فقه الجهد
الخاطرة 23 في فقه الجهد: إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا ألفا!

نسيم بسالم في الأحد ٠٩ - سبتمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الخاطِرة الثَّالِثة والعشرُون: إن تكُن منكُم مائة صابِرة يَغلبُوا ألفًا!

   دائما مَع سُورة الأنفال المُبارَكة؛ ونَقفُ هذه المرَّة مَع طائفَة جَديدة مِن الآيات: يقُول الباري الأجل سُبحانه وتعالى فيها مُخاطبا رسُوله الكريم ذي الخُلقِ العَظيم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66).

   لا شكَّ أنَّ رسُولَنا الحَبيب (عليه صَلوات ربِّي والملائِكة والنَّاس أجمَعين) كانَ حريصًا أشدَّ ما يكُون مِن الحِرصِ على هِدايَة قَومِه واجتذابِهم إلى شاطئ الأَمان؛ ولا نمتَري – طرفة عَين – أنَّهُ كان يعتصِر ألَمًا وهُو يُواجِه بني عشيرتِه في أرضِ المَعركَة، ويرَى رؤوسا تتطايَر وأرواحًا تُزهَق!

   نقُول هُنا ونحنُ نستَحضِر الآيات التي تُهدِّئ مِن رَوع الرَّسُول (ص) وهُو يلقى ما يلقى مِن مُعارَضة قَومِه وإبائِهم مِن مثل قوله تعالى: (لعلَّك باخع نفسك ألا يكُونوا مُؤمنين)، وقوله: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وما شاكَل ذَلك مِن آياتِ الكِتاب! ولكنَّ الهِدايَة بيد الله وَحدَه لا يُعطاها إلاَّ مُستحقُّها، ولا ينالُها إلاَّ سالكُ سبيلِها!

   (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56].

      في غمرَة هذه المشاعِر النَّبويَّة الحانيَة تُجاهَ ذوي رَحمِه؛ إلى جانِب شفقتِه على أصحابِه أيضًا مِن أن يُقتَّلُوا تقتيلا؛ وهُم قلَّة في العَددِ والعُدَد؛ وخَوفِه كذلِك على دينِ الله أن يُوؤَد في مَهدِه، وعلى دَولَة الإسلام الفتيَّة أن يُمحى اسمُها مِن الخريطَة تأتي هذه الطَّمأنَة الإلهيَّة الوَدُودَة مِن أنَّ الله وَحدَه كافيكَ يا صفيَّنا فلا تغتم، وتوكَّل على ربِّك فهُو كافيك! أليسَ الله بِكافٍ عبدَه؟! وسيسخِّرُ لَك مِن أصحابِك ما يشدُّ مِن أزرِك ويُقوِّي مِن دعائِمك! فكَم مِن فئة قليلَة غلبَت فئة كثيرَة بإذنِ الله والله مَع الصَّابرين!

   أرادَ الباري سُبحانَه وتعالى في الآيَة المُواليَة أن يُبيِّن لرسُولِه – ولكلِّ مَن أراد أن يسيرَ على سَننِه – أنَّ الكثرَة العدديَّة والتَّفوُّق العسكري؛ بل حتَّى الأقدميَّة في ساحات المَعارِك والخبرَة الميدانيَّة؛ كُلُّ أولئك ليسَ مِن الضَّروري أن ينفَع في حسمِ المُواجَهة إذا كانَ هُنالِك ما هُو أقوَى وأكثَر تأثيرًا في قلبِ الموازين! تُرى ما هُو؟! إنَّه "فقه القَلب" و "علو الهمَّة" و "رفعة المعنويَّات" و "رباطَة الجَأش" و "الاستِعداد للتَّضحيَة" و "الإرادَة الفولاذيَّة لتحقيق الهَدف والمقصَد" وكُلُّ ما ذُكِر لا يتحقَّق إلا بمَددٍ ربَّاني غيبي لا ينقطِع تدفُّقُه ولا تُبتَر أوصالُه وحبالُه!! مُستقاهُ فيُوضُ الذِّكر؛ وكثرَة التَّضرُّع والإلحاح على أعتابِ الباري عزَّ وجل، وقُوَّة الثَّبات!

   أوجِّه نِداءً لكُلِّ عُبَّاد المادَّة ومُقدِّسي "عالَم الأشباح"؛ أصحاب الفِكر "الماتيماتيكي" الرِّياضي وما أكثَرهُم في هذا العصر الذي هيمنت فيه المادَّة على كُلِّ شَيءٍ؛ أن ما تفسيرُكُم لشرذمة قليلُون يربُون قليلا عن الثلاثمائة يتصدَّونَ لألفٍ أو يزيدُون مُثخنين فيهِم الجِراح، مذيقين إيَّاهُم سُوءَ العذاب؟!

