العلاقة بين النحو والإبداع أبدية وعميقة الجذور
5 ـ لهذه الأسباب ستبقى اللغة العربية

أحمد سليم في الأربعاء ٠٣ - أكتوبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

1 ـ 4 ـ الإبداع : "اتساع المجال " :  إن صور المعانى لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى لا يراد من الألفاظ ظوهر ما وضعت له ولكن يشار بمعانيها على معان أخر عندما تعقل من اللفظ معنى ثم يفضى بك ذلك المعنى إلى معنى آخر ( عبد القاهر الجرجانى : دلائل الإعجاز) فتتعرف عليه عن طريق النفس والنظر اللطيف فإن ذلك يشكل ما يعرف عند الجرجانى " بمعنى المعنى " وعلى ذلك فإن " معنى المعنى " أو " الاتساع " من خلال النظم هما العمليتان اللتان يشكلان الابتكار وكانتا محور إبداع النظم وابتكار المعانى والعلاقات وعليها دار مدار النظم العربى . وعبر عن ذلك ابن رشيق القيروانى : باتساع التأويل وذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى  وكما وضحنا فى فقره التمثيل السابقة، وقيل لو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيبت الإستعارة ( ابن رشيق القيروانى : ـ العمدة فى محاسن الشعر  ) من هذا "الإتساع" و " معنى المعنى " كان الغلو الذى هو على حد تعبير أبى هلال العسكرى يتجاوز حد المعنى والارتفاع فيه إلى غاية لا يكاد يبلغها وكان الإيغال : وهو أن يستوفى معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعة ثم يأتى بالمقطع فيزيد معنى آخر يزيد به وضوحاً وشرحاً وتوكيداً بل إن الإيجاز ومقتضايته من قصد وحذف كان يهدف إلى تقليل الألفاظ وتكثير المعانى وأن تكون عمليات الإضمار والاختصار وإسقاط المفردات تهدف إلى دمج المعانى وخلق الجديد منها ومن تشكلها معاً ، وهكذا الإشارة تقتضى أن يكون اللفظ القليل مشاراً به إلى معان كثيرة بإيماء إليها ولمحة تدل عليها (أبى هلال العسكرى :ـ الصناعتين ) ، حتى ابن جني قال إن الكلام فى الأطراد  والشذوذ على أربعة أضرب منها : مطرد فى القياس والاستعمال معا وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المثوية ( د. تمام حسان :ـ الأصول دراسة إبيستيمولوجية للفكر اللغوى عند العرب) ثم قد يتضاد المذهبان فى المعنى حتى يتقاوما ثم يصحا جميعاً وذلك فى افتتان الشعراء وتصرفهم وغوص أفكارهم (ابن رشيق القيروانى ) وهذا ما أطلق عليه ابن رشيق القيروانى بالتغاير . ويمكن أن تدمج المصطلحين فى مصطلح ابن قتيبة الذى ورد فى كتابة تأويل مشكل القرآن فيما يخص الله به اللغة العربية ( اتساع المجال ) . فدلالة التأليف كما قال الرمانى ليس لها نهاية ( أبو الحسن الرمانى .ـ ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن  ) .

1 ـ 5 ـ العلاقة بين النحو والإبداع : أبدية عميقة الجذور:

