فقه الجهد
الخاطرة 25 في فقه الجهد: مصلحة الجماعة أولى من مصلحة الفرد!

نسيم بسالم في الأربعاء ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الخاطِرة الخامسة والعشرُون في فقه الجهد: مصلَحة الجَماعَة أولَى مِن مصلَحة الفَرد

   يقُول الله سُبحانَه وتعالى في خاتِمة سُورة الأنفال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75).

-  قبلَ أن أتناوَل الفِكرَة الرَّئيسَة لِهذه الآيات البيِّنات - بشَكل مُقتضب - خاتِمًا خَواطِر سُورة الأنفال المُبارَكة بِعَون الله وتَسديدِه؛ أستَدرك نُقطَتين تتعلَّقان بالخاطِرة السَّابقَة.

أولاهُما: الصَّرامَة الرَّبَّانيَّة العَجيبَة التي تتبدَّى ملامحُها جليَّة مِن خِلال ذلك العتاب الشَّديد الذي وجَّهه الباري عزَّ وجل إلى  رسُوله (صلوات ربِّي وسلامُه عليه) خاصَّةً، وإلى المُؤمنين عامَّة؛ تُذكِّرُنا على الفَور بِتلك الآيات المُجلجلَة الشَّديدَة اللَّهجَة التي وجَّهَها إليه في سُورة الإسراء في عزِّ جِهادِه وبلائِه بمكَّة!

{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}[الإسراء :74- 75].

ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ الممات؛ أي ضِعفَ عذابِ الحياةِ الذي نُذيقُه غيرك، وضِعف حياة المَمات الذي يصلاهُ مَن هُو ليسَ في مرتَبتِك ومَقامِك!! تَهديدٌ وأيُّ تَهديد!!

   ما أقصِدُ التَّنبيهَ عليه أنَّ هذه الآيات البيِّنات تصلُحُ – بقُوَّة - لأن تكُونَ أبلَغ ردٍّ على مَن يحمِلُ تصوُّرًا حالِمًا جانِحًا لمَفهُوم الرَّحمة الإلهيَّة!! فتجدُ بعضهُم يحمِلُ في مخيالِه صُورَة طُفوليَّةً وَديعَةً  للخالِق الرَّحيم تنسَحبُ – في زَعمِه - حتَّى على مَن بارَزه بالعصيان وأوغَل في المُوبِقات، ثُمَّ لقيَه بُقرابِ الأرضِ خَطايا وأثقالِ الجبالِ ذُنوبًا وأوزارا؛ فلَن يجدَ – في كُلِّ الأحوال – مِن خالِقِه إلا المُسالَمة والصَّفح وكرَم الضِّيافَة! كيفَ لا والخالِق العَظيم أرحَم بِعبدِه مِن الأُمِّ بولَدِها، والناقَة على فصيلِها! فما دام الأَمر كذَلك فلَم التَّخويف إذَن مِن مغبَّة احتقابِ المعاصي والآثام؟!

   كثيرُون هُم – بلا حَصرٍ – الذين يحملُون هذا الفِكر الإرجائي المُستَند على صُكوكٍ مِن الغُفران – شبيهَة بتلك التي عِند النَّصارى- وهُم يحسبُون أنَّهُم على شَيءٍ! ألا إنَّهُم هُم الكاذبُون! ألا إنَّهُم هُم المُفترُون!

    ليسُوا كاذبين ولا مُفتَرين في نسبَة الرَّحمَة إلى الله عزَّ وجل؛ فهُو حقًّا سُبحانَه أرحَم الرَّاحِمين، وسِعَت رحمتُه كُلَّ شَيء؛ ولَكن فقَط مَع مَن يستحقُّها ومَن هُو أهلٌ لَها وِفقًا لسُننٍ وقَوانين صارِمَة لا تُحابي أحدًا!

{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }[الأعراف : 156].

إذا كانَ الله يُهدِّدُ بالعذاب العَظيمِ أولئك الصَّفوة الأخيار مِن الرَّعيل الأوَّل الذين أقامَ بِهم دينَه وأعلَى بِهم كلمتَه ؛ وبعد بلاءٍ مِنهُم طَويل في سبيلِه سِنين عَددا! فما بالُ مُسلمي آخِر الزَّمان يأمنُون مَكرَ الله وعِقابِه ويحسبُون أنَّهُم شَعب الله المُختار؛ وهُم على ما هُم فيهِ مِن عَجزٍ وكسَل؛ وطُولِ أمل، وإسرافٍ في القَول والعَمل؟!

