تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثالث: علماء الإسلاميات الآخرون
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثالث: علماء الإسلاميات الآخرون

محمود علي مراد في الأربعاء ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفصل الثالث

علماء الإسلاميات الآخرون

قد يكون من المفيد، بعد أن حللنا مختلف مواد الصحيفة، وبعد أن حللنا آراء "ر. ب. سرجنت" بشأنها، أن نستعرض أعمال بعض علماء الإسلاميات الذين خصصوا مساحة في كتبهم أو نشروا دراسات في المجلات المتخصصة عن الصحيفة وأن نبدي انطباعاتنا بشأن ما كتبوا. والمؤلفون الذين اخترناهم لهذا الغرض هم: محمد حميد الله، وبركات أحمد، وچـوليوس ولهاوزن Julius Wellhausen، وأرنت چـان وينسينك Arent Jan Wensinck، ومنتجمري واط W. Montgomery Watt، وموشي جيل Moshe Gil، وألفريد لوي دي پريمار Alfred-Louis de Prémare.

وستنصب دراستنا لبحوث هؤلاء المؤلفين المتعلقة بالصحيفة على معالجتهم للموضوعات الأربعة التالية: صحة الصحيفة، وتاريخها، وأطرافها، وموضوعها.

ألف –صحة الصحيفة

هذا الموضوع، على الرغم من أهميته الكبرى، لم يُبحث بتعمق من جانب المؤلفين الذين اخترناهم لهذا البحث. بل إن بعضهم لم يتناوله إطلاقاً. وفيما يلي أراء مَن أعربوا عن آرائهم في خصوصه.

ولهاوزن ([1] )

·اعتُبرت صحة الصحيفة حتى الآن شيئاً مفروغاً منه؛ ولم يعترض عليها أحد، وليس هناك سبب يدعو إلى الاعتراض عليها. وإذا كانت الصحيفة مزيفة لكان لابد لمزيفها أن يراعي معايير الفترات اللاحقة. وما من مسلم حقيقي يكتب في ظل الأمويين أو العباسيين كان يقبل إدراج غير المسلمين في الأمة؛ وما من أحد منهم كان يصرُّ على كراهية قريش، الذين ذُكروا في الصحيفة على أنهم أعداء الله الحقيقيين.

·وما من أحد كان يصطنع مرسوماً يستخدم الرسول فيه سلطته الإلهية استخداماً قليلاً إلى هذه الدرجة.

·الشكل، فضلاً عن المضمون، يؤيد صحة الوثيقة: لقد كان إيجازها وكانت عباراتها التي ينقصها الوضوح موجهة إلى مَن عاصروها ومَن كانت إيماءاتها كافية بالنسبة لهم.

·الذي يقرأ النص يشعر أنه نُقل إلى أحوال الفترة التي كان محمد لا يسمى فيها محمداً النبي إلا مرة واحدة؛ وهو يسمى، قرب نهاية الصحيفة، برسول الله. والمسلمون، كما في القرآن، يسمون بالمؤمنين. ثم هناك عدة تعبيرات مثل: على ربعتهم، ومفرج، ودسيعة، واباء، واعتبط، وأوتغ تعطي انطباعاً بأن لغة الصحيفة لغة قانونية قديمة وليس فيها إلا جمل قليلة متفرقة تحمل الطابع الإسلامي.

وينسينك([2] )

·هذه الصحيفة وثيقة من أهم الوثائق التي بين أيدينا وأكثرها صحة وأكثرها معاصرة للأحداث. وحجج "ولهاوزن" بشأن صحة الصحيفة حججٌ مقنعة لأكثر الناس تشككاً.

·الإشارة إلى هذه الوثيقة في الكتابات العربية تجعل وجودها شديد الاحتمال. من ذلك:

 أ ) أن إحدى بنات الرسول أعلنت في مسجد المدينة أنها تجير زوجها السابق (وكان مشركاً من أهل مكة) الذي طُلقت منه بالإسلام والذي دخل المدينة سراً. وحين علم الرسول بذلك قال: "يجير على المسلمين أدناهم" وقد حدث ذلك قبل فتح مكة، في لحظة لم يعد الدستور فيها سارياً بصفة عامة. ولعل هذا هو السبب في أن أحد القرشيين تمتع بالإجارة، خلافاً للمادة 43 (=48)([3] )؛

ب) أن النبي قال في خطبة ألقاها بعد فتح مكة:"يعقد عليهم أدناهم"، وهي إشارة غير مباشرة إلى المادة 15 (=16)؛

ج) أن الواقدي ذكر في تسجيله لخطبة الرسول جملة: "ولا يُقتل مسلم بكافر"، وهي جملة تشبه بالضبط بداية المادة 14 (=15).

·أكثر الإشارات دلالة على الدستور هي تلك التي نجدها في مجموعة الأحاديث. وقد احتفظ البخاري ومسلم في صحيحيهما بما جاء في الدستور تحت باب قبائل المدينة. وفي هذا الباب نجد أحاديث تشير إلى المواد التي تقرر أن يثرب حرم والتي تحظر حماية المحدِث والتي تتحدث عن "إجارة أدناهم" وتنهى عن محالفة مولى شخص آخر.

·في باب الديات من صحيح البخاري وباب القسامة من مجموعة النسائي حديث عن صحيفة احتفظ بها عليّ. وحين كان يُسأل عليّ عن مضمونها كان يجيب: "الدية وفدية الأسير ولا يُقتل مسلم بكافر". وهذه كلها إشارات إلى مواد مقابلة في الدستور.

·محتوى الوثيقة وارد في صياغة مختلفة قليلاً في مجموعتي أبي داود والنسائي، ونص أبي داود يتضمن تفاصيل أكثر. والإشارة فيهما هي إلى المواد المتعلقة بإجارة أدناهم وبتحريم قتل مؤمن بكافر وأنه لا يكسب كاسب إلا على نفسه وحديث بشأن المحدِث.

·من الغريب أن اليهود لم يرد لهم ذكر في كل هذه الأحاديث النبوية.

منتجمري واط([4] )

لقد اعتُبرت هذه الصحيفة صحيحة بوجه عام … وقد عرض "ولهاوزن" الأسباب التي جعلته يعتبرها صحيحة باختصار. وما من مزيِّف لاحق يكتب في ظل الأمويين أو العباسيين كان يدرج غير المسلمين في الأمة؛ وما منهم أحد كان يحتفظ بمواد ضد قريش أو يجعل أهمية محمد قليلة بهذه الدرجة. كذلك فإن أسلوب الصحيفة قديم. وبعض التعبيرات مثل كلمة "المؤمنين" كناية عن "المسلمين"، المستخدمة في معظم المواد، ترجع إلى الفترة المدنية الأولى.

موشي جيل([5] )

·تعبير "الصحيفة"، الذي يظهر في الجزء الأول من الوثيقة يثبت، حسبما يقول "واط"، أنها كانت بالفعل وثيقة مكتوبة؛ وهو يثبت كذلك أن جميع أطراف المدينة المذكورين فيها قبلوها رسمياً. وذلك أبعد ما يكون عن الصحة فيما يتعلق باليهود.

·الأدلة على صحة الصحيفة:

– تعبيرات قديمة كثيرة؛

– ما من مزيِّف، كما يقول "ولهاوزن"، كان يستطيع أن يُدخل غير المسلمين في الأمة أو يستبقي الفقرتين اللتين تتحدثان عن قريش أو يجعل مركز محمد ذاته متواضعاً نسبياً؛

– مجموعات الحديث النبوي تتضمن عدداً من الأحاديث بشأن صحيفة يحيطها الغموض احتفظ النبي أو عليّ بجزء منها يتضمن أحكاماً بشأن الدية (العقل) وحظر قتل المسلم بكافر. وفي الإمكان أن يجد المرء هنا مقابلة بين هذه الأحكام وبعض مواد الصحيفة. ويقول ابن سعد إن النص كان محفوظاً في جراب سيف النبي، المعروف بذي الفقار، والذي سُلِّم بعد وفاته إلى عليّ؛

– يقول أكثر من حديث إن الصحيفة كانت محفوظة عند عليّ، وحين سُئِلَ عليّ عما إذا كان يحتفظ بأثر عن الرسول لا يعلمه الناس أجاب بأنه لم يترك سوى القرآن و"هذه الصحيفة"، التي تتحدث عن العقل وفدية الأسير وألا يُقتل مسلم بكافر؛

– هناك كذلك أدلة على المكان الذي حُررت فيه الصحيفة. فقد حُررت في بيت أنس بن مالك الذي قال، حسب الرواية، إن الرسول حالف قريشاً والأنصار في بيته.

·يقول ابن الأثير إن الخليفة الأموي مروان بن الحكم (64-65/683-685) أشار وهو يخطب في قومه إلى الحرم المكي ولم يشر إلى الحرم المدني، فقاطعه رافع بن حديج قائلاً إن النبي جعل من المدينة حرماً. وصمت مروان لحظة ثم قال إنه سمع شيئاً مثل هذا.

·إسناد الصحيفة، الذي لم يرد عند ابن إسحاق، وارد عند ابن سيد الناس. والأحاديث التي تُنسب للرسول تُعتبر صدىً لعناصر وثيقتنا في المادة التي تكررت عدة مرات والتي يقال فيها أن التحالفات لا تتم إلا بين المسلمين وأن من غير المسموح لأي فئة أن تعقد سلماً منفصلاً.  

أ. ل. دي پريمار([6] )

·على الرغم من أن الكلام الذي يُنسب إلى بعض أصحاب محمد عن هذه المسألة مقتضبٌ للغاية فإن ما يُنسب لعليّ، الخليفة الرابع، وارد بإصرار وفيه تضخيم متكرر. ويقال إن علياً احتفظ بالصحيفة في جراب سيفه؛ وقد سئل ذات يوم عما إذا كان رسول الله قد ترك شيئاً غير القرآن فأجاب: القرآن وما في هذه الصحيفة (التي كانت في جراب سيفه). وحين سئل عن مضمون الصحيفة المذكورة أجاب في اقتضاب بكلمات أو تعبيرات يُفهم منها أن فيها كلاماً عن العقل، وعن فدية الأسير، وأنه لا يُقتل مؤمن في كافر. ولكن الروايات بشأن ما قاله عديدة ومختلفة وبعضها يضخِّم محتويات النص.

·كان موضوع صحة هذه الوثيقة موضع مناقشة منذ زمن طويل. وقد قيل مؤخراً إن ابن إسحاق، الذي ترجع إليه سيرة ابن هشام، كان قد تلقى النص من عبد الله سيد الأسرة العلوية في زمنه وأحد أحفاد علي بن أبي طالب، وأنه كان يشير إلى نص مكتوب. وأبدى خبراء آخرون تحفظات على هذا الرأي. كذلك فإن نص أبي عبيد الذي يُنسب إلى الزهري قد يبدو أفضل من نص ابن هشام بالنسبة لبعض النقاط. ومهما يكن من أمر فإن جوهر هذا الميثاق وأسلوبه القديم ومفرداته أشياء من الممكن مقابلتها بعناصر خارجية وهي كلها تشير إلى وثيقة بعض أجزائها على الأقل قديم وهي تعكس الإلهام الأول لحركة محمد وتابعيه. 

·على أن من الجائز أن عدداً من العناصر التي يتضمنها النص الحالي متأخر: لقد كان علي ومعظم رواة الأحاديث النبوية بشأن الصحيفة ممن اشتركوا في الحروب الأهلية التي مزقت المسلمين بعد مقتل الخليفة عثمان في عام 656 و لعبوا فيها دوراً كبيراً. وقد ناصر آخرون مثل أنس بن مالك فيما بعد خليفة مكة الذي كان ينافس الأمويين في الفترة من 681 إلى 692م. ومن الممكن أن ينعكس كل هذا أيضاً على عملية تجميع الأجزاء التي حررها محمد في الأصل في مواقف مختلفة.

·بعض مواد الصحيفة واردة في أحاديث أو في سير الرسول. من ذلك:

– أن المدينة حرم بين عير وثور. ومَن يعتدي فيها أو يؤوي معتديا فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين؛ ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

– إن ذمة المسلمين واحدة ومن يخون مسلماً فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين؛ ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

– مَن يحالف قوماً دون إذن أوليائه فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين؛ ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

– مَن يحدِث أمراً ومن يؤوي المحدِث فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين؛ ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

– لإبراهيم حرم مكة وأنا أجعل من المدينة حرماً بين هاتين الحرتين وفي حماها.

– المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم وهم جميع يد واحدة على الآخرين.

– الوفاء بالعقل واجب على المؤمنين.

– لا يُترك في الإسلام من ليس له كفيل.

– لا يُقتل مسلمٌ بكافر.

– لا يحل لامرئ أن يحالف مولى مسلم دون إذن هذا الأخير.

ملحوظاتنا

1- الأسباب التي تدعو للشك في صحة الصحيفة، خلافاً لرأي "ولهاوزن"، عديدة. وقد أوردناها في دراستنا لهذه الوثيقة وفي ملحوظاتنا على دراسة "سرجنت".

2- الإسلام، تحت حكم الأمويين والعباسيين، لم يعد كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والأدلة على ذلك كثيرة منها الحروب التي نشبت بين المسلمين في ظل الخلافتين المذكورتين. وإدراج غير المسلمين في أمة ذات لون محلي متأثر بالخلافة ليس كبيرة بالقياس  إلى حروب المسلمين فيما بينهم.

3- إدراج غير المسلمين في الأمة كان يمكن أن يقدَّم كدليل على تسامح الإسلام.

4- حروب المسلمين ضد القبائل اليهودية تُعزى في بعض المصادر العربية إلى انتهاك اليهود لأحكام المعاهدات التي كانت تربطهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيفة. وإدراج اليهود ضمن مكونات الأمة التي قامت بمقتضى هذه الصحيفة كان يخدم هذا الغرض، وهذا أمر غير مستغرب.

5- إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستخدم سلطته الإلهية في الصحيفة إلا في حدود ضيقة فذلك، كما أوضحنا في محصلة الجزء الأول من هذه الرسالة، لأنه لم يكن من مصلحة الخليفة العباسي أن يبدو الرسول في مقام يمكن أن يحجب عظمته هو. وهذا الاعتبار صحيح أيضاً بالنسبة للخلفاء الأمويين.

6- لكي تكون الحجة المتعلقة بقدم اللغة المستخدمة في الصحيفة مقنعة كان الواجب أن تنبني هذه الحجة على مقارنة مع نصوص صحيحة ترجع إلى الفترة ذاتها. والحاصل أن أحداً لم يقدم هذه النصوص. ولكن بغض النظر عن هذا يمكن القول بأن كل فن التزييف يتحصل في محاولة جعل الشيء المزيف يبدو شيئاً أصلياً. وعلاوة على ذلك ليس بين أيدينا عنصر مادي يسمح بأن يقال بصورة أكيدة إن الصحيفة التي نقلها إلينا ابن إسحاق هي مستند صحيح وليس تزييفاً كمعظم ما ورد في "سيرة" هذا المؤلف.

7- حقيقة أن بعض مواد الصحيفة تقابلها بعض الأحاديث النبوية الواردة في مصنفات جامعي الأحاديث أو كُتاب السيرة المعروفين لا يعني بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشير إلى الصحيفة أو أن الأحاديث المروية عنه تؤكد الصحيفة. بل إن من الممكن أن يقال، على العكس، إن المواد التي يشار إليها كانت مستلهَمة من أحاديث صحيحة أو موضوعة. والحق أن من غير المفهوم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى بعد أن قال هذا الحديث أو ذاك، أن يسجله كتابةً في صحيفة. ولا لماذا لم تُدرَج في هذه الصحيفة أو تُكتب في صحيفة أخرى مستقلة أمور أهم بالنسبة لحياة المجتمع المدني مما جاء فيها.

8- الشهادات - وهي مختلفة فيما بينها - بشأن المكان الذي حُررت فيه الصحيفة، وحقيقة أن علياً كان الشخص الوحيد الذي أودعت عنده، والمكان - جراب سيفه الذي وُضعت فيه - وحقيقة أن أحد الخلفاء الأمويين قد سمع بصورة غامضة عن نصها المتعلق بإعلان المدينة كحرم، تعطي انطباعاً بأننا إزاء وثيقة سرية لا يعرف من أمرها إلا عدد محدود جداً من الأشخاص. والحاصل أن الصحيفة إذا كانت قد وُجدت فعلاً وإذا كانت لها الأهمية التي يضفيها عليها المؤرخون في عصرنا هذا:

 أ ) لكان الواجب يقضي، كما سبق لنا القول، بأن يكون توقيعها مناسَبة لاحتفالات وأفراح غير مسبوقة في تاريخ المدينة؛ وكان لابد أن يتذكرها كل أهل هذه المدينة وأن ينقلوا ذكراها إلى أبنائهم وأحفادهم؛

ب) لكان الواجب أن تكون الصحيفة موضوعاً لإشهار على أعلى مستوى ممكن وأن تُبلَّغ لا إلى جميع قطاعات سكان المدينة فحسب بل إلى مَن هم خارج المدينة، لكي يعلم أعداء المدينة الاحتماليون أنهم إذا دهموها فسيجدون، للدفاع عنها، جبهة موحدة تُعبّأ فيها جميع القوى البشرية والمالية للمدينة. وكان يجب أن يتم هذا الإعلان في مسجد المدينة، وفي معبد اليهود أو في مكان عام، كما حدث بالنسبة للصحيفة الأخرى التي قررت فيها قبائل قريش في مكة أن تقاطع قبيلة عبد المطلب والتي عُلِّقَت، كما يخبرنا ابن إسحاق، في الكعبة؛

ج) كان لابد أن تُعَدَّ الصحيفة من عدة نسخ تأخذ كل فئة من سكان المدينة نسخة منها، وكان لابد أن تحتفظ كل فئة بنسختها في مكان أمين لكي يمكنها إظهارها إذا نشب نـزاع أو شجار مما تنص عليه مادتاها 26 و 47.

9- المسائل التي تناولتها الصحيفة والتي تتحدث عنها المصادر القديمة لا تمس إلا بعض مواد الصحيفة. ماذا كان الوضع بالنسبة للمواد الأخرى، سيما تلك التي تتحدث عن اليهود؟

10- نود أن نقف لحظة عند إحدى هذه المسائل وهي تلك التي تحظر قتل مسلم قصاصاً لكافر. لقد سبق أن ذكرنا، في ملحوظاتنا بشأن المادة 15 من الصحيفة التي تقرر هذه القاعدة، أنها لا ترتكز على أي نص قرآني؛ وأن كل نفس بشرية، لا نفس المسلم وحدها، مقدسة في القرآن الكريم وأن من غير المعقول أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرر هذه المادة. ونود أن نضيف هنا سبباً آخر يستبعد احتمال أن تكون هذه المادة قد سُجِّلت في الصحيفة: هو أن الكفار ما كانوا ليقبلوها. لقد كان الكفار يشكلون بالقطع أكبر عدد من أهل المدينة في الوقت الذي يُورده الواقدي – والذي يقبله معظم المؤلفين الذين تناولنا كتاباتهم – أي خلال السنة الأولى من الهجرة. وكانت عملية دخول أهل المدينة في الإسلام لا تزال في بدايتها وكان نفوذ الكفار في شئون مدينتهم لا يزال كبيراً. وكان الحظر الذي فرضته عليهم المادتان 23 و48 بشأن إجارة أشخاص من بني دينهم من قريش وأموالهم يكلفهم كثيراً. أما قبول أن يتمتع المسلم الذي يقتل أحداً منهم بميزة الحصانة التي تحرمهم من حق تطبيق قانون القصاص طبقاً لأحكام الصحيفة نفسها، التي تعترف بهذا الحق للمسلمين ولليهود بل ولمواليهم، فأمر لم يكونوا ليقبلوه.

11- ما الذي حدث للصحيفة التي كان عليٌ رضي الله عنه يحتفظ بها في جراب سيفه والتي دُوِّن فيها نص ثلاث أو أربع من مواد الصحيفة؟ إن "موشي جيل" يخبرنا، نقلاً عن السمهودي - الذي كانت تفصله عن هذا الحدث ثمانية قرون، فقد توفي عام (911/1506) -  أن سيف علي رضي الله عنه كان السيف الذي كان محمد بن عبد الله بن الحسن (المهدي)، من سلالته، يقاتل به حين سقط وهو يحارب عام 762 (114ه) وأن الذي قتله كان عيسى بن موسى، عم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. ويقول "جيل" أن الصحيفة لم تكن آنذاك، على الأرجح، في جراب السيف. ولكن أين كانت؟ ومَن الذي كان عنده أصل الصورة المشتملة على نص اثنين وخمسين مادة التي نقلها إلينا ابن إسحاق كلها؟ المصادر لا تقدم إجابة عن هذه الأسئلة، كما أنها لا تحدثنا عن الطريقة التي استطاع بها ابن إسحاق أن يحصل على صورة منها. 

باء –التاريخ

ابن إسحاق لا يحدد التاريخ الذي حُررت فيه الصحيفة، ولكنه يضعها في الفترة الأولى اللاحقة لوصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهي تأتي بعد بناء المسجد - الذي لابد أنه استغرق أسابيع أو شهوراً قليلة - وإقامة المسلمين لدى مضيفيهم من أهل المدينة، ولكن قبل عملية المؤاخاة بين مهاجري مكة و"الأنصار". ونذكِّر هنا بأن "سرجنت" يرى أن الوثائق ألف وباء وجيم ودال التي تمثل على التوالي معاهدة الاتحاد الكونفدرالي، وملحقها، والمعاهدة التي تحدد الوضع القانوني للقبائل اليهودية في الاتحاد، وتكملتها، قد وُقِّعت في الشهر الخامس أو السادس بعد الهجرة. أما الوثيقة هاء، التي تؤكد وضع اليهود القانوني، فقد وُقِّعت وفقاً له بعد اغتيال كعب ابن الأشرف، الذي وَقَع في بداية السنة الثالثة. والوثيقة واو التي تُعلِن المدينة كحرم، حُرِّرت، حسبما يقول، في عام 6 أو 7. أما الوثيقة زاي التي هي معاهدة عُقدت قبل غزوة الخندق بين عرب يثرب وبني قريظة للدفاع عن مدينتهم ضد قريش مكة وحلفائها فقد "وُقِّعَت" قبل حصار يثرب، أي عام 4 أو 5. وأخيراً فإن الوثيقة حاء التي هي ملحق بإعلان يثرب حرماً فقد حُررت، وفقاً "لسرجنت"، في نفس التاريخ. 

حميد الله ([7])

·يؤخذ من المصادر أن هذه الوثيقة حُررت في العام الأول من الهجرة. وقد صدرت بعد وقت قصير من وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولا تعطي هذه المصادر أصلاً مختلفاً لكل من جزئيها. ويحمل ذلك على الظن بأن كليهما يرجع إلى نفس الفترة. على أن من الممكن أن يتساءل المرء كيف ولماذا قبل اليهود العدول بمحض إرادتهم عن استقلالهم وارتضوا سيادة أجنبي، غير يهودي، غير معروف، وأقل منهم قوة. ومن الجائز أن نكون هنا إزاء وثيقتين حُررتا في فترتين مختلفتين احتفظ بهما المؤرخ كوثيقة واحدة وأدرجهما الواحدة بعد الأخرى.

·الدستور لا يذكر القبائل اليهودية صراحةً باعتبارها كيانات مستقلة؛ بل هو على العكس يسمي عشر قبائل عربية أسلمت، ليقول إن اليهود حلفاء هذه القبيلة العربية أو تلك تكون لهم هذه الحقوق أو تلك؛ ومعنى هذا، فيما يبدو، هو أن هؤلاء اليهود لا ينضمون إلى المدينة - الدولة الاتحادية، على قدم المساواة، وإنما باعتبارهم موالي لسادتهم من المسلمين. ومثل هذا الوضع لا يمكن تصوره إلا في فترة كان قد تحقق للمسلمين فيها فوزٌ مدوٍ في الخارج عزز موقفهم الداخلي. وقد تركت المادة 16 (=18) الباب مفتوحاً أمام اليهود للدخول، إذا شاءوا، في الميثاق.

·يبدو أن ابن منظور يعتقد أن الاتفاق المعقود مع اليهود كان وارداً في كتاب مستقل عن ذلك الذي يتحدث عن مسلمي المدينة وعن المهاجرين، فهو يشير إلى الاتفاق الذي تم بين المسلمين المهاجرين ومسلمي المدينة من جهة وإلى الاتفاق مع اليهود من جهة أخرى في فقرة واحدة من كتابه. وأبلغ من ذلك كثيراً في الدلالة ما قاله المحدِّث الكبير أبو داود من أن هذا الاتفاق عُقد بعد غزوة بدر (في السنة الثانية من الهجرة) وعند موت كعب بن الأشرف.