1 ـ 5 ـ 1 عمق الجذور :  تصير العلاقة بين النظم والإبداع سحيقة المنشأ ارتبطت بوعى العربى الأول بعلامات القوة والضعف والانتصار والانكسار وارتبطت بسعيه نحو التحرر ولذا فهم البلاغة القرآنية حينما تعرض لها لأول مرة وميزها عن غيرها ، كما أنه قبلاً كان يستحسن الحسن من شعره وينشره ويردده ويعرف نظم الكلام فى الفصل الوصل ويذكر أبو هلال العسكرى أن أكثم بن صيفى إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول لكاتبه أفصلوا بين كل منقضى معنى ، وصلوا إذا كان الكلام معجوناً بعضه ببعض . وكثرة المحاكمات بين الشعراء كالنابغة الذبيانى وعلقمة بن عبده التميمى وربيعه بن حذار الأسدى والزبرقان والأعشى وميمون بن قيس وهرم بن سنان وغيرهم ، وكان النحو علم بالمقايس المستنبطة من استقراء  كلام العرب ، وأخص هذا الكلام الشعر الجاهلى وشواهده ، وعرف الجرجانى فى ذلك من أساتذته الذين شرح كتبهم فى بعض مؤلفاته كالمغنى والمقتصد وغيرهما وأدركه بروحه المبدعة ، وكما قال الجرجانى فى أسرار البلاغة : أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل له منافعه التى هى الدلالات على المقصاد إلا بمرعاة أحكام النحو فيه من الإعراب والترتيب الخاص ( أسرار القرآن  ) والإعراب هو وشى كلام العرب ، وحلية نظامها وفارقاً فى بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين ، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول ، لا يفرق بينهما ، إذا تساوت حالاهما فى إمكان الفعل أن يكون لكل واحد منهما إلا "الإعراب " ولو أن قائلا قال  :" هذا قاتل " " أخى " بالتنوين ، وقال آخر : " هذا قاتل أخى " بالإضافة لدل التنوين على أنه لم يقتله ، ودل حذف التنوين على أنه قتله ( ابن قتيبة تأويل مشكل القرآن ) وهكذا الإعراب هو أن يعرب المتكلم عما فى نفسه ويبينه ويوضح الغرض ويكشف اللبس ، والواضع كلامه على المجازفة فى التقديم والتأخير ، زائل عن الإعراب ، وزائغ عن الصواب فتعرض للتلبيس والتعمية (أسرار القرآن  ) .

1ـ 5ـ 2ـ القداسة : العلاقة بين النحو والإعجاز أو الإبداع علاقة أبدية ومقدسة حيث كانت كتابة القرآن الكريم وتدوينه وقراءته سبباً مباشراً فى صياغة علم النحو وتطوره ، وكانت عمليات الكسر والفتح والضم والتنقيط هى البداية الأولى ، فى نفس الوقت كانت تعبرعما يموج داخل النصوص من عوامل نفسية كالقوة والإشراق والأمل وطلب العون والمغفرة ومن ناحية أخرى كانت نصوص الإبداع الجاهلى هى التى جرى عليها النحو بما فيها من البناء والتركيب والشواهد والاحتجاجات والنوادر والشواذ والغريب والضرورات ، فكان الشعر الجاهلى الذى اعتبروه نموذجا فى الفصاحة شاهدا على عروبة النص القرآنى من حيث المتن على الأقل إن لم يكن من حيث التركيب أيضا ، قال عبد الله بن عباس : إن الشعر ديوان العرب فإن خفى علينا حرف من القرآن الذى أنزله الله بها ( يقصد لغة العرب ) رجعنا إلى ديوان الشعر فالتمسنا معرفة ذلك منه ( الأصول) .

1ـ5ـ3ـ التعبير عن مكنونات الوعى داخل العقل العربى :  لقد عبرت القواعد النحوية والسمات الأسلوبية من إدغام وحذف وقلب وإضمار وإبدال ووصل وفصل وتقديم وتأخير والتفات وإقلال وزيادة وأمر ونهى ونفى ووعيد ونداء وتعجب واستفهام وغيرها عن الذوق العربى والنفسية العربية وأحوالها فى مواجهة الواقع والمجتمع والتاريخ فوصلت إلى مكنونات الوعى العربى وعبرت عنه حتى وصلت إلى حزازات القلب وأوحاش النفس أو إلى هنائهما و فرحمها أو إلى المركوز فى الطبع على حد تعبير الجرجانى .. وقال القزوينى فى الإيضاح : لكل كلمة مع صاحبتها مقام ، وبلاغة الكلام هى مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته  وعنى بتطبيق على مقتضى الحال ما يعنيه عبد القادر بالنظم كما وضحناه سلفا . وإذا كان مقتضى الحال مختلف فإن مقامات الكلام متفاوتة : مقام التنكير يباين مقام التعريف ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ومقام التقديم يباين مقام التأخير ، ومقام الذكر يباين مقام الحذف ، ومقام القصر يباين مقام خلافه ، ومقام الفصل يباين مقام الوصل ، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة وكذا خطاب الذكى يباين خطاب الغبى (الإيضاح ) .

1ـ5ـ4ـ إتمام الفائدة :  الأصل فى الكلام أن يوضع للفائدة وأن يبلغ المعنى فالبلاغة هى بلوغ المتكلم فى تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التركيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها هكذا يصل الاتحاد والوحدة والانصهار بين اتمام خواص التركيب والبناء النحوى والإسلوبى وبين إتمام الفائدة من الكلام . والعلاقة بينها لا يمكن فصلها عن بعضها البعض فلا معان بغير نحو ولا نحو بغير معان سواء كانت الفائدة هى الخبر والإنشاء أو الإبداع والإعجاز فى حد ذات كل منهما وفى الوصول إلى فرائد النظم وأصح المعانى فى أحسن رونق لتصل بهم إلى القلب مطابقا لمقتصى الحال والمقام وسعيا لكمال الجملة الذى يتميز به أصحاب المرتبة الأولى فى الإبداع على حد قول صاحب المنهاج . إتمام الفائدة وكمال الإحاطة وتمام المعنى كان الهدف الذى يسعى المبدع إلي تحقيقه سعيا أبديا  لا هوادة فيه  وكان النص الأدبى هو التحدى الحقيقى للمبدع العربى الذى يحاول فيه أن يصل إلى أقصى درجات تحقبق إتمام الفائدة ولأنه لايصل إلى الكمال لأن الكمال لله وحده وللنص القرآنى وللنور المحمدى وللتابعين فلم يصل المبدع العربى إلى غايته وإنما ظل يسعى إلى هذه الغاية سعيا أبديا ومازال يسعى وفى هذا السعى سر إبداعه المستمر من أجل الوصول إلى غايته .

1ـ6ـ النحو فرق بين فنون الإبداع : الخلاف بين النثر والشعر ليس خلافا إسلوبيا فحسب وإنما يرجع ذلك إلى الخصائص التركيبية النحوية والصرفية  وقد فرض الشعرعلى نفسه من القيود التركيبية والشكلية وزنا وقافية وغير ذلك مما حتم على الشعراء أن يلجأوا إلى التوسع فى المعنى بالاعتماد على الدلالة الطبيعية والتوسع فى الصرف والنحو لضرورة وغير ضرورة لأنه لولا هذه الحرية النحوية والصرفية ما أمكن مع قيود عمود الشعر أن يكون الشعر أداة ناجحة من أدوات التعبير الفنى . من هنا رأينا الشعراء يترخصون فى شعرهم حتى أصبح الإيغال فى حقل الترخيص أوضح ما يميز لغة الشعر عن لغة النثر ، وهل يقبل فى النثر أن يختلف إعراب التابع عن إعراب المتبوع أو أن يتقدم المعطوف على المعطوف عليه .... أو المستثنسى على المستثنى منه .... أو أن تسقط صلة الموصول أو أن تتحول الكلمة بالترخيص فى بنيتها أو أن يضاف المفرد إلى جملة مصدرة بإما أو أن يقال فى النثر رأيت له بمعنى رأيته أو أن يقترن خبر المبتدأ باللام فى النثر ، ومغزى هذا أن للشعر لغة خاصة به أوضح ما يميزها هو الترخص فى القرائن حين يكون المعنى هو الذى يقتضى القرينة وليست القرينة هى التى تقتضى المعنى كما قال الرافعى ( الأصول) وقد رفض ابن فارس اللغوى الترخص وجعله من الأخطاء التى يجب أن تذم فى الشعر وقال : وما الذى يمنع الشاعر إذا بنى خمسين بيتاً عن الصواب ، أن يتجنب ذلك البيت المعيب ، ولا يكون فى تجنبه ذلك ، ما يوقع ذنباً ، أو يزرى بحروفه ؟ وقال أن الشعراء يخطئون كما يخطئ الناس ويغلطون كما يغلطون وكل الذى ذكره النحويون فى إجازة ذلك والاحتجاج له ، جنس من التكلف ، ولو صلح ذلك ، لصلح النصب موضع الخفض والمد موضع القصر ، كما جاز عندهم القصر فى الممدود ، وتساءل ابن فارس اللغوى : ومن اضطر الشاعر أن يقول شعراً لا يستقيم إلا بإعمال  الخطأ  ؟ : ونحن لم نر ، ولم نسمع لشاعر ، اضطره سلطان ، أو ذو سطوة ، بسوط أو سيف إلى أن يقول فى شعره مالا يجوز ، وما لا تجيزونه أنتم فى كلام غيره ( ابن فارس اللغوى :ـ ذم الخطأ فى الشعر ) .

1 ـ 7 ـ الإبداع سائر لا يتوقف  وهو متجاوز لكل طرق التقويم والتأطير : لم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قوم ، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده فى كل دهر وجعل كل قديم حديثاً فى عصره ، وكل شرف خارجية فى أوله وكما رأى ابن قتيبة أن لا تأثير للشريف أو القدم أو كبر السن وصغره تأثيراً فى تمييز الردئ أن تميز الردئ من الحسن ، وإنما الإبداع والحسن هو الذى يميز هذا من ذاك . وقال : لا نظرت إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه ، وإلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره ، والذين عابوا على ذى الرمة مطلع قصيدته :

         ما بال عينك منها الماء ينسكب       كأنه من كلى مغرية سرب

لأنها صورة قبيحة موجهة للخليفة أو الذين رأو فى بيت أبى ذؤيب :

        والنفس راغبة إذا رغبتها             وإذا ترد إلى قليل تقنع

أنه أحسن بيت قالته العرب لحسن لفظه وجودة معناه فى التعبير عن الذات الإنسانية كما رأى الأصمعى وابن قتيبة ( ابن قتيبة : الشعر والشعراء  ) والذين رأوا فى :

            له همم لا منتهى لكبارهم    وهمته الصغرى أجل من الدهر                     

مبالغة رديئة أو الذين رأوا عكس ذلك من أن الشاعر منتقم من الدهر وما يصنعه بالناس ولذا فلا إسراف فيها ويقع فى باب الضرورات كما رأى الدكتور مصطفى ناصف ( د.مصطفى ناصف: اللغة بين البلاغة والأسلوب ) أو الذين رأوا فى :

             أقيموا بنى أمى صدور مطيكم            فإنى إلى قوم سواكم لأميل

             فقد حمت الحاجات والليل مقمر          وشدت لطيات مطايا وأرحل        

            وفى الأرض منأى للكريم عن الأذى       وفيها لمن خاف القلى متعزل                

             لعمرك ما فى الأرض ضيق على امرئ   سرى راغبا أو راهباً وهو يعقل                       

إنها تعبر عن بتر العلاقة القائمة بين الفرد والمجتمع والانسلاخ منه على خارج منظومته الجماعية . كما يرى يوسف اليوسف ( يوسف اليوسف : مقالات فى الشعر الجاهلى ) ، ورد أبو العلاء على الذين كفروه لقوله :

              أفيقوا أفيقو يا غواة فإنما              ديانتكم مكر من القدماء

إن هذا من المكر : والمعنى أن أهل الكتاب كانوا يمكرون بأتباعهم وفى الكتاب العزيز" ومكروا ومكرالله" وفيه   "ويل للذين يكتبون الكتاب بأيدهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ". وكثيراً ما يقول اليهود فى ألفاظهم وحديثهم : ذكر قدماؤنا كذا وخبر قدماؤنا ذلك، فبنى الأمرعلى هذا النحو، كما رد على من اعترض عليه فى قوله :

                    والموت نوم طويل ماله أمد         والنوم موت قصير فهو منجاب                           

منجاب أنه لا يتعرض به إلا رجل جاهل ، لأن كل جيل ، والمنتسبين إلى كل نحله لا يعترض أنهم يعرفون وقت النشور ما هو ، والمعنى ماله أمد معرف : ومثل هذا فى الكتاب العزيز من كتمان الساعة ومنع بنى آدم من علم أوانها وفي أى جيل يكون قيامها والآيات مشهورة ( أبوالعلاء المعرى:ـ شرح ديوان أبى المتنبى  ) .