   ودُون أن ننتَظر جوابَهُم – ويا لَيت شِعري أي جوابٍ ننتظره مِنهُم - نُسارِع لهُم بالتَّوصيفِ الرَّباني البديع لحالَة الكُفَّار: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) [الأنفال : 65]! لا يَفقهُون ولا يعقلُون! وهُم في ضَلالِهم يَعمهُون!

   أجَل! إنَّهُم أشبَه ما يكُون بأجهزة راديُو مُعدَّة لاستقبال المَوجات والذَّبذبات مِن خارِج؛ ولَكنَّها ظلَّت مُقفلَة بعيدَة عَن سريان التيَّار الكَهربائي؛ فبقيت ساكِنة جامِدة لا حِراكَ فيها!

(أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام : 122].

* نصيحَتي والله – خالِصَة – لكُلِّ مَن لا زال في شَك ورَيب مِن هذه الأمور الغيبيَّة التي تَصنَع الفوارِق بينَ البشَر أن استفق مِن سُباتِك وتدبَّر كلامَ ربِّك؛ ودَع عَنك شقشقَة بعضِ أناسٍ امتهَرُوا في إيهامِ النَّاس بتقويَة الجانِب الرُّوحاني فيهِم وزرعِ الأَمل والتَّفاؤُل وتَقويَة المَعنويَّات بألفاظ يُهمهمُونَها؛ أو حركاتٍ يُؤدُّونَها؛ فارِغَة مِن رُوحِ الله! لا يُشمُّ مِنها عبَق الوَحي ولا أريجُ الرِّسالَة! إن هُو إلا كُشكُول مِن أقوالِ فُلان أو علاَّن مِن مُستغربين ومُستشرِقين لا صِلة لهُم بوحيِ الله مِن قريبٍ أو بعيد؛ ومَع ذَلك تلفَى أحدهم يَدفعُ مِن أجلِها المَلايين فيخرُجُ في النِّهايَة بِخُفّي حُنين لَم يتغيَّر شَيءٌ في حياتِه! اليأسُ عينُ اليأس! والكآبَة عينُ الكآبَة! والخَورُ عينُ الخَور!

   أقُول لأمثالِ هؤلاءِ المُغترِّين ببريقِ كُلِّ جَديد إيَّاكم ثُمَّ إيَّاكُم أن تستبدِلوا الذي هُو أدنَى بالذي هُو خَير؟! فالجَديدُ المُحدَثُ في كِتاب الله الذي فيهِ الغُنيَة والكِفايَة للهدايَة والاستِقامَة والسَّعادَة في الدُّنيا والأُخرى! والقُوَّة كُلُّ القُوَّة في كَلماتِ الله!

    (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ. لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) [التكوير :26- 28].

- سُبحان الله! رجُلٌ صابرٌ مُحتسب بقُوَّة عشرَة أمثالِه رُبَّما هُم أكثَر مِنه بسطَةً في الجِسم؛ وحتَّى إن نقصت تِلك النِّسبَة بضُعفٍ فإلى الضِّعف لا تزيد!

   عشرُون صابرُون يغلبُوا مائتين! ومائة صابرَة يغلبُوا ألفًا! وفي حالة الضُّعف مائة مُقابل مائتين وألفٌ مُقابِل ألفين! رُبَّما نستفيدُ مِن هذا التَّوصيفِ الرَّبَّاني أنَّ قُوَّة الجُهد وحرارته كالتَّرمومتر تَقوى إشارتُه أحيانًا وأحيانًا أُخرى تضعُف؛ كالإيمان تَماما يقوى بقُوَّة دواعيه ومُثيراتِه؛ ويضعُف بضُعفِها وخُفوتِها! ولَكن لا يُجوز "وُجدانا" - إن صَّح التَّعبير- أن يَدع الإنسانُ نفسَه تنحدِر في سُلَّم القُوَّة والصَّبر والثَّبات حتَّى يهبِط المُستَوى إلى أدنَى مِن الضِّعف! أقُول هذا في مُقابلَة ما بَحثَه الفُقهاء مِن عَدم جَوازِ الفِرارِ مِن أرضِ المَعركَة إذا كانَ جيشُ الكُفَّار ضِعفَ جيشِ المُسلِمين أو أقل؛ ويُجوز فيما وراءَ ذَلك؛ وهذا هُو نص الآيَة فِعلاً! إلا أنِّي أرَى أنَّ بحثَ الحُكم الوُجداني بَحثًا (تكليفيًّا) أولى؛ وإن اعتَرضَ البعضُ بأنَّه لا تحكُّم فيه؛ وإنَّما هي وارِداتٌ إلهيَّة! أقُول لَه: إنَّه يُمكِنُ أن يتعاهَد نفسَه بالإكثارِ مِن ذِكر الله، ويُحرَّض مِن قِبل قائِدِه تحريضًا كافيًا؛ ونعمَل كُلَّ ما علينا وباقي الأَمر نكلُه إلى الله!