·والشيء الوحيد الذي يشعر فيه حميد الله إزاءه بعدم الارتياح هو أن المرء لا يعثر على بداية الاتفاق مع اليهود: إن هذا الاتفاق يبدأ فجأة بعبارة "وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين" [المادة 24 (=27)]. ومن الممكن في رأيه تفسير المسألة كالآتي: الاتفاق مع اليهود لم يكن إلا توسيعاً لنطاق الدستور الأصلي، ولم تكن هناك حاجة إلى إضافة مواد تكميلية لتحديد حقوق وواجبات وحدات جديدة في المدينة - الدولة الإسلامية الجديدة. وإن لم يكن الأمر كذلك فالأرجح أن المصادر حذفت ببساطة المواد التي تعتبر بمثابة "مواد أسلوب" في بداية الاتفاقية الجديدة. ولما كان غرض هذه الاتفاقية هو إدماج اليهود في الحياة السياسية والدستورية للمسلمين، فإن هذه المصادر تقدم الوثيقتين بعد أن تدمجهما في نص موحد.

بركات أحمد([8] )

·المواد الثلاثة والعشرون الأولى (التي تقابل الوثيقتين ألف وباء عند "سرجنت") جزء من الاتفاق العام الذي عُقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم و "الأنصار" في العقبة (في الفترة المكية)، أو بعد الهجرة بزمن قصير. أما باقي المواد فكانت تضاف من وقت لآخر بحسب الحاجة. وقد حُررت المواد المتعلقة باليهود وإعلان المدينة كحرم بعد سنة 7/628.

والواقع:

1- أن كون الصحيفة لا تذكر بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، هذه القبائل اليهودية الثلاث التي اشتبك المسلمون معها في نـزاعات مسلحة، مؤداه أن هذه القبائل لم تعد موجودة بالمدينة لدى تحرير هذا الكتاب.

2- أن هذه القبائل لم تكن تمثل إلا جزءاً من سكان المدينة من اليهود، الذين يمكن تقدير عددهم، بتجميع بعض المعلومات المستقاة من المصادر الكلاسيكية، برقم يتراوح بين 36000 و 42000، وأن من بقي في المدينة من اليهود بعد جلاء بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة عدد يتراوح بين 24000 و 28000. وهؤلاء السكان - الذين كانت بطونهم مرتبطة ببطون الأوس والخزرج - هم الذين تتحدث عنهم الصحيفة. ولا تذكر المصادر في الواقع أنه كان هناك هجرة عامة من يهود المدينة خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

3- أن كلمة "إثم"، التي تعني "الخيانة"، واردة في ثماني مواد من الصحيفة. وكون اليهود مذكورين في سبع من هذه المواد، تعني أن المسلمين، بعد أن جربوا الخيانة من جانب بني النضير وبني قريظة، أرادوا أن يُفهموا البطون اليهودية التي بقيت في المدينة أنها إذا خانتهم فسيترتب على ذلك بصورة آلية إلغاء جميع الاتفاقات والاتفاقيات التي كانت معقودة بينهم وبين المسلمين.

4- أن اعتبار أرض معينة حرماً يفترض إما وجود تقليد متين ومستمر، كما كان الحال بالنسبة لمكة، أو قوة عسكرية قادرة على فرض وحماية هذا الحرم من الاضطرابات الداخلية أو التهديدات الخارجية. والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السنوات الأولى من الهجرة وحتى غزوة الأحزاب (سنة 5 هجرية) لم يكونوا آمنين ولم يكن بوسعهم أن يطمئنوا إلى كونهم قادرين على حماية المدينة. ومع ذلك لم يكن السلام في المدينة مضموناً في غزوة بدر، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه سوى 346 مقاتلاً. وقد حاول بنو قينقاع أن يثيروا اضطراباً أو اضطرابين، وكان بنو النضير على صلة بأهل مكة، وكان موقف بني قريظة خلال غزوة الخندق يثير كثيراً من المخاوف لدى المدافعين عن المدينة. وقد قام نـزاع مفتوح بين المهاجرين والأنصار بعد غزوة بني المصطلق سنة 5، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم تدارك الأمر في اللحظة الأخيرة.

·على الرغم من أن غزوة الخندق كانت حرباً دفاعية وأن المسلمين عُقد لهم فيها النصر لأنهم في بلدهم إلا أنهم لم يكونوا يشعرون بالأمان في إعلان يثرب حرماً. لذلك فمن المعقول أن نستنتج أن يثرب أُعلنت كحرم بعد حادث بني قريظة الذي كان في واقع الأمر نتيجة لغزوة الخندق. وقد كُسرت شوكة المنافقين في نفس الفترة تقريباً. ونـزلت سورة المنافقون في سنة 6/627. ويرى السمهودي، الذي بحث بالتفصيل موضوع تاريخ الحرم والحدود والأمور المحظورة داخل الأرض التي أُعلنت حرماً، أن الحرم المدني أنشئ بعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من خيبر في سنة 7/628.

·لقد أنشئت الأمة إذاً بمقتضى الصحيفة في حوالي الفترة الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تُنشأ بعد وصوله إلى يثرب مباشرةً.

ولهاوزن

يرجع تاريخ الصحيفة إلى الفترة السابقة على غزوة بدر.

وينسينك

·لم يكن في الإمكان أن يحرر محمد الدستور لدى وصوله إلى المدينة. إنه لم يكن، في ذلك الوقت، على علم بالظروف التي كانت سائدة فيها. وكان مضطراً إلى الانتظار وإلى التعرف على الموقف الذي يتخذه منه كل طرف من الأطراف. كذلك لم يكن يعرف ما هو الدور الذي كان عليه أن يقوم به، فهل كان باستطاعته في هذه الفترة الأولى أن يتصرف بسلطان؟

·على مدى ما يقرب من السنة، حاول محمد أن يبقى في إطار اليهودية. ولما أدرك أنه من المستحيل في الأجل الطويل أن تكون هناك قاعدة مشتركة بينه وبين اليهود، بحث عن حل بديل. هذا البديل كان دين إبراهيم. وجاء إعلانه هذا في الوقت الذي قطع فيه علاقاته مع اليهود. ولهذا لابد أن يكون الدستور قد حُرر بعد هذه القطيعة مباشرة أي في منتصف السنة الثانية من الهجرة تقريباً، إذ أن غزوة بدر، التي حدثت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، هي التي يصح أن يحدَّد على أساسها تاريخ الوثيقة.

·من غير المتصور أن يكون محمدٌ قد وعد اليهود بمساعدتهم ضد الأعداء الداخليين أو الخارجيين وبحُرية الدين أو أن يكون قد أعلن يثرب حرماً مقدساً بعد غزوة بدر، إذ أنه كان ساعتها على وشك أن يهاجم بني قينقاع (في الشهر العشرين بعد الهجرة).

·لقد زودت غزوة بدر محمداً بفرصة لإلغاء جميع التنازلات التي قدمها لليهود. وكان نصره نجاحاً عزز سلطته بين بني قَيْلة (الأوس والخزرج) وسمح له بالتصرف بقدر أكبر كثيراً من الثقة. وقد بدا له منذ ذلك الوقت أن باستطاعته الاستغناء عن اليهود؛ ولم ينتظر طويلاً قبل أن يعبِّر عن ضيقه الشديد بهم.

منتجمري واط

·كان تاريخ الصحيفة موضع مناقشات: أيجب أن توضع قبل أو بعد غزوة بدر؟ إن ولهاوزن يضعها قبل بدر. إلا أن "هيوبرت جريم" Hubert Grimmيفضل وضعها بعد بدر ويسوق تأييداً لذلك الأسباب التالية: أن الوظائف المسندة إلى محمد في المواد 23 (=26) و 36 (=39) يتضح منها أن سلطته كان معترفاً بها بوجه عام؛ والإشارة إلى القتال "في سبيل الله" في المادة 17 (=19) وفي المادة 19 (=21)؛ و"في الدين" في المادة 45 (=50)، تعني، فيما يبدو، أنه كانت هناك معارك؛ وما كان يمكن أن يُطلب من مؤمني المدينة أن يقفوا موقفاً عدائياً من قريش إلا بعد بدر. ويقول "كايتاني" Caetaniإن هذه الحجج ليست قوية بالقدر الذي كان يظنه "جريم"، وهو يفضل تاريخاً سابقاً على بدر.

وتفترض هذه المناقشة بشأن تاريخ الصحيفة أن لها وحدة كاملة؛ ولكن هذه بالذات هي النقطة التي ينبغي دراستها قبل أي شيء آخر. وهناك من الأسباب ما يدعو إلى اعتبار أن المواد وضعت في فترات مختلفة وأنها قد ضُمت إحداها إلى الأخرى. ويلاحظ أن بينها بعض الاختلافات اللغوية.

·إن حقيقة كون اليهود جزءاً من الأمة حجة لها وزنها في ترجيح احتمال أن يكون تاريخها سابقاً على غزوة بدر. ويبدو من المعقول أن هذه الوثيقة لا تنسحب على المجموعات اليهودية الثلاث. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الصحيفة، في شكلها الحالي، يمكن أن تنتمي إلى الفترة التي أعقبت القضاء على بني قريظة. أليس من الغريب أن يولَى كل هذا الاهتمام لشئون اليهود في وقت كانوا فيه قلة في المدينة؟ إن من الممكن شرح هذه الحقيقة بافتراض أن الوثيقة، في شكلها النهائي، قد وضِعَت لتحل محل عهد عُقد مع اليهود الذين بقوا في المدينة، وأن هذا العهد كان يتضمن جميع المواد التي تعنيهم والتي وردت في الأشكال السابقة من دستور المدينة.

ومن الممكن أن يُحدد تاريخ الوثيقة افتراضاً على النحو التالي: أقدم المواد حتى المادة 15 (=16) أو 16 (=18) أو 19 (=21) أو 23 (=26) تمثل العبارات الأصلية لاتفاق وقِّع بين محمد وبين البطون المدنية في العقبة، أو لعلها كانت من صنع النقباء بعد الهجرة بوقت قليل. وهي تعالج أساساً المشكلات التي أثارتها ضرورة الحفاظ على السلم بين القبائل العربية. وإلى هذه المواد كانت تضاف من وقت لآخر، حسب الحاجة، مواد جديدة وكانت المواد التي أصبحت غير صالحة تُلغى، مثل المواد المتعلقة ببني قريظة وبني النضير. وكلمة "الصحيفة" الواردة في المواد 22 (=25) و 47 (=51) تعني اتفاقية مكتوبة قبلتها الأطراف التي اشتركت فيها قبولاً رسمياً. وعبارة "أهل هذه الصحيفة" تعني، بالتأكيد، اليهود كما تعني المسلمين.

موشى جيل

·بعض العلماء يعطي للصحيفة تاريخاً لاحقاً على غزوة بدر إذ أنها تتضمن الاعتراف بسلطة محمد كما أن فيها إشارة إلى الحرب المقدسة: "في سبيل الله". وهناك علماء آخرون يعتبرون أن كون اليهود مدرجين دائماً في الأمة دليل يشير إلى فترة سابقة.

·يميل "جريم" إلى الاعتقاد بأن الكتاب قد دوِّن بعد بدر، إذ أن هذا هو الوقت الذي أصبحت فيه القطيعة مع قريش عميقة الجذور. ولكن هذا الرأي لا يأخذ في الحسبان قدرة النبي في مجال التخطيط السياسي. ولم تكن حرب قريش، في المطاف الأخير، نوعاً من النـزوات العارضة؛ بل كانت لها صلة بالهجرة ذاتها.

·يعتبر "تور أندراي" Tor Andraeأن الوثيقة حُررت في السنة الثانية من الهجرة وذلك لأنها، في رأيه، قد تمثل المرحلة الثانية من تطور الإسلام، التي أصبح فيها أكثر من دين، أي أصبح أخوّة.

·الأخوَّة، والاستعداد للحرب من أجل قضايا جديدة، كانا أول حافزين للتوسع ولنشر الحماس الديني. وكان الباعثان مرتبطين أحدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً.

·عبَّر "بوهل" Buhlعن رأي مؤداه أن الوثيقة تصور حقيقة أن النبي يئس من ضم اليهود إليه. وهو يرى أن تاريخها لا يمت إلى الفترة التالية مباشرة للهجرة، بل إلى فترة لاحقة.

·إلى أي مدى يجب أن يُقبَل التأكيد النابع من المصادر الإسلامية والذي فحواه أن محمداً كانت لديه آمال بشأن اليهود وأنه كان في البداية حسن الاستعداد حيالهم؟ هذه مسألة ينبغي النظر فيها. لذلك فإن "سيَر" الرسول تضع تحرير الصحيفة بين الأعمال الأولى التي قام بها بعد قدومه إلى المدينة.

·تحرير الصحيفة وارد قبل المؤاخاة بين المهاجرين و"الأنصار". وقد تمت هذه المؤاخاة، وفقاً للسمهودي، بعد قدوم الرسول إلى المدينة بخمسة شهور (أو ثمانية شهور وفقاً لرأي آخر). وكان في ذلك الوقت بسبيل بناء المسجد؛ على أن البعض يقولون: قبل بناء المسجد، وآخرون يقولون بعد بنائه. وهذا هو الوقت الذي يذكره الدياربكري على أساس أن المعاهدة عُقدت مع اليهود بعد خمسة شهور من وصول النبي إلى المدينة. وهناك أسباب جدية للشك في صحة هذه الآراء.

أ. ل. دي پريمار

الافتراض الغالب هو أن وثيقة أولى ترجع إلى السنوات الأولى من الهجرة أُلحقت بها إضافات متعاقبة وفقاً للظروف إلى ما يقرب من العام السابع للهجرة (628)، بشرط أن يتوصل المرء إلى درجة من التحديد بشأن هذه النقطة.

ملحوظاتنا

فيما يلي جدول يلخص آراء مؤلفينا السبعة بشأن تواريخ الصحيفة، وقد أدرجنا فيه أيضاً آراء "جريم" و"كايتاني" و"تور أندراي" و"بوهل" التي ذكرها بعض هؤلاء المؤلفين.

المؤلف

تاريخ أو تواريخ الصحيفة

حميد الله

- السنة الأولى

- من الجائز أن المواد المتعلقة باليهود ترجع إلى تاريخ لاحق (بعد قتل كعب بن الأشرف، بعد الهجرة بخمسة وعشرين شهراً).

بركات أحمد

- المواد الـ 23 الأولى (البطون الإسلامية): بيعة العقبة الثانية أو بعد الهجرة بقليل.

- المواد الأخرى: حسب الحاجة.

- المواد المتعلقة باليهود وإعلان المدينة حرماً: بعد السنة 7/628.

ولهاوزن

- قبل بدر أي خلال الـ 18 شهراً الأولى.

وينسينك

- في منتصف السنة الثانية.

جريم

- بعد بدر.

كايتاني

- قبل بدر.

واط

- المواد المتعلقة بمسلمي مكة والمدينة: في العقبة (بمكة) أو بعد الهجرة بقليل.

- أضيفت مواد جديدة من وقت لآخر حسب الحاجة.

- قبل بدر فيما يتعلق باليهود.

تور أندراي

- السنة الثانية.

بوهل

- لا بعد الهجرة مباشرةً بل في فترة لاحقة.

جيل

- بعد الهجرة بخمس سنوات.

دي پريمار

- وثيقة أولى في السنوات الأولى من الهجرة وإضافات متتالية وفقاً للظروف حتى حوالي سنة 7 هجرية.

 

1- ليس هناك، كما نرى، اتفاق بين المؤلفين على التاريخ الذي حُررت فيه الصحيفة، ولا على تواريخ أجزائها عند أولئك من بينهم الذين يرون أنها ليست وثيقة واحدة وإنما تجميع لوثيقتين أو أكثر كُتبت في أوقات وفي ظروف مختلفة. ولم يتعمق المؤلفون في تاريخ جزء الوثيقة الذي نستطيع أن نسميه بالإسلامي، ولكن يبدو أن هناك تسليماً بأنه يرجع إلى الشهور الأولى من الهجرة، على الرغم من أن اثنين من المؤلفين يقترحان تاريخاً سابقاً ويُرجعانه، إلى بيعة العقبة الثانية التي عُقدت في مكة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو سبعين حاجاً من الأوس والخزرج عشية الهجرة.

2- أما عن مواد الجزء اليهودي من هذه الوثيقة، فإن الاختلاف بشأن تاريخها كبير، فبعض المؤلفين يرجعها إلى خمسة شهور بعد قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعضهم يرجعها إلى غزوة بدر (18 شهراً بعد الهجرة)، وبعضهم يقترح تاريخاً لاحقاً لهذه الغزو، وبعضهم يقترح 25 شهراً من الهجرة، بعد مقتل كعب ابن الأشرف، وهناك أخيراً من يحددها بالسنة السابعة من الهجرة، بعد نهاية الصدامات المسلحة مع القبائل اليهودية الكبرى. ويستند كل افتراض من هذه الافتراضات إلى حجج مستمدة من مصادر تاريخية كثيراً ما تفصلها قرون عديدة عن فترة النبوة، ومصداقيتها ليست دائماً محققة.

3- متى أُعلنت المدينة حرماً؟ عند مؤلفينا الذين يعتبرون أن الصحيفة وثيقة واحدة ورد هذا الإعلان في الصحيفة ذاتها: بعد ستة أشهر من الهجرة، أو قبل بدر بقليل أو بعدها بقليل. وهناك مؤلف يضع هذا الإعلان، مع المواد التي تخص اليهود، في السنة السابعة من الهجرة. ونصف المؤلفين لم يتعمقوا في بحث هذه المسألة.

4- ولكن ما الحال بالنسبة لجزء "المشركين" من الصحيفة، أي الجزء الذي حُظر فيه عليهم إجارة القرشيين أو أموالهم؟ على الرغم من أهمية هذا الموضوع الذي يتجه إلى فئة من السكان كانت، في السنة الأولى المدنية، بلا أدنى شك، أهم من فئة المسلمين والتي كانت، في السنوات التالية وإلى أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى تمثل قوة لا يستهان بها، فإن تاريخ وظروف إدراجها في الصحيفة لم تحظ باهتمام خاص من جانب مؤلفينا. على أن المشركين، بالنسبة لأولئك الذين يعتبرون أن الصحيفة وثيقة واحدة، كانوا طرفاً في الأمة منذ توقيع هذه الوثيقة.

5- وأخيراً هناك مسألة تبدو لنا أساسية فيما يتعلق بالصحيفة هي المسألة التالية: إذا كانت هذه الوثيقة قد وُجدت بالفعل فكان من الواجب، باعتبارها محرراً قانونياً، - سواء كان إعلاناً أم معاهدة - أن تكون لها مدة سريان. وحتى إذا لم تكن مدة السريان هذه، شأنها شأن تاريخ الوثيقة، مدرجة في النص، فإن المسألة التي تثيرها لا يمكن تفاديها، لاسيما وأنها هي ذاتها مدة وجود الأمة نفسها. والحاصل أن أياً من المصادر القديمة أو من مؤلفينا لم يذكر، حتى بصورة تقريبية، التاريخ الذي أُلغيت فيه الصحيفة أو نُقضت أو انتهت أو سقطت. وما من أحد من هؤلاء المؤلفين تحدث عن أثر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على سريان هذه الوثيقة التأسيسية، ولا عن مصير طوائف سكان المدينة حين انتهى وجود الصحيفة.

جيم –أطراف الصحيفة

حميد الله

كان في المدينة، طبقاً لما يقوله جميع المؤرخين، ثلاث قبائل يهودية: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ ولكن صحيفتنا لا تتحدث عنها: وهي لا تتحدث إلا عن يهود هذه القبيلة العربية المسلمة أو تلك. ووفقاً لنفس المصادر، لم يكن في المدينة عرب إلا بني قَيلة المنقسمين إلى أوس وخزرج. ونص الدستور لا يتحدث عنهما كذلك بهذا الوصف وإنما يعَيِّنهما بفروعهما. ومن السهل مع ذلك تحديد هوية هذه الفروع ونسبتها إلى الأوس أو الخزرج. وكاتب السيرة ابن إسحاق يخبرنا في فقرة هامة أن معظم بني قينقاع كانوا حلفاء للخزرج ومعظم بني النضير وبني قريظة كانوا حلفاء للأوس.

ونظراً إلى أن الدستور لا يتحدث عن الأوس والخزرج بصفتيهما هاتين، وإنما عن بطونهما (النجار وساعدة، الخ) وعن حلفائهما من اليهود، فالأرجح أن المجموعات اليهودية الثلاث الرئيسية لم يكن لها هي الأخرى سوى وجود نظري وأنها كانت من الناحية العملية منقسمة انقسام القبائل العربية.

ولهاوزن

·الأمة لم تكن مُشَكَّلة من المؤمنين وحدهم بل كان فيها أيضاً مَن تبعوهم ومَن لحقوا بهم وجاهدوا معهم، أي كل سكان المدينة. وكانت الأمة وحدة مغلقة وكانت المدينة كلها مكاناً حراماً لأهل هذه الصحيفة.

·بالرغم من أنه كان هناك مشركون بين الأنصار فإنهم، هم أيضاً، كانوا ضمن من تشملهم. وقد قُبل اليهود كما قُبل باقي سكان المدينة القدامى من العرب الذين كانوا على علاقات مع اليهود منذ وقت طويل باعتبارهم حلفاء للأنصار الذين كانوا يعيشون في أحيائهم. والعلاقة القديمة بين اليهود والأنصار جرى تحويلها إلى الأمة. وكان الواقدي يميز بحق بين مجموعتين من أهل المدينة في الجاهلية: أفراد الطبقة الحاكمة، أي الأنصار، ومواليهم الذين كانوا يتكونون من البطون اليهودية وتلك التي دخلت اليهودية، وكان يدرك أن نية محمد، بعد قدومه إلى المدينة،كانت تتجه إلى توحيد جميع هذه العناصر ولكن مع ترك علاقات اليهود القديمة مع الأوس والخزرج كما هي وعدم استبعاد بني النضير وبني قريظة من الأمة.

·كون الأمة كانت تتضمن المشركين واليهود دلالة على أنها كانت تنظيماً لطوائف لا لأفراد.

·كان المهاجرون يُعتَبرون أيضاً كبطن مستقل وكان ينبغي أن يحتفظوا بوضعهم ويصبحوا أعضاء في الأمة بهذا الشكل. وقد أدمج محمد التنظيم الكلاسيكي القديم في الكيان الجديد. وأصبحت البطون إطار الأمة الجديد. وكان على محمد أن يتصرف على هذا النحو إذا أراد أن يسود القانون والنظام في المدينة وأن يجعل إقليم هذا البلد كله حرماً آمناً.

وينسينك

·البطون المذكورة في المواد من 3 (=4) إلى 7 (=8) هي الفروع الرئيسية للخزرج؛ وتلك المذكورة في المواد من 8 (=9) إلى 10 (=11) هي بطون الأوس. وكل اليهود الوارد ذكرهم في المواد من 26 (=29) إلى 29 (=32) كانوا يشكلون بني قينقاع. ويبدو أن الإشارة إلى بني الأوس في المادة 30 (=33) هي إلى بني النضير وبني قريظة.

·لم يكن الدستور، بصورة أساسية، معاهدة مع اليهود. ويتضح هذا من حقيقة أن الصحيفة لا تتحدث عنهم في أي مكان بأسمائهم أو أسماء بطونهم.

·انتهى "سبرنجر" Sprengerفي كتابه "حياة محمد" إلى أن الإشارة هي فقط إلى العرب المتهودين وأن بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع، بالتالي، لم يكونوا داخلين ضمن الأمة.

·محتوى الدستور وروحه يناقضان رأي "سبرنجر"، والواقع أن بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة إنْ لم يكونوا طرفاً في هذه المعاهدة، لما كان كُتاب السيرة بحاجة إلى الدفاع عن موقف محمد إزاءهم في الفترة التالية واتهامه إياهم بأنهم خرقوا أحكامها.

·وجود عدد كبير من المشركين والمنافقين لا يظهر في أي مكان من الوثيقة ولكنهم كانوا داخلين ضمن الأمة.

واط

إغفال أسماء القبائل اليهودية الثلاث الكبرى أو البطون اليهودية أمر مستغرب. على أن من الممكن أن يفسَّر ذلك بافتراض أن محمداً جمَّع اليهود وفقاً للبطون العربية التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها؛ وعلى هذا فإن من المحتمل أن بني النضير وبني قريظة كانوا داخلين ضمن يهود الأوس وثعلبة إذ أنهم كانوا يقيمون بين أوس الله وثعلبة بن عمرو بن عوف. وهناك مع ذلك أسباب قوية تدعو إلى تصور أن المجموعات اليهودية الثلاث الكبرى لم تكن داخلة في الصحيفة. ومن المحتمل جداً أن جملة "يهود بني عوف" تعني "اليهود الذين كانوا حلفاء لهذا البطن". وقد أصبحت مجموعات يهودية صغيرة كمجموعة الراتچبالتأكيد حلفاء للبطن العربي الذي كان يحيط بها؛ على أن بني النضير وبني قريظة كانوا يمتلكون إقليمهم الخاص، وقد أصبحوا في النهاية حلفاء لعشيرة بني عبد الأشهل التي كانت تقطن على مسافة قريبة منهم والتي كانت جزءاً من بطن بني النبيت الذي لم يذكر بين البطون التي أُلحق بها يهود. ثانياً، يعرض ابن إسحاق قائمة من سبعة وستين يهودياً من مخالفي محمد ويوزعهم على النحو التالي: 12 من بني النضير؛ و3 من بني ثعلبة ابن الفيطون؛ و 31 من بني قينقاع؛ و17 من بني قريظة؛ ويهودي من بني زريق؛ ويهودي من بني حارثة؛ ويهودي من أوس ابن عوف؛ ويهودي من بني النجار. ومن المحتمل إذاً أن يكون يهود ثعلبة المنصوص عليهم في المادة 31 (=34) هم أولئك الذين يرى ابن إسحاق والسمهودي أنهم قبيلة يهودية، ويدل ذلك على أن مجموعات يهودية صغيرة، تختلف عن القبائل الثلاث الكبرى، كانت في وقت من الأوقات معروفة بـ "يهود هذا البطن العربي أو ذاك".

موشي جيل

·عنوان "الصحيفة" يتحدث عنها باعتبارها عهداً بين المهاجرين والأنصار ومَن تبعهم. لذلك فإنهم جزء من أمة لا بطون. هذا بطبيعة الحال هو ما يجب فهمه من عبارة "من دون الناس" وكلمة "دون" مستخدَمة عدة مرات في الوثيقة.

·بعد تحليل مختلف استخدامات كلمة "أمة" في الدستور، من الأرجح أنها تعني "مجموعة".

·واضح من الصحيفة ذاتها أن هذه الوحدة الجديدة تتكون من المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب و"مَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم". ولا يدخل في هذا أي طرف محايد.

·كل بطن من البطون التي كان محمد يعتبر أنها داخلة في الاتحاد الكونفدرالي تعهد علناً بأن يكون مسئولاً عن العقل (الدية). أما فدية الأسرى فكان يجب أن تتحمل بها جماعة المؤمنين. وخلافاً للخصوصيات «particularismes»الماضية، فإن هذا التعهد يكتسب قوة إضافية من كونه تم وسُجِّل من الجميع وأصبح بذلك نوعاً من الاتفاقيات المشتركة فيما بين القبائل أضفى عليه ممثل الله طابعاً مقدساً.

·يبدو من الواضح أن موقف المصادر الإسلامية هو أنه كانت هناك معاهدة بين اليهود والرسول؛ وأن اليهود التزموا بأشياء لم يفوا بها؛ ولذلك يفسَّر مصيرهم بأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم.

·لماذا لم يرد في الصحيفة أي ذكر للقبائل اليهودية الرئيسية الثلاث: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟ إن "هيرشبرج" Hirschbergيرى أن بعض البطون اليهودية المذكورة ينتمي إلى بني قينقاع. ويرى "ولهاوزن" أن الوثيقة لا تذكر كل الخزرج على الرغم من كونها تذكر منهم خمسة بطون من المؤكد أنها تنتمي إلى الخزرج. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة للقبائل اليهودية الرئيسية. ويذكر "ولهاوزن" شيئاً آخر هو أن اليهود لم يكونوا شركاء في الصحيفة فهم لا يظهرون فيها إلا باعتبارهم موالي البطون العربية دون أن تُذكر أسماؤهم.

·على أن الوثائق تتضمن أسماء بطون يُفترض أن هويتها يهودية، مثل جفنة وثعلبة والشطيبة.

·وقد عولجت مسألة باقي يهود المدينة بصورة من الواضح أنها نتيجة لكونهم حلفاء أو موالي بطون عربية. وهؤلاء الحلفاء أو الموالي هم الذين عقد محمد معهم العهد لا مع اليهود.

دي پريمار

·كلمة أمة تعني أولاً "جماعة / مجموعة" بمعنى محايد. وهي هنا لا تعني مجموعة إثنية أو قبلية، وإنما تعني، في إطار الجزيرة العربية في ذلك الوقت، اتحاداً "كونفدرالياً" قائماً بين مجموعة من القرشيين الذين قدموا مؤخراً إلى يثرب ومختلف بطون وقبائل منطقة يثرب التي يذكرها الميثاق.

·بالإضافة إلى المؤمنين من قريش فإن بطون يثرب، التي يلحقها علماء الأنساب بمجموعتي قبائل قريظة والأوس، ثمانية. وقد عُينت بأسمائها في قائمة متكررة الصيغة.

·منذ بداية الميثاق، ورد ذكر "مَن تبعنا من يهود". وهذه العبارة تزداد تحديداً في باقي المواد. وعلى هذا فإن كلمة أمة تتضمن معنىً خاصاً ذا أهمية يؤكد طابعها السياسي، الذي هو الاتحاد الكونفدرالي. ففي باقي نصوص الميثاق أُدرجت في عهد الأمة عدة بطون من يهود يثرب: وهذه البطون تشكل اتحاداً "كونفدرالياً" (أمة) مع المؤمنين.

·يبدو وضع بطون يثرب اليهودية داخل الاتحاد الكونفدرالي الأصلي شديد الغموض. وقد ذُكرت مختلف البطون اليهودية الوارد ذكرها في الصحيفة لا بأسمائها بل بصلة تحالفاتها السابقة مع بطون غير يهودية.

·وتتحدث كتابات المغازي وكتابات الفتوح على السواء عن يهود المدينة باعتبار أنهم كانوا يشكلون ثلاث مجموعات كبيرة عُرفت بأسمائها هي بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير. والحاصل أن أياً من هذه الأسماء الثلاثة لا يظهر في ميثاق يثرب. ونظراً إلى إصرار كُتَّاب المغازي على ذكر دور وأهمية هذه المجموعات الثلاث في الجغرافيا البشرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمدينة، ونظراً أيضاً إلى ما تمثله من قوة عسكرية، فإن المرء يكاد يتساءل عما إذا كان اليهود الذين يتحدث عنهم ميثاق يثرب هم حقيقةً يهود المدينة الذين ورد ذكرهم في كتابات المغازي والفتوح. وتساؤلات المؤرخين بشأن هذه المشكلة لا تنتهي.

ملحوظاتنا

1- لم يهتم مؤلفونا ببحث وضع محمد صلى الله عليه وسلم في الصحيفة بالضبط. هل كان أحد الأطراف في هذه الوثيقة باعتباره ممثلاً فحسب للمهاجرين، كما يظن "سرجنت"، أم كان يمثل الطرف المسلم الذي يتكون من المهاجرين ومن مسلمي يثرب؟ أم كان رئيساً للأمة كلها بمكوناتها الثلاثة: المسلمين والمشركين واليهود؟

2- لا يتوقف أحدٌ منهم عند حقيقة أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يبدو، في المادة الأولى من الصحيفة، كطرف من أطرافها، بل يبدو فقط كمحرر لها؛ إذ أن المادة المذكورة تقول: "هذا كتاب من محمد". لقد ذكرت الصحيفة أنه الحائز للسلطة القضائية، ولكن ذلك في حد ذاته لا يعني بالضرورة أنه كان بين الأطراف المتعاقدة أو الأطراف التي كانت تتجه إليها الصحيفة.

3- إذا اعتبرنا الصحيفة إعلاناً أو مرسوماً لكان الرسول صلى الله عليه وسلم رئيساً للأمة، إذ أن حاكم المدينة وحده هو الذي كان يمتلك السلطة التي تسمح له بإصدار مثل هذا الإعلان أو المرسوم. على أن هذا ليس الرأي الغالب بين مؤلفينا على الرغم من أن صياغة بعض أحكام هذه الوثيقة تحمل على اعتبار أنها، جزئياً على الأقل، عمل من طرف واحد.

4- البطون المذكورة في المواد من 4 إلى 11، هل تمثل جميع مسلمي يثرب الذين تشير إليهم المادة الأولى أم تمثل جزءاً من هؤلاء السكان المسلمين؟ إن كانت تمثل كل هؤلاء السكان فلماذا ذُكرت بالأسماء؟ وإن كانت لا تمثل إلا جزءاً منهم فماذا كانت نسبتهم المئوية بالقياس إلى المجموع؟ وفي هذه الحالة الأخيرة، ماذا كان وضع البطون المسلمة التي لم يرد ذكرها في هذه الوثيقة بالنسبة للصحيفة، وبالنسبة أيضاً للأمة التي أقامتها الصحيفة؟ إذا لم تكن تمثل إلا جزءاً منهم فمعنى ذلك أنه كان في المدينة فئتان من "الأنصار": فئة سُميت بطونها في الصحيفة وفئة بقيت خارجها. هذه مسألة هامة كانت تستحق الدراسة ولكن أحداً من مؤلفينا لم يتعرض لها.

5- صياغة المواد المذكورة تعطي انطباعاً بأن البطون المذكورة، فيما عدا أعضائها اليهود، أسلمت مائة في المائة. وهذه المسألة تتصل بتاريخ الصحيفة. فإذا كانت الصحيفة قد "وُقِّعت" بعد ستة أشهر أو بعد سنتين من الهجرة، لذكرت المصادر إسلامها خلال هذه الفترة. والحاصل أن وصف المراحل المختلفة لدخول المدينة في الإسلام لم يرد في أي مصدر من المصادر وأن الشكوك جائزة فيما يتعلق بمقولة أن يثرب أسلمت كلها خلال السنة الأولى من الهجرة. و القرآن الكريم ،كما أثبتنا من قبل، يكذِّب هذه الأسلمة الجارفة والكاملة. وتكذِّبها أيضاً المادة 23 من الصحيفة ذاتها، التي تتجه إلى المشركين.

6- حقيقة أن كلمة "مؤمنون" واردة صراحةً في ثلاث وعشرين مادة وأنها ضمنية في ست مواد أخرى، بينما لم ترد كلمة "المسلمون" إلا في ثلاث مواد من الصحيفة، ليست مسألة هينة، كما شرحنا من قبل، مع الاستناد إلى المعطيات القرآنية:

أ ) فإن كل من كانوا يقولون أنهم مسلمون لم يكونوا مؤمنين؛ وكان بينهم عدد غير قليل من المنافقين، الذين يشبههم القرآن الكريم بالمشركين في مثل هذه الآية:

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ … ﴿73﴾[الأحزاب]؛ 

ب) إذا كان من الممكن التعرف على المسلمين فإن ذلك غير ممكن بالنسبة للمؤمنين؛

ج ) نظراً إلى أن المؤمنين لا يمكن التعرف عليهم، لأن الإيمان الحقيقي ليس له مظهر خارجي، فإن المؤمنين لا يصلحون طرفاً في الصحيفة؛

د ) كان هناك مؤمنون بين اليهود.

والواقع أن هذه المسألة بالغة الأهمية التي تتعلق بهوية أطراف الصحيفة لم تكن موضع مناقشة من أيٍ من مؤلفينا. وقد ذكر اثنان منهم أن القرآن كان في بداية الفترة المدنية يعتبر اللفظين مترادفين، ولكن ذلك غير أكيد.

7- كيف، والقرآن الكريم يقول:

– … ووَيْلٌ للمُشْرِكِينَ ﴿6﴾[فصلت]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُّشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴿48﴾[النساء]

– … وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً … ﴿36﴾[التوبة]

كان من الممكن أن يُدخِل النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في اتحاد كونفدرالي مع مشركي المدينة، علماً بأن الآية (23) من سورة التوبة تحظر على المسلمين أن يتخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء إنْ استحبوا الكفر على الإيمان وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل قط، وهو في مكة، في مثل هذا الاتحاد الكونفدرالي، على الرغم من محاولات قريش المتكررة للوصول معه إلى حل وسط.

8- إن وجود المشركين في الأمة، الذي تقرره المادة 23، يثير تساؤلات ويطرح مشكلات كبرى:

– ماذا كانت أهميتهم العددية بالنسبة للمكونَين الآخرين لسكان المدينة في مختلف الأوقات التي وُقِّعت فيها الصحيفة وشُكِّلت الأمة؟

– كيف تأتَّى أن يناصب مشركو مكة المسلمين العداء ويضطهدوهم بجميع الوسائل ولا يدخرون وسعاً في إيذائهم على الرغم من أنهم كانوا أبناءهم وإخوانهم، وأن يقبل أبناء ملتهم مشركو المدينة أن يكونوا طرفاً في اتحاد كونفدرالي مع المسلمين، الذين كانوا يفرضون عليهم التزامات تتجاهل مشاعرهم ومصالحهم؟

– كيف يمكن تصور أن ينضم هؤلاء المشركون إلى أمة المسلمين الذين يلعنهم قرآنهم بلا توقف ويعدهم بنار جهنم الأبدية وأن يقبلوا صحيفة لا تكفل لهم بصورة قاطعة حرية العبادة التي تكفلها لليهود.

9- وبخلاف الحال بالنسبة للمسلمين والمشركين، ناقش مؤلفونا حالة اليهود في الصحيفة مناقشة مستفيضة. ولكن آراءهم، في هذا الشأن أيضاً، جدُّ مختلفة. والمشكلة هنا هي قبل كل شيء مشكلة تحديد مَن هم يهود الصحيفة. والأسئلة التي تطرح نفسها في هذا الخصوص عديدة، منها:

أ ) مَن هم:

– في المادة 18، "مَن تبعنا من يهود" الذين لهم "النصر والأسوة"؛

– في المواد 27 و 41 و 43 اليهود الذين "ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين"؛

– في المواد 35 و 36 و 38 "جفنة والشطيبة وبطانة اليهود"، ومَن هم يهود الأوس في المادة 51؟

لا أحد يدري.

ب) لماذا لا نجد في الصحيفة أسماء قبائل المدينة اليهودية الثلاث التي يتحدث عنها كُتَّاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أسماء البطون اليهودية الأخرى المتحالفة مع البطون العربية المسماة أو مواليها؟ إن المصادر القديمة لا تقدم إجابات مباشرة عن هذه الأسئلة. وهذا ما فتح الباب أمام المؤلفين المحدثين للخروج بنظريات بعيدة كل البعد إحداها عن الأخرى أو متعارضة. من ذلك مثلاً أنه قيل عن بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة:

– إنها قبائل لم يكن لها إلا وجود نظري؛

– إنهم كانوا في واقع الأمر اليهود الذين تشير إليهم المواد 28 إلى 34؛

– إنهم لم يُدرَجوا في الصحيفة؛

– إنهم ليسوا اليهود الذين تتحدث عنهم الصحيفة.

أما اليهود الوارد ذكرهم في المواد 28 إلى 34 فقد قيل:

– إنهم كانوا عرباً متهودين؛

– إنهم كانوا من قبل حلفاء أو موالي البطون اليهودية التي تحولت علاقاتهم مع "الأنصار" إلى الأمة بعد تكوينها إذ أن محمداً أدمج التنظيم الكلاسيكي القديم في الوحدة الجديدة؛

– إنهم كانوا بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.

أما جفنة والشطيبة فإن هويتهم لم تعرَّف بصورة أكيدة. ويرى أحد مؤلفينا أن جفنة كانوا أسرة يهودية من موالي ثعلبة؛ وأن ثعلبة كانوا، على الأقل جزئياً، قد دخلوا في الإسلام، وأن الشطيبة، الذين كانوا يعيشون في حي اليهود بالمدينة، ربما كانوا يهوداً.

10- الاعتبارات التي ذكرناها أعلاه بشأن المشركين تسري أيضاً، إلى حد كبير، فيما يتعلق باليهود. ذلك أن القرآن الكريم يقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ … ﴿51﴾[المائدة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ … ﴿57﴾[المائدة]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا …﴿82﴾[المائدة]

وهذه كلها أحكام تحظر على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين أن يدخلوا مع اليهود في علاقات متميزة. ومن جهة أخرى فإن اليهود لم تكن لهم أي ميزة في الدخول مع المسلمين في اتحاد كونفدرالي كذلك الذي نظمته الصحيفة. إنهم لم يكونوا يعترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. كذلك فإن وجود المسلمين في المدينة كان يضر بمصالحهم ويخلخل القواعد الاجتماعية والاقتصادية التي بنوا عليها حياتهم في المدينة منذ قرون. لقد كان المسلمون إذاً أعداء لهم والاتحاد مع الأعداء كان يتنافى مع مقتضيات الحكمة.

ولكن هذه الاعتبارات لم تكن موضع اهتمام مؤلفينا. لقد اطمأنوا إلى ما قاله الواقدي ومَن تبعوه بشأن مشروع كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف إلى توحيد جميع قطاعات سكان المدينة في أمة واحدة، واعتبروا أن الصحيفة هي الوثيقة المؤسِّسة لهذه الأمة.

11- هناك مسألة أساسية تتعلق بأطراف الصحيفة هي تلك التي تترتب على عبارة "ومَن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم" في نص المادة الأولى من هذه الوثيقة. عمن تتحدث هذه العبارة؟ إذا كان مَن تعنيهم الصحيفة، بالإضافة إلى مسلمي قريش ويثرب، هم اليهود والمشركون فإن أول أسئلة تخطر على الذهن كبداية لبحث الوثيقة يجب أن تكون:

– هل كان هناك يهود أو مشركون تبعوا المسلمين، وهل لحقوا بهم وجاهدوا معهم؟ وإذا كان الرد بالإيجاب فمن كانوا؟ ؛

– متى وفي أي ظروف وبأي صورة اتبع هؤلاء المسلمين ولحقوا بهم وجاهدوا معهم؟

هذان السؤالان الحاسمان لم يُطرحا في البحث المتعلق بصحة الصحيفة أو بتاريخها أو بأطرافها.

دال –الموضوع

لكل مؤلف من مؤلفينا قراءته الخاصة لموضوع الصحيفة. وسنستعرض آراءهم فيما يلي بهذا الشأن:

حميد الله

·استشار محمد أصحابه واستشار جيرانه من غير المسلمين؛ وقرر الجميع، وقد اجتمعوا في دار أنس، أن يُكوِّنوا مدينة – دولة. وحُرر دستور هذه المدينة – الدولة في وثيقة من حظنا أن نصها حُفظ لنا بالكامل. وإذا كان هذا النص هو دستور أول دولة إسلامية، فإنه في الوقت ذاته أول دستور مكتوب لدولة من الدول في العالم أجمع.

·لم يكن هذا الدستور أمراً صادراً من سلطة عليا تنظم شئون الرعايا فحسب، بل كان أيضاً وثيقة مكتوبة.

·وتتحدث المادة الأولى عن بدء أمة إسلامية – أمة سياسية ودينية في الوقت ذاته – تتكون من المسلمين المهاجرين من مكة، ومن مسلمي المدينة، ومن قوم ليسوا مسلمين قبلوا تركيز السلطة المدنية هذا كما قبلوا واجب الدفاع إلى جانب المسلمين إذا ما نشبت حرب. هذه الأمة كانت تكِّون كياناً مستقلاً في مواجهة العالم أجمع، وكانت تعترف بالمساواة في الحقوق لكل عنصر من عناصرها التكوينية، لاسيما وقت الحرب. وقد تَرَكَت مادة خاصة الباب مفتوحاً لليهود للدخول في هذا التنظيم السياسي على أساس التعاون المتبادل والعدالة للجميع.

·كانت هذه الوثيقة تشكل ثورة حقيقية فيما يتعلق بإدارة العدل، إذ أن هذه المهمة أُسندت بصورة نهائية إلى المجموع، أي إلى السلطة المركزية، لا إلى فردٍ كما كان الحال من قبل. وكان على كل مواطن أن يقدِّم لها العون حتى ضد أعضاء قبيلته أو أسرته أو أقربائه. وكان محظوراً إيواء أي مجرم. وكان الله تعالى في كل النـزاعات، هو المصدر الوحيد للقوانين وللعدالة وكان "محمد رسول الله" الحَكَم الأعلى.

·وقد قرر الدستور (استناداً، مع بعض التعديلات، إلى العرف القديم) تأميناً اجتماعياً لفدية أسرى الحرب وللاستعاضة بالدية عن القصاص في حالة القتل أو الجرح. وكانت كل قبيلة تتمتع بالاستقلال الذاتي في إدارة هذا النظام، ولكن مع أيديولوچـية جديدة: فإن القبيلة لم تعد هيكلاً متحجراً يرتكز على الميلاد أو التحالف، بل أصبحت ترتكز على تنظيم ديناميكي يدخله المرء بإرادته الحرة.

·والأرجح أن هذه الشتلة الصغيرة نمت فغدت شجرة الـ"جنسية" الإسلامية. وخلافاً لما هو الحال بالنسبة لأفكار أخرى، ثابتة أو عارضة، تتعلق بالجنسية عند الآخرين، كوحدة الجنس أو لون البشرة أو اللغة أو رابطة الميلاد، اختار الإسلام فكرة الهوية الديناميكية التي ترتكز على النظرة إلى العالم، وعلى العقد وعلى ما يختاره الشخص بنفسه أساساً لـ"جنسيته".

·أما فيما يتعلق بالدفاع والأمن، فإن الدستور يعلن أن السلم لا يتجزأ، ويفرض واجب الخدمة العسكرية على الجميع على قدم المساواة، ويحظر على الرعايا غير المسلمين، ومن باب أولى على المسلمين - أن يجيروا بأي صورة من الصور أموال أو أشخاص قريش، الذين كانوا في ذلك الوقت العدو الوحيد، ويفرض التزام تقديم المساعدة المشتركة للخسائر التي يتحملها الأفراد في أي قضية إسلامية. وأخيراً، وبشكل خاص، فإن هذا الدستور يطلب الاعتراف بـ "محمد رسول الله" كقاضٍ أعلى، أياً كانت القضية التي اشتجر فيها الأشخاص الذين يتحدث عنهم.

·والإشارة إلى الإقليم قصيرة وهي لا تتحدث إلا عن "جوف" المدينة، وهذا يعني كل مساحة السهل والوادي اللذين كانت تعيش فيهما القبائل (وقد كان بين مساكن اليهود مساكن للعرب والعكس بالعكس).

·ويبدأ الجزء اليهودي من الدستور بالتحدث عن واجبات اليهود إذا قامت حرب دفاعية؛ لذلك فإن لنا أن نتصور أن هذه فترة كان المسلمون يخشون فيها اعتداءً من الخارج وكانوا يخشون أيضاً من تعاطف يهود المدينة مع المعتدين. لقد مُني المكيون بهزيمة لم تكن منتظرة في بدر، وكانوا يعدون العدة لحرب انتقامية. وذهب شاعر المدينة اليهودي كعب بن الأشرف إلى مكة خصيصاً ليعرب عن تعاطفه مع المنهزمين ولكي يؤكد لهم أنهم يستطيعون أن يعتمدوا على تأييده الإيجابي في حالة غزوهم للمدينة ضد المسلمين. ولدى عودته إلى المدينة كلفته هذه المؤامرة الغادرة حياته فقد اغتالته يد عصبة من المسلمين. وفزع اليهود عند موت كبيرهم واضطروا إلى عقد معاهدة دفاعية مع جيرانهم المسلمين وتفاهمٍ بتبادل المعونة، وذلك مع تنازلات ما كانوا يقبلونها في وقت آخر لاسيما في بداية الهجرة. وقد أقنعهم مركزهم الضعيف بالتساهل ضمناً في عبارة "رسول الله" التي لم تكن على أي حال تفرض عليهم شيئاً، إذ أن حرية ممارسة العقيدة كانت مكفولة لليهود في مادة خاصة. وكان هذا أيضاً هو الذي جعلهم يقبلون محمداً كحكم أعلى في الخلافات التي لا يستطيعون حلها وحدهم.

·وكان من المحظور رسمياً على اليهود أن يجيروا أو يحموا قريش مكة أو حلفاءهم. وبالإضافة إلى أن هذا النص كان يحرم المكيين من عون يهود المدينة فقد كان غرضه هو التحالف الإسلامي- اليهودي فيما لو تعرض أحد الطرفين لهجوم من عدو ما. وكان لابد أن يتحمل كل من الطائفتين الإسلامية واليهودية نفقات الحرب الدفاعية. أما في حالة الحرب الهجومية والدينية فلم يكن على أيٍ من الطائفتين أن تعين الأخرى.