وسواء اتفق فى شرح أبيات المتنبى ابن المستوفى المبارك ابن أحمد مع أبى العلاء المعرى فى :     

 وما أربت علي العشرين سنى       فكيف مللت من طول البقاء

 وما استغرقت وصفك فى مديحى    فأنقص منه شيئا بالهجاء

أو اختلافا فى مناقشة بيتى أبى تمام .:

          اجعلى فى الكرى لعينى نصيباً           كى تنال المكروة والمحبوبا

        اشركى بين دمع العين ونومى          واجعلى لى من الرقاد نصيبا

وذلك من حيث قضايا الشعر وأوزانه وعيوبه وعيوب التكرير فيما بين الشطر الأول فى البيت الأول  والشطر الثانى فى البيت الثانى ، ولا يعنى هذا كله سوى أن الإبداع قد انطلق وسار واختلف فيه القدماء والمحدثون وأصبح قائماً مجسماً وحاضراً وقال أبوالفتح عن أبو الطيب أنه كان قليل التخير للكلام ، إذا عبر عن المعنى الذى فى نفسه بأى كلام حضره فقد بلغ غايته هكذا ينطلق الإبداع متفوقاً على حدود الاتهام بالكفر والإلحاد أو حدود التفسير أو التقويم ويقف أمام كل ذلك شامخاً مفتوحاً للأجيال المتتالية أن تتناوله متفقة معه أو مختلفة إلا أنه باقيا ًَ وسائراً فوق حدود الآجيال .

 

2 ـ فضاء الروح

2ـ 1 ـ البيان القرآنى : 1 ـ البيان القرآنى ثقافة شعبية : كان النص الجاهلى نصا ماضويا مملؤا بالحركة على أمل التحرر من قهر الحاضر والتخلص من أغلاله ، طمعاً فى المستقبل .. كان يحاكى الحياة ليواجهها ، أما النص / الخطاب الإسلامى فقد جاء ليضرب الماضى الماثل والحاضر المستمر ليغير وجه الأرض ، وجاء بالأمام  إلى الحاضر وبالمستقبل إلى الواقع وبالعبرة من القرون الأولى التى خلت ، ليحقق فى المجتمع العدل والمساواة والتحرر ومرتبطا بالممارسة الاجتماعية المغايرة لما سبق وضد سلطته القاهرة ، فلا قدسية ولا سلطان إلا للواحد الأحد الذى ليس كمثله شئ .. الحق .. العدل .. الخبير .. المنتقم .. الجبار ، وأى كان الانتماء الطبقى للذى اعتنق الدين الجديد فإنه يدرك ذلك ويأخذه ماخذاً لا هوادة فيه .

وكما يقول العلامة سيد قطب : " إننا يجب أن نبحث عن منبع السحر فى القرآن قبل التشريع المحكم ، وقبل النبؤة الغيبية ، وقبل العلوم الكونية ، وقبل أن يصبح القرآن وحدة متكاملة تشمل كل هذا " ، ومحاولة العلامة سيد قطب فى البحث عن منبع السحر فى القرآن محاولة هامة وجديرة بالعرض ، وقد تراكمت عليها سحب حياتنا السياسية ومواقفه  السياسية التى أهيلت على هذه المحاولة فطمرتها ، وهى توضح معالم البنية الأدبية المستمدة من داخل الخطاب القرآنى الممتدة منه إلى العالم والكون ، حيث تجاهل الكثيرين اعتبار الجمال القرآنى أساساً جوهرياً فى التعامل مع المجتمع وكماهية للقوة بداخله وبداخل الأعمال الأدبية المتنوعة ولم يضعوا هذا الاعتبار فى موضعه الصحيح ، فى الوقت الذى شغل البيان القرآنى جل الحساسية الفنية لدى الشعب تجاه رؤيته وتذوقه للنتاج الإبداع الإنسانى على كافة العصور والمستويات ، وفى الوقت الذى حرص فيه هذا النتاج أن يترابط مع أواصر الجمال فى هذه البنية ، التى يحاول البعض أن يقدمها على أنها نموذج للخطاب الثقافى الرسمى فى حين أنها صرخة للمضطهدين من فئات وطبقات الشعب المختلفة وثقافتها الشعبية التى تضعها نصب أعينها حين تتلقى الرسالات والمعلومات من حولها فى المقام الأول كبنى كامنة تعمل داخل المجتمع وسائرة فيه .