لعَمرُ الحقِّ إنَّ مسلِمي عصرِ الذِّلَّة والمَهانَة والمَسكنَة لا يفترقُون في فِكرِهم وسُلوكِهم عَن نُظرائِهم مِن بني إسرائيل أيَّام نبي الله مُوسَى (عليه السَّلام) شِروى نَقير! ودائِما أبدئ وأُعيد وأقُول إنَّه ليسَ مِن الصَّدفَة ولا مِن الحَشوِ في شَيءٍ أن يملأ الله كتابَه بصفحاتٍ طِوالٍ في الحديثِ عَن بني إسرائيل؛ لأنَّ العليمَ الخبيرَ سُبحانَه قَد سبقَ في علمِه السَّرمدي أن سيسيرُ المُسلمُون في نفسِ السَّنن والنَّهج الذي سارَ عليه أسلافُهم! ولا غَروَ فالإنسان عينُ الإنسان والشَّيطانُ يبقَى هُو الشَّيطان بوساوسِه وأمانيه؛ تبقى القضيَّة الفاصِلَة في الأَمر قضيَّة هُجران للوَحي مِن عدمِه؛ نسألُ الله سُبحانَه أن لا ينأى بِنا عَن معينِ هُداه ومِشكاة نُورِه!

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[الأعراف : 169].

- هذا عَن النَّقطَة الأُولى التي أبيتُ إلاَّ أن أنبِّهَ عليها لأهميِّتِها وخُطورتِها؛ وأمَّا النَّقطَة الثَّانيَة فهي قضيَّة مُعامَلة النَّاس بِظواهِرهم وما أبدَوا مِن صَفحاتِهم؛ وعدَم مُحاوَلة الشَّق على قُلوبِهِم ومُحاكمَة نواياهُم؛ وهذه قاعِدَة مُطَّرِدَة في بيانِ الله عزَّ وجل نتملاَّها جليَّة ناصِعَة مِن خلال آياتِ الأسرى التي سَبقَ ذِكرُها!

   فعَلى احتِمال صُدورِ خيانَة أو مُخادَعةٍ مِنهُم بعد إقرارِهم بالإسلام أو الاستسلامِ ظاهِرًا فإنَّ الله هُو الذي سيَكفي مؤونتهُم ويقي شرَّهُم! فهُم تَحتَ قبضتِه وسُلطانِه – عزَّ وجل – هَل لهُم مِن مَهرب أو محيص؟! وأمَّا أنتَ يا حبيبَنا يا مُصطَفانا فعامِلهُم بما أبدوه لك مِن خيرٍ أو شَر، ولستَ مُكلَّفًا بِما وراءَ ذَلك لأنه لا قبَل لكَ بِه!

{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 71].

كما أنَّهُم خانُوا الله مِن قبلُ فخرجُوا مُحادِّين مُشاقِّين للرَّسُول (عليه الصلاة والسَّلام) ولدينِه فأوقعهُم الله في عَنتِ الأسر؛ فكذا إن أرادُوا خيانَة مرَّة أُخرى فليسُوا بمُعجزين ولا ظاهِرين!

* نعُود إلى الفِكرة الرَّئيسَة لخواتيمِ سُورة الأنفال والتي يُمكِن أن نُلخِّصَها بقاعِدة: "مصلَحة الجَماعة مُقدَّمة على مصلَحة الأفرادِ مَهما عظُمَت".

حقًّا! فأيُّ شَيء يربُو على أن تنصُر أخاكَ في الدِّين وهُو يُسامُ سُوءَ العذاب في أرضِ الكُفر والشِّرك والإلحاد، ويصلى نَكالاً تِلو نكال؟!

   لا يشكُّ أحدُنا أنَّ هذا واجبٌ مُتعيِّنٌ لا يُعذَر فيه قادِر؛ وهذا ما دَعت إليه الآيات البيِّنات إلا في حالَة واحِدَة! متى؟!

   أن يكُون بينَ مُجتَمع المُؤمنين ومُجتَمع الكُفَّار عَهدٌ وميثاق؛ فههُنا لا تُستجابُ استِغاثَة المُستَضعفين في أرضِ الكُفَّار مُراعاةً لمصلَحَة أعظَم وهي مصلَحة احترام العُهود والعُقود!

   طبعا يأتي هذا الحُكم في مُقابِل عَدم مُسارَعة أولئك المُؤمنين إلى الهِجرة مَع سُنوحِ الفُرصَة لهُم لِذَلك! وهُنا نُدرِك عِظم قَدر الهِجرَة مِن أجلِ الدِّين عِند الباري عزَّ وجل؛ حتَّى إنَّ الذين التحقُوا بالرَّكب مُتأخِّرين وهاجرُوا يستحقُّون كامِل الهِجرة والولايَة؛ في حينَ يُحرَم السَّابقُون إلى الدِّين مِنهُما مَع تقاعُسِهم عَن الهِجرة!

- في هذا الحُكم الرَّبَّاني دَعوة ضِمنيَّة لِمَن لَم يُحظَ بشرَف الهِجرة بعدُ أن يُسارِع حتَّى لا تفُوتُه المثُوبَة؛ فيستفيدَ هُو مِن الأجر ويستفيدَ المُجتَمع الإسلامي مِن مَواهبِه وطاقاتِه! فأيُّ عَدلٍ هذا وأيُّ حكمَةٍ هذه وأيُّ مَنطِقٍ في التَّشريع؟!

   هَل يستَطيع مُشرِّعُو الأرض قاطبَة أن يُقرِّرُوا أحكامًا بِهذه الشُّموليَّة والمَقصديَّة التي ترى إلى الأُمور مِن علٍ وتُراعي جَميع الجوانب والاعتبارات، وتأخُذَ في حُسبانِها جَميع المُعطيات؟!

   ولَكن مَع هذا تلفَى أكثَر النَّاس عَن هذا الكَنز سادرُون تائِهُون وعَنه مُعرضُون زاهدُون؛ مُتَّخذُون لَه بدائِل مِن أقوالِ الفيلسُوف فُلانٍ أو علاَّن، والله المُستَعان وعليه التُّكلان!

* ممَّا نستفيدُه مِن هذه الآيات في "فقه الجُهد" أن يكُون اعتبارُ مصلَحة الجَماعَة فَوق كُلِّ اعتبار، وأن يستعدَّ المُنضَوي تَحت جماعَة خيِّرَة تخدُم دينَ الله عزَّ وجل في إحدَى جوانبِه أن يُضحِّي ببعضِ آرائِه وقناعاتِه في سبيلِ استتبابِ أمرِ الجَماعَة واشتِدادِ عُودِها؛ وأن لا يكُون في ذَلك أنانيًّا ذا نَظرة شخصانيَّة ضيِّقَة العَطن!

   فلَو كانَ كُلُّ فَردٍ مِن أفرادِ الجَماعَة يُريدُ أن ينزِل الجَميع على رأيِه – فيما لا قَطع فيه طَبعًا – ويُقدِّم مصلَحتَه على مصلحَة المجمُوع؛ لما قامَت لتلك الجَماعَة قائِمة، ولتقطَّعت أوصالُها شَذر مَذر؛ وهذا ما نخبُرُه واقِعًا في شتَّى الأصعِدَة!

* بِهذه الخاطِرة نختتِم خواطِرنا في سُورة الأنفال المُبارَكة ومُلتقانا مَع خواطِر جَديدة إن شاءَ الله في سُورة آل عِمران ومَوقِعة "أُحد"؛ أسألُ الله أن أكُونَ قَد ساهمتُ ولَو شيئًا يسيرًا في تحبيبِ الجُهد في سبيلِ الله إلى القُلوب وتقريبِ كلامِ الله إلى الأفئدة والعُقول، والوُقوف على طَرفٍ – ولَو شَحيحٍ- مِن كِفاحِ وصَبر النَّبي الكَريم وصَحبِه (عليهم صلَواتُ ربِّي وسلامُه أجمعين) في سبيلِ أن ننعَم بِهذا الدِّين غضًّا طريًّا؛ فماذا نَحنُ مُقدِّمُون بعد ذَلك لدين الله ورسالتِه الكُبرى إلى الأرض؟! وهَل نحنُ نسعَى بِجد لأن تكُون لَنا بصمَة خالِدَة في دينِ الله تجمعُنا بأولئك السَّابقين مِن المُهاجرين والأنصار يَومَ العَرضِ الأكبَر؟!

   اللهم اجعلنا كذَلك ولا تُزغ قُلوبَنا بعد إذ هديتنا وبصَّرتَنا بِمعالِم الطَّريق؛ وانأَ بِنا عَن "بُنيَّاتِ الطَّريق" و انفِ عنَّا اللَّهُمَّ أنانيَّاتِنا وحُظوظَنا العاجِلة؛ واجمَعنا في سبيلِك صفًّا كالبُنيانِ المَرصُوص إنَّك على ذَلك قدير وبالإجابَة قَمنٌ وجدير، والحمدُ لله ربِّ العالَمين.



 

اجمالي القراءات 13045