( أجمعون ـ أجمعين ) والاستثناء فى لسان القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٧ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

فى تعليق على مقالنا السابق  فى موقعنا ( أهل القرآن ) كتب الاستاذ الحسن الهاشمى: ( لا أخفيك يا دكتور أحمد أني ما زلت أجد إشكالا يمنعني من الاقتناع بأن إبليس كان من الملائكة، وذلك في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ )،  إذ أن إبليس لو كان من الملائكة ورفض السجود فكيف يثبت الله سجود(كل ) الملائكة!! فها هو واحد من الكل امتنع عن السجود، وأكد الله الكل ب( أجمعون)  ، فالإجماع يكون بنسبة 100%، فإن افترضت أن إبليس كان من الملائكة ساعة الأمر لهم كلهم جميعا بالسجود فامتناعه يعني أنه لا يصح أن يقال (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ )، إذا أتى الاستثناء بعد إثبات(كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) فإن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.) .

وأقول أولا :

1 ـ السائد فى قواعد النحو أن الاستثناء المتصل هو الأصل ، وهو أن يكون المستثنى من المستثنى منه ، فلايصح ان تقول ( نجح الطلبة أجمعون إلّا الذبابة) لأن الذبابة ليست من جنس الطلبة . وشذّ بعض النحويين فأخترع ما يطلق عليه الاستثناء المنقطع ، فأجاز أن يقال  ( حضرت النسوة إلّا رجلا أو إلا حمارا ) ، أجاز ذلك طبقا لفهم خاطى بأن ابليس من الجن ولم يكن من الملائكة ، فأتى بهذا الرأى الشاذ .

على أى حال فإن المفهوم والسائد أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه كأن تقول ( نجح الطلبة أجمعون إلّا طالبا )، كما أن من المفهوم أن يأتى الاستثناء بالبعض من نفس نوع المجموع  ومن نفس جنس ونوعية المستثنى منه، وعليه فقوله جل وعلا : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلا إبليس )، يفيد الاستثناء بواحد من المجموع هو ابليس وأن هذا الفرد الوحيد من نفس جنس المستثنى منه وهو الملائكة. ونترك قواعد اللغة لنتدبر فى القرآن الكريم . ونتتبع مصطلح ( أجمعين ـ أجمعون ) مع الاستثناء وعدمه .

ثانيا :ـ

1 ـ بعيدا عن موضوعنا ( السجود لآدم ) يأتى هذا المصطلح ( أجمعون ـ أجمعين ) بمعنى ( معا ) أى يعبر عن ( نوعيات مختلفة ) يضمها معا مصطلح ( أجمعون ) ، فالجمع هنا هو على اساس النوعيات وليس على أساس الأفراد داخل كل نوعية. ومثل ذلك قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)( البقرة ). (أَجْمَعِينَ ) هنا تعنى رب العزة والملائكة والناس معا. ومثلها قوله جل وعلا عن الكافرين :( أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)( آل عمران ).

2 ـ ومن هنا نفهم أنّ قوله جلّ وعلا:( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)(هود ) لا يعنى أن كل افراد الإنس والجن سيدخلون النار ، بل إن جهنم ستمتلىء بنوعى الجن والناس معا ، أى من النوعين ومن الصنفين ، ولا يعنى هذا شمول كل أفراد النوعين ، لأن منهما من سيدخل الجنة ولن يدخل النار .

ثالثا :

( أجمعون  ) بلا إستثناء : وتأنى ( أجمعون  ) بلا إستثناء طالما ليس فى الموضوع إستثناء وأنّ الحكم مطلق يشمل الجميع .   

1 ـ يقول جل وعلا:( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)(الانعام )، فليس جميع البشر مهتدين ، لأن الله جل وعلا شاء لهم الحرية فى إختيار الهداية أوالضلال، ولو شاء لجمعهم على الهدى بلا حرية لهم . ويقول جل وعلا فى نفس الموضوع :( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) النحل )

2 ـ ويأتى الرسل بالرسالات السماوية للهداية فيتدخل الشيطان بوحيه الكاذب وأعوانه فيضلّ الناس ، وفى القصص القرآنى كان الهلاك هو مصير الكفرة أجمعين بلا إستثناء ،ومنهم قوم نوح الذين غرقوا أجمعين : ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) الأنبياء ) ومنهم قوم ثمود: ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) النمل ) وعنهم وعن قوم عاد يقول جل وعلا فى هلاكهم أجمعين دون إستعمال لفظ ( أجمعين ) : ( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) ( النجم ) أى أهلكهم جميعا ولم يبق منهم أحدا، ويقول جل وعلا فى نفس الموضوع (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) ( الحاقة )، أى لم تبق منهم باقية .

3 ـ وتسلّط ابليس على فرