لمجرد التذكرة : كيف نفهم القرآن الكريم ؟

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٦ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لمجرد التذكرة : كيف نفهم القرآن الكريم؟               

بوصول السلفيين الوهابيين إزداد تحريف الاسلام وانتشر لصالح شريعتهم التى يريدون فرضها بالدستور المصرى . وفى سبيل ذلك  يحاولون تهميش القرآن ولا يملّون من وصم الدعاة الى الاحتكام اليه بتهم أبسطها ( إنكار السّنة ) . ونرد عليهم بمشروع جامعة أهل القرآن . ومن أهدافها توثيق الصلة بين المسلمين وكتابهم العزيز الذى إتّخذوه مهجورا. وهنا نتوقف مع كيفية فهم القرآن . بتجميع هذا المقال من مقالات سبق نشرها . وهذا لمجرد التذكير .

1 ـ ( إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم )

القرآن الكريم كتاب الهداية.

القرآن الكريم ليس كتابا متخصصا فى العلم أو التاريخ أوالتشريع. ولكنه أساسا كتاب فى الهداية. ومن خلال دعوته للهداية يأتى القصص القرآنى لا يهتم بتفصيلات الحدث من الزمان والمكان وأسماء الأشخاص ، ولكن يركز على العبرة طلبا للهداية. ومن خلال الهداية تأتى بعض الاشارات العلمية لتؤكد سبق القرآن الكريم لعصره وكل عصر ، واستحالة أن يكون من تأليف بشر،ثم تتحدث هذه الاشارات العلمية القرآنية عن عظمة آلاء الخالق جل وعلا واستحالة أن يكون معه مثيل أو نظير أو شريك.وهناك نظام تشريعى فريد فى القرآن الكريم ولكنه موصول بالتقوى وهى أعظم دلائل الهداية. وبالتقوى يتميز التشريع القرآنى ويعلو عن كل تشريع بشرى. لأن التقوى فى آيات القرآن التشريعية تجعل الانسان حكما على نفسه ورقيبا عليها يخشى الله تعالى بالغيب ويحاسب نفسه قبل ان يحاسبه القانون.

وهداية القرآن الكريم جاءت فى آخر رسالة سماوية أصبح بها خاتم النبيين محمد عليه السلام نذيرا للعالمين ورحمة للعالمين. أى إنه مع موته ـ كأى بشر ـ إلا إن القرآن الكريم الذى أبلغه والذى يتولى الله تعالى حفظه سيظل رسالة الهداية الى قيام الساعة؛لذا يقول تعالى عن القرآن الكريم (إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ) الاسراء 9 )وإذن لماذا لا يهتدى البشر ؟ الاجابة فى القرآن الكريم نفسه.

فالهداية لها طرفان: الانسان والقرآن. وهذه الهداية تبدأ باختيار الإنسان وهو الطرف الأول هنا،فالانسان يفكر بعقله مهتديا بفطرته السليمة يحاول الوصول الي الحق بموضوعية ،وعلي اساس هذا الاختيار الانساني للهداية يرشده الله تعالي الي الهداية ،أي تأتي مشيئة الله للهداية تالية ومؤكدة لمشيئة الانسان واختياره طريق الهداية ،وفي ذلك يقول الله تعالى ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى :مريم 76)ويقول(والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم :محمد 17)وفي المقابل فأن الذي يختار الضلال تأتي مشيئة الله تؤكد علي الذي اختاره من ضلال (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : مريم 75)(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا :البقرة 10)وفي الحالتين فان من يشاء  الهداية يشاء الله هدايته  ،ومن يشاء الضلالة يشاء الله ضلالته ،يقول الله تعالي (فان الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات :فاطر 8)(قل ان الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب :الرعد 27 ).

باختصار فان الهداية تتوقف علي مشيئة الانسان وارادته الحرة .الانسان هو الذي يقرر ويشاء الهداية وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا القرار.وقد يستلزم هذا الاختيار جهادا ونضالا ،وتكون هداية الله قريبة من هذا الجهاد ،يقول تعالي ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين :العنكبوت69). لذا فإن من يشأ الهداية فأمامه القرآن الكريم شريطة أن يكون مخلصا فى أن يهتدى بالقرآن. أى يبدأ هو بالاستعداد المخلص والمطلق لاتباع ما يرضى الله تعالى ، عندها يكون القرآن الكريم هداية له، أو كما قال تعالى ( يهدى به الله من اتبع رضوانه )أى عليك اولا أن تنوى مخلصا رضى الله تعالى وتتوجه للقرآن ، عندها تأتيك الهداية من القرآن.

2 ـ ( يهدى به الله من اتبع رضوانه )

شرط الهداية القرآنية.

الهداية ليست سهلة فى عصر سيطرت عليه الغواية ولبس فيه الباطل ثوب الحق وأصبح الحق فيه خفيا مطاردا ، لذا ارتبط التواصى بالحق مع التواصى بالصبر فى سورة العصر ، وهى أصغر سورة قرآنية ومع ذلك أوجزت الاسلام والجهاد فى سبيله وجزاء من جاهد ومن عاند. قد يكون الوصول للحق صعبا ولكن التمسك به هو الأصعب الذى لا بد فيه من الصبر، والوصول للحق القرآنى والتمسك به هو الهداية.

هناك جزءمن الهداية يقع تحت سيطرة الانسان إن أراد. واذا توفر هذا الجزء فقد ضمن أن تأتى هداية الله تعالى مؤكدة لمن ملأ قلبه رغبة مخلصة فى الهداية. أى إن المشكلة داخلنا. هل نقبل التضحية بمعتقدات موروثة تخالف القرآن أم أن نقوم بتحريف معانى القرآن والتلاعب بآياته وتجاهل بعضها تمسكا بتلك الموروثات والعقائد ؟

البحث فى القرآن العزيز لا بد له من التأهل علميا وايمانيا. .التأهل ايمانيا بالاعتقاد الجازم بأنه القرآن وكفى فى مجال الاسلام وما يختص به عقيدة وشريعة. لا يمكن أن ينفع فى البحث القرآنى من يجعل بينه وبين القرآن حجابا من كلام ما يسمى بالتفسير وأحكام الفقه والنسخ والتأويل وسائر التراث الذى اكتسب قداسة على حساب القرآن الكريم. التاهل ايمانيا لدراسة القرآن يعنى أن تكون مستعدا لتغيير كل حياتك وفكرك ومعتقداتك وعلاقاتك إذا تعارضت مع آية قرآنية واحدة. وأن تضحى بكل المتوارث من العقائد والأفكار والثوابت طالما تعارض آية واحدة فى القرآن ، وأن تقبل على القرآن تطلب الهداية بدون أى فكرة مسبقة ودون أى نية إلا معرفة ما يقوله رب العزة فى القرآن  طالبا الهداية به وحده. ما عدا ذلك فأنت فى ضلال. وأشد الضلال أن تستخدم القرآن نفسه فى إضلال الناس. وأنت حرّ بين أن تختار بين هذا وذاك. والآخرة تنتظرك.

3 ـ ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا )

الباحث فى القرآن بين الهداية والضلال.

نحن ـ المسلمين ـ ندعو الله تعالى سبع عشرة مرة يوميا فى الصلاة قائلين ( اهدنا الصراط المستقيم ) ومعظمنا يعبد الأضرحة ويعتبر ذلك الصراط المستقيم ، وبعضنا يقدس البشر والحجر والأسفار التراثية ويعتبر ذلك تمام الهداية. واذا قرأ ما جاء فى هذا الكتاب من آيات قرآنية تخالف ما وجدنا عليه آباءنا ثار وتمسك بالتراث المخالف لكتاب الله تعالى . وأكثرية السابقين واللاحقين دخلوا على القرآن الكريم باهوائهم ينتقون منه ما يوافق أهواءهم ومذاهبهم ، وبدلا من أن يضعوا القرآن إماما لهم أخضعوه لآراء مسبقة ولأحاديث بشرية ملفقة ، وما لم يوافقهم فى القرآن تجاهلوه أو حرفوا معناه بزعم التفسير والتأويل أو  قالوا إنه منسوخ بمعنى باطل الحكم ملغى العمل به ، وجعلوا من القرآن ما يلغى بعضه بعضا ، ثم جعلوا من كلامهم الذى نسبوه ظلما لخاتم النبيين محمد عليه السلام ما يلغى أحكام القرآن الكريم  فزعموا أن السنة تنسخ القرآن !!.

اذن فالقرآن الكريم معنا ، ومع ذلك فلم نزدد به الا ضلالا. تلاعبنا بآياته طبقا لأهوائنا فازددنا ضلالا بالقرآن الذى ما قدرناه حق قدره.

أنزل الله تعالى القرآن ليهدى للتى هى أقوم، ولم ينزل معه ملائكة ترغم الناس على الايمان به والعمل بمقتضاه ، بل تركهم أحرارا فمن شاء فليؤمن به ومن شاء فليكفر به ، وهناك من يلحد به ، ومن يتخذ آياته هزوا . والله تعالى تحدث عن كل أولئك سلفا ، وأوضح ما ينتظرهم من عذاب الاخرة. إلا إن أفظع ظلم للقرآن هو استخدمه ـ وهو كتاب الهداية ـ  فى الاضلال. لا يكتفى الضال بأن يكون ضالا بل يستخدم آيات الله تعالى فىاضلال الغير ، مستخدما براعته فى التاليف وفى التلاعب بالآيات وخلط الأوراق ـ ويضل الناس قائلا ( قال الله تعالى )!!

هذا الصنف الظالم يزداد بالقرآن خسارة ، يقول تعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا ) ( الاسراء 82 ) أى فهم فى الأصل والبداية ظالمون ، ودخلوا على القرآن الكريم وهم يحتفظون فى قلوبهم بهذا الظلم، وبهذا الظلم قرءوا آياته ، وبه أخرجوا دراساتهم وأبحاثهم وكتبوا أسفارهم لكى ينشئوا مشروعية لعقائدهم و موروثاتهم باسم الاسلام وباستخدام القرآن . وأفظع انواع الظلم هو الظلم لله تعالى ، ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( لقمان 13 ) وهكذا بينما يدخل المؤمن على القرآن طالبا الهداية حريصا عليها فيكون القرآن له شفاء وهدى فان الآخر يظل محتفظا بحجاب سميك بينه وبين القرآن ، يتمثل فى تلك الأكاذيب المتوارثة وما وجدنا عليه آباءنا، والتى من أجلها يلوى عنق الآيات و يتلاعب بها بين نسخ وتأويل وتفسير وحديث . لا ننتظر منه الا ما قاله رب العزة جل وعلا ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون فى آذانهم وقر وهو عليهم عمى  ) ( فصلت 44 ).

يدخل ظالما على القرآن فيزداد به ظلما وخسارة.

ولا يزيد الظالمين الا خسارا

هذا الصنف الظالم لله تعالى الذى يحترف إضلال الناس لا يمكن أن يهتدى مطلقا لأن له تاريخا فى الاضلال ومكانة اكتسبها من سعيه فى اضلال الناس وصده عن سبيل الله ، وهو يستنكف أن يغير رأيه أو أن يتوب أو أن يعترف بجهله، بل على العكس يحسب أنه يحسن صنعا ، فقد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا. وهذا الصنف ممن يسعى فى آيات الله تعالى ويريدها عوجا كان موجودا فى عصر النبى محمد عليه السلام ، وقد نهى الله تعالى النبى محمدا عن التحسر عليهم والحرص على هدايتهم لأنهم اختاروا الضلالة فلا بد أن يمدد لهم الرحمن فى الضلال مدا ( مريم 75 ). يقول تعالى للنبى محمد عليه السلام ( إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل ) ( النحل 37 ) فالذى يتخصص فى إضلال الناس لا يمكن أن يهديه الله تعالى ، مهما كان حرص النبى محمد على هدايته ، ويقول له (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) ( فاطر 8 ) وقد كان عليه السلام يتحسر على هذا الصنف من المضلّين المضللين فأكّد رب العزة أنه لا سبيل لهدايتهم فقد زين الشيطان لهم سوء عملهم فانقلبت المعايير لديهم فرءوا الباطل حقا و الحق باطلا، ومن يصل الى تلك المرحلة لا سبيل الى إصلاحه.

لكى ينجو الباحث فى القرآن من هذا المصير عليه أن يبدأ مخلصا بالهداية مستعدا لتبعاتها والجهاد فى سبيلها باعلان الحق القرآنى والتمسك به مهما ناله من أذى ، وإلاّ فلعنة الله تلاحقه إن كتم الحق الذى وصل اليه بهداية القرآن وآياته البينات، ( إن الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، إلا الذين تابوا واصلحوا وبينوا ) ( البقرة 159 ـ ) أى أن مجرد كتم الحق وعدم اعلانه يستحق اللعنة ، فما بالك بالذى يقوم بتحريف معانى القرآن والتلاعب بآياته ليضل الناس بغير علم ؟

إن الأسوأ حالا هو من احترف الاضلال مستخدما كتاب الله تعالى يشترى بآياته جل وعلا ثمنا قليلا. أولئك يأتون يوم القيامة يحملون أوزرارهم وأوزار الذين أضلوهم بغير علم ( النحل 25 ) ويلعنهم فى جهنم أتباعهم الذين ضلوا بهم، ( يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا, وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) ( الأحزاب 66 ـ )

هؤلاء الذين يشترون بآيات الله تعالى ثمنا قليلا ويضلون الناس بالقرآن ، يكون الله تعالى ـ وهو القاضى الأعظم يوم القيامة ـ خصما لهم، ويعجب الله تعالى من صبرهم على أشد العذاب . يقول تعالى فيهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) هذه هى أفظع أنواع الخسارة. ثم تاتى الآية التالية باعجاز يستشرف المستقبل وينبىء بما سيحدث حين يتمخض  التلاعب بآيات الله تعالى عن شقاق بعيد واختلاف فى النسخ وفى الأحاديث وفى الفقه أنتج  مذاهب وطوائف ومللا ونحلا ، كل منها يستخدم آيات الله تعالى فى الدفاع عن مذهبه وفى الهجوم على الآخرين ، يقول تعالى ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) ( البقرة 174 ـ )

كل منهم يدخل على القرآن لينتقى منه ما يوافق هواه وما يستطيع أن يشترى به ثمنا قليلا من متاع الدنيا الزائل. ومنذ فترة وصف بعض العلمانيين القرآن الكريم بأنه ( سوبر ماركت) فهاجوا عليه. ومع سوء أدبه فى التهكم بكتاب الله تعالى فان المسئول الأول هم أولئك الذين جعلوا القرآن عضين ( الحجر 91) يتلاعبون بآياته حسب اهوائهم ، واشتروا لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله تعالى بغير علم ( لقمان 6 ).

ومع أنهم جميعا ينسبون أحاديثهم ظلما وزرا للنبى محمد عليه السلام ويزعمون اتّباعه إلا إن الله تعالى فى لمحة إعجازية أخرى أمر رسوله عليه السلام أن يتبرأ منهم مقدما ، فبعد أن جعل الله تعالى  الوصية الأخيرة من الوصايا العشر فى التمسك بالقرآن الصراط المستقيم دون غيره (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أمر النبى محمدا بالابتعاد عمن يضل عن القرآن ويتبع السبل والطرق الأخرى فيقع فى التفرق والاختلاف والهوى (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ( الأنعام 153 ، 159 ) وجاء للمؤمنين نفس النهى عن التفرق فى الدين لأنه أبرز علامات الشرك العقيدى (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ( الروم 31 ـ ) وينطبق هذا الاعجاز القرآنى على مسلمى اليوم فليس هناك أكثر منهم فى اختلافهم واقتتالهم ، وتحت رايات تترصع بآيات القرآن الكريم يقتتلون ، وتحمل وكالات الأنباء ما يفعلونه بأنفسهم وبما يفعلونه بالاسلام العظيم وبالقرآن الكريم. أى ضلوا بالقرآن وازدادوا به خسارا فى الدنيا والآخرة.. والسبب أنهم اخضعوا القرآن الكريم لأهوائهم بدلا من أن يجعلوه نبراسا لعقولهم وإماما لقلوبهم واصلاحا لعقائدهم وسلوكهم.

وإذن كيف المخرج ؟ وكيف نتعامل مع كتاب الله تعالى ؟ ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ

4 ـ الهداية بين القرآن الكريم والبحث العلمى

البحث العلمى واحد فى أساسياته ، سواء كان فى القرآن أم فى العلوم الانسانية أو الطبيعية. فالهدف واحد هو الوصول للحقيقة. والوصول للحقيقة يستلزم أن يكون الباحث محايدا ـ أى ليست لديه أحكام مسبقة أو رؤى يريد إثباتها. ثم عليه أن يلتزم بالوسائل التى تعينه على البحث من مناهج وأدوات. مثلا فى البحث فى العلوم الانسانية والفلسفية لا بد من الالتزام بالمصطلحات المستعملة، فاذا كنت تبحث عصرا تاريخيا معينا لا بد ات تتعرف على مصطلحاته اللغوية ومفرداته الحضارية ، واذا كنت تقرأ كتابا لمؤلف وقد وضع المؤلف مصطلحات يدور عليها كتابه لا بد لك من التقيد بتلك المصطلحات كى تفهم كتابه و كى تحكم عليه.

أصول البحث العلمى ومناهجه هى جزء اصيل من قيمة أخلاقية عليا هى الأمانة العلمية والعدل فى التقدير والحكم والتحليل.

ومن هنا تاتى صلة القرآن بأخلاقيات البحث العلمى النزيه والموضوعى العادل. فتلك القيم هى أبز ملامح الهداية القرآنية القائمة على التقوى. فالباحث الذى يتقى الله تعالى لا بد أن يحسن عمله ولا بد أن يتحرى الموضوعية فى التحليل أو العدل فى الأحكام.

حقيقة الأمر إن الهداية القرآنية هى جوهر البحث العلمى و أساس فهم القرآن الكريم.

5 ـ نوعا الهداية كأساس لفهم القرآن الكريم:

هداية معرفية وهداية ايمانية.

طبقا للقرآن الكريم فالهداية نوعان : هداية طبيعية لكل الكاتنات تأتى مرتبطة بالخلق واستمرارية الحياة، مثل هداية الرضيع الى كيفية الرضاعة ، وهداية الحيوانات المنوية الى البويضة ، وهداية كل الكائنات البرية والبحرية لما يؤهلها للبقاء والغذاء والحماية. وفى هذه الهداية الطبيعية يقول تعالى ( قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى ) ( طه 50) ( سبح اسم ربك الأعلى الذى خلق فسوى والذى قدّر فهدى ) النوع الآخر هو هداية الايمان التى تستلزم من الباحث القرآنى تصحيح عقيدته إذا تعارضت مع القرآن وأن يضحى بها وبكل متاع دنيوى فى سبيل نصرة القرآن ، ويبدأ صفحة جديدة من التقوى فى التعامل مع الناس ورب الناس جل وعلا ،عندها يصبح القرآن له فرقانا يكشف له الحق من الباطل ( الأنفال 29 ) ونورا يمشى به بين الناس ( الأنعام  122 ).

 ونتتبع بالتفصيل عناصر الهداية الايمانية والهداية المعرفية فى البحث القرآنى وفهم الكتاب العزيز. لنرى كيف ظلم السابقون القرآن العظيم حين قالوا بتعطيل شرائعه تحت دعوى النسخ.

 عناصر الهداية الايمانية بالقرآن الكريم والنبى والرسول تتمثل فى الاكتفاء بالقرآن كتابا وحديثا  ، وهنا ننصح بالرجوع الى كتابنا ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع ). وندخل بعدها فى :

  الهداية  المعرفية شرط لفهم القرآن الكريم:   

المنهج السائد فى الدراسات الأصولية هو فهم القرآن من خلال مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه، وبسبب الاختلاف الشديد فى مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه وأحاديثه فإن فهم أصحاب هذا المنهج للقرآن يقع فريسة للاختلاف والاضطراب، ومن هنا يبررون هذا الاختلاف بمقولة منسوبة كذباًَ للأمام على بن أبى طالب، وهى أن "القرآن حمَّال أوجه"، وعليه فالباحث الأصولى المتمسك بهذا المنهج ينتقى الرأى الذى يهواه سلفاً، وينتقى له الدلالة من التراث، وينتقى له ما يشاء من الآيات القرآنية ويتجاهل سواها، وهو مطمئن لمقولة أن "القرآن حمَّال أوجه".

ولكن هل القرآن فعلاً "حمَّال أوجه"؟ أى ترى فيه الرأى ونقيضه؟ وترى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟  وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجه نظره؟ وهل فعلاً قال الإمام "على" هذا الكلام عن القرآن؟

إن ما نتصوره عن الإمام على بن أبى طالب وملازمته للنبى محمدعليه السلام يجعلنا ننكر نسبة هذه المقالة له، لأنه لا يمكن له أن يسىء للقرآن بمثل تلك المقالة الخطيرة التى تخالف ما قاله رب العزة جل وعلا عن كتابه العزيز.

لقد جاءت نصوص القرآن الكريم "محكمة " أى دقيقة الدلالة (هود 1).وهو كتاب لا مجال فيه للعوج بل جاء مستقيما مباشرا (الزمر 28).(الكهف 1)( الأنعام 126 ، 153 ).وهو كتاب لا مجال فيه للاختلاف  (النساء 82).

ولكن إذا كان القرآن لا تتناقض آياته ولا تتصادم حقائقه وليس كما يقولون "حمَّال أوجه" فلماذا يتبارزون فى اختلافاتهم بالآيات؟ ولماذا ينتقى كل فريق ما يؤيد وجهة نظره فى مواجهة الفريق الآخر؟

والإجابة تكمن فى المنهج الذى يعتمدونه، وهو فهم القرآن حسب مصطلحات المذهب الذى ينتمى اليه الباحث ووفق تراث مذهبه ورواياته وفتاويه. والمذاهب الأخرى لها مصطلحاتها التراثية ورواياتها وفتاويها، وبالتالى تختار من الآيات ما تراه يتمشى مع مذهبهم، ويغطون عورة هذا الاختلاف بمقولة أن القرآن حمَّال أوجه ويستسهلون اتهام القرآن بهذه التهمة.

فريضة التدبر ومنهج البحث القرآنى  ـ

إذن، فما هو المنهج العلمى الذى نفهم به القرآن ونتأكد به من أن القرآن فعلاً لا مجال فيه للتناقض والاختلاف؟

إن المنهج العلمى يفرض على الباحث ألا يبدأ بحثه بأحكام مسبقة، وإذا كان يبحث فى كتاب ما فإن عليه أن يلتزم بمصطلحات هذا الكتاب ومفاهيمه، لأن المفاهيم التى يعتمدها المؤلف فى كتابه تكون بمثابة عقد بين المؤلف والقارئ أو الباحث، فإذا التزم القارئ أو الباحث بتلك المفاهيم والمصطلحات التى يقوم على أساسها نسق الكتاب أمكن للقارئ أو الباحث بسهولة أن يستوعب كل حقائق الكتاب المبحوث. وهذه هى أصول المنهج العلمى التى نراعيها فى بحث المصادر والكتب البشرية. وهى نفسها أصول المنهج العلمى التى يطالبنا رب العزة باتباعها فى تدبرنا للقرآن.

إن الله تعالى يأمرنا فى القرآن بالتدبر لآياته (محمد 24) ( النساء 82) ( المؤمنون 68)والمنهج العلمى للتدبر يكمن فى بنية الكلمة نفسها. فالتدبر يعنى أن تكون فى دبر الآية، أو خلفها، أى أن تكون الآية القرآنية أمامك (بفتح الهمزة) وأن تكون إمامك (بكسر الهمزة) والمعنى أن تبدأ بآيات القرآن، وليس بفكرة مسبقة، وأن تتبع كل الآيات فى الموضوع المراد بحثه فى القرآن، و أن يخلو ذهنك تماماً من كل أحكام ومفاهيم أخرى خارج القرآن، طالما تريد أن تتعرف على الرأى القرآنى المجرد ومخلصاً. وحينئذ ستجد أمامك كل الآيات المحكمة والآيات المتشابهة تقول نفس الرأى وتؤكد نفس الحقيقة، غاية ما هناك أن الآيات المحكمة تؤكدها بإيجاز وصرامة، أما الآيات المتشابهة فهى تعطى تفصيلات تؤكد عليه الآيات المحكمة. وفى النهاية تجد كل الآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد نفس المعنى وتؤكد لك أيضاً أن القرآن الكريم كتاب أحكم الله تعالى آياته بعد أن فصلها على علم وحكمة. ( الأعراف 52 ) سبحانه جل وعلا.

وعليه، فإن اتبع الباحث المنهج التراثى فى فهم القرآن فسيقع فى الانتقاء والابتعاد عن حقائق القرآن، والتناقض مع القرآن ومع المنهج العلمى أيضاً. ولن يضيف إلا المزيد من الشقاق والاختلاف الذى عرفته المذاهب والفرق "الإسلامية".

أما إذا اتبع المنهج العلمى القرآنى وقام بفهم القرآن من خلال القرآن نفسه، واتجه لكتاب الله تعالى طالباً الحق والهداية دون رأى مسبق وبتصميم على أن يعرف الحقيقة مهما خالفت الشائع بين الناس، فإن من اليسير عليه أن يعرف رأى القرآن، وسيفاجأ بأن مفاهيم القرآن ومصطلحاته تخالف بل وتتناقض أحياناً مع مفاهيم التراث ومصطلحاته، وأنه من الظلم للقرآن والمنهج العلمى أيضاً أن تقرأ القرآن وتفهمه بمفاهيم ومصطلحات تخالف وتناقض مفاهيم القرآن ومصطلحاته.

معرفة مصطلحات القرآن بالقرآن:

اللغة العربية كائن حى مثقل بالمصطلحات

لكى تفهم القرآن لابد أن تتدبره وتتعقله من خلاله  هو ، وبمفاهيمه هو ، وخصوصا أن القرآن لم ترد فيه إحالة إلى شروح أخرى تعين على فهمه .

لولا القرآن الكريم لاندثرت اللغة العربية كما أندثرت الآرامية قبلها ، وكما اندثرت السريانية واللاتينية بعدها حيث تحولت اللهجات الناتجة عنها الى لغات مكتلمة لها معاجمها وشخصياتها.

وللغة العربية معاجمها المتميزة، و قد تم تدوينها بعد القرآن بقرون ، وهى خير دليل على أن اللغة العربية كائن متحرك تختلف فيها معانى الألفاظ من عصر لأخر ، ومن مكان لأخر. إلا إنه لا يجوز أشتراط فهم القرآن بمعاجم لغوية كانت ترصد حركة اللغة حتى عصرها ، ولذلك فإننا اليوم نجد عجبا حين نرجع إليها ،فمعظم مفرداتها اندثرت من الاستعمال فى عصرنا الذى جاء بمصطلحات جديدة من الغرب يتضاعف عددها باضطراد. وحتى فى لغتنا المستعملة المتوارثة تجد بعض المفردات قد اختلفت عما سبق، فكلمة(عميد ) ظلت حتى العصر العباسى تعنى(المريض حبا )، وفى ذلك يقول الشاعر :" وإنى من حبها لعميد.." ، ويقول الفيروز آبادى ، فى معنى كلمة عميد " هدّه العشق" اى أمرضه العشق. فأصبحت كلمة ( عميد ) اليوم تعنى مرتبة عالية فى الجيش أو فى رئاسة الكليات الجامعية.

زاد فى تطور اللغة العربية وازدياد وتعقد مصطلحاتها أن صار لكل طائفة دينية مصطلحاتها الدينية الخاصة بها ، فالشيعة لهم مصطلحاتهم ، وعلى سبيل المثال فان مصطلح النواصب لدى الشيعة يطلقونه على السنة الذين ( يناصبون أهل البيت العداء ) ونفس المصطلح ( النواصب ) له معنى مختلف فى علم النحو إذ يعنى أدوات النصب التى تنصب الفعل أو الاسم , بل ان كلمة ( النصب ) تعنى التحايل على الناس و( النصب) عليهم، ولا علاقة لهذا ( النصب) على الناس بعلم النحو. بل إن كلمة ( النحو ) فى حد ذاتها مصطلح جديد ، ومثله مصطلحات جديدة تضيق وتتسع كالصرف والعروض والبحور الشعرية بمصطلحاتها المختلفة والفقه ومصطلحاته و التفسير والحديث والجرح والتعديل و وعلم الكلام و التوحيد و المعتزلة و المرجئة والشيعة والسنة و الصوفية و البلاغة من استعارة وكناية وتشبيه و محسنات بديعية و معنوية و طباق وجناس و شتى مصطلحات الفنون والأداب.. أى انتجت الحضارة العربية الاسلامية كما هائلا من المصطلحات الدينية والعلمية والأدبية والفنية لم تكن فى عهد النبى محمد عليه السلام، بعضها تمت صياغته لأول مرة وبعضها تبدل معناه واكتسب مدلولا جديدا.

ولو دخلنا فى إطار أى فرقة دينية أو علم من العلوم لوجدنا كمّا هائلا من المصطلحات ـ وهذا باب واسع يخرج عن موضوعنا ، ولكن نعرض لمثلين بايجاز:

فقد أدخل التصوف مصطلحات دينية مستحدثة فى الحياة الدينيةللمسلمين لم يعرفها المسلمون الأوائل فى عصر النبوة .ومن المصطلحات الدينية الجديدة التى استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. إلخ ، ولكل منها مدلول  فى دين التصوف ، وسطرت فى ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون فى معناها وعددها.

وبعض هذ الألفاظ كان مستعملا فى الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها وأستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولى والولاية ).

ومصطلح السنة يأتي في القرآن بمعي المنهاج والطريقة أو الشرع ،وبمعني الشرع يأتي منسوبا لله تعالي (33 / 38) . وفي العصر الاموى استعمل مصطلح السّنة في معرض الاعتراض علي السياسة الاموية واهمية ان ترجع الي ما كانت عليه سنة النبي ،أي طريقته العادلة فى الحكم .وبها بدأ الاستعمال السياسي لكلمة السنة وقتها .

وحين نجح الشيعة الكيسانية في الدعوة للرضى من آل محمد ـ الامام المختفى غير المعلوم ـ وكان مفترضا أنه من ذرية علىّ بن أبى طالب، كان من ادبياتهم نفس الاستعمال السياسي لمصطلح السنة مع الاستعمال لمصطلح الشيعة الذى يدل على المعتقدين بأحقية ذرية على بن أبى طالب فى الحكم.وحين ظهر ان الخليفة الموعود ليس من ذرية علي وانما من ذرية ابن عباس حدث الشقاق بين انصار العباسيين القائمين مع الخليفة العباسي والمطالبين بأحقية ذرية علي بالخلافة دون العباسيين .وظلت كلمة شيعة أوالصحابه تطلق علي انصار العباسيين حتي تولي ابو جعفر المنصور الخلافة وتقاتل مع العلويين فىالحجاز والعراق فى ثورة محمد النفس الزكية واخيه ابراهيم . عندها استبقي الخلفاء العباسيون لأنفسهم مصطلح السنة ،وأهملوا لقب الشيعة، فاصبح خاصا بخصوم الدولة العباسية والخارجين عليها ،و اضيفت للشيعة اوصاف اخري سياسية وعقيدية اهمها الرافضة .وهكذا تقلب مفهوم السنة من الشرع كما جاء في القرآن الكريم الي معني سياسي منسوب للنبي في اطار الخطاب السياسي المعارض للأمويين ،ثم احتكرته الخلافة العباسية ليدل علي مدلولها السياسي في مقابل خصومها الشيعة. ليس هذا فقط ، بل تحول مصطلح السنة في العصر العباسي الثانى ليدل علي نوعية التدين السائد المعترف به من الدولة العباسية . والمعتزلة والفلاسفة والمثقفون ثقافة عقلية بالفلسفة اليونانية والهلينية كانوا يطلقون على خصومهم من الفقهاء السنيين المحافظين مصطلح  الحشوية ، يتهمونهم بأنهم كانوا يحشون عقولهم بروايات منسوبة للنبى يؤمنون بها ويجادلون بها الآخرين بدون عقل أو منطق متمسحين بالدين. ثم مالبث أولئك الفقهاء الحشويون أن دخلوا فى جدال مع المعتزلة ، فأصبحت السنة تعني من ناحية العقائد والفلسفات ذلك الاتجاه الفكرى العقائدى المحافظ  الذي يمثله أبو الحسن الأشعري بعد ان ترك المعتزله ،وأصبحت السنة من ناحية الفقه والفروع تعنى المذاهب الفقهية الاربعة المنسوبة للأئمة ابي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ،هذا في عصر الاجتهاد الفقهي . وفي كتب الفقه السنى اصبح مصطلح السنة يشيرالي درجة اقل من درجات الواجب ،فيقال هذا فرض واجب ،وهذا سنة .اويقال "يسنّ"بمعني يستحسن.

ومع كل هذا التطور والتعقد فى المصطلحات التراثية لا يجوز فى المنهج العلمى أن نستعملها فى فهم القرآن الكريم ، ليس فقط لأنها تمت ولادتها بعد عصر القرآن متأثرة بظروف سياسية واجتماعية وفكرية ، ولكن أيضا لأن للقرآن مفاهيمه الخاصة ومصطلحاته الخاصة التى تعارض بل وأحيانا تناقض تلك المصطلحات التراثية المستحدثة.

ونعطى نماذج سريعة للاختلاف والتناقض بيم مفاهيم القرآن ومفاهيم التراث :

1- الدين فى مفهوم القرآن يعنى الطريق، والسبيل، والصراط، والطريق قد يكون مستقيماً وقد يكون معوجاً. وقد يكون الدين أو الطريق معنوياً، أى العلاقة بالله تعالى. وقد يكون الدين أو الطريق حسياً مادياً كقوله تعالى عن أهل المدينة فى عصر النبى يعلمهم فن القتال ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة 122) فالآية سبقتها وتلتها آيات فى سياق القتال وتتحدث هذه الاية الكريمة عن النفرة للقتال، وضرورة إرسال فرقة استطلاع تتعرف على الدين أو الطريق ثم تنذر الناس وتحذرهم. ومن الخبل أن نفهمها على أن يترك المؤمنون رسول الله عليه السلام فى المدينة ثم يذهبوا للتعليم خارج المدينة، وهى موطن العلم بالإسلام، وكان غيرها مواطن الشرك فى ذلك الوقت.

2- ولكن مصطلحات التراث جعلت التفقه قصراً على العلم بالشرع، مع أن مفهوم التفقه فى القرآن يعنى العلم والبحث العقلى والمادى فى كل شىء.

3- والسنة فى اللغة العربية تعنى الشرع، تقول "سن قانوناً" أى شرع قانوناً. وفى القرآن تأتى فى التشريع بمعنى الشرع حتى فيما يخص النبى (الأحزاب 38) وتكون حينئذ منسوبة لله تعالى، أما النبى فهو صاحب القدوة والأسوة (الأحزاب 21) فالسنة لله تعالى، ولنا فى النبى أسوة حسنة، وتأتى السنة منسوبة لله تعالى أيضاً فيما يخص تعامله جل وعلا مع المشركين، وتكون هنا بمعنى المنهاج والطريقة (الأحزاب 62، فاطر 43، الفتح 23) ولكن السنة فى التراث تعنى شيئاً مختلفاً سياسياً ومذهباً فقهياً.

4- و"الصحابة" فى التراث هم أصحاب النبى وأصدقاؤه ممن أسلموا. ولكن فى مفهوم القرآن فالصاحب هو الذى يصحب فى الزمان والمكان، وذلك تكرر فى القرآن وصف النبى عليه السلام بأنه صاحب المشركين (النجم 2، سبأ 46، التكوير 22).

5- والنسخ فى القرآن يعنى الإثبات والكتابة والتدوين، ويعنى فى التراث العكس تماماً، أى الإلغاء. وسنعرض لذلك بالتفصيل فى موضعه.

6- ومفهوم الحكم فى القرآن يعنى التحاكم القضائى، وليس مقصوداً به على الإطلاق ما يتردد فى التراث من أنه الحكم السياسى أو الحاكمية.

7- وكذلك الحال مع "أولوا الأمر"، فالمقصود بهم فى القرآن هم أصحاب الشأن وأصحاب الخبرة والاختصاص فى الموضوع المطروح (النساء 59، 83) وليس المقصود هم الحكام كما يتردد فى التراث.