·جميع القبائل اليهودية، وحتى العرب الذين اعتنقوا اليهودية، وجميع مواليهم وبطانتهم، كانت لهم نفس الحقوق وكان عليهم نفس الواجبات.

·إنه دستور مكتوب؛ وهو يتحدث عن كل أجهزة حكومة ذلك الوقت وعن الاحتياجات الخاصة للأمة السياسية الوليدة: الدفاع، والتشريع، وإدارة العدالة، وأمور أخرى.

·ومن المحظور صراحةً إجارة حياة أو أموال قريش مكة. ومع ذلك فإن عالماً كبيراً كالبخاري يخبرنا أنه كان هناك على الأقل حالتان، حتى غزوة بدر، في العام الثاني من الهجرة، لم تتردد شخصيات إسلامية رفيعة فيها في حماية أموال المكيين. هل معنى هذا أن الحظر المذكور لم يكن مدوناً في الدستور في البداية وأنه أضيف إليه بعد غزوة بدر، أم أن الدستور كله يعود إلى الفترة اللاحقة على الغزوة المذكورة؟

·ومهما يكن من أمر فإن الإسلام بدأ، في هذا الدستور، فصلاً جديداً من حياته؛ وقد أسبغ عليه اندماج الجانبين الروحي والدنيوي سمةً ينفرد بها.

·وأصبح أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، عند ذلك، الأمة الحاكمة لدولة مستقلة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رئيسها الأعلى، في جميع المجالات.

بركات أحمد

·حين وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كان منظرها أشبه بفوضى سياسية. فعلى الرغم من أن معركة بُعاث (حوالي 515م)لم يعقد على أثرها سلم رسمي، إلا أن البطون المتحاربة وحلفاءها أصبحت قواها خائرة لدرجة أنه لم يكن بوسعها الاستمرار في القتال. وكان هناك فراغ سياسي كان اليهود يتمتعون فيه بنفوذ كبير. وكان الموقف يمثل تحدياً للنبي وكان عليه أن يختار حلاً من حلول عديدة. كان باستطاعته أن يعمل على تحقيق اندماج سياسي كامل على أساس ديني يبدو أن ظروف الوقت كانت تحتاج إليه. وكان هذا يعني استبعاد اليهود الذين يبدو أن وضعهم كان من الضعف بحيث لا يسمح لهم بالاشتراك في حياة مجتمع المسلمين. وكان باستطاعة النبي أن يوحِّد بين "الأنصار" والمهاجرين، الذين قبلوه زعيماً دينياً لهم في مجموعة سياسية. ولكن يبدو أن فكرة هذا التجميع لم ترق له في ذلك الوقت وأنه حاول أن ينشئ أمة تحقق الأمن يمكن أن تكفل فيها ظروف معقولة كي يتفادى أعضاؤها الحرب الجسدية فيما بينهم وأن يسووا نـزاعاتهم بالوسائل السلمية. وقد تحققت جهود النبي لإنشاء هذه الأمة في وثيقة تُسمى بالصحيفة بُنيت على مفهوم ليبرالي لقاعدة القانون، مع مبدأين: مبدأ حماية الحقوق الفردية بواسطة سلطة قضائية محايدة، ومبدأ المساواة أمام القانون.

·لم يكن لدى عرب الجاهلية، كأمر واقع، شيء يمكن أن يوصف بالقانون الوضعي. ولكن قانون القصاص كان يقلل من حالات القتل دون سبب، كما أنه أصبح سمة هامة من سمات المجتمع العربي قبل الإسلام. وقد حاولت الصحيفة أن تستحدث قواعد لقانون وضعي. وكان غرضها قاصراً على تسوية النـزاعات دون عنف.

·لم يكن استعمال تعبير "الأمة" خلال الجزء الأكبر من حياة الرسول، من الناحية النظرية، قاصراً على المسلمين.

·الصحيفة وثيقة في غاية الأهمية لفهم وضع غير المسلمين في مجتمع يهيمن عليه المسلمون.

·وهي ليست، في الواقع، دستوراً لدولة؛ إنها تضع الأسس لقيام أمة متعددة الثقافات ومتعددة الديانات، المجموعة المهيمنة فيها تكون دائماً مسلمة. وهي تمنح الامتيازات التالية لهذه المجموعة:

 1- اختصاص محكمة الاستئناف باعتبارها المرجع الأخير، وهو اختصاص يتولاه النبي؛

 2- موضوع الحرب والسلم هو من اختصاص النبي.

أما غير المسلمين المدرجين في الأمة فتكون لهم الحقوق التالية:

 أ ) ذمة الله مكفولة لجميع الطوائف.

ب) الأعضاء غير المسلمين في الأمة لهم حقوق سياسية ودينية متساوية مع حقوق المسلمين؛ وحرية العقيدة مكفولة للجميع، وتكون جميع الطوائف مستقلة ذاتياً؛

ج) لا يُلزَم غير المسلمين بحمل السلاح ضد عدو الأمة وهم يشاركون في نفقات الحرب؛ والمسلمون وغير المسلمين أصدقاء حميمون، وتكون العلاقات بينهم علاقات شرف، ولا خيانة بينهم؛

 د ) غير المسلمين مجبرون على الاشتراك في الحروب غير الدينية التي يقوم بها المسلمون.

·وتدلّ الصحيفة دلالة واضحة على الخطوط التي أقام النبي الأمة على أساسها. لقد كانت أمة متعددة الديانات. ولم يكن أساسها إقليمياً أو قبلياً.

·المادة 20 = (22) يُفهم منها استبعاد المشركين من الأمة، ونظراً إلى أن الصحيفة تدمج يهود يثرب في الأمة فيبدو أن الشرط الوحيد المطلوب للدخول في عضوية الأمة كان الإيمان بوحدانية الله.

·على الرغم من أن الأمة كانت جماعة سابقة على السياسة، إلا أنها لم تكن جماعة لا سياسية. إن السياسة بطبيعتها لازمة لكل عملية غرضها إنشاء مجتمعات، وفي هذه الأمة السابقة على السياسة، استخدم الرسول سلطته استناداً إلى الإرادة الإلهية.

·اليهود، طبقاً للصحيفة، لم يُطلب منهم أن يدفعوا ضريبة ما.

·فُتحت مكة بعد وقت قصير من توقيع الصحيفة، ولم يعش النبي طويلاً بعد هذا الفتح. ومن الصعب أن يقال ما الشكل الذي كانت تتخذه الأمة لو أن صاحب الصحيفة عاش طويلاً بعد تحريرها. وبعد وفاته تركت الصحيفة، والأمة التي أنشأتها، وكذلك اليهود الذين كانوا طرفاً فيها، مسرح الأحداث. وقد اكتسب تعبير "الأمة"، كما يحدث عادةً في جميع المؤسسات الحية، تعريفاً جديداً تحت خلفاء الرسول.

ولهاوزن

·يقول الواقدي:

 أ ) إن النبي بعد وصوله إلى المدينة اعترف، في كتاب كتبه، بجميع البطون اليهودية مع حلفائها، وكفل لها السلم ولكن بشروط أحدها ألا ينصروا عليه أعداءه. على أن هذه العلاقة بين النبي والبطون اليهودية لم تظل كما هي بعد غزوة بدر.

ب) كان سكان المدينة حين قدمها النبي خليطاً. كان بعضهم مسلمين جمعهم دين الإسلام؛ وكان بعضهم يملكون الحلقة والحصون وكان بعضهم الآخر - اليهود والبطون التي لم تكن من بني قَيلة، التي كانت حليفة لليهود منذ عهد بالغ القدم - حلفاء للأوس والخزرج. وبعد قدوم محمد إلى المدينة أراد محمد أن يعود السلم والوئام بين مختلف الأقوام وعقد صلحاً بينهم، وكان الولد في بعض الأسر مسلماً وكان أبوه مشركاً. وعلى الرغم من أن المشركين واليهود كانوا كثيراً ما يسيئون إلى رسول الله وأولئك الذين اتبعوه فقد أمره الله بالصبر والإحسان.

ج) وقد توصل الرسول عند وصوله إلى اتفاق مع بني قريظة وبني النضير وغيرهم من يهود المدينة تعهدوا بمقتضاه بألا يناصروا أحداً ضده أو – وفقاً لتفسير مختلف –  أن يناصروه ضد كل مَن يهاجمه، أو أن يبقوا في أحيائهم القديمة بين الأوس والخزرج.

هذه الفقرات قيِّمة لتفسير الهدف من هذا الاتفاق. وتحدد الصحيفة أي الشروط القديمة يجب أن تتغير بمقتضاها وأيها يجب أن تظل كما هي. وتعتبر المدينة أمة متناسقة. والأمة لا تعني علاقة من العلاقات وإنما تعني مجتمعاً عاماً. ويفيد هذا التعبير عادة جماعة دينية، ليس فقط منذ ظهر الإسلام بل منذ القدم. وللأمة كذلك، في هذه الوثيقة، طابع ديني؛ إنها أمة تستظل بظل الحماية الربانية. الله هو الذي يحكم ومحمد وكيله. والإيمان هو الصلة، والمؤمنون هم حاملو هذه الوحدة. وعلى المؤمنين التزامات ولهم حقوق أساسية في الأمة.

·كانت الأمة في البداية كياناً سياسياً غير متناسق وغير وثيق العُرى؛ ولكن، لما كان المسلمون سلاحها، فقد اتجه هذا الكيان إلى إنشاء وحدة في الدين، وقد قويت شوكة الأمة لهذا السبب. وكلما تقدَّم الدين الجديد، كلما أضعفت الأمة القبيلة.

·كان الغرض الأساسي من الأمة هو منع النـزاعات وتسوية الخلافات بالطرق السلمية. وإذا اختل السلم الداخلي نتيجة للعنف أو للأعمال المسيئة إلى الدين، كان من واجب الطرف المضار وأيضاً من واجب الأمة كلها، لاسيما أقارب المجرم، أن يقفوا ضده بقوى متحدة.

·ظلت القبيلة تقوم بدور الجهاز التنفيذي. على أن قرار ملاحقة أو عدم ملاحقة مرتكب الجريمة كان وحده من اختصاص الأمة كلها. ولم يكن هناك أي نص يقول إن الأمة أو ممثلها كانوا مفوضين بالاختصاص العام.

·الجزاءات المنصوص عليها في المادة 22 (=25) جزاءات ذات طابع ديني، أي لعنة الله وغضبه يوم القيامة. على أن هذا كان يمثل خطوة هامة لتحويل حق الثأر من الأسرة إلى الدولة، فاتخذ هذا الثأر شكل العقوبة الجنائية. وكان هذا التغيير كافياً للقضاء على الصراعات الداخلية. وكان سلام عام يسود أرجاء المدينة دون استثناء. ولم تكن هناك ترتيبات فردية لحماية كل بطن من البطون، بل كانت هناك حماية لا تتجزأ وسلم عام واحد هو سلم الأمة. وترتب على ذلك أن الحماية التي استمر كل فرد في ممارستها لم تكن تقيِّد قبيلته وحدها بل كانت ملزِمة للجميع.

·كان الهدف الثاني للأمة هو توحيد البطون لأغراض الدفاع في مواجهة الأعداء الخارجيين. وكان من واجب المؤمنين المتبادل أن يحموا بعضهم البعض ضد غيرهم من الناس. وفي الحرب المشروعة كان المؤمنون يطلبون الانتقام لبعضهم البعض كمسألة إلزامية. ونتيجة لذلك كانت مسئولية الثأر تقع لا على الأخ لأخيه بإراقة الدم مقابل الدم، بل تقع على المؤمن للثأر للمؤمن. وبعبارة أخرى فإن الانتقام بالدم الذي كان مقيَّداً على الصعيد الداخلي أُلغي تماماً على الصعيد الخارجي. ونتيجة لذلك اكتسبت الحرب المشروعة طابعاً مختلفاً تماماً. لقد أصبحت منفصلة عن مفهوم الثأر بالدم الذي كانت تمثله في الماضي، وأصبح لها طابع عسكري.

·كانت البطون اليهودية موالية للبطون العربية. ولم يكن اليهود ملزمين بالاشتراك بصورة إيجابية في حروب المؤمنين، إلا لدفع هجوم ضد المدينة. وكان غير المسلمين كثيرين وكانت قوتهم كبيرة. وليس من الواضح ما الذي كان يُقصد بعبارة "في سبيل الله" ومَن الذين كان يُفترَض أن يقوموا بالحرب في سبيل الله. وإذا كانت هذه الحرب ببساطة حرباً دفاعية ضد قريش فقد كان الجميع حتى اليهود ملزمين بالاشتراك فيها وفقاً لمبدأ أن كل أهل الصحيفة كان من واجبهم أن يقدموا مساعدتهم المتبادلة لدفع الهجوم.

·الصحيفة تبدو كوثيقة موادعة للعناصر التي لم تقتنع بعد بالانضمام إلى الإسلام.

·إنها وثيقة غير كاملة وهي أحياناً غامضة.

وينسينك

·الدستور هو أول محك لسلطة محمد في المدينة. ومن الواضح للوهلة الأولى أن الصحيفة تخدم أغراضاً سياسية بحتة وأن أهدافها كذلك ذات طبيعة سياسية بحتة. وكان "ولهاوزن" على حق قطعاً حين قال أن "الأمة تشير إلى مجتمع ديني، وذلك على الأخص لأننا نجد أمامنا أمة سياسية بحتة". وهذه حقيقة تبرز من مقدمتها ومن مادتها الأولى. وفي عديد من أحكام الصحيفة سميت مختلف البطون مع مواليها من اليهود. وللجميع، مؤمنين وكفار ويهود، حقوق والتزامات متساوية.

·كانت الحلول التي أتى بها محمد من وجهة النظر السياسية ضرباً من العبقرية وكان لها أثر عظيم على التاريخ حتى يومنا هذا. و"الصحيفة"، التي تعبِّر عن جهود محمد بالتفصيل، وثيقة من أهم الوثائق المتاحة لنا وأكثرها معاصرة.

·لقد نظم محمد العلاقات المتبادلة بين سكان المدينة بصورة تكفل تعايشاً سلمياً بين مختلف الطوائف: المهاجرين، والأنصار، واليهود. والهدف الوحيد لهذا الإجراء السياسي كان جعل المدينة وحدة لا تنفصم يمكن أن تساهم في نجاح الإسلام أيضاً فيما وراء حدود المدينة.

·لقد كانت الأمة وحدة سياسية قلباً وقالباً. وكان غرض محمد هو أن يجعل من هذه المدينة وحدة متماسكة تنحَّى فيها جانباً جميع الخلافات الدينية. ولكن كيف كان يتأتَّى بلوغ هذا الهدف إذا كان نصف سكان المدينة تقريباً مبعدين عن هذه الوحدة؟ كذلك فإن المواد التي تنص على أن اليهود يساهمون في نفقات الحرب مع المؤمنين ويتحملون نفقاتهم هم، ويقبلون الصلح إذا طُلب منهم، تشير إلى يهود يملكون تنظيماً مستقلاً لا إلى أشخاص ينتمون إلى قبيلة بني قَيلة (الأوس والخزرج). وهذه الاعتبارات تقدم أساساً كافياً للرأي القائل بأن الصحيفة كانت تشمل يهود المدينة.

·يبدو مركز محمد في الدستور قليل الأهمية في الظاهر. ولا يتضح وجوده إلا بصورة غامضة. ولكن هذا مظهر خادع. إن الدستور لم يكن معاهدة عُقدت بين المهاجرين والأنصار واليهود. لقد كان مرسوماً يحدد علاقات الأطراف الثلاثة؛ وفوقهم كان هناك الله، أي محمد. والدليل على سلطته الكبيرة يكمن في حقيقة أنه، هو الغريب، استطاع بعد إقامة قصيرة في المدينة أن يصدر قانوناً لجميع قطاعات السكان. وقد فعل ذلك بصورة مرُضية للجميع، وفعله أيضاً لتحقيق أهدافه أي لييُسِّر الأمر لجيوش المدينة وليوحد المدينة على الصعيد السياسي. وبالمقارنة بهذا الهدف فقدت الظروف الدينية أهميتها. وحين تشير الصحيفة إلى المؤمنين فهي لا تفعل ذلك بروح معادية للمشركين (الذين ورد ذكرهم بصورة عارضة)، ولكن للتشديد على الوحدة، التي ما كان يمكن التضحية بها في أي ظرف من الظروف.

·كانت القطيعة مع اليهود، في المسائل الدينية، شيئاً لا مفر منه. ولم يعبِّر محمد عن استيائه في هذا الخصوص. لقد كان في ذلك الوقت محتاجاً إلى اليهود ولذلك أدخلهم في الأمة، وقد فشل مخططه الأول. لقد جاء إلى المدينة بأمل أن تصبح بعد قليل وحدة دينية باعتبارها مَلَكية ثيوقراطية تحت زعامته. ولو أن اليهود اعترفوا به لتحققت أمنيته، فإن المنافقين، بالمقارنة باليهود وببني قَيلة الذين أسلموا، كانت أهميتهم قليلة. ولكن اليهود لم يُظهروا أي ميل في الاتجاه الذي كان يرجوه محمد. فما العمل؟ لم يكن في الإمكان مهاجمتهم بصورة مكشوفة إذ أن مركز محمد لم يكن في ذلك الوقت قد تأكد بصورة كافية. وكل ما كان يستطيعه كان استخدامهم في خططه، أو على أي حال، جعلهم يقفون على الحياد. لذلك كان من الواجب معاملة الكفار والمنافقين بدورهم باحترام، ولكنهم كانوا، بين المعارضين، الطرف الأقل خطراً، فقد كانت تعوزهم المبادئ (وكان للمسلمين هنا ميزة كبرى)؛ ولهذا كان من الواجب إثارة حماسهم. وكانت تعوزهم أيضاً الثقافة (وكانت هذه ميزة كبرى لليهود إزاء المسلمين).

منتجمري واط

·يمكن أن يوصف عمل محمد في مجموعه بأنه إنشاء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي على أسس دينية. ولم تكن سياسته القبلية إلا مظهراً لذلك. لقد كان للبطون المدنية التي انضمت إلى المهاجرين لتكوين المجتمع الجديد حلفاء سواءٌ بين يهود المدينة أو بين البدو المحيطين بها؛ وقد اشترك هؤلاء الحلفاء منذ البداية، على الأقل جزئياً، في المكاسب التي حققها النظام السياسي الجديد وفي "السلام الإسلامي". ويبدو أن محمداً عقد في السنوات الأولى من الفترة المدنية أحلافاً مع بعض قبائل الجوار الأخرى على أساس دنيوي بحت.

·الشائع أن الأوس والخزرج أصبحوا سادة يثرب وأن جميع اليهود خضعوا لهم. ولكن المصادر لا تقدم لنا شيئاً يؤيد هذه النظرية. والانطباع العام هو أن اليهود كانوا مستقلين.

·كانت البطون اليهودية الأقل أهمية أو، الفئات الواردة بقائمة السمهودي، قد أصبح من المستحيل تحديدها قبيل الهجرة أو ربما كانت أهميتها السياسية قد زالت. وأسماؤها لا تظهر في النصوص الأصلية المتعلقة بحياة محمد. ودستور المدينة يسميهم، بصورة غامضة، "يهود بني النجار" ، و"يهود بني الحارث" وهكذا.

·كانت الأغلبية العظمى من اليهود لا تعترف بمحمد. ليس هذا فحسب بل أصبحت تعاديه بصورة متزايدة. وبعد الهجرة بوقت قصير لا بد أنهم فهموا بوضوح أن فئة قليلة من اليهود هي التي كانت على استعداد للاعتراف بالنبي الأمي.

·في وقت من الأوقات، في السنة الأولى أو الثانية من فترة إقامته بالمدينة (وليس بالضرورة خلال الشهور الأولى)، فكر محمد في إنشاء تنظيم ديني وسياسي يحقق قدراً من الوحدة للأمة الإسلامية، دون أن يقتضي من اليهود أن يعدلوا عن دينهم أو أن يعترفوا بأنه نبي ورسول.

·كانت الشهور الأولى التي قضاها محمد في المدينة هي الشهور التي زُرعت فيها خميرة مأساة فظيعة وضُيِّعت فرصة ثمينة. وعلى المستوى الديني الصِرف، يبدو أن الصعوبات التي كان اليهود يلقونها من الإسلام أقل من تلك التي كانت تمثلها المسيحية؛ ومع ذلك فإن تأكيدات محمد بشأن الرسائل الإلهية التي كان يتلقاها كانت تتعارض مع العقيدة الأثيرة عند اليهود، الذين كانوا يرون أنهم شعب مختار، والشعب الوحيد الذي ظهر الله من خلاله للبشر. وإذا كان يهود المدينة قد رفضوا محمداً فقد كان ذلك وفقاً للآراء التقليدية للديانة اليهودية.

·إن أوضح اختلاف بين الأمة والقبيلة يكمن في حقيقة أن الأمة تقوم على أساس ديني لا على أساس القرابة. ولم تُعرض هذه الفكرة في أي مكان بصورة نظرية ولكنها مفترضة في كل مكان. وفكرة الرسول تعني أن الله هو الذي يعطي توجيهاته إلى الأمة للعمل بها في حياة الناس اليومية. وفي حالات كثيرة من حالات المبدأ، لم يكن محمد يتصرف وفقاً لإلهامه الشخصي وكان يعلن الأوامر التي تلقاها من الله. لذلك فإن الله هو سيد الأمة والآمر والناهي فيها. وطبقاً للمادة 15 (=16) من دستور المدينة فإن الأمان الذي يتمتع به أعضاء الأمة والفئات الملحقة بهم تعتبر أثراً من آثار ذمة الله. والذمة هي العهد المعقود مع الله والضمان الذي يعطيه لأوليائه.

·وحين يقول دستور المدينة في المادة 15 (=16) إن ذمة الله واحدة، فربما كان المقصود من هذا هو أن العهد الذي يكفل الأمان عهد واحد، وهذا يفترض أن تشمل الحماية جميع أعضاء الأمة، وأنهم جميعاً قادرون على توفير الحماية التي يُفترض أن الأمة بأكملها ملزمة بتفعيلها بحيث يكون أعضاء الأمة حيال بعضهم البعض في علاقة الحامي والمحمي وأن أحداً لا ينبغي، إلا بصورة مؤقتة، أن يحتمي بأجنبي عن الأمة.

·نظراً إلى أن محمداً لم يكن يمتلك سلطة تسمح له بمعاقبة المجرمين، فإن تنفيذ العقوبة كان يجب دائماً أن يُترك بالضرورة إلى أقرب أقرباء مَن وقع عليه الاعتداء.

·وكان نظام الأمن في المدينة، منذ البداية، يستند إلى مبدأ الثأر للدم بالدم من أقرب أقرباء الجاني. على أنه كانت هناك قاعدتان أعلنتا أو أعيد إعلانهما وكان اتباعهما مفيداً في منع تكدس الحقد، الذي كان يُخشى أن يشجع على الانتقام ويجعله يتفاقم ويحطم النظام بأكمله.

وكانت أولى هاتين القاعدتين تقضي بأن العقوبة الموقعة لا ينبغي أن تكون أكبر من الخطأ الذي يُفترض أنها جزاؤه. ولا يجب أخذ حياة بحياة. على العكس كان من الأفضل، حسبما تقول القاعدة، الاكتفاء بعقوبة أقل من الخطأ أو حتى العفو الكامل. وكان المثل الأعلى الإسلامي في هذا الخصوص مختلفاً عن المثل الأعلى في الجاهلية. كذلك فإن المثل الأعلى الإسلامي يتضمن فكرة المساواة بين جميع أفراد الأمة.

أما القاعدة الثانية فتنص على أنه متى تم القصاص (مع مراعاة التعادل بين الإثم والجزاء دون زيادة)، ينبغي اعتبار القضية كلها منتهية.

والواقع أن القاعدتين المذكورتين كانتا قانوناً عربياً قديماً كرره القرآن. وعلى الرغم من أن نطاقهما كان محدوداً فإنهما جعلا السلم الداخلي يسود في المدينة. وقد تسنى ذلك بعد الهجرة كما لم يتسنَّ قبلها، لأن الناس وجدوا في محمد حَكَماً دائماً تُرفع إليه الخلافات. وكان وجود محمد في المدينة في ذلك الظرف عاملاً جديداً سمح لهاتين القاعدتين بأن تطَبَّقا حين كان الأمر يقتضي ذلك.

·وحين كانت الدية تُدفَع لم يكن هناك داعٍ لإراقة دم آخر. وللمرء أن يفترض أن مصلحة محمد كانت في أن يسود السلام المدينة وأنه شجع استخدام التعويض المالي مقابل الدم المسفوح.