2 ـ التصوير الفنى : ونظرية العلامة سيد قطب ترتكز على " التصوير الفنى " والذى يعرفه فى كتابه الذى يحمل نفسه الاسم " التصوير الفنى فى القرآن " بأنه : هو الأداة المفضلة فى أسلوب القرآن . فهو يعبر بالصورة المجسمة المتخيلة عن المعنى الذهنى ، والحالة النفسية ، وعن الحادث المحسوس ، والمشهد المنظور ، وعن النموذج الإنسانى والطبيعة البشرية . ثم يرتقى بالصورة التى يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة ، أو الحركة المتجددة . فإذا المعنى الذهنى هيئة أو حركة ، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد ، وإذا النموذج الإنسانى شاخص حى وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية . فأما الحوادث والمشاهد ، والقصص والمناظر ، فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة ، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل . فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة ، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول ، الذى وقعت فيه أو ستقع ، حيث تتوالى المناظر ، وتتجدد الحركات ، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى ، ومثل يضرب ويتخيل أنه منظر يعرض ، وحادث يقع . فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو ، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات ، المنبعثة من الموقف ، المتساوقة مع الحوادث ، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة ، فتنم عن الأحاسيس المضمرة : إنها الحياة هنا ، وليست حكاية الحياة ، فإذا ما ذكرنا أن الأداة التى تصور المعنى الذهنى والحالة النفسية ، وتشخص النموذج الإنسانى أو الحادث المروى ، إنما هى ألفاظ جامدة ، لا ألوان تصور ، ولا شخوص تعبر ، أدركنا بعض أسرار الإعجاز فى هذا اللون من تعبير القرآن ، والأمثلة على هذا الذى نقول هو القرآن كله ، حيثما تعرض لغرض من الأغراض التى ذكرناها ، حيثما شاء أن يعبر عن معنى مجرد ، أو حالة نفسية ، أو صفة معنوية ، أو نموذج إنسانى ، أو حادثة واقعة ، أو قصة ماضية ، أو مشهد من مشاهد القيامة ، أو حالة من حالات النعيم والعذاب ، أو حيثما أراد أن يضرب مثلا فى جدل أو محاجة ، بل حيثما أراد هذا الجدل إطلاقا واعتمد فيه على الواقع المحسوس ، والمتخيل المنظور ... وهذا هو الذى عنيناه حينما قلنا : " أن التصوير هو الأداة المفضلة فى أسلوب القرآن " . فليس هو حلية أسلوب ، ولا فلتة تقع حيثما اتفق. إنما هو مذهب مقرر ، وخطة موحدة ، وخصيصة شاملة ، وطريقة معينة ، ولكنها ترجع فى النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة : قاعدة التصوير .