8- و"الحدود" فى القرآن تعنى الشرع والحق، ولا تعنى العقوبات.

9- و"المكروه" فى مفهوم القرآن هو أفظع المحرمات وأكبر الكبائر كالقتل والزنا والكفر والفسوق (الإسراء 38، الحجرات 7) ولكن المكروه فى الفقه التراثى هو الحلال الذى يفضل الابتعاد عنه.

10- وكذلك المستحب أو المندوب فى التراث يعنى الحلال المباح، ولكن المستحب فى مفهوم القرآن هو الفرض الواجب (الحجرات).

11- والتعزير عند الفقهاء هو الإهانة والعقوبة، ولكن التعزير فى القرآن يعنى التكريم والتمجيد والتقديس والإعزاز والنصرة لله تعالى ورسوله (المائدة 12، الأعراف 157، الفتح 9).

والأمثلة كثيرة أهمها على الاطلاق تناقض القرآن مع تراث الفكر السنى فى مفاهيم الاسلام والايمان والشرك والكفر وما يخص المسيحيين واليهود والمرأة والشورى وحقوق الانسان الخ....  

                                     )تلك آيات الكتاب المبين ):

 البيان القرآنى:

 بيان القرآن فى داخل القرآن، القرآن كتاب مبين فى ذاته

يقول تعالى ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم﴾ (البقرة 159).

كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات أى التى لا تحتاج فى تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذى جعل الكتاب مبيناً وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل ﴿بعد ما بيناه للناس فى الكتاب﴾ والقائل عن كتابه ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (القمر 22). ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدا﴾ (مريم 97). ﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون﴾ (الدخان 58).

وكل المطلوب منا أن نتلوا القرآن وإذا تلوناه نطقت آياته البينات بنفسها والتى لا تحتاج منا إلا لمجرد النطق وعدم الكتمان. لذا فإن الله تعالى يجعل الكتمان- كتمان الآيات- هو عكس التبيين لذا فإن الله تعالى يهدد من يكتم آيات الله البينات التى بينها فى كتابه ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله..﴾

ويقول تعالى عن أهل الكتاب ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ (آل عمران 187). فشرح تعالى تبيين البشر للكتاب بأنه عدم كتمانه، أى تلاوته وقراءته، ومتى تلونا الكتاب المبين نطقت آياته البينات لمن يريد تدبرها .

والآيات التى تتحدث عن بيان القرآن ووصفه بالكتاب المبين والبينات أكثر من أن تستقصى ومع ذلك فإن منا من يعتقد أن كتاب الله غامض مبهم يحتاج إلى من يفسره.. هذا مع أن الله تعالى يقول عن كتابه ﴿ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا﴾ (الفرقان 33). فأحسن تفسير للقرآن هو فى داخل القرآن. وابن كثير يعترف فى بداية تفسيره أن أحسن التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن..

ويقول تعالى ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء﴾ والتبيان هو التوضيح لما يستلزم البيان والتوضيح . والشىء الواضح بذاته لا يحتاج لما يبينه ويوضحه وإلا كان فضولاً فى الكلام وثرثرة لا حاجة إليها..

والله سبحانه وتعالى أنزل كتابه محكماً لا مجال فيه للغو والتزيد لذا كان البيان فيه لما يتطلب البيان، وكل شىء يستلزم البيان والتوضيح جاء فى القرآن بيانه وتوضيحه. وما ليس محتاجاً لبيان فلا مجال فيه للتفصيل والبيان فى كتاب فُصّلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير.

لذا يرتبط "البيان فى القرآن" بالهدى والرحمة والبشرى للمسلمين ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ فبيان القرآن ﴿هدى﴾ للباحث عن الهدى وسط ركامات من الغموض والحيرة، وبيان القرآن ﴿رحمة﴾ به حين يبين له ما خفى ويصل به إلى شاطئ الأمان والرحمة الإلهية وهناك ﴿البشرى﴾ بعد الهدى والرحمة..

تفصيلات القرآن الكريم

وأيضاً ترتبط (تفصيلات القرآن) بالهدى والرحمة، يقول تعالى ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ (الأعراف 52). فالتفصيلات القرآنية التى شملت كل شىء جاءت هدى وحمة لأولئك الذين يحتاجون إلى هذه التفصيلات. وإذا كانت الأمور واضحة لا تحتاج إلى تفصيل وإيضاح فمن العبث توضيح ما هو واضح، وتعالى الله عن العبث.

والبشر قد تتحول التفصيلات فى كلامهم إلى لغو وثرثرة فيما لا حاجة إليه ولا طائل من ورائه، وهذا ما تنزهت عنه تفصيلات الكتاب العزيز التى جاءت فيما يحتاج إلى تفصيل، لذا ارتبطت تفصيلات القرآن الكريم بالعلم المحكم وفى ذلك يقول تعالى ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ (هود 1).

ويقول تعالى عن العلم الإلهى الذى يحكم التفصيلات القرآنية لتكون هدى ورحمة للمؤمنين ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾.

ولذا فإن العلماء المحققين المؤمنين بتمام القرآن والمكتفين به هم فقط الذين يفهمون تفصيلات القرآن. وفى ذلك يقول تعالى ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون﴾ (الأعراف 32).. ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون﴾ (يونس 24).. ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) (الروم 28). ويقول تعالى ﴿كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (فصلت 3).

المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم

فى القرآن الكريم آيات محكمة المعنى موجزة اللفظ ولكن قاطعة الدلالة لا مجال فيها لأكثر من رأى. تلك هى الآيات المحكمات. هذه الآيات المحكمة تشرحها وتفصلها آيات أخرى هى الآيات المتشابهة. وبذلك فان الآيات المتشابهات هى التى تفصل وتشرح الآيات المحكمات ، والباحث المسلم عليه أن يتتبع الآيات المحكمة فى موضوعه البحثى فى القرآن ، ثم يأتى بكل ما يتصل بها من آيات متشابهة ، وسيجد الآيات المتشابهة تشرح المحكمات ، ويجد موضوعه قد توضح بالقرآن بعد أن قام بواجب ( التدبر ) أى السعى ( دبر ) أو خلف الآيات المحكمة ثم خلف الآيات المتشابهة وربط هذا بذاك.

وهذا ما يشير اليه قوله تعالى (( هو الذى انزل عليك الكتاب ، منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات ، فاما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله . والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا : آل عمران 7) وكالعادة فان الله تعالى يوضح منهج الباحثين المؤمنين بالقرآن أو ( الراسخون فى العلم ) الذين يؤمنون بكل ما فى القرآن وأنه لا عوج فيه و لا اختلاف و لا تناقض، لذلك يتتبعون كل الآيات ويضعونها فى اطار أنها يفسر بعضها بعضا و يفصل بعضها بعضا و يكمل بعضها بعضا . اما الصنف الآخر فينتقى المتشابه يلوى عنقه ليصد عن سبيل الله تعالى ويتخذها عوجا. 

ونأخذ قضية الشفاعة فى النسق القرآنى مثالا  للتوضيح.

 1 ـ القرآن يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم عن السعة وما يحدث فيها ولذلك فإن كل أحاديث الشفاعة لم يقلها النبى ولا يمكن أن يجتمع الإيمان بالقرآن والرسول مع الإيمان بتلك الأحاديث الكاذبة التى تخالف كتاب الله..