موشي جيل

·يمكن اعتبار الصحيفة أول صياغة للمبادئ التوجيهية المعلنة للمؤمنين الذين كانوا على وشك الشروع في جهادهم لنصرة الإسلام. وقد رفعت التغييرات التي أجراها محمد في تنظيم البطون، بشكلٍ ما، الستار عن عملية تاريخية طويلة جعلت من الإسلام إحدى ديانات البشر الكبيرة. وكان الغرض من هذه الوثيقة غرضاً عملياً أولاً وآخراً. وهي لا تشتمل على شيء يمكن اعتباره دينياً. وكان الذي أراده كاتبها هو:

– الاستعاضة عن الوشائج القبلية القديمة بوشيجة أمة المؤمنين الجديدة؛

– استحداث قضاء جديد يتفق مع طبيعة الأمة الجديدة؛

– الحرص على توفير الأموال للغزوات والمعارك التي كانت مرتقبة. وكان من المهم من جهة أخرى أن يعلم المقاتلون مَن سيدفع فديتهم إذا أُسروا أو ديتهم إذا لم يحالفهم النصر.

·تعهَّد كل بطن من البطون رسمياً بمسئوليته عن دفع الدية. أما فدية الأسرى فقد كانت من شأن أمة المؤمنين. ويكتسب هذا التعهد قوة إضافية من حقيقة أنه تم وسُجِّل بالاتفاق. وقد أصبح بذلك أشبه باتفاقية بين القبائل أقرها ممثل الله.

·أصبح المؤمنون أولياء بعضهم للبعض؛ وهم كفلاء بسلامة كل منهم ضد الكفار.

·حُوِّل الالتزام القديم الذي كان يقع على عاتق القبيلة بالثأر بالدم لأعضائها إلى الأمة الجديدة، بشرط أن يكون الدم قد أريق في سبيل الله. ومن هنا نشأ التزام على المؤمنين بملاحقة من يقتل أحدهم؛ وما من شيء يمكن أن يعفيهم من هذا الواجب.

·ذمة الله والرسول المنصوص عليها في الصحيفة يمكن أن تُعتبر التجديد الأساسي في هذا الاتفاق بالنسبة للتحالفات المشابهة في المجتمع القبلي.

·الأطراف في العهد، الذين يشتركون مع المحدِث ويؤوونه، يستثيرون غضب الله. ولعل الغرض من هذا الحكم هو منع إجارة أشخاص كان الرسول ينتوي عقابهم كآثمين.

·  أصبح الدفاع عن يثرب، على الصعيد العسكري، واجباً مشتركاً على جميع الأطراف.

·استُحدثت طريقة جديدة للعدالة بإعلان، كُرِّر مرتين، بأن كل النـزاعات يجب أن تُرفع إلى الله وإلى الرسول.

·هناك أيضاً صلة بين العدالة الجديدة وبين إعلان يثرب كحرم لأولئك الذين ينضمون إلى الصحيفة. وكان الغرض من هذا النص هو أن تكون المدينة مكاناً آمناً سواءً لسكانها أو لزائريهم.

·من المحتمل، مثلما كان الحرم المكي جزيرة للأمان، وهو شرط أساسي للتجارة ولزيادة العمران على السواء، أن النبي كان يفكر في النهوض بالمدينة على هذا النحو. ويُنسَب إليه قوله: "إن لكل نبي حرماً وحرمي هو المدينة". وأقرب من هذا إلى التصديق قولٌ آخر ينسبه إليه السمهودي بأنه جعل المدينة حرماً كإبراهيم الذي أنشأ الحرم المكي.

·كان هناك نص آخر غرضه إزجاء السلام بين البطون والقضاء على مصدر دائم للخصومات الدامية، هو النص الذي يقضي بمنع إجارة امرأة بدون إذن أهلها. والظاهر أن هذا النص كان غرضه القضاء على بقايا النظام "الأُمومي" القديم الذي بقي من أشكاله شيء من الحرية الجنسية للنساء خارج عشائرهم الأبوية. وكان الاتجاه يتحول إلى تعزيز المؤسسات الأبوية. ويبدو أن محمداً اعتنق هذا الرأي الجديد عن طواعية ويحتمل أنه كان رأيه خلال الفترة المكية.

·يؤخذ من المصادر الإسلامية أن معاهدة عُقدت بين اليهود وبين النبي التزم اليهود بمقتضاها بتعهدات خرقوها بعد ذلك؛ ويفسَّر مصيرهم اللاحق في هذه المصادر بأنهم لقوا جزاء عملهم. ولكل من ابن كثير والحلبي والمقريزي والطبري وأبي داود صيغة مختلفة لهذا الاتفاق المزعوم. وقد أخذ الباحثون العصريون (بارون Baron، وألتهايم Altheim، وستيل Steil، و واط Watt، وأوبرمان Obermann) جزئياً بهذا الرأي.

·قُدِّمت افتراضات عديدة بشأن السبب في كون الصحيفة لا تشتمل على ذكر القبائل اليهودية الرئيسية الثلاث في المدينة، أي بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة:

 أ ) فيقول "هيرشبرج" Hirshberg: لعل السبب هو أن بعض البطون اليهودية التي ذُكرت تنتمي إلى بني قريظة؛

ب) ويقول "واط" Watt: نظراً إلى أن بني النضير وبني قريظة كانوا يعيشون بين بطون قبيلتي الأوس والخزرج فقد كانوا داخلين في هذه  البطون وإن لم يُذكَروا لذلك في الصحيفة بشكل مستقل.

ج) ويقول "ولهاوزن" Wellhausen:

– الصحيفة لا تذكر الخزرج على الرغم من أنها ذكرت خمسة بطون تنتمي إلى هذه القبيلة. ولعل هذا هو الحال فيما يتعلق بالقبائل اليهودية الرئيسية.

– لم يكن اليهود طرفاً في الصحيفة؛ ولهذا فإنهم لا يظهرون فيها إلا كموالي غير مسمَّين للبطون العربية.

·ينبغي أن يلاحَظ مع ذلك أن الصحيفة تذكر بعض أسماء بطون يمكن افتراض هويتها اليهودية.

·يشير هذا الجزء من أجزاء الصحيفة إلى بطون وضعُها بين اليهود والمسلمين أقرب إلى الغموض. وقد عولجت مسألة يهود المدينة الآخرين بصورة هي، فيما يبدو، نتيجة لكونهم حلفاء أو موالي للقبائل العربية. والعهد الذي عقده محمد كان مع هذه الفئة لا مع اليهود.

·في الصحيفة بشأن التزامات اليهود نص من كلمتين له أهمية كبرى لفهم سياسة محمد مع يهود المدينة. كلمتان هما: "الجار كالنفس" وهذا النص يعني أنه حدث تدهور في وضع اليهود في المدينة الذي كان هو الجوار في صورته المثلى. وبعبارة أخرى، لم يعد مصرَّحاً لليهود بأن يباشروا سياستهم المشتركة بين القبائل، لعقد معاهدات أو للدخول في حرب.

·جزء كبير، يقرب من ثلث الصحيفة، مخصص صراحةً للمسألة اليهودية. وقد ذُكر اليهود أولاً في المواد التي تعلن ذمة الله وأمة المؤمنين. ونحن نقرأ هنا وعداً عاماً بالاهتمام بمصلحة "مَن تبعنا من اليهود". والصحيفة موجهة إلى "من تبع (المسلمين) فلحق بهم، وجاهد معهم". وليس هناك سبب يجعلنا نفهم هذه العبارة بمعنى غير معناها الواضح. أولئك من بين اليهود الذين يقبلون الإسلام يحظون بعون الرسول ورضاه. ولا يمكن بحال من الأحوال اعتبار هذا وعداً بالأمان موجهاً إلى اليهود.

·اليهود جزء من الأمة إذ أنهم موالي البطون الإسلامية. ولهذا فإن عليهم أن يمولوا احتياجات الأمة العسكرية.

·النتيجة الحقيقية والعملية لوضع الموالي الجديد واردة في نص يقول إن المسلمين مسئولون عن ديون مواليهم اليهود، فمن المحتمل في عبارة "وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم" أن يكون المقصود هو الدَّين بفتح الدال لا الدِّين بكسرها. ولو كان الدِّين بكسر الدال هو المقصود لكانت الجملة غير صحيحة سواء في منطقها أو من الناحية النحوية. ولا يبدو أنها إعلان للتسامح الديني: إنها تقرر في الواقع مسئولية المسلمين عن ديون الموالي فضلاً عن ديونهم الخاصة، وهذه المديونية قاصرة على المجال المالي. أما في المجالات الأخرى فإن مرتكب الفعل يجب أن يعاقَب عليه شخصياً. وبعبارة أخرى، كان على الأنصار أن يتحملوا النفقة إذا لم يتحملها مواليهم اليهود، ولكن لم يكن عليهم أن يموتوا من أجلهم. وقيل أكثر من مرة إن المسئولية لا تقوم إلا بالنسبة للديون المشروعة لا بالنسبة للأفعال السيئة لأن "البر دون الإثم".

·كان على اليهود أن يساهموا في نفقات المعارك التي كان من المقرر أن يشنها أعضاء الاتحاد الكونفدرالي. وعند ذلك كان كل بطن مسئولاً عن نفقات اليهود المالية، إلا إذا تعلق الأمر بأعمال عدوان مستقلة وتحكمية من جانبهم ففي هذه الحالة يكون اليهود أنفسهم، وأهل بيوتهم، هم الذين تقع عليهم العقوبة، وهذا بالضبط ما حدث في وقت لاحق.

·من المناسب أن تُفهَم الصحيفة على أنها عمل تحضيري للحرب لا نتيجة من نتائجها. وعن طريق تحالفه مع القبائل العربية في المدينة، أحرز النبي من القوة ما يسمح له بتطبيق سياسة معادية لليهود على مراحل، على الرغم من كراهية حلفائه من أهل المدينة لذلك لأنهم كانوا من قبل حلفاء لليهود.

·كانت هذه النقطة مفهومة تماماً عند من اشتركوا في بيعة العقبة الثانية في مكة. فلما سأل أبو الهيثم ابن التيهان النبي عن مآل الصلات التي تربطهم - أي الأنصار - باليهود إن قطعوها أجابه الرسول أنه سيحترم أحلافهم ويتبعها. 

·ما حدث بعد بدر لم يكن إذاً شيئاً غريباً في هذه الوثيقة، كما يقول "ولهاوزن". بل كان على الأصح تطبيقاً لنقاطها الأساسية. والتطورات التي حدثت كما تحكيها المصادر الإسلامية الأولى تحمل سمات الخطة الأصلية التي يعبِّر عنها "الكتاب". كذلك فإنها تلقي شعاعاً من الضوء على عديد من النقاط الغامضة. وكما يقول "سرجنت"، فإن عملية إجلاء يهود المدينة كلهم هي نموذج للطريقة التي طبق بها محمد جزاءات قانون القبيلة؛ والواقع أن هذا القانون المشترك بين القبائل كان الغرض منه إجلاء اليهود في اللحظة ذاتها التي حُرر فيها.

·وإذاً فإن المصادر الإسلامية حين تحدثت عن معاهدة معقودة بين محمد واليهود، إنما فعلت ذلك لإيجاد دليل يبرز الإجراء الذي اتخذه ضد اليهود، سواء كان هذا الدليل هو هذه الوثيقة أم وثيقة أخرى ضائعة كما يفترض بعض العلماء المحدثين.

·لم تكن الوثيقة إذاً عهداً عُقد مع اليهود، بل كانت على العكس إعلاناً رسمياً للنوايا لفصل بطون المدينة العربية عن جيرانهم اليهود الذين كانوا حلفاءهم حتى ذلك الوقت.

ألفريد لوي دي پريمار

·كلمة "مهاجرون"، في العبارة الإسلامية، حين تجمع مع عبارة "في سبيل الله"، تعني أولئك الذين غادروا بلدهم/ الذين هاجروا (للقتال) في سبيل الله. وهذا التعبير وارد في ميثاق تأسيس الحركة في يثرب والجزيرة العربية، في سياق قتالي.

·وقد هاجر محمد وأصحابه الأوائل إلى يثرب وألَّفوا فيها مع حلفائهم المحليين أول نواة لاتحادهم الكونفدرالي، الذي كان يدور حول محور المجهود الحربي (الجهاد/ القتال).

·وقد حرر محمد ميثاق يثرب في هذه المدينة لكي يحقق التحالف في اتحاد كونفدرالي الغرض الرئيسي منه هو القتال في سبيل الله، أي الفتح.

·حين أراد المسلمون خلال القرنين اللذين تليا موت المؤسس أن يحكوا أعمالهم وأن ينظموا في كلٍ متسق الروايات المتعلقة ببداية الإسلام، فإنهم فعلوا ذلك بالتالي حول الأحاديث المتعلقة بالعمليات العسكرية داخل الجزيرة ثم تلك التي وُجِّهت إلى أراضي الشام البيزنطي. وتجمع المصادر التي بين يدينا، سواء في ذلك المصادر الخارجية أو المصادر الداخلية، على أن إنشاء الاتحاد الكونفدرالي كان غرضه الأساسي هو العمل العسكري في خدمة الفتح الذي كان العنصر الأول والأصلي لتأسيس الإسلام.

·تشير مجموعات الحديث النبوي أكثر من مرة إلى وجود كتاب حرره محمد لتأسيس أمته وإلى بعض ما جاء فيه من موضوعات. والموضوعات التي أشير إليها أكثر من غيرها تتعلق بدفع العقل (الدية) في حالة القتل وكذلك دفع فدية الأسرى. وهناك ذِكرٌ يتكرر بانتظام في جميع المصادر عن التضامن الوثيق بين من انضموا إلى الحركة ضد مَن مانعوا في الانضمام إليها. وأخيراً فإن كثيراً من الرواة يشيرون إلى إعلان من محمد بجعل المدينة حرماً كحرم الكعبة المكية وإلى أن مَن يرتكب فيه إثماً أو يؤوي معتدياً تحل عليه اللعنة.

·وكل هذه الشهادات، سواءٌ جاءت من علي ٍأو من غيره، تتفق على أي حال على حقيقة أن هناك شيئاً كتبه محمد بشأن التنظيم الداخلي للأمة ولنشاطها الحربي "في سبيل الله".

·وقد سُمي هذا النص كثيراً بدستور المدينة. وهذه صياغة لا تناسب لغة النص. فعلاوة على أن اسم المدينة غير وارد فيه فإن التحدث عن "دستور" شيءٌ خارج عن عصره إذ أنه يدعو إلى تصور أن هناك دولة منظمة كما أن فيه إسقاطاً لفكرة الدستور، وهي فكرة حديثة، على الماضي القديم. والواقع أنه لم يكن هناك وقتها دولة ولكن اتحاد كونفدرالي حربي كانت الصحيفة ميثاقه.

·كلمة أمة تعني أولاً "جماعة/ مجموعة بشرية" بمعنى محايد، وهي هنا لا تعني مجموعة إثنية أو قبلية ولكن، في إطار الجزيرة العربية وقتها، اتحاداً "كونفدرالياً" بين جماعة القرشيين الجدد الوافدين إلى يثرب ومختلف بطون وقبائل منطقة يثرب، التي وردت قائمتها في الميثاق. وهو اتحاد كونفدرالي ذو طبيعة سياسية يدعمه اتّباع رسول الله. وهو يتميز بكونه قاصراً على أعضائه ولا يمتد إلى أولئك الذين لم ينضموا إليه.

·كان الأمر يقتضي أولاً تنظيم العلاقات الداخلية بين المؤمنين من مختلف البطون أو القبائل بصورة تحقق ائتلافهم. وبالإضافة إلى المؤمنين من قريش كانت هناك ثمانية بطون من يثرب ألحقها علماء الأنساب بمجموعتي القبائل الكبريين، الأوس والخزرج، وعددها ثمانية. وقد عُينت هذه البطون بأسمائها في قائمة متكررة العبارات. وكان الغرض هو ضمان ائتلاف الاتحاد الكونفدرالي في مواجهة كل من ليسوا أطرافاً فيه.

·والغرض النهائي من هذا الاهتمام التنظيمي هو ضمان فعالية المجهود الحربي المشترك. وقد أشير إلى ذلك في بداية الميثاق بفعل جاهد: "وجاهدوا معهم". وقد حُدد المقصود من هذا التعبير فيما بعد في الوثيقة الأساسية نفسها بتعبير "قتال في سبيل الله". وسيصبح هذا التعبير مألوفاً جداً في القرآن الذي يذكر تارة كلمة الجهاد وتارة كلمة القتال كمرادفين.

·العدو في الصحيفة هو الكافر وقد ذُكر فيها مرتين: "لا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر". وهذا حكم أساسي في الميثاق وقد ورد في ما رواه عليٌ عما جاء في الصحيفة حين سئل عنها. وسلسلة الأحكام التالية في النص الأول لميثاق يثرب تعطينا تصويراً دقيقاً لمجموعة المعاني التي تدور حول كلمتي المؤمن والكافر.

·حقيقة أن الله هو الكفيل لمختلف أحكام الميثاق وأن القتال فيها هو من أجل الدين عبَّرت عنها الصحيفة بصيغ قاطعة نقرأها ثلاث مرات في المواد التالية من الميثاق ومرة أخرى في الخاتمة، فنحن نقرأ:

– وإن الله على أبر هذا …

– وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره …

– وإن الله جارٌ لمن برَّ واتقى.

·يبادر كُتاب المغازي حين يكتبون عن يهود المدينة إلى وصف مشاعرهم حيال المسلمين بأنها عدائية: فاليهود لا يعترفون لمحمد بصفته كنبي؛ وهم متهمون بالاحتفاظ بعلاقاتهم القديمة مع حلفائهم حتى ولو كانوا، كقريش، قد بقوا في مكة بين المعارضين في قيام الأمة. وبعض زعمائهم اغتيلوا تخلصاً منهم. وأول حروب الغزو الحقيقية كانت ضد اليهود. وقد قُتِّلوا أو أُجلوا ووزعت أموالهم وأراضيهم على الغزاة وعلى أسرهم؛ وسيق أبناؤهم ونساؤهم إلى الأسْر. وقد احتفظ محمد لنفسه بإحدى هؤلاء النسوة كزوجة واحتفظ بأخرى كمحظية طبقاً لعادة القادة المنتصرين. 

·هناك نقطة هامة عن دور اليهود في هذا الميثاق هي أن محاولة التوفيق بين أحكامه المتعلقة بهم وكتابات المغازي تثير بعض الصعوبات. ولا تقتصر الصعوبات على هذه المسألة.

·ينبغي ملاحظة الصمت المطبق من جانب المصادر اليهودية بشأن الجاليات اليهودية في مدينة بالحجاز يرجَّح أنها يثرب أو المدينة؛ وكل الموجود في هذه المصادر هو إيماءات إلى بعض يهود الشتات الذين استقروا في شمال شبه الجزيرة. وكل هذا يضع المؤرخ في موقف خاص بشأن الموقع الجغرافي للمكان الذي يقول الميثاق إن أول أمة لمحمد قد شُكِّلت فيه بالاشتراك مع عدد من البطون اليهودية. ولا توجد في الوقت الحالي أية إمكانية للمقابلة بين المصادر العربية وبين أي معلومات خارجية.

·تضع كتب المغازي صدامات المسلمين مع قبائل المدينة اليهودية الثلاث في سياقٍ كل ما يفعله الرسول فيه إنما هو رد فعل إزاء الخيانات التي يُشك فيها عند اليهود لصالح الأعداء المكيين.

·بينما تصر كتابات السيرة التقليدية على عداء قريش المكية الأساسي حيال محمد وأصحابه الأولين فإن هذا العداء لا يظهر في ميثاق يثرب. كما أن قريشاً المعادية لا تظهر في الميثاق إلا مرة واحدة قرب نهاية النص الذي ورد في سيرة ابن هشام، ولكن في عبارة غير أكيدة، ومن الجائز أنها أضيفت لاحقاً، تقول: "ولا تجار قريشٌ ولا مَن نصرها". وهذا النص غير وارد في الصيغة التي نقلها أبو عبيد. كذلك ليس هناك ذكر لمكة في أي موضع من نص الميثاق، أياً كان السياق التاريخي الذي يمكن للمرء أن يكتشفه بالنسبة لكل جزء من الأجزاء التي تكونه. وليس في هذا ما يترك انطباعاً بأن قريش مكة، على الأقل في البداية، كانوا يشكلون العدو رقم واحد بالنسبة لاتحاد يثرب الكونفدرالي.

·لقد بُذلت محاولات لشرح ما ورد في الصحيفة عن هذا الهجوم الافتراضي الذي تتضمنه عبارة "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب" بالرجوع إلى ما ورد عند الواقدي. والنص يشير إلى غزوة تسمى بغزوة الخندق حدثت إما في السنة الرابعة أو في السنة الخامسة من الهجرة (626 أو 627). والنصوص التالية، التي تتحدث عن مفاوضات الصلح، إنما تشير في رأي الواقدي إلى الصلح الذي عقده محمد مع يهود بني قريظة في المدينة لكي يبقوا على الحياد في النـزاع. والواضح أن الواقدي كان على علم بنص الميثاق الوارد في السيرة وأنه فسره على هواه، فإن بني قريظة، في واقع الأمر، غائبون تماماً عن الميثاق.

·إذا لم نأخذ في الحسبان ذكر قريش، إذ أنه يمثل إضافة إلى الصحيفة، فإن نص الوثيقة لا يفرض هذا الـ "سيناريو"، بل هو يختلف عنه في نقطة: أي احتمال الهجوم المباغت ليثرب الذي أشير إليه والمعبَّر عنه فيه بفعل "دهم". وعنصر المباغتة والمفاجأة لا يتفقان اتفاقاً كاملاً مع الغزوة المسماة بغزوة الخندق كما حُكيت لنا.

·إن عدوان قريش ضد المدينة في هذه الغزوة، كما تحكيها لنا كتب المغازي ولاسيما كتاب الواقدي، كان محل تدبير وإعداد طويلين من كلا الجانبين. ويبدو أن محمداً كان على علم بخروج المهاجمين قبل خروجهم بستة أيام، وهو ما سمح له بحفر الخندق الواقي.

·هناك بعض أصداء تتحدث عن حملات كانت قبيلة غسان في شمال الحجاز تقوم بها متوغلةً على الأقل حتى خيبر. ومن الجائز أن يثرب كانت تخشى، في زمن محمد، حملات مفاجئة من جانبهم. والمادة 2 التي تعنينا من النص، إذا حذفنا منها المادة 1، تقدِّم لنا عنصراً أنسب للتفسير من غزوة الخندق. هذا مجرد افتراض، ولكنه أكثر اتفاقاً مع نص الميثاق من قصة الغزوة التي جمَّلها الواقدي.

·جاء في مقدمة ابن خلدون عن أسس الديانة الإسلامية أن الحرب المقدسة (الجهاد) هي أمر ديني نظراً لعالمية الدعوة، التي تهدف إلى إدخال كل الناس في الإسلام إما طواعيةً أو قسراً.

·أبرز ابن خلدون تأصُّل السلطة السياسية، في أيام الإسلام الأولى، في الدعوة العالمية التي تستند إلى الأمر بالجهاد لغزو العالم طوعاً أو كَرهاً. وميثاق يثرب كان أول المظاهر في هذا الشأن.

ملخص

فيما يلي ملخص لآراء مؤلفينا بشأن موضوع الصحيفة:

حميد الله:الصحيفة هي دستور أول دولة إسلامية؛ وهي أمر صادر عن صاحب سلطة عليا نَظَّم به شئون رعاياه. وقد خلقت الصحيفة أمة سياسية ودينية تستند إلى المساواة في الحقوق بين عناصرها المكوِّنة وإلى التعاون المتبادل والأمن الاجتماعي. وهي تنشئ الأجهزة الأساسية للحكومة. والله تعالى هو مصدر القوانين الوحيد في المسائل التشريعية؛ ومحمد، فيما يتعلق بالعدالة، هو الحكم الأعلى. وهناك بالنسبة للدفاع واجب الخدمة العسكرية وتحالف دفاعي إسلامي يهودي.

بركات أحمد:كان غرض الصحيفة إنشاء أمة أمنية تُكفَل فيها ظروف معقولة لكي يتفادى الأعضاء التحارب فيما بينهم ولكي يسووا نـزاعاتهم بالوسائل السلمية. هذه الأمة تقوم على مفهوم ليبرالي وعلى قاعدة القانون، وفقاً لمبدأين: الحفاظ على الحقوق الفردية بالالتجاء إلى سلطة قضائية محايدة، والمساواة أمام القانون. والصحيفة ترسي الأسس لتكوين أمة متعددة الثقافات ومتعددة الديانات، المجموعة المهيمنة فيها هي المسلمون. ولغير المسلمين حقوق سياسية وثقافية متساوية مع حقوق المسلمين. وحرية العقيدة مكفولة. ويساهم اليهود في نفقات الحرب ولكنهم غير ملزمين بالمشاركة في الحروب الدينية. والأمة سابقة على السياسة ولكنها ليست غير سياسية.