   نُدرِكُ أيضًا مِن خلالِ الآيَة الكَريمَة إخواني أنَّ في الإِنسان مكامِن قِوى خارِقَة؛ وطاقاتٍ عَجيبَة نائِمَةٍ تحتاجُ فقَط إلى مِن يُوقظُها ويُذكيها وينَفخ فيها الرُوح! وهُنا تأتي ضَرُورة التَّحريض ومِحوريَّتَه! فما مَعنى التَّحريض؟!

   يقُول المُصطفاوي: (أن الأصل الواحِد في مادَّة "حرض" هُو الانقِطاع عَن أفكارٍ مُختلفَة، وعلائِق مُتشتِّتة؛ وجَعل الهَم همًّا واحِدًا، والنِّيَّة نيَّة خالِصَة، كما ترَى هذا في المُحب الصَّادِق العاشِق) ولعلَّه قصَد سيِّدنا يَعقُوب الذي خاطبَة بنُوه بِقولِهم: (تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [يوسف : 85].

   ويُواصل قائِلا: (والتَّحريضُ جَعل الشَّخص حَرضًا أي ذا نيَّة خالِصَة؛ وهمٍّ صادِقٍ مُستقيم؛ وهُو يَعمَل على الحب والعلاقة الصَّميميَّة والعِشق).

   وفسَّر التَّحريضَ في الآيَة الكَريمَة بِقوله: (فظهَر أنَّ المَنظُور في الآيتين – أي آيتي الأنفال والنِّساء – تخليصُ نيَّة المُؤمِنين، وإيجادُ حالَة الخُلوص والانقِطاع، والصِّدق لَهُم في مَقام القتال، وتزكية قُلوبهم عن الرياء والنِّفاق والخَوف والتَّزلزُل والاضطراب...).

* إذَن التَّحريض هُو نَوعٌ مِن ضَبطِ الأهدافِ؛ وتحريكِ المشاعِر لتَحقيقِها بِكافَّة السُّبل؛ ولا شكَّ أنَّنا جَميعًا نتذكَّر "تجربة التَّحريض الكهرومغناطيسي" حينَ كُنَّا في الإعدادي بإدخال مغناطيس في صُلبِ وشيعَة فيتحرَّك مقياس غالفاني؛ وينشأ مِن ثمَّ تيَّار كَهربائي مُحرَّض! وهُو مبدأُ عَمل كثيرٍ مِن الأجهزَة. وهذا ما يحدُثُ مِثلُه غيبيًّا تَمامًا؛ فربَّ تحريضٍ صادِقٍ نابِعٍ مِن قلبٍ مُخلِص؛ قَد يُغيِّر مسار إنسانٍ رأسًا على عَقب!

   ما نستفيدُه رُبَّما في واقِعنا مِن هذه الآياتِ البيِّنات – حتَّى لا تَبقى في جانبِها التَّاريخي نتبرَّك بِه – أن نستيقِن أنَّ الباري عزَّ وجل قَد بثَّ مِن المواهب والطَّاقات في النَّاس ما لا يعلمُه إلا هُو سُبحانَه! وما دَورُنا جَميعًا إلا مُحاولَة إخراجُ هذه المكنُونات المخبوءة والكُنوز المَدفُونَة بكُلِّ ما أوتينا مِن قُدرة على الحث والتَّحريضِ والتَّرغيب؛ وهُو لَعمري أعظَم استِثمارٍ يُمكِن أن نستثمِرَه لآخرتِنا! لأنَّه بمثابَة الصَّدقَة الجاريَة التي لا يَنقطِع خيرُها ولَو بِوفاة الإنسان!!

   فلنَمهَد لأنفُسِنا ولنُقدِّم لمصيرِنا الأبدي ما استَطعنا أن نُقدِّم؛ ولنَخشَ يَومًا لا بيعٌ فيه ولا خُلَّة ولا شَفاعَة؛ وفَّقني الله وإيَّاكُم إلى صالِح القَول والعَمل، وتحيَّة زكيَّة عَطرة مِن عند الله مبارَكة طيبّة، والسلام عليكُم ورحمة الله وبركاتُه

اجمالي القراءات 20947