والله تعالى هو وحده "مالك يوم الدين" وهو وحده تعالى الذى يملك الأمر كله يوم القيامة، والنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ﴾ (الإنفطار 19). لذا قال تعالى للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128). وإذا أصدر مالك يوم الدين قراراً يوم القيامة فلا مجال لتبديل كلمته، وسيقول تعالى حينئذ ﴿مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ﴾ (ق 29). ومن التكذيب بآيات الله تعالى أن يؤمن بعضنا بأن الله تعالى يصدر قراراً بأن يدخل بعض الناس النار فيتشفع فيهم النبى ويتراجع الله تعالى عن قراره، لأنه ليس فى إمكان النبى أن يتدخل فى إخراج أحد من النار، فالله تعالى يقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).

والإيمان بأحاديث الشفاعة تلك ليس فقط تكذيباً لآيات الله تعالى الصريحة الواضحة ولكنه أيضاً تأليه للنبى محمد عليه السلام بل وتطرف فى تأليهه إلى درجة الادعاء بأنه هو صاحب الأمر يوم القيامة وأنه مالك يوم الدين، وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو أرحم الراحمين لأنه ينقذ الناس من النار بعد أن يحكم الله تعالى بدخولهم فيها.. وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو الأعلم بحال البشر من الله ولذلك فهو يتدخل لدى الله لإنقاذ بعضهم، ولا يملك الله تعالى إلا الموافقة.. فهل ذلك يتفق عقلاً مع الإيمان بالله تعالى مالك يوم الدين الذى لا شريك له فى ملكه وحكمه؟

والإيمان بالحديث الكاذب الذى يدعى أن النبى يشفع فى البشر جميعاً شفاعة عظمى معناه التكذيب الصريح بالقرآن الذى لا يجعل للنبى أى ميزة يوم القيامة، بل يؤكد أنه مثل كل نفس بشرية يتعرض للحساب والمساءلة ويحاول أن ينجو بنفسه من هول الموقف.. فالنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ. لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34: 37) أى سيفر الجميع فى ذلك الوقت ولن يجد النبى أو غيره وقتاً لكى يفكر فى غيره، فكيف سيتصدر للشفاعة فى البشر جميعاً؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ليتوسط فى إدخال بعضهم الجنة، والله تعالى يقول للبشر جميعاً قال تعالى﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ. إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ (لقمان 33،34). وصدق الله العظيم. فالله تعالى هو وحده الذى عنده علم الساعة، وقد أخبرنا ببعض غيب الساعة فى القرآن، ومنه أن النبى وهو والد ومولود لا يملك أن ينفع والده ولا يستطيع أن ينفع ابنه.. وإذا كان لا ينفع ابنته فاطمة فكيف سينفع الآخرين؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ويشفع فيهم وهو نفسه يتعرض للحساب والمساءلة.. إن الله تعالى يؤكد على حساب الأنبياء يوم القيامة حين يجعل الحديث عن حسابهم وهم أفراد مساوياً للحديث عن باقى البشر، والبشر ملايين البلايين، يقول تعالى ﴿فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف 6) وبالنسبة لخاتم النبيين فإن الله تعالى يتحدث عن حسابه وهو شخص واحد ويقرن ذلك بحساب الذين معه وهم آلاف الناس، يقول تعالى ﴿وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 44).

وفى حساب النبى فلن يستطيع أن ينفع أحداً من أصحابه، وليس بإمكان أحد من أصحابه أن يغنى عنه شيئاً، يقول الله تعالى للنبى ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ﴾ (الأنعام 52). أى فلن يتحمل النبى شيئاً من حسابهم ولن يتحمل أحدهم شيئاً من حساب النبى.

ومن الغريب أن يقول الله تعالى له نفس الكلام عن المشركين، يقول تعالى للنبى عنهم ﴿وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية 18،19) أى أنهم لن ينفعوا النبى بشىء يوم القيامة، وفى ذلك تمام العدالة.. فالقيامة هى العدالة المطلقة التى لا نظير لها، يقول الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).

ولكن تلك العدالة فى اليوم الآخر تحولت فى عقائدنا إلى ظلم وشفاعات ووساطات وتزكية لنا نحن دون باقى الأمم، وأصبح من العقائد الثابتة لدينا أن الجنة من نصيبنا نحن من دون البشر جميعاً، وأن أحداً لن يدخل الجنة إلا بعد أن نرضى عنه، وبذلك سلبنا الله تعالى حقوقه علينا وجعلنا أنفسنا مالكين ليوم الدين، وبعد أن ترسب فى اعتقادنا أننا نجحنا فى اختبار يوم القيامة قبل أن تقوم القيامة فعلنا كل الموبقات و لا نزال.

2 ـ :من يؤمن بشفاعة النبى يستدل عليها بالأحاديث وبتأويل لآيات القرآن الكريم.

وقد قرر علماء الأصول أن أحاديث الأحاد- ومنها أحاديث الشفاعة- لا تؤخذ منها العقائد والسمعيات والغيبيات، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من الحق القرآنى اليقينى، وقبل علماء الأصول فإن القرآن نفسه يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتحدث فى الغيبيات، ومنها علامات الساعة والشفاعة، أى أن تلك الأحاديث لم يقلها النبى، وبالتالى فإن الاستشهاد بها فى إثبات شفاعة النبى أمر باطل.

نأتى بعدها لمحاولتهم تأويل آيات القرآن لإثبات شفاعة مزعومة للنبى عليه السلام.. وفى البداية نقول أن محاولة التأويل فى آيات القرآن معناه أن تحصل بالتأويل على معنى يأتى مناقضاً لآيات عديدة فى القرآن الكريم، وعلى سبيل المثال فإنك إن استطعت بالتأويل والتحريف أن تثبت شفاعة للنبى فإنك ستأتى بمعنى يخالف القرآن الذى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128) ويقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).

أما الذى يبحث عن الحق فى القرآن يبغى وجه الله تعالى ويرجو الهداية فإنه يترك نفسه بين آيات القرآن ولا يفرض عليها أهواءه وأمنياته، وحيثما تصل به الآيات الكريمة إلى معنى فإنه يتمسك به ويضحى فى سبيله بكل ما توارثه من عقائد وأفكار.

والقرآن الكريم كتاب مثانى متشابه، والمعانى فيه تتكرر، والمتشابه من الآيات يتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفى نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذى تأتى به الآيات المحكمة، ومعنى ذلك أن الباحث عن الحق فى القرآن لن يلجأ إلى تأويل بعض الآيات لكى يؤكد ما توارثه من عقائد، ثم يأتى فى النهاية بما يخالف آيات القرآن، لن يفعل ذلك الباحث عن الحق، ولكه سيراجع القرآن الكريم كله، ويأتى بالآيات الخاصة بموضوعه، ما كان منها محكماً وما كان منها متشابهاً، وكل الآيات معاً ستعطى حقيقة قرآنية واحدة.

وبالنسبة لقضية الشفاعة سيجد الآيات تؤكد على أن النبى ليس له من الأمر شىء وأنه فى حياته كان يخاف أن عصى ربه عذاب يوم عظيم، وأنه كان يعلن أنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دون الله ناصراً إلا إذا بلغ الرسالة.. وطالما أن هذه الآيات وهى كثيرة- تؤكد على نفى شفاعة النبى إذن يبدأ الباحث عن الحق فى تتبع آيات الشفاعة بعد أن تأكد منها أنها لا شأن لها بالنبى، خصوصاً قوله تعالى عن الشفاعة ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة 255) لأن الآية التى قبلها تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى أى التوسط، فالآية تقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254). فإذا كان فى هذه الدنيا بيع وخلة أى صداقة وإذا كان فى هذه الدنيا وساطة وشفاعة ومحسوبية، فليس فى الآخرة شىء من ذلك.