ولهاوزن:الصحيفة أنشأت أمة دينية. الله هو الذي يحكم ومحمد نائبه. والإيمان هو الصلة، والمؤمنون هم حَمَلة الوحدة، وعليهم التزامات ولهم حقوق أساسية في الأمة. و كانت الأمة في بداية الأمر كياناً سياسياً غير متناسق ولكنها كانت تنـزع إلى إنشاء وحدة في الإيمان. وكان هدفها الرئيسي تسوية النـزاعات بالطرق السلمية. والعقوبات عقوبات دينية، وكانت هذه خطوة هامة لتحويل قانون الانتقام من الأسرة إلى الدولة. وغرض آخر من أغراض الأمة كان توحيد البطون للدفاع ضد الأعداء الخارجيين. والحرب المشروعة منفصلة عن مفهوم الثأر بالدم. والبطون اليهودية، التي كانت موالي للبطون العربية، لم تكن ملزَمة بالاشتراك بصورة إيجابية في حروب المؤمنين، إلا إذا هوجمت المدينة. والصحيفة وثيقة تصالحُ حيال العناصر التي لم تكن قد دخلت الإسلام بعد.

وينسينك:أغراض الصحيفة سياسية محضة. المؤمنون والمشركون واليهود لهم حقوق وعليهم التزامات واحدة. لقد نظَّم محمد سكان المدينة بصورة تكفل التعايش السلمي بين مختلف المجموعات. وكان غرضه الوحيد هو أن يجعل المدينة وحدة لا تنفصل، وقادرة على المساهمة في نجاح الإسلام في الداخل ونجاحه أيضاً خارج حدود المدينة. وكانت الأمة وحدة سياسية قاصرة على أعضائها نُحِّيَت فيها الديانات المختلفة جانباً. وإشارة الصحيفة إلى المؤمنين لم تكن بروح ٍعدائية حيال الكفار، ولكن القطيعة مع اليهود كانت لا محيد عنها.

واط:الصحيفة هي المصدر الذي يتضمن الآراء الأيديولوچـية التي ترتكز عليها الدولة الإسلامية في السنوات الأولى من تكوينها. ومن غير المؤكد أنها تشير إلى مواقف الرسول عند قدومه إلى المدينة. والشيء الوحيد المنصوص عليه صراحةً في الدستور هو أن جميع الخلافات يجب أن تعرَض على محمد. ومحمد أبعد ما يكون عن الرئيس الأوتوقراطي. إنه ليس سوى شخصية هامة بين شخصيات هامة أخرى كثيرة. وكانت الأمة تنظيماً دينياً وسياسياً يكفل درجة معينة من الوحدة للأمة الإسلامية، دون إجبار لليهود على العدول عن دينهم أو على الاعتراف بمحمد كنبي. وهي تقوم على الدين لا على القرابة. والله هو رئيسها والمتصرِّف في أمرها. وجميع الأعضاء مشمولون بالحماية على قدم المساواة. وكانت مصلحة محمد تكمن في أن يسود السلم المدينة.

جيل:الصحيفة هي أول صياغة للمبادئ التوجيهية الموجهة للمؤمنين الذين كانوا على أهبة الاستعداد لبدء كفاحهم من أجل الإسلام. وكان غرضها غرضاً سياسياً بحتاً. وليس فيها شيء يمكن اعتباره دينياً. وهي تستعيض عن الأواصر القبلية القديمة بأواصر أمة المؤمنين الجديدة. وذمة الله وذمة الرسول يمكن أن تعتبرا التجديد الأساسي. والدفاع عن يثرب واجب مشترك على جميع الأطراف. ويثرب حرم. والمسلمون مسئولون عن ديون مواليهم اليهود. واليهود، لأنهم ينتمون إلى الأمة باعتبارهم موالي البطون المسلمة، عليهم أن يمولوا السرايا والغزوات. والصحيفة عمل كان يمهد للحرب ولم تكن نتيجة لها. وقد حقق النبي لنفسه عن طريق تحالفه مع قبائل المدينة العربية من القوة ما سمح له بتطبيق سياسة معادية لليهود على مراحل. وكان هذا القانون المشترك بين القبائل يستهدف إجلاء اليهود في اللحظة نفسها التي كُتب فيها. وكانت الصحيفة إعلاناً رسمياً للنوايا بفصل القبائل العربية بالمدينة عن جيرانهم اليهود الذين كانوا حلفاءهم حتى ذلك الوقت.

أ. ل. دي پريمار:كتب محمد ميثاق يثرب محققاً التناسق لاتحاد كونفدرالي غرضه الأساسي هو "القتال في سبيل الله" أي الفتح. وطبقاً لجميع المصادر، كان إنشاء الاتحاد الكونفدرالي مُركّزاً على العمل العسكري في خدمة الفتح، العنصر الأول والأصلي في تأسيس الإسلام. إنه اتحاد كونفدرالي ذو طبيعة سياسية قَوَّاه انضمام الناس إلى رسول الله. وهو يُعَرَّف بكونه قاصراً على أعضائه دون جميع من لم ينضموا إليه. المهم أولاً هو تنظيم العلاقات الداخلية بين المؤمنين من مختلف البطون أو القبائل بصورة تكفل التناسق في الاتحاد الكونفدرالي وفي مواجهة كل مَن لم يشتركوا فيه. والهدف الأخير من هذا الاهتمام بالتنظيم هو تحقيق فعالية الجهد الحربي المشترك. والعدو هو الكافر و"لا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر" هي الصيغة الأساسية في هذا الميثاق. والعداء الراديكالي لقريش حيال محمد وأصحابه الأوائل لا يظهر في ميثاق يثرب.

ملحوظاتنا

قراءات مختلفة، كما رأينا، وآراء مختلفة بشأن أهم مواد الصحيفة. والاتفاق قليل جداً فيما بين المؤلفين. والمسألة الجوهرية المتعلقة بمعرفة ما إذا كان في الإمكان اعتبار أن الكفار واليهود الذين تتحدث عنهم الصحيفة قد تبعوا المسلمين ولحقوا بهم وجاهدوا معهم طبقاً لعبارة المادة الأولى من الصحيفة، لم تتلقَّ أي رد إيجابي.

ونظراً إلى أن المقام لا يسمح ببحث آراء كل من مؤلفينا عن قرب، فسنقتصر، في الحيز الباقي لنا، على بعض الآراء التي تستحق النظر والتي عبر عنها مؤلفو أحدث الدراسات الثلاث عهداً بشأن الصحيفة: دراسة "موشي جيل"، التي نُشرت عام 1974، ودراسة بركات أحمد، التي نُشرت عام 1979، ودراسة "ألفريد لوي دي پريمار" الذي نُشر كتابه عام 2002.

موشي جيل

1- بصدد المادة 45 التي تقول: "وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم"، يرى "جيل" أن عبارة "الجار كالنفس" تعني أن الشخص مسئول عن أفعال مولاه (عبده)، وهو ما ينبئ عن تدهور في وضع اليهود في المدينة الذي كان يمثل "الجوار" في صورته المثلى، إذ أن هذه المادة تحرمهم من حق الاشتغال بسياستهم الداخلية لعقد معاهدات أو للدخول في الحرب. ونحن لا نشارك مؤلفنا في هذا التفسير وذلك للأسباب التالية:

أ ) إن شيئاً في الصحيفة لا يفيد أن اليهود كان مركزهم مركز المحميين بالجوار أو الموالي للبطون العربية. والمستفاد من السيرة أنهم كانوا قبل الإسلام حلفاء للعرب؛ وكانوا أغنى منهم بكثير وأقوى منهم من حيث السلاح؛

ب) أن وضع من يشمله الجوار لم يكن وضع المولى؛

ج) أن المادة، على أي حال، تكفل للشخص المستظل بالجوار الوضع نفسه الذي تكفله للشخص الذي يأخذه في جواره لا وضعاً أدنى.

2- يلاحظ "موشي جيل" بحق أن المادة 18 التي تقول "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم" تعني في الواقع أولئك من بين اليهود الذين يقبلون الإسلام. ولكن، إذا كان هذا هو الحال - وهذا هو السؤال الذي طرحناه آنفاً - كيف يمكن القول إن الأمة شملت يهوداً أياً كانوا، وكيف تتأتَّى مناقشة نقاط تتعلق باليهود في الصحيفة؟

3- في المادة 28 من الصحيفة قرأنا كلمة "دين" بكسر الدال وتعني الديانة. وهذه هي القراءة التي قرئت بها هذه الكلمة من قِبل المؤلفين الذين بحثوا هذه المادة. ولكن "جيل" يرى أن هذا خطأ في المنطق وفي النحو، وأن الواجب أن تُقرأ هذه الكلمة بالفتحة على أول حرف. ويقرر "جيل"، نتيجة لقراءته، أن المادة 28 ليست إعلاناً للتسامح الديني بل أنها تقرر مسئولية المسلمين عن ديون اليهود وديون مواليهم. ولا يبدو لنا هذا التفسير صحيحاً، وذلك للأسباب التالية:

 أ ) هذه المادة ليست إعلاناً للتسامح مع اليهود بل هي تعلن الاعتراف بدين اليهود وفقاً لما جاء في عشرات الآيات التي يقول فيها القرآن الكريم ويردد أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما هي إلا استمرار لرسالات الرسل السابقين مثل الآية:

شَرَعَ لَكُمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى … ﴿13﴾[الشورى]

ب) يبدو من المستغرب، في وثيقةٍ يقول "جيل" ذاته إنها أول أساس للمبادئ التوجيهية للقرآن، أن تكون المادة 28 والمواد الست التالية لها والتي تشير إليها مخصصة لإعلان أن المسلمين مسئولون عن ديون مواليهم اليهود، هؤلاء الموالي الذين كانوا بكل تأكيد أغنى منهم وأوسع ثروة.

ج) لو صح أن هذه المادة تعفي اليهود من ديونهم باعتبارهم موالي وفقاً للتفسير الذي يفسرها به "جيل" فسيكون من الصعب التوفيق بينها وبين قوله: "إن اليهود ينتمون إلى الأمة إذ أنهم موالي البطون المسلمة وعليهم بالتالي أن يمولوا احتياجات الأمة العسكرية".

د ) هذه المقولة الأخيرة تكررت بعد ذلك في هذه الكلمات: "على اليهود أن يساهموا في نفقة الغزوات التي يقاتل فيها أعضاء الاتحاد"، ولكن مع التحفظ الآتي: "يكون كل بطن من البطون مسئولاً عن التزامات يهوده المالية"، فكيف يمكن التوفيق بين شطري هذه القضية؟

ه) إذا أضفنا هذه النتيجة الأخيرة إلى النتيجة الأولية لوضع اليهود باعتبارهم موالي، فسنصل إلى محصلة واضحة مؤداها أن البطون العربية مسئولة، بمقتضى الصحيفة، ليس فقط عن ديون مواليهم اليهود العادية، بل كذلك عن التزاماتهم المالية بالمساهمة في نفقات الاتحاد الكونفدرالي العسكرية. ولكن إن صح ذلك فكيف يمكن فهم الفقرة التي يختم بها "موشي جيل" دراسته لدستور المدينة والتي يؤكد فيها أن "الوثيقة، لذلك، لم تكن ميثاقاً مع اليهود. بل على العكس هي بيان رسمي بنية فصل البطون العربية في المدينة من جيرانها اليهود الذين كانوا حلفاءهم حتى ذلك الوقت"؟

بركات أحمد

1- المادة 23 التي تقول: "وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن" تفيد، وفقاً لهذا المؤلف، استبعاد المشركين من الأمة. ولما كانت الصحيفة تشمل يهود يثرب في الأمة، فيبدو، من وجهة نظره، أن الشيء الذي كان واجباً لعضوية الأمة كان الإيمان بوحدة الله ليس إلا. غير أن هذا التفسير للمادة 23 يبدو لنا بعيداً كل البعد عن المعنى الظاهر للمادة. كذلك فإنه تفسير لا تشترك فيه أغلبية مؤلفينا فهم يستنتجون من المادة أن المشركين كانوا بالفعل طرفاً في الصحيفة.

2- استناداً إلى مختلف الأرقام التي ذكرها ابن إسحاق عن عدد الرجال الذين قدمهم بنو قينقاع للدفاع عن عبد الله بن أُبي (700)، وعن رجال بني قريظة الذين نُفِّذ فيهم حكم القتل (600 إلى 900)، وإلى عدد الجمال التي حمل فيها بنو النضير أموالهم ومتاعهم حين اضطُروا إلى مغادرة المدينة (800)، يقدِّر مؤلفنا عدد رجال القبائل اليهودية الثلاث الذين حاربهم المسلمون بثلاثة آلاف. ويقول إن قبائل اليهود التسع الأخرى التي كانت تعيش في المدينة، إذا كان لها نصف هذا الرقم، فإن مجموع سكان المدينة الذكور من اليهود يبلغ نحو 6000. ولما كانت كل أسرة من أسر اليهود تتضمن ستة إلى سبعة أعضاء فإننا نصل إلى عدد يتراوح بين 36000 و42000 لسكان المدينة من اليهود.

ولكن تجربتنا مع ابن إسحاق علمتنا ألا نثق في بعض الأرقام التي يذكرها في سيرته. إنه يقول مثلاً أن ذا نواس ملك اليمن اليهودي قتل 20000 نصراني رفضوا التحول إلى اليهودية. ويمثل هذا العدد عشرين ضعفاً (أي أربعين مثلاً) لمجموع مَن ماتوا من المسلمين والكفار في جميع حروب الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن جهة أخرى، لا تشتمل السيرة على أي بيان يتعلق بالمعركة المهولة التي تقول إن ابن أُبي تلقى فيها من بني قينقاع تعزيزاً من الرجال المسلحين قدره 700 رجل (علماً بأن غزوة بدر الكبرى لم يكن فيها من المقاتلين المسلمين طبقاً لابن إسحاق ذاته، سوى 374 وأن جيش قريش كان يتكون من نحو 900 إلى 1000 مقاتل). وأخيراً يبدو لنا أن تقدير سكان المدينة من اليهود بـ 40000، وإذا افترضنا أن سكانها من العرب كانوا مثل هذا العدد، أي ما مجموعه 80000 نسمة، رقم كبير جداً لسكان واحة كالمدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً. ويذكر بركات أحمد أن دائرة المعارف اليهودية تقدِّر عدد يهود المدينة في تلك الفترة بما يتراوح بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف.

أ. ل. دي پريمار:

1- كلمة "المهاجرون" إذا قورنت بعبارة "في سبيل الله"، في المادة 3 من الصحيفة، لكان معناها، بالنسبة لهذا المؤلف: "أولئك الذين تركوا ديارهم/ الذين هاجروا (للقتال) في سبيل الله". وتعريف كلمة "مهاجرون" على هذا النحو يختلف عن تعريف "ر. ب. سرجنت" فالمهاجر بالنسبة لسرجنت "شخص يبحث عن الحماية في مكان أو مع قوم ليسوا مكانه وقومه". وقد أبدينا رأينا في هذا الموضوع في ملحوظاتنا عن هذا التعريف وأوردنا أحد عشر اقتباساً من القرآن الكريم لآيات استُخدم فيها اسم "المهاجر" واسم "المهاجرون". والاقتباسان الأول والثاني من هذه الاقتباسات [الآيتان (41) و (110) من سورة النحل] ينتميان، طبقاً للمصادر العربية، إلى الفترة المكية، التي لم تكن فيها فتوح. ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن الهجرة إلى المدينة، فيما يقوله كُتَّاب السيرة، كانت ثاني هجرة للمسلمين. أما الهجرة الأولى فقد كانت تلك التي رحل فيها أكثر من ثمانين مسلماً من مكة (وهو عدد يفوق عدد المهاجرين إلى المدينة) إلى الحبشة، ولم يكن دافع هؤلاء المهاجرين إلى الهجرة هو روح الفتح.

2- يقول دي پريمار إن محمداً وأصحابه الأوائل الذين هاجروا إلى يثرب أسسوا فيها مع حلفائهم المحليين أول نواة للاتحاد الكونفدرالي الذي كان يدور حول المجهود الحربي (الجهاد/ القتال). وأن عبارة "ومن جاهد معهم" في المادة الأولى تعني ومن قاتل معهم، لأن كلمتي الجهاد والقتال عنده مترادفتان في القرآن. والحاصل:

أ ) أن هناك فرقاً كبيراً بين الجهاد والقتال. وإذا كان الجهاد يتخذ في بعض الحالات شكل القتال أي الحرب بالسلاح، الأمر الذي يستتبع فكرة قتل الخصم، فإن الجهاد يغطي مجالاً أوسع بكثير من العمل الحربي. إنه في معظم الحالات يقابل كلمة «militantisme»الفرنسية. والجهاد قد يعني أيضاً "الضغط" كما في الآية (15) من سورة لقمان: "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا…".

ب) كلمة "جاهد" تعني أحياناً كافح أو حتى حارب ولكن كتشبيه وباستخدام أسلحة غير تلك التي تقتل وتريق الدماء. والقرآن الكريم يقول مثلاً في آية مكية: "فَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا" ﴿52﴾[الفرقان].

ج) القرآن الكريم ذاته، الذي يحظر عدم الاكتراث والسلبية على المسلمين ويدعوهم إلى الانخراط في سبيل الله بآيات مثل:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" ﴿142﴾[آل عمران]، يأمرهم في الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" ﴿208﴾[البقرة] بالدخول في السلم.

 د ) الصحيفة ذاتها تحتوي على المادة 50 التي تقول: "وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه" وهي في رأينا مستمدة بصورة مباشرة من الآية القرآنية: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا …"﴿61﴾[الأنفال].

ه) الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله في القرآن الكريم دعوة عامة؛ وهي تتجه إلى كل مسلم. وهي دعوة دائمة لبذل الجهد. وهي لا يمكن أن تكون فقط دعوة إلى حمل السلاح أو إلى الفتح  لأن الفتوحات واللجوء إلى السلاح - القتال - في حياة المسلم، كما في حياة البشر جميعاً، ليست إلا أموراً وقتية. أما الجهاد أي الروح العملية واليقظة ومقاومة قوى الشر بكل الوسائل في سبيل الله فهي مطلوبة من المسلمين باعتبارها واجباً ينسحب على حياتهم كلها.

3- عدو الأمة المعيَّن في المادة 48 ليس، وفقاً لمؤلفنا، قريشاً بل الكفار. وهو يرى أن هذه المادة غير أكيدة وأنها ربما كانت قد أضيفت إلى الصحيفة، ويلاحظ أنها ليست واردة في الصيغة التي نقلها أبو عبيد. والحاصل:

 أ ) أن المادة 48 واردة، بالإضافة إلى سيرة ابن إسحاق، عند ابن كثير وعند ابن سيد الناس، كما يتضح من مرفق دراسة "ر. ب. سرجنت"؛

ب) ليس من المعقول أن يكون الكفار العدو المعيَّن في الصحيفة إذ أنهم جزء من الأمة وفقاً للمادة 23؛

ج) حميد الله و"ولهاوزن" و"واط" و"جيل" لم يعبِّروا عن تحفظات فيما يتعلق بالمادتين 23 و48 من الصحيفة اللتين تتحدثان عن انتماء المشركين للأمة ولا فيما يتعلق بكون قريش مكة أعداء لمحمد. وحميد الله و"ولهاوزن" قاطعان في هذا الخصوص وأولهما يسمي قريشاً "أعداءه الوحيدين" و"ولهاوزن" يسميهم: "أعداء الأمة المعلنين". بل إن هذا المؤلف الأخير يستخدم هذه الحجة لإثبات أن الصحيفة وثيقة صحيحة إذ  يقول: "إن أحداً ما كان يصر إلى هذه الدرجة على كراهية قريش باعتبارهم أعداء الله الحقيقيين."؛

د ) إذا كان صحيحاً، كما يقول الواقدي في فقرته الشهيرة التي تمثل في نظر "سرجنت" وغيره من المؤلفين سبب وجود الصحيفة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عند قدومه إلى المدينة يريد توحيد مختلف طوائفها في أمة واحدة فمن الطبيعي أن يكون المشركون - الذين أشار إليهم في الجملة التي تقول: "وكان الرجل يكون مسلماً وأبوه مشركاً" – أطرافاً في الاتحاد الكونفدرالي.

تجميع وملحوظات عامة

1- جميع مؤلفينا يرون أن الصحيفة وثيقة صحيحة. وفي الإمكان أن نقول إن هذه النقطة هي النقطة الوحيدة التي يُجمعون عليها. على أن لنا في هذا رأياً مخالفاً. وقد أقنعنا تحليلنا للوثيقة ذاتها كما أقنعنا بحث خلفيتها بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن محررها.

2- هل كانت الصحيفة إعلاناً أو مرسوماً أو عملاً من جانب واحد صادر عن رئيس أعلى أم كانت معاهدة، أو اتفاقاً، أو ميثاقاً، أو عملاً أطرافه متعددة؟ الآراء مختلفة حول هذا الموضوع. ويرى بعض المؤلفين أنها تتكون من وثيقتين. ويتحدث "سرجنت" عن ثماني معاهدات.

3- الصحيفة لا تحمل تاريخاً؛ وهي لا تحتوي على أي عنصر يسمح بإدراجها في أحداث تاريخ أحداث المدينة ولو بصورة تقريبية. وأولئك، من بين المؤلفين، الذين يعتبرونها وثيقة واحدة يضعونها في السنة الأولى من الهجرة. ويضعها آخرون في تواريخ لاحقة. وأولئك الذين يعتبرونها تجميعاً لوثائق متعددة اقترحوا تواريخ مختلفة.

4- عبارة المادة الأولى لا تحدد بدقة دور محمد صلى الله عليه وسلم في الصحيفة. وإحدى قراءات هذه المادة توحي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ضمن أطرافها. ولم يتطرق مؤلفونا لبحث هذا الموضوع.

5- المؤمنون نفرٌ لا يمكن التعرف إليهم إذ أن الإيمان شعورٌ ليس له مظهر خارجي. ولم يكن الرسول ذاته، وفقاً لما جاء في القرآن، يعرف مَن من المسلمين المحيطين به كان مؤمناً ومَن لم يكن. لهذا فإن "المؤمنين" الذين تتحدث عنهم الصحيفة كانوا أشخاصاً مجهولين. والمجهولون لا يمكن أن يعقدوا معاهدات أو أن يكونوا مقصودين بإعلان أو مرسوم. ولم يتناول مؤلفونا هذه المسألة.

6- المهاجرون ومسلمو المدينة لم تكن بهم حاجة إلى إجراء رسمي ليدخلوا في الأمة. لقد وُجدت أمة الإسلام منذ بداية الدعوة المحمدية، وكل شخص أعلن انتماءه إلى الإسلام كان يدخل فيها تلقائياً. ولم يكن أي رباط رسمي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ومسلمي المدينة أقوى من رباط الإيمان والصلاة المشتركة خلف الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، خمس مرات في اليوم.

7- علاوة على مسلمي قريش ويثرب، تتحدث الصحيفة عن اليهود والمشركين فهل كان هؤلاء من فئة "مَن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم" الذين تتحدث عنهم المادة الأولى؟ ما من مؤلف أكد هذا. ولكن، إذا لم يكونوا كذلك، مَن كان هؤلاء الأشخاص؟ لا إجابة عند مؤلفينا. إذاً فإن الإمكانية المنطقية الوحيدة لذلك هي أن هذه العبارة تتحدث عن مسلمين غير مسلمي قريش أو يثرب. ولكن أحداً لم يتعرض لهذا الاحتمال. ومع ذلك فقد كان في هذا التصور حل للمشكلة التي تثيرها المادة 2.

8- تقول هذه المادة الثانية: "إنهم أمة واحدة من دون الناس." ويقرر المؤلفون، في أغلبيتهم العظمى، أن اليهود والمشركين، بموجب هذه المادة، أطراف في الأمة مع المسلمين (على الرغم من أنهم لم يتبعوهم ولم يجاهدوا معهم)، الأمر الذي يبدو غير منطقي.