3 ـ الحضور المجسم فى العالم : ويجب أن نتوسع فى معنى التصوير ، حتى ندرك آفاق التصوير الفنى في القرآن . فهو تصوير باللون وتصوير بالحركة ، وتصوير بالتخييل ، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون فى التمثيل . وكثيراً ما يشترك الوصف ، والحوار ، وجرس الكلمات ، ونغم العبارات ، وموسيقى السياق ، فى إبراز صورة من الصور ، تتملاها العين والأذن والحس والخيال ، والفكر والوجدان . وهو تصوير حى منتزع من عالم الأحياء ، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة . تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات ، بالمشاعر والوجدانات فالمعانى ترسم وهى تتفاعل فى نفوس آدمية حية ، أو فى مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة كما قال العلامة سيد قطب . النص القرآن إذن هو حضور مجسم المعالم فاعل فى العالم فهو ليس حكاية الحياة من أجل تجاوز الموت لكنه ثورة على الماضى القائم فى الحاضر من أجل خلق حياة أفضل ونموذج يمتاز بالديمومة والصيرورة هذا النموذج يكتمل حضوره المجسم فى العالم فى النداء الجماعى الذى يخاطب به  النص القرآنى الجماعة والفرد .

4 ـ المنطق الوجدانى والمغايرة : والنص القرآنى مغاير للحكمة الشعرية بالموعظة القصصية والمشاهد الوقائعية المستقبلية . وقد مس العلامة سيد قطب قضية خطيرة هى أساس الحساسية المترسبة فى العقلية العربية وفى الذات العربية وتذوقها للنتاج الأدبى وهى التى طرحها باسم المنطق الوجدانى والجدل التصويرى " فلقد عمد القرآن دائما إلى لمس البداهة وإيقاظ الإحساس لينفذ منها مباشرة على البصيرة ، ويتخطاهما إلى الوجدان . وكانت مادته هى المشاهد المحسوسة والحدوادث المنظورة أو المشاهد المشخصة ، والمصائر المصورة.كما كانت مادته هى الحقائق البديهية الخالدة التى تتفتح لها البصيرة المستنيرة وتدركها الفطرة المستقيمة"وطريقته فى تحقيق ذلك هى التصويروالتشخيص بالتخييل والتجسيم .

الخطاب الإسلامى بالمنطق الوجدانى بنى النموذج للعقلية العربية فى تذوقها للفن وفى ثورتها على الأمر الواقع .. والدخول بالمنطق الوجدانى إلى العقلية العربية يعتبر أحد العوامل الأساسية المشكلة للبنية الدينية الكامنة فى الذات العربية إذا هو يعتمد على المعنى الذهنى والحالة النفسية والحادث المحسوس  والمشهد المنظور والنموذج الإنسانى والطبيعة البشرية وهذا ماوضحه العلامة سيد قطب وهو فى ذلك يقترب فى حميمية بالغة نحو الطبقات الفقيرة والعبيد ليعبر عن خلاصها من القهر والسلطة ويدفعها نحو الثورة عليها لإقامة مجتمع المدنية مجتمع الكتلة البشرية التى تتلائم فيها وتتفاعل وتنصهر كافة العناصر البشرية فالمؤمن أخو المؤمن ينصره ولا يخذله وهم كالبنيان المرصوص ، المنطق الوجدانى عمق وربط الأدب بالتوصيل المعرفى من خلال اللجوء إلى المعنى الذهنى والحقائق الذهنية والارتباط الدلالى بين الذات الادبية والذات / المتلقى ، المنطق الوجدانى أدى إلى قوة التحول من اللحظة الطليلية وما تمثله من سلطة إلى لحظة التفوق على هذه السلطة والتحول للنموذج المثال / النبى الذى هو إنسان يدافع عن الفقراء ويخلص البشر من الظلم الواقع .. نموذج الخليفة الذى ينام تحت الشجرة فى أمن وأمان يحقق العدل ويرفض الظلم من أجل الحرية التى خلقها النص الخطابى الإسلامى ومذاقها الحى شكل عقلية النموذج للذات العربية .. مذاق هذه العقلية تشكل من إعادة تشكيل الحياة الاجتماعية فى المجتمع العربى بشكل مغاير بعد دخول الإسلام وإيمان الأفراد بهذا النظام الاجتماعى الجديد الذى نظم العلاقة بالعدل والمساواة فيما بينهم .

اجمالي القراءات 11460