحكم بقيت طويلاً بعد البدايات الديموقراطية الأولى في أثينا، وانحصر التطور في كيفية وصول شخص محدد إلى مرتبة حاكم أو قائد أو أب "بطريرك"، إن كان بالتوريث أو بالقوة العسكرية أو باختيار شعبي كهذا الذي شهدنا عينة منه في دول ما سمي بالربيع العربي، وما تصورته إدارة الدولة الأعظم في عصرنا وكأنه "الديموقراطية" الحديثة التي نسعى إليها جميعاً.
هنا يحضرني قول شاعرنا نزار قباني "خلاصة القضية توجز في عبارة قد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية". . فهناك في شمال العالم حدثت تطورات أخرى للمحمول السياسي والاجتماعي لمصطلح "ديموقراطية"، فقد خرج من بين الشعب الفرنسي في القرن الثامن عشر مفكرو عصر الأنوار، الذين نَظَّروا للروح الجديدة لشعوبهم (ولم يفرضوها عليهم من أبراجهم الفلسفية المتعالية)، وقوامها أن "الإنسان الفرد سيد مصيره"، وأنه لم يعد مجرد رعية تسند خير أو شر أحوالها إلى حاكم أو أب هو المسؤول وحده، وإنما هي شريكة له في المسئولية، وأن الحاكم شريراً كان أم خيراً مسؤول عن إدارة العناصر والمكونات المتوفرة لديه في الساحة، وأهم مكونات الساحة هم الجماهير ذاتها، وأن توفيق الجماهير أو فشلها في اختيار الحاكم الصالح هو جزء وليس كل مسئوليتها تجاه نفسها ووطنها.

بالتأكيد الحاكم وبطانته لهم دور كبير في تقرير مصير أي شعب، من حيث حسن سياسة وإدارة حياته وموارده، لكن من المؤكد أيضاً أن الأمم العظيمة المتقدمة لم تصبح كذلك لمجرد حسن اختيارها لقادتها من حيث شخصياتهم وأخلاقهم ومؤهلاتهم التي تجعلهم ممتلكين لمقومات ما يعهد إليهم من مهام، ولكن أيضاً لأن الشعب "الشريك في المسئولية" يمتلك مقومات صناعة حضارة وتقدم وتنمية.
لو انتقلنا من التعميم للتشخيص نستطيع أن نرصد أن شعوب ما سمي "الربيع العربي" التي ثارت على حكامها قد انتفضت لتبدل حكامها وهي محكومة بذات الرؤية الأبوية لنظم الحكم، هي ذات الرؤية التي خضعت بموجبها للعسكر الذين وصلوا للحكم عبر انقلاباتهم العسكرية، أو الذين وصلوا بالوراثة أو عبر مظاهر ديموقراطية مزيفة، لكنهم جميعاً وعدوا شعوبهم "بالأبوية" الحانية الصالحة، وبقيت الشعوب مقتنعة بمركز "القطيع"الذي ينتظر تنفيذ "الراعي" لوعوده، حتى ضاق بها الحال فانفجرت لتأتي برعاة جدد تتوسم فيهم التقوى والصلاح.
لو انتقلنا للحالة المصرية تحديداً بعد "ربيع" أو "شتاء" 25 يناير 2011 سنجد ما يمكن تسميته ولو مجازاً "مأساة الديموقراطية" مركبة، سنجد سوء اختيار الجماهير للحاكم الذي لا يمتلك أي من مقومات حكم دولة حديثة، ذاك الذي تحكمه تصورات القبيلة والعشيرة المفارقة للزمان والمكان والأحوال، كما نجد أيضاً التزام الجماهير برؤيتها السلبية لذاتها ولدورها في تقرير مصيرها، وقد ذهبت أصواتها ليس لمن يعرض عليها ما اقتنعت به من رؤية نهضوية تشارك هي فيها بنصيبها، وإنما لمن لوحوا لها بشعارات مبهمة لا يفهم منها أكثر من ادعاء مطلقيها الصلاح والتقوى باعتبارهم هم الممثلين الحقيقيين لله على الأرض، وأن السيادة والحكم والتشريع هو لله، وهذا معناه الوحيد أن تلزم الجماهير بعد توليهم مكانها وأحوالها منتظرة "المن والسلوى" تهبط عليها من السماء، وأن أقصى المطلوب منها الالتزام بأوامر ونواه "دينية تقوية وطقوسية" ترضي الإله فيغدق عليهم بركاته.

هكذا لا مجال للأمل في مستقبل أفضل عن طريق ادراك الجماهير فقط لخطأها في اختيار جماعة الإخوان المسلمين كحكام، إذا ما بقيت ذات النظرة "الأبوية" لدور الحاكم و"الرعوية" لدور الشعب، فهي هكذا قد تذهب كما حدث بالفعل في الانتخابات الرئاسية إلى من يعدها بأب آخر مثيل لذاك "الأب" عبد الناصر الذي أشبع ذات الشعب فشلاً وخيبات، وحتى إن ذهبت لبديل ليبرالي حداثي مثل د. البرادعي أو الفريق/ أحمد شفيق، فسوف يتحقق حسن اختيار الحاكم، فيما يبقى الوزن الأكبر للمعادلة السياسية والحضارية المصرية وهو الشعب على حاله، منتظراً هبوط "المن والسلوى" من السماء أو من قصر الرئاسة .!!

اجمالي القراءات 6786