9- المواد من 4 إلى 11، التي تتحدث عن ثمانية بطون من مسلمي المدينة، تثير التساؤلات التالية:

 أ ) هل تمثل هذه البطون مجموعة سكان المدينة من المسلمين أم تمثل جزءاً فقط من هؤلاء السكان؟ وإذا كانت تمثل مجموع هؤلاء المسلمين:

– لماذا ذُكروا بالاسم بدلاً من أن يقال ببساطة "مسلمو يثرب"؟

– يكون معنى هذا، بالنسبة للمؤلفين الذين يؤكدون أن الصحيفة ترجع إلى السنة الأولى من الهجرة، أن يثرب كانت قد دخلت كلها في الإسلام في السنة الأولى من الهجرة، وهي نظرية يناقضها القرآن الكريم، كما أوضحنا بصدد الحديث عن دخول المدينة في الإسلام.

– يكذِّب هذا أيضاً حقيقة أن الصحيفة ذاتها تحظر على المشركين في مادتها الثالثة والعشرين إجارة قريش، وهو ما يفترض أنه كان هناك في يثرب مشركون عندما حُررت هذه الوثيقة.

ب) إذا كانت هذه البطون تمثل جزءاً فقط من سكان يثرب المسلمين:

– ماذا كانت نسبتهم المئوية بالمقابلة بمجموع هؤلاء السكان؟

– ماذا كان الوضع فيما يتعلق بالمسائل التي تعالجها هذه المادة، أي المسئولية عن العقل والفدية، بالنسبة لباقي البطون أي أغلبية بطون يثرب، إذ أننا أثبتنا بمقارنة عدد البطون المذكورة في الصحيفة بعدد البطون التي اشترك مقاتلوها في غزوة بدر أن بطون الصحيفة أقل كثيراً من بطون بدر؟

إن أحداً من المؤلفين لم يتعرض لهذه المسائل.

10- هذه المواد ذاتها، وكذلك المادة 3 بشأن المهاجرين، تثير مشكلات فيما يتعلق بالعقل (الدية). ذلك:

 أ ) أن كل ما تفعله هو أن تكرر القواعد التقليدية التي كانت سارية في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وهي قواعد قررها القرآن الكريم من حيث المبدأ كعنصر من عنصر القانون الجنائي.

ب) إقرار هذه القواعد في الصحيفة لم يكن يستجيب لحاجة تشريعية تولدت عن كثرة أحداث القتل في يثرب أثناء الفترة المدنية.

ج) المادة 3، التي تتعلق بالمهاجرين، غير قابلة للتطبيق: إنها تتجاهل حقيقة أن المسئولين التقليديين عن العقل لم يكن لهم وجود نظراً لقطع العلاقات الأسرية بين المهاجرين وقبائلهم المكية.

11- فيما يتعلق بالفدية لم يعد لقواعد الجاهلية قيمة نظراً للتحولات العميقة التي أحدثها الإسلام في هيكل المجتمع العربي. فقد كان هذا الهيكل قائماً على القبيلة وكانت كل الحروب حروباً بين القبائل. لكن هذا لم يعد الحال بعد الإسلام. وفي يثرب، كما في مكة، كان المسلمون ينتمون إلى جميع القبائل، وما من حرب في وقت الرسول كانت حرباً بين القبائل. (وفي بدر وأحد كان على المهاجرين من مكة أن يقاتلوا أعضاء من قبائلهم). وإذا أُسر مسلم فالرسول صلى الله عليه وسلم، باعتباره رئيساً للأمة، هو الذي كان عليه أن يدفع الفدية.

12- أياً ما كان الأمر، فإن مسألة الفدية لم تكن مطروحة على الإطلاق في اللحظة التي يضع فيها المؤلفون هذا الجزء من الصحيفة أي في الشهور الأولى من الفترة المدنية. لقد أصبحت الحروب بين الأوس والخزرج المسلمين في ذمة الماضي، كما أن المشكلات التي كانت تحتاج إلى انتباه الرسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة كانت من الكثرة والإلحاح بحيث أن المسائل المتعلقة بالفدية في حالة قيام حرب افتراضية لم تكن تقتضي من جانبه، على سبيل الأولوية، سن تشريع يسجَّل في وثيقة دستورية. كذلك فإن حديث جميع الحروب التالية التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخبرنا بأن مسألة فدية الأسرى المسلمين أثيرت في أي وقت من الأوقات. ولم يقل أحد قط إن بطناً من بطون المدينة المذكورة في الصحيفة دفع أو لم يدفع الفدية لأحد من أعضائه أُسر في الحرب.

13- المادة 18 التي تقول: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم" تثير الأسئلة الآتية:

 أ ) مَن هم "مَن تبعنا من يهود"؟

ب) ما هو المجال الذي تقرر المادة أن يكون لهم فيه "النصر والأسوة"؟

ج) ما هي طبيعة التمييز الذي تدخره هذه المادة ضمناً لليهود الذين لم يتبعوا المسلمين؟.

لم يجب مؤلفونا على هذه الأسئلة التي يثيرها نص المادة.

14- المادة 27 التي تقول: "وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين" تثير الأسئلة التالية:

 أ ) هل هناك حالة واحدة تنطبق عليها هذه المادة، أي الحالة التي يكون المسلمون فيها محاربين، أم أن المادة تتناول أيضاً الحالة التي يكون الطرفان فيها محاربين؟ إذا كان المقصود هو الحالة الأولى، كان هناك تمييز ضد اليهود إذ أن المادة لا تفرض التزاماً مقابلاً على المسلمين إذا ما كان اليهود محاربين. كذلك فإن المادة 27 تكون في هذه الحالة متناقضة مع المادة 18 التي تكفل لليهود معاملة متساوية مع معاملة المسلمين. وإذا كان المقصود هو الحالة الثانية، كانت المادة لغواً لا داعي له. ولم تستلفت هذه التفرقة انتباه مؤلفينا.

ب) لم يستغرب مؤلفونا أن تتصور الصحيفة وجود تعاون بين المسلمين واليهود في وقت الحرب مع أن أعداء المسلمين غير أعداء اليهود، وأن لا تتصور قيام تعاون بين المسلمين واليهود في وقت السلم في مجالات التعاون فيها طبيعي وأقل تكلفة.

15- الإشارة إلى اليهود في المواد من 28 إلى 34 التي تنص على أن يهود بني عوف ويهود ستة بطون أسلمت في المدينة "أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" وأن ذلك ينطبق على "مواليهم وأنفسهم" فسِّرت بصور مختلفة من جانب مؤلفينا. وبالإمكان القول إن هذه المسألة هي المسألة التي كانت موضع أكبر المناقشات بشأن الصحيفة والمسألة التي ظهر فيها أكبر قدر من الخلافات بينهم. فهل نحن هنا إزاء أعضاء القبائل العربية المذكورة الذين دخلوا في اليهودية؟ هذا هو رأينا ورأي "سبرنجر"، كما هو رأي بعض أعضاء مجموعة دراسة في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن كان "ر. ب. سرجنت" عضواً من أعضائها. ويستند هذا الرأي أولاً إلى صياغة المادة الأولى التي تشير إليها المواد الأخرى وهي صياغة في غاية الوضوح. وهو يستند كذلك إلى حقيقة أن هذه المواد لا تذكر اسم أي بطن يهودي أو أي قبيلة يهودية. على أن مؤلفينا يرون أن المقصود هم يهود قبائل المدينة المتحالفون مع القبائل العربية أو الذين هم مواليهم. وهم يحتجون في هذا الصدد بالمعلومة الواردة لدى الواقدي والتي تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قدم إلى المدينة كان يأمل في توحيد مختلف طوائف سكانها، بما في ذلك اليهود، مع المسلمين؛ وبتفسيرات بعض المؤلفين القدامى للمواد من 28 إلى 34 بشأن اليهود في الصحيفة؛ وببعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن عهود أو التزامات أو مواثيق عُقدت بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود والتي تقابل في رأيهم بشكل ملحوظ بعض مواد الصحيفة. وهم يستندون أخيراً إلى حقيقة أن المؤرخين المسلمين كانوا يحتجون بخرق اليهود لهذه التعهدات لتبرير الإجراء العسكري الذي اتخذه الرسول في مواجهتهم. على أن هؤلاء المؤلفين يختلفون فيما بينهم بشأن عدة نقاط: بشأن اشتراك القبائل اليهودية الثلاث التي حاربها الرسول صلى الله عليه وسلم، أي بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، في الأمة، وبشأن تاريخ أو تواريخ انضمامهم إلى الوثيقة. ولكن المواد من 28 إلى 34، سواءً كانت تشير إلى الأفراد اليهود في البطون العربية المذكورة أو كانت تشير إلى يهود المدينة - مع أو بدون بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة - تبدو لنا في غير محلها. والواقع أنه:

 أ ) إذا كانت هذه المواد تشير إلى الأعضاء اليهود في البطون التي أسلمت من بني عوف وبني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم والأوس وثعلبة فيثور بالنسبة لهذه البطون سؤال من نفس نوع الأسئلة التي ثارت فيما يتعلق ببطونهم العربية. أسئلة مثل:

– ماذا كانت أهميتهم العددية؟

– ماذا كانت نسبتهم المئوية بالمقارنة بأعضاء بطونهم من العرب؟

– ماذا كانت نسبتهم المئوية بالمقارنة بمجموع سكان المدينة من اليهود؟

– إذ كانوا وحدهم "أمة مع المؤمنين" ماذا كان الوضع بالنسبة لليهود الآخرين، أولئك الذين لا ينتمون إلى بطون عربية؟

– ما هي الحقوق والواجبات والتكاليف التي كان يكفلها لهم أو يفرضها عليهم وضعهم الخاص؟

– كيف كانت علاقاتهم مع أبناء دينهم الذين لا تشملهم الأمة؟

– إذا لم تكن بطونهم إلا قلة في سكان المدينة من المسلمين ماذا كانت الجدوى الحقيقية للاتحاد الكونفدرالي الذي هم طرف فيه؟

لم تستلفت جميع هذه الأسئلة انتباه مؤلفينا.

ب) لو أن يهود مواد الصحيفة كانوا، على العكس، كل يهود المدينة فهناك أسئلة أخرى تطرح نفسها بشأنهم. أسئلة مثل:

– لماذا لم تقل الصحيفة ذلك صراحةً مع ذكر أسماء بطونهم أو مع عدم ذكر هذه الأسماء؟

– هل تبع هؤلاء اليهود المسلمين من قريش ويثرب، وهل لحقوا بهم، وهل جاهدوا معهم، وبأي طريقة؟

– هل هم نفس اليهود موضوع المادتين 18 و27؟ وفي حالة الإيجاب لماذا رؤي من الضروري إدراج هاتين المادتين في الصحيفة؟ وفي حالة النفي، أي فروق كانت هناك بينهم وبين أولئك الذين تتناولهم كل من المادتين 18 و27؟

– هل هم نفس أولئك الذين ورد ذكرهم في المواد من 28 إلى 34؟ ولماذا رؤي في هذه الحالة من الضروري إدراج هاتين المادتين في الصحيفة؟ وما هو الفرق الذي كان موجوداً بينهم وبين اليهود المذكورين؟

– إذا لم يكونوا يهود المادتين 17 و 28 ولا يهود المواد من 28 إلى 34 فما الفرق بينهم وبين بني دينهم الذين تشير إليهم هذه المواد؟

جميع هذه المسائل لم تستلفت نظر مؤلفينا.

16- على أن مشكلات عدم التوافق الداخلي هذه بين مواد الصحيفة بشأن اليهود ليست المشكلات الوحيدة التي يثيرها افتراض أن سكان المدينة من اليهود، وليس فقط يهود البطون العربية المسماة في الصحيفة، كانوا طرفاً في هذه الوثيقة، باعتبارهم حلفاء أو موالي. لقد كانت هناك أيضاً، كما ذكرنا في ملحوظاتنا، عوامل تتعلق بالسياق التاريخي لم تؤخذ في الحسبان بالقدر الكافي. هذه العوامل تتعلق بحقيقة أنه لم يكن يكفي لقبول الدخول في اتحاد كونفدرالي متعدد الإثنيات ومتعدد الديانات، كذلك الذي تنص عليه الصحيفة، أن تكون فكرة إنشاء هذا الاتحاد قد خطرت لزعيم خيِّر. كان من اللازم أن يُستوفى عدد من الشروط المسبقة:

 أ ) كان من الواجب قبل كل شيء أن يحوز هذا الزعيم ثقة الأطراف الذين كان يطمع في ضمهم إلى مشروعه، أو أن تكون لديه وسائل لفرض هذا المشروع عليهم بالقوة. والحاصل أن محمداً صلى الله عليه وسلم، حين قدم إلى المدينة، لم يكن موضع ثقة اليهود. إنهم لم يكونوا يعترفون بصفته كنبي، وكانوا إذاً يعتبرونه كاذباً. وحقيقة أنه كان يحترم دينهم، وأنه كان يؤمن بدين إبراهيم، وأن كتابه كان يثني على أنبيائهم وعلى موسى عليه السلام بوجه خاص لم تكن تكفي لتهدئة تحفظاتهم الذهنية حياله، إذ أن نظرتهم إلى أنبيائهم وإلى دينهم لم تكن نظرته. لقد كان متهماً في أعينهم بنقل ما في كتاباتهم وتلفيق دين جديد بمادة كانت ملكاً لهم وبتقديمها، أي هذه الديانة، كأنها ديانته هو. وإذا كان في الجزيرة العربية كلها رجل كان اليهود يكرهونه ويشكون في نواياه فقد كان محمد هذا الرجل. وكان هناك سبب آخر يدفعهم إلى الشك فيه هو أنه كان يعتبر، بالنسبة لقومه، العدو الأول. إن أحداً من أعضاء قبيلته لم يكن في وداعه حين قرر أن يغادر مكة. ومن الجهة الأخرى لم يكن محمدٌ صلى الله عليه وسلم، حين وصل إلى يثرب، فاتحاً كما لم يكن قائداً حربياً. لقد كان لاجئاً لا يدري أين سيكون سكنه. وأولئك الذين لحقوا به كانوا مثله رجالاً مدينتهم تتبرأ منهم، وكان معظمهم فقيراً لم يحمل معه إلا ما يداري به عورته. وغاية القول أن محمداً لم يكن بوسعه أن يفرض إرادته على اليهود أو يجبرهم على قبول مشروعه وكل قوته من الرجال عشرات قليلة من المهاجرين و، على أحسن افتراض، مئات قليلة من المسلمين المحليين.

ب) كان من الواجب، بعد ذلك، أن يكون هناك حد أدنى من أوجه الشبه بين مختلف الطوائف التي كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يريد إدماجها في تنظيم واحد، ولم تكن هذه الأوجُه، فيما يبدو، موجودة في يثرب بين اليهود والعرب المشركين على الرغم من أنهم كانوا يعيشون جنباً إلى جنب منذ قرون. وحتى في داخل مجتمع المشركين، كانت هناك منافسات أدت أحياناً إلى حروب، كما يخبرنا كُتاب السيرة،. ولو كان محمد قد فكر في مشروع ما حين وصل إلى المدينة فمن المؤكد أن هذا المشروع لم يكن يرمي إلى جمع المشركين واليهود والمسلمين في اتحاد فدرالي سياسي وإقليمي. لقد كان مشروعه، في مرحلة أولى، يهدف إلى جعل اليهود، الذين كان يشعر بأنه قريب منهم بالعقيدة، يعترفون به كنبي أو، على الأقل، إلى القيام معهم باستئصال الشرك من يثرب. ولكن اتصالاته الأولى معهم أقنعته قطعاً بأن هذا غير ممكن: إن المسافة، من جانب اليهود، بين الدينين كانت شاسعة؛ وكانت الدعوة إلى الدين غريبة على اليهود. كذلك لم يكن اليهود على استعداد للإساءة إلى حلفائهم من المشركين بالاشتراك في عمل يهدف إلى جعلهم يغيرون دينهم.

ج) كان من الواجب أن يحقق الاتحاد الكونفدرالي مزايا لأعضائه وأن يخدم مصالحهم. والحاصل أن مصلحة اليهود كانت تكمن في الحفاظ على الحال كما هو. ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم، بعد أن فشلت مساعيه مع اليهود، وجَّه كل جهوده إلى هداية المشركين إلى دينه. وكانت دعوته تثير ثائرة هؤلاء كما كانت تثير ثائرة إخوانهم في الدين في مكة وللأسباب ذاتها، ولكن الخسارة على اليهود كانت أكبر. فإن النشاط الاقتصادي المكثف الذي قام به المهاجرون المسلمون في المدينة (تجارة القوافل، بناء مساكن وأسواق لزائري الجزيرة العربية الوافدين لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، بيع الخدمات، الخ) كان ازدياده يضر بهم. لقد بدأ الاحتكار أو شبه الاحتكار الذي كان لهم في القطاعات الاقتصادية والمالية في المدينة يتصدّع. وكل أرض كان المسلمون يكسبونها في مجال "أسلمة" المدينة كانت أرضاً يخسرها اليهود على صعيد الأعمال التجارية والمالية، إذ أن المسلمين الجدد كانوا يفضلون التعاون مع تجار مسلمين على التعامل مع التجار اليهود. وكان هذا تيار لا سبيل إلى إيقافه. لقد كانت المسألة بالنسبة ليهود المدينة مسألة حياة أو موت. ومن ثَم أصبح الدفاع عن أنفسهم ضد "الغزو" الإسلامي واجباً مقدساً. وكان الأمر يقتضي تعبئة كل الجهود لوقف تقدُّم الإسلام في يثرب. لقد كان العدو بالنسبة لهم معلوماً علم اليقين. وكان الواجب ضم الصفوف ومحاربته بجميع الوسائل. بما في ذلك الاستعانة بمكة وبغيرها من الحلفاء المحتملين. وفي مواجهة خطر المسلمين الذي كان يهدد هؤلاء وهؤلاء كان إنشاء تحالف كونفدرالي يجمع المشركين واليهود شيئاً طبيعياً. أما قيام اتحاد كونفدرالي بينهم وبين أعدائهم فشيءٌ غير طبيعي، بدليل المعارك التي نشبت بين المسلمين واليهود في مناسبات ثلاث، وحقيقة أن القبائل اليهودية الثلاث الكبرى أُجبرت على أخذ طريق المنفى.

 د ) محمد صلى الله عليه وسلم، من جهته، لم يكن له أي مصلحة في إدخال المسلمين في اتحاد كونفدرالي مع قوم يعادونه ويرفضونه على المستوى الديني، الذي كان يهمهم أكثر من غيره. ومثل هذا الاتحاد، على أي حال، لم يكن يأتي لهم بأي ميزة خاصة.

كل هذه الاعتبارات تُظهر إلى أي مدى كانت ادعاءات الواقدي، التي رأى الباحثون فيها سبب كتابة الصحيفة، تفتقر إلى الأساس. ولكن مؤلفينا لم يشيروا إليها وأخذوا بكلام الواقدي على علاّته.

17- وكانت الشروط المسبقة اللازمة لإدخال المشركين في الأمة، إلى حدٍ كبير، هي الشروط ذاتها المتعلقة باليهود:

– كان من الواجب أن يحظى محمد صلى الله عليه وسلم بثقتهم. ولكن كيف يتسنى له الحصول على هذه الثقة إذا كان دينه ينسف أسس حياتهم ويقضي باستبدال إله واحد بآلهتهم المتعددة ويخلق ولاءً أقوى للفرد من ولائه لقبيلته؟ أي ثقة كان يمكن أن يمنحوها له إذا كان قومه أنفسهم قد نبذوه؟

– كان لابد من وجود اتساق بينهم وبين المسلمين، ولكن أي اتساق كان يمكن أن يتم مع أعضاء أسرهم الذين تبرءوا منهم كنتيجة لتحولهم إلى دين محمد، أو مع القرشيين الذين طردتهم قبائلهم؟ وإذا كانت علاقاتهم التي ترجع إلى مئات السنين مع جيرانهم وحلفائهم اليهود، الذين لم يهاجموا أبداً شركهم، لم تدفعهم إلى تكوين اتحاد كونفدرالي معهم، هل كان من المعقول أن يقبلوا مثل هذا الاتحاد مع قوم لا يكفون عن تدمير كل ما هو ثابت ومتين في مجتمعهم؟

– كان الواجب إقناع المشركين بأن مشروع توحيد كل سكان المدينة في أمة واحدة يخدم مصالحهم ويحقق لهم مزايا. ولكن مصالحهم كانت منذ أمد طويل مرتبطة بمصالح اليهود ولم يكن المسلمون في معظمهم إلا نفراً مخلاً بالنظام القائم. ومن جانب المسلمين كذلك لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى مصلحة في إدماج قوم يشكون فيه ويضطهدون أقاربهم الذين اعتنقوا الإسلام، في أمته.

18- أما ميزة توفير حماية مشتركة ليثرب إذا ما هاجمتها قوة أجنبية، فإنها ميزة وهمية إذ أن يثرب لم تتعرض منذ القدم لمثل هذا الموقف، واحتمال هجوم عدو مشترك ضد المدينة لم يكن أمراً وارداً. ولو أن هذا الاحتمال تحقق لكان لدى أهل المدينة كل الوقت لتنظيم الدفاع عن بلدهم وفقاً لظروف الساعة. أياً ما كان الأمر فأهل المدينة، من مشركين ويهود، لم يكونوا بحاجة إلى غريب لكي يعلِّمهم كيف يفعلون ذلك.

الوقت إذاً لم يكن مناسباً لطرح مشروع إنشاء أمة متعددة الإثنيات ومتعددة الديانات في يثرب. وفضلاً عن ذلك فإن محمداً لم يتلق في القرآن الذي يوحى إليه أمراً بتشكيل مثل هذه الأمة، وكان يقول إنه نبي لا إنه ملك أو زعيم سياسي. وأياً ما كان الأمر، فلم يكن لديه من السلطان ما يكفل له إقناع المشركين واليهود بمزايا هذا المشروع أو إجبارهم على قبوله.

ولكل هذه الأسباب فإن الصحيفة، باعتبارها ميثاقاً تأسيسياً لمثل هذه الأمة، ليست، ولم يكن في الإمكان أن تُعتَبَر، وثيقة صحيحة.  

الصحيفة وسيرة ابن إسحاق/ ابن هشام

1- في حديث بيعة الحرب التي عُقدت في مكة بين حجاج يثرب والرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بوقت قصير قال أحد النقباء للرسول صلى الله عليه وسلم: "إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟" فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب مَن حاربتم، وأسالم مَن سالمتم". وهذه العبارات التي تتحدث عن قطع العلاقات مع اليهود لا يمكن التوفيق بينها وبين روح التفاهم التي يفترضها اشتراك المسلمين واليهود في أمة واحدة. ولكن أحداً من مؤلفينا لم يقف عند هذا التناقض أو يحله.

2- يورد ابن إسحاق نص الصحيفة في حديث الفترة المدنية بعد أن تحدث باختصار عن وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، وبناء المسجد، وإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم عند رجل من أهل المدينة وزوجه، وعن وصول المهاجرين إلى مكة، وعن دخول المدينة كلها تقريباً في الإسلام (وذكر هذا في سطرين)، وبعد أن أورد نص أول خطبتين للرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يقل ابن إسحاق كلمة عن محادثات عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بشأن الاتحاد الكونفدرالي ولم يقل كلمة عن اتصالات جرت بينهم وبين يهود المدينة والمشركين بصدده. ولم يتحدث عن أي احتفالات، ولم يورد وصفاً للاجتماع الذي عقد لإعلان الصحيفة أو لتوقيعها؛ ولا قال كلمة عن الأشخاص الحاضرين، الموقعين أو الشهود على توقيع الصحيفة. ولم يورد أخيراً ذكراً لتعليق الصحيفة في المسجد أو في معبد اليهود أو في مكان عام أياً كان.