والقرآن ذكر الشفاعة فى آيات محكمات وآيات متشابهات..والمتشابهات تشرح المحكمات.

من الآيات المحكماتفى الشفاعة قوله تعالى :﴿أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ وهى تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى الذى نمارسه فى الدنيا والذى على أساسه نتمنى أن يكون يوم الدين سوقاً لشفاعة الأنبياء والأولياء..

ولذلك تأتى آيات محكمة كثيرة تنفى هذه الشفاعة وتؤكد على أنه ليس بإمكان نفس بشرية أن تنفع نفساً بشرية، ومنها قوله تعالى ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.. ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 48،123). وقوله تعالى ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ (لقمان 33).

أما الآيات المتشابهة فهى تفسر بعضها بعضاً:

فقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3) يشير إلى أن هناك من المخلوقات- غير البشر- من يشفع ولكن بعد إذن الرحمن. ولكى تعرف هذه المخلوقات نرجع إلى باقى الآيات المتشابهة:

 فالله تعالى يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه 109). فالآية هنا أضافت الرضى من الرحمن بعد الإذن، وتأتى آية أخرى تقول عن الجاهلين وعبادتهم للملائكة ﴿وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء 26: 28). إذن يتضح لنا أن الملائكة هى التى تشفع ولكن بعد رضى الله تعالى وإذنه وأمره، ثم تأتى آية أخرى تقول بصراحة ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). إذن الملائكة هم المقصودون بقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾.

ولأنهم ملائكة فإن لهم دوراً فى الحساب، وهذا الدور قد حدده رب العزة بأمره وإذنه ورضاه، ولا اختيار للملائكة فى ذلك، وعليه فالشفاعة مصدرها الله تعالى، بأمره وإذنه ورضاه، أما أولئك البشر الذين أصدروا من عندهم قراراً بأن بعض البشر سيشفع فيهم عند الله، فالله تعالى هو الذى رد على أولئك الذين أخذوا من عندهم شفعاء من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، يقول تعالى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43،44).

فالبشر هم الذين يتخذون الأولياء والشفعاء، وهم الذين يؤلفون الأساطير والأحاديث والأكاذيب، وهم الذين يعبدون أولئك الشفعاء وينتظرون منهم المدد فى الدنيا والجاه فى الآخرة، وينسون أن الله تعالى هو وحده الولى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ﴾ (الشورى 9) وينسون أن الله وحده هو الشفيع ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ.. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.ومن عجب أن القرآن يؤكد على أن النبى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ومع ذلك يجعلونه مالكاً ليوم الدين وشفيعاً يوم القيامة بالمخالفة لكتاب الله العزيز.

والأعجب أنهم يتلاعبون بالآيات الكريمة المحكمة والمتشابهة لاثبات مزاعمهم ثم يزيفون أحاديث ينسبونها للنبى محمد عليه السلام وهو الذى كان لا يعرف الغيب وليس له أن يتكلم فيه. وهكذا بالتحريف و الكذب والتلاعب بآيات الله تعالى أعادوا عقائد شركية تناقض عقيدة الاسلام فى أن الله تعالى هو مالك يوم الدين ، وأنه وحده الولى والشفيع وأنه ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا..

  المحصلة الختامية لما سبق أنه كان يجب على المسلم الاكتفاء بالقرآن الكريم ويجب على العالم المسلم الاجتهاد من خلاله فى مجالين : الأول : الاجتهاد فى تنظيم المباح فى ضوء المقاصد الكبرى للتشريع الاسلامى القرآنى كما سبق ، والثانى الاجتهاد فى تطبيق الأحكام التشريعية القرآنية فى ضوء العرف أو المعروف أو ما يتعارف عليه الناس أنه خير وعدل وتيسير والأكثر ملاءمةللظروف ، وقد يستدعى هذا التطبيق اصدار قوانين أو قواعد تفسيرية أو تنظيمية. كل ذلك بدون تحليل حرام أو تحريم حلال ، وبدون خرق لقيم الاسلام العليا من العدل و حرية البشر فى الفكر والمعتقد و السلام والرحمة والاحسان أو بمفهوم عصرنا التسامح. أى اجتهاد فى ضوء النصوص القرآنية يكون به القرآن هو الأعلى وهو المهيمن . وهذا ما لم يحدث فى تاريخ المسلمين فى العصور الوسطى.

لقد ساد بين السابقين أن القرآن معجز فى فصاحته فقط فتحول الاهتمام الى ناحية اللغة والبيان الأدبى وتحول القرآن الى نصّ أدبى عند البعض. بينما لم يحظ الاعجاز التشريعى فى القرآنى باى اهتمام . بل على العكس ؛ نظروا اليه من خلال ما صنعوه من احاديث منسوبة للنبى محمد عليه السلام ، وحاولوا التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث لصالح أحاديثهم و رؤاهم ،  وعالجوا التناقض بين القرآن الكريم وتلك الرؤى البشرية التى اكتسبت صفة الحديث والسنة بتجاهل آيات القرآن أو القول بنسخها أى الغاء حكمها ، أو بتاويل المعنى القرآنى وتحريفه. ولولا أن القرآن الكريم محفوظ بقدرته جل وعلا لتم الغاء معظم آياته ليس بالمعنى ولكن باللفظ والنصّ . ولأنه محفوظ من لدن الله تعالى فقد ظلت نصوصه حجة على كل ما فعلوه بالقرآن الكريم مما يسمى بالتفسير والتاويل والحديث والسنة و النسخ.

القرآن الكريم لا تنتهى إعجازاته . وفى عصرنا يكتشف العالم جوانب من الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وفى العصور القادمة سيكتشف العالم المزيد والمزيد حيث سيظل القرآن الكريم معجزا لكل عصر الى قيام الساعة. واليوم يهلل المسلمون عندما تتوافق حقيقة علمية مكتشفة حديثا مع القرآن الكريم . المفجع أنهم لا يسألون أنفسهم السؤال المؤلم : اذا كانت هذه الاشارات العلمية موجودة فى القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنا فلماذا غفل عنها علماء السلف وأئمتهم ؟ لماذا ظلت مجهولة فى القرآن الكريم الذى اعتادوا قراءته و حفظه فى الصدور؟ الاجابة لأنهم انشغلوا عن القرآن الكريم بكل ما يخالف القرآن الكريم من النسخ والحديث والسنة و التأويل و التفسير؛ انشغلوا بما ابتدعوه لأنهم اختلفوا فيه فازدادوا انشغالا عن القرآن الكريم. لا يزال حتى الان الاختلاف فى نسخ آياته والاختلاف فى تاويلها وفى رواة الأحاديث و السند والمتن و الاستواء على العرش و ومرتكب الكبيرة و .. ولا يزالون فى اختلافاتهم الهائلة فى توافه الأمور من الحجاب والنقاب ودماء المسلمين تسيل أنهارا تنذر بحروب أهلية عامة قادمة . نرجو الله تعالى منها السلامة...  

اجمالي القراءات 21092