3- تشير سيرة ابن إسحاق في حديث الفترة المكية إلى صحيفة أخرى قاطعت قريش بها قبيلة عبد المطلب لأنها كانت تحمي الرسول صلى الله عليه وسلم. ويشتمل الحديث المتعلق بهذه الصحيفة على قصيدة من 14 بيتاً لأبي طالب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم ضد قريش؛ وقصيدة من 26 بيتاً لأبي طالب يثني فيها على الشخصيات المكية التي سعت لإلغائها؛ وقصيدة من ثمانية أبيات لحسان بن ثابت شاعر المدينة يبكي فيها أحد هؤلاء الرجال عند وفاته. وقد كانت صحيفة المدينة، لاعتبارات مختلفة، أهم بكثير من صحيفة مكة. وكان الواجب، والأمر كذلك، أن يسبقها شرح طويل للمساعي التي مهدت لها، وأن يتلوها تعقيب يشرح تنفيذها في العمل، وأثرها على سلوك كل طرف من أطرافها؛ وعلاقاته بالأطراف الأخرى وأثرها على حياة المدينة؛ والمشكلات التي نتجت عن تطبيقها، وحالات انتهاك أحكامها التي شوهدت؛ والشكاوى التي قُدِّمت، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن هذه المشكلات حين عرضت عليه؛ والمآخذ التي أمكن تسويتها ودياً؛ وموقف مختلَف قطاعات السكان الممثَّلة في الصحيفة حين دخل المسلمون واليهود في نـزاعات مسلحة وخلال حملات قريش الثلاث - بدر وأُحُد والخندق – ضد مسلمي المدينة؛ وماذا نُظِم من الأشعار في أحداث الصحيفة أو في هذه المرحلة أو تلك من تطبيقها؟ هل كانت هناك حالات نقض أو انسحاب من الصحيفة؟ كم من الوقت استمرت الأمة التي أنشأتها الصحيفة في الوجود؟ هل كفَّت عن الوجود، ومتى حدث هذا وفي أي ظروف؟ وحين تفجر الاتحاد الكونفدرالي أو جرى حله ماذا كان وضع كل مكوِّن من مكوناته؟ أي اختلاف أحدثه هذا الموقف بالنسبة للحالة التي كانت سائدة في فترة سريان الصحيفة؟ ابن إسحاق لم يردّ على أي من هذه الأسئلة رغم أنها بديهية. والواقدي أيضاً لم يرد عليها. كذلك فإن مؤلفينا من جانبهم لم يتعرضوا لهذه المسائل.

4- والشيء الذي نجده، على العكس من ذلك، في السيرة هو بعض المعطيات التي لا تتفق أو التي تناقض فحوى هذه الوثيقة. من ذلك أنه:

 أ ) بعد نص الصحيفة مباشرةً، تحدثنا سيرة ابن إسحاق عن الأخوّة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وهي صلة أقوى بكثير من صفة العضوية في الاتحاد الكونفدرالي.

ب) رأينا في الجزء الأول من هذه الرسالة أن الجانب الأكبر من حديث السنة المدنية الأولى لم يكن هدفه إلا إظهار أن اليهود كانوا أعداء محمد صلى الله عليه وسلم وأعداء الإسلام، وأنهم كانوا كأمر واقع أعداءه الوحيدين في المدينة. وبعد هذه السنة الأولى، يحتل اليهود مكاناً كبيراً في أحداث غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم: بني قينقاع أولاً في العام الثاني ثم بني النضير في العام الرابع وبني قريظة في العام الخامس ثم خيبر ثم فَدَك في العام السابع. ومنطق هذه الحروب يتعارض تماماً مع منطق اتحاد فدرالي يجمع بين اليهود والمسلمين. ويلاحظ أن الواقدي، هو الآخر، تحدث عن هذه الحروب التي قامت بين المسلمين واليهود على الرغم من أنه لا يتحدث عن الصحيفة.

ج) يقرر ابن إسحاق أن كل سكان المدينة تقريباً أسلموا خلال السنة الأولى من الهجرة، وهو تقرير يتنافى مع ورود المشركين، من جهة، في النص الذي يحظر أن يُقتل مسلمٌ في كافر و، من جهة أخرى، في النص الذي يحظر على المشركين إجارة قريش أو أموالهم. 

الصحيفة والقرآن الكريم

جزءٌ كبير من المناقشات المتعلقة بالصحيفة يدور حول فكرة الأمة الأساسية التي تمثل الصحيفة ميثاقها. وقد حاول المؤلفون أن يحددوا هوية أطراف هذه الأمة ووضعهم القانوني. ولكن مسألة هامة تتصل بالأمة لم تكن موضع بحث. هذه المسألة هي: ماذا كان الفرق بين وضع أعضاء الأمة ووضع أولئك الذين لم يكونوا طرفاً فيها؟ هذه مسألة هامة إذ أن على الإجابة عليها يتوقف الحكم بشأن وجود الصحيفة ذاته. والواقع أنه لم يكن في الإمكان أن يكون لهذه الوثيقة وجود حقيقي إلا إذا كانت أحكامها تكفل لأعضائها حقوقاً ومزايا أو ضمانات لا يكفلها لهم القرآن. فماذا يقول القرآن الكريم عن مختلف النقاط الواردة في الصحيفة؟ أكانت هناك حقاً حاجة إلى وثيقة خاصة لسد ثغراته أو لتحديد أحكامه؟ أكان هناك من جهة أخرى نصوص في الصحيفة لا تتفق مع المبادئ التي نص عليها القرآن الكريم؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة مع عدم التوقف، لأغراض المناقشة، عند الاعتراض الذي سبق أن أثرناه والذي مؤداه أن المؤمنين لم يكن في الإمكان من حيث المبدأ أن يكونوا طرفاً في اتفاق أو يكونوا مقصودين بإعلان ما، ومع افتراض أن الواجب، حيثما أشارت الصحيفة إلى المؤمنين، أن يكون المفهوم هو المسلمون.

1- يقول القرآن الكريم:

إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾[الحجرات]

وورد في القرآن الكريم أيضاً قوله تعالى:

– …وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا… ﴿103﴾[آل عمران]

والحاصل أن المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب لم تكن بهم حاجة، مع وجود هاتين الآيتين، لوثيقة تجعل منهم أمة. لقد كانوا أمة منذ اللحظة التي اعتنقوا فيها الإسلام. ولم يكن لهم حقوق أكثر ولا التزامات أقل من مسلمي مكة أو مسلمي باقي أرجاء الجزيرة العربية، أو مسلمي الخارج إذا - ولم لا؟ - كان أشخاص خارج الجزيرة العربية قد عرفوا الإسلام واعتنقوا دين محمد صلى الله عليه وسلم في حياته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المادتين 1 و 2 لا تصبحان لغواً فحسب بل تصبحان متعارضتين مع روح القرآن الكريم، لأنهما تقصران الأمة على المسلمين المقيمين بالمدينة.

2- جاء في القرآن الكريم بشأن الدية:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَّقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَّصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ … ﴿92﴾[النساء]

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿45﴾[المائدة]

وكما نرى، فإن هاتين الآيتين تغطيان كل المساحة التي تغطيها المواد من 3 إلى 11 فيما يتعلق بالعقل (الدية) وتشتملان على أحكام لم ترد في المواد المذكورة (فك رقبة، والتشجيع على العفو، والصوم الطويل في بعض الحالات، وتشجيع أهل الضحية على العدول عن حقهم في طلب القصاص). وفي الإمكان أن نقول، هنا أيضاً، إن المواد المذكورة لا تتفق مع القرآن الكريم لأنها تقيِّد تشريعاً قرآنياً ذا نطاق عام وتحصره في المسلمين المهاجرين وفي أعضاء بعض بطون المدينة وحدهم.

3- فيما يتعلق بالفدية، زمن الحرب، لا يوجد في القرآن الكريم إلا آية كريمة واحدة هي الآية (4) من سورة محمد التي تقول: 

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا

ولا تقول الآية هنا إن كل بطن أو أسرة تتكفل بفدية أعضائها من أسرى الحرب، وذلك لسبب بسيط هو أن الحرب في الإسلام، في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، لم تكن مسألة قبلية بل كانت عملاً يتم في سبيل إله لا يحب أن يقتل إنسانٌ إنساناًً آخر لأن النفس البشرية مقدسة:

– …وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ …﴿151﴾[الأنعام]

إلهٌ لا يحب الظلم:

– …إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بمَاءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِي الوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴿29﴾[الكهف]

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ … ﴿54﴾[يونس]

إلهٌ لا يحب الطغاة، من أمثال فرعون، الذين يستعبدون الناس ويعتبرون أنهم لا يُهزمون لأن لديهم جيوشاً ورعايا يطيعون أوامرهم:

وَقَالَ فِرْعَونُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿38﴾[القصص]

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ﴿39﴾[القصص]

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴿40﴾[القصص]

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴿41﴾[القصص]

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَّيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ﴿42﴾[القصص]

وقد حمل القرآن الكريم على هذا الطاغية أكثر من خمسين مرة.

المواد من 3 إلى 11 إذاً مواد لا تتصل بوقتها فيما يتعلق بالفدية. وهي تنظم حالة لم يعد لها وجود مع ظهور الإسلام. ويلاحظ أن الآية 4 من سورة محمد سالفة الذكر تشير إلى حالة حرب في قتال كان النصر فيه حليفاً للمسلمين. وقد خُيِّر المسلمون بين الفدية وإطلاق سراح الأسير دون فدية. والآية لا تعالج حالة المسلم الذي أسره العدو. وفي مثل هذه الحالة، كانت مسئولية دفع الفدية إنما تقع على الرسول صلى الله عليه وسلم، (وكانت تقتضي اشتراك مجموع المسلمين في جمع قيمتها). أما أسرة المسلم الذي يؤسر أو عشيرته فلم تكونا ملزمتين بدفع فديته إذ أن حرب الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن حربهما. وكذلك لأن قبائل المسلمين كانت، في حالات كثيرة، تنتمي إلى معسكر الأعداء.

4- فيما يتعلق بعلاقات المسلمين مع غير المسلمين، جاء في القرآن الكريم ما يأتي:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿51﴾[المائدة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَّتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾[التوبة]

لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴿8﴾[الممتحنة]

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُم أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿9﴾[الممتحنة]

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ … ﴿14﴾[الجاثية]

ويتضح من هذه الآيات ما يأتي:

– أن من المحظور على المسلمين أن يتخذوا اليهود أولياء؛

– الحظر ذاته مفروض ضد المشركين، حتى إذا كانوا آباء المسلمين أو إخوانهم؛

– لا تثريب على المسلمين أن يبرَّوا اليهود والمشركين وأن يُقسِطوا إليهم إذا لم يحاربوهم في الدين ولم يخرجوهم من مساكنهم ولم يعينوا على إخراجهم؛

– مطلوب من المسلمين أن يغفروا لمن لا يرجون أيام الله، أي لأولئك من بين اليهود الذين ليسوا مسلمين وللمشركين.

وإذا عدنا للحكم على المواد من 28 إلى 34 على ضوء هذه الآيات فسنصل إلى النتائج التالية:

 أ ) يهود بني عوف والبطون الستة الأخرى لا يمكن، وفقاً للقرآن الكريم، أن يكونوا "أمة مع المؤمنين"، نظراً للحظر الصريح الوارد في هذا الكتاب بشأن اتخاذهم أولياء أو، طبقاً للغة الحديثة، لعقد صلات متميزة معهم.

ب) ومع مراعاة هذا التحفظ الوحيد فإن حرية العقيدة مكفولة لهؤلاء اليهود ولمواليهم. والمواد المذكورة لا تمنح لهؤلاء اليهود شيئاً يزيد عما يمنحه لهم القرآن الكريم. والإسلام، الذي يذكِّر برسالات الأنبياء السابقين، لم يكن فضلاً عن ذلك لينكر على اليهود حقاً اعترف به حتى للمشركين.

ج) المواد من 28 إلى 34 تتعارض مع القرآن الكريم إذ أنها تقصر على يهود البطون السبعة التي وردت أسماؤها فيها معاملة يمنحها القرآن لجميع اليهود حتى إن لم يكونوا مؤمنين.

5- لقد سجل القرآن الكريم، كما رأينا، في الجزء الأول من هذه الرسالة، عدة أشكال من عداء اليهود للمسلمين بعبارات يُفهم منها أنه كان عداءً مستحكماً. وهو يتحدث عن صدامات عسكرية بين اليهود والمسلمين وهي صدامات كلفت بعضهم ثمناً باهظاً (فقد أموالهم وإجلاؤهم ودفعهم الجزية). لا غرابة إذاً في أن لا يرد في القرآن الكريم أي تنـزيل يسمح بتصور أن يكونوا حلفاء للمسلمين ضد عدو ثالث، أو أنهم كانوا يريدون القتال إلى جانب المسلمين أو أنهم اشتركوا في دفع نفقات حرب مع المسلمين.

إن المادة 18 التي تقول: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم"؛ والمادة 39 التي تقول: "وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم" والمادة 41 التي تقول: "وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"؛ والمادة 43 التي تقول: "وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين"، هذه المواد كلها تندرج في خلفية ليست على الإطلاق تلك التي يصورها القرآن الكريم: خلفية حرب بين اليهود وعدو غير المسلمين. صحيح أن سورة البقرة، وهي أول سورة نـزلت في المدينة تقول متجهة إلى اليهود:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿84﴾ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُم مِّنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِن يَّأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَّفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿85﴾

ولكن الأمر هنا يتعلق بحروب فيما بين اليهود لم يترك لنا التاريخ أي معلومات بشأنها وليس في الصحيفة ما يسمح بتصور أنها تشير إليها. وعبارة المادة 18 التي تقول: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة" لا تسمح بتصور أن هذا النصر مطلوب ضد يهود آخرين. وأخيراً فإن الآيات القرآنية التي سقناها بشأن البر والقسط اللذين تجب مراعاتهما حيال غير المسلمين آيتان يجب أن يكون تطبيقهما عاماً.  وغير مصرح بأي تمييز في شأنهم وكل عدوان ممنوع سواءٌ كان ضد اليهود أو ضد أي خصم آخر:

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ﴿190﴾[البقرة]

6- تطبق على المشركين قواعد السلوك المقررة بالآيات سالفة الذكر بالنسبة لليهود أي: عدم الاعتداء والبر والقسط طالما كانوا لا يحاربون المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم ولا يعينوا على إخراجهم. وحرية العقيدة مكفولة لهم بالآية (29) من سورة الكهف التي تقول:

وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ

ولكن من المحظور اتخاذهم أولياء، حتى إذا كانوا أقرب الأقربين. نعم، يستطيع المسلمون أن يعقدوا معهم، ومع اليهود سواءً بسواء، اتفاقات أو عقوداً، ولكنهم لا يملكون الدخول معهم في علاقة متميزة. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم على استعداد لقبول الكفار في أمته، خاصةً وأن الغرض الأساسي من رسالته كان محاربة الكفر وإقامة ملة إبراهيم التي هي ملة التوحيد. ولو أنه كان مسموحاً له بإنشاء أمة أحد مكوناتها مشرك، لفعل ذلك في مكة ولما تعرَّض هو وأصحابه للمحن التي اضطرتهم إلى الهجرة. والمشركون، من جانبهم، لم يكونوا ليقبلوا بحال من الأحوال أن يدخلوا في اتحاد كونفدرالي مع قوم قرآنهم يهاجمهم أشنع هجوم في مئات من آياته، ويقرر أن كل أعمالهم الحسنة لا قيمة لها، ولا يتجه إليهم أبداً بالخطاب كما يتجه إلى المؤمنين وإلى أهل الكتاب، ويعدهم بالعذاب الشديد في جحيم أبدي. لذلك فإن المادة 23 التي تقول: "وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن"، التي تم بمقتضاها إدراج المشركين ضمناً في الأمة، مادة تتنافى تنافياً مطلقاً مع القرآن الكريم.

7- هذه المادة، هي والمادة 48 التي تقول: "وإنه لا تجار قريش ولا مَن نصرها"، والمادة 15 التي تقول: "ولا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن" تثير مشاكل عدة من وجهة النظر القرآنية. ذلك أنها تعني في وقت السلم:

 أ ) أن المسلم يستطيع أن يقتل المشرك دون أن يخشى أن يُقتَص منه بقتله؛

ب) أن كل شخص من قريش معرَّض للقتل ولسرقة أمواله من جانب كل مسلم دون أن يُسمَح لشخص ما بالدفاع عنه أو بحمايته؛ 

ج) أن هناك تمييزاً بين المشركين من أهل المدينة والمشركين من أهل مكة: فقد كان مشركو المدينة أعضاء في الأمة، أما مشركو مكة فكان بالاستطاعة أن يُقتلوا وأن تُنهَب أموالهم دون عقاب.

وكل هذا لا يستند إلى أي نص أو مفهوم قرآني. إن النفس الإنسانية مقدسة في القرآن الكريم. وهي مقدسة بلا قيد ولا شرط، وكافر اليوم قد يكون مؤمن الغد. وهذا هو الدرس الذي أعطاه القرآن الكريم للمسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم ذاته في الآية التي تقول:

وكذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِن أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدرِي مَا الكِتَابُ ولا الإِيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِن عِبَادِنَا وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿52﴾[الشورى]

كذلك ماذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلوا في دينه؟ كانوا كفاراً (أو من أهل الكتاب). وقتل الكافر هو قتل أمل: الأمل في أن يهتدي يوماً ما إلى الصراط المستقيم الذي تتحدث عنه الآية.

8– المادة 16 التي تقول: "… يجير عليهم أدناهم" ليس لها أساس قرآني. وكما سبق أن ذكرنا، فإن الإجارة كانت عُرفاً قبلياً لابد أنه اختفى بعد الإسلام. ولهذا فإن القرآن الكريم لم يعترف بها ولم ينظمها. والشخص المشمول بالإجارة كان عادةً شخصاً فاراً من عقوبة حُكم بها عليه لجريمة ارتكبها، أو شخصاً تبرأت منه قبيلته، أو عبداً هرب من سيده، أو أجنبياً، أو شخصاً غير معروف يخشى خطراً من الأخطار الخ. والذين كانوا يَمنحون الإجارة كانوا رؤساء القبائل أو أفراداً بارزين فيها، وكانوا حين يجيرون شخصاً، لا يستهينون بعواقب إجارته إذ كانوا يعلمون أنهم بالإجارة يرتبون مسئولية على قبيلتهم بأكملها. والحاصل أن القبيلة في الإسلام حل محلها مجموع المسلمين، وكان يمكن أن تؤدي الإجارة بالأمة - إذا اتبع في شأنها العرف التقليدي - إلى الدخول في نـزاع لا يتناسب مع غاياتها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو وحده المخوَّل بالإجارة باعتباره مسئولاً عن الأمة، كما في الآية (6) من سورة التوبة التي تقول: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ …".

9- المادة 44 التي تقول: "وإن يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصحيفة" وكذلك المادة 41 التي تقول: "وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة"، والمادة 1، والمادة 2، والمواد من 3 إلى 11 ومن 28 إلى 36، التي تعيِّن أطراف الصحيفة، تعطي للأمة شكلاً إقليمياً ومحلياً. إن ما يجب الدفاع عنه هي يثرب وأعضاء الأمة هم، وفقاً لأوسع تفسير، جميع المسلمين، وجميع اليهود، وجميع المشركين الذين يعيشون في إقليم هذه المدينة. هذه الفكرة هي التي على أساسها تحدَّث مؤلفونا عن المدينة باعتبارها دولة أو جنسية. والحاصل أن هذه الفكرة غريبة تماماً عن روح القرآن الكريم، فهذا الكتاب لم يطلق لفظ الحرم لا على المدينة ولا على مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم تكن يثرب أبداً قِبلة للمسلمين؛ وهي ليست جزءاً من شعائر الحج. والقرآن الكريم لم يطلق أبداً وصف "الأنصار" على سكانها المسلمين، وهو حين يتحدث عنهم لا يفعل ذلك دائماً بلهجة الثناء. وأمة الإسلام، كما أوضحنا، غير محدودة في الزمان ولا في المكان. إنها عالمية، كما أن الإسلام عالمي. وعالميتها ناتجة من العناصر القرآنية التالية:

 أ ) وحدانية الله الذي يؤمن به أعضاء الأمة. الله القادر على كل شيء والعالم بكل شيء، خالق كل ما في السماوات وما في الأرض؛ وهذه الوحدانية مكررة في أكثر من مائتي آية في القرآن الكريم.

ب) أن الله عزَّ وجلَّ لا يتجه بالحديث قط في القرآن إلى قوم يعيشون في مكان، أو في مدينة أو في بلد معين؛ إنه لا يتجه بالخطاب أبداً إلى العرب؛ إنه يتجه إما إلى الناس عموماً:

يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا… ﴿13﴾[الحجرات]

أو إلى المؤمنين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ … ﴿208﴾[البقرة]

أو إلى أهل الكتاب:

يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ … ﴿65﴾[آل عمران]

ج) والمقصودون مباشرةً بدينه هم، بطبيعة الحال – وما كان يمكن أن يكون الأمر غير ذلك – أولئك الذين أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، أي العرب؛

وَكذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى ومَن حَوْلَهَا…﴿7﴾[الشورى]  

– …وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّنْ قَبْلِكَ…﴿46﴾[القصص]

والكِتَابِ المُبِيْنِ ﴿2﴾[الزخرف]

إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿3﴾[الزخرف]

ولكن الإسلام يتجه، من خلال "المقصودين" مباشرةً، إلى جميع الناس. والصلة بين الله عزَّ وجلَّ والناس حاضرة في كل مكان في القرآن الكريم. ومن قصار السور التي يحفظها الأطفال في العالم الإسلامي سورة اسمها سورة الناس ونصها كالآتي:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿1﴾مَلِكِ النَّاسِ ﴿2﴾إِلَهِ النَّاسِ ﴿3﴾مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ﴿4﴾الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ ﴿5﴾مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿6﴾

ويتضمن القرآن كذلك عشرات من الآيات الكريمة التي يظهر فيها الناس - أو بني آدم - كمخاطَبين. آيات مثل:

يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ…﴿27﴾[الأعراف]

وأخيراً فإن من تلقوا الرسالة الإلهية لا يُطلب منهم فحسب أن يتبعوا تعاليمها، بل إن عليهم مسئولية إبلاغها بدورهم إلى أكبر عدد ممكن ممن ليس لهم بها علم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَّكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿135﴾[النساء]

– …هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ…﴿78﴾[الحج]

 د ) يصر القرآن الكريم كثيراً على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليست رسالة جديدة أو رسالة محلية. ومحمد ليس أول الأنبياء:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ﴿163﴾[النساء]

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴿164﴾[النساء]

رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
﴿165﴾[النساء]

إن تجاهُل وجود المسلمين الذين لا يعيشون على أرض المدينة أو استبعادهم من الأمة، مع قبول اليهود والمشركين فيها، شيء يتعارض في نظرنا مع روح القرآن الكريم ومع نصه ومع طبيعة الإسلام باعتباره ديناً عالمياً لا تحدّه حدود مكانية أو زمانية من أي نوع.

المحصلة النهائية

إن تحليل دراسات علماء الإسلاميات للصحيفة لم يجعلنا نغيِّر الرأي الذي انتهينا إليه من دراستنا لهذه الوثيقة. ومحصلتنا، بعد دراسة أعمال هؤلاء العلماء، في مجموعهم، يمكن إيجازها في النقاط التالية:

1- إن تحليل هؤلاء المؤلفين ينصب على وثيقة لا يمكن في رأينا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد كتبها.

2- مؤلفونا لم يعبِّروا عن آرائهم بشأن عدد غير قليل من النقاط الأساسية المتعلقة بالصحيفة؛ وهناك اختلاف كبير بين آرائهم بشأن معظم النقاط التي عالجوها.

3- الصحيفة لا تضيف شيئاً إلى ما هو موجود بالقرآن.

4- ليس بينها وبين حالة العلاقات فيما بين المسلمين أو العلاقات بين المسلمين واليهود وبين المسلمين والمشركين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أي علاقة.

5- بعض أحكام الصحيفة يتعارض مع مبادئ الإسلام كما هي مبينة في القرآن الكريم.

6- الصحيفة، كما سبق لنا أن ذكرنا، تبدو لنا جسماً غريباً أضيف إلى سيرة ابن إسحاق.  

00000



(1) Muhammed’s Constitution of Medina، ص 135 في Wensinck, «Muhammed and the Jews of Medina»، ترجمه Wolfgang Behr، 1975، فريبورج- إين- بريسجاو Fribourg-in-Brisgau.

(2) Wensinck،«Muhammed and the Jews of Medina», with an excursus Muhammed’s Constitution of Medina  لجوليوس ولهاوزن Julius Wellhausen، المرجع السابق.

(3) الأرقام الموضوعة بين قوسين هي أرقام مواد الصحيفة حسبما عرضناها في الفصل الأول من هذا الجزء.

(4) منتجمري واط ، « Mahomet à Médine »، مترجم عن الإنجليزية.

(5) موشـي جـيل، « The Constitution of Medina: Reconsideration »، الدراسـات الشـرقية الإسرائيلية، المجلد الرابع، 1974، جامعة تل أبيب، ص 45.

(6) ألفريد لوي دي پـريمار، "أسس الإسلام"، طبعة Seuil، 2002.

(7) محمد حميد الله  Mohammad Hamidullah، « Le Prophète de l’Islam »، الطبعة الرابعة، جمعية الطلبة الإسلاميين بفرنسا ، 1974، ص ص 183 – 187.

(8) بركات أحمد Barakat Ahmed، «Muhammad and the Jews»، المعهد الهندي للدراسـات الإسـلامية، دار فـيكاس للنشـر، 1979، (نيودلهـي، بومباي، بانجالور، كلكتا،  كانـپور)،  ص ص 37 - 46. 

اجمالي القراءات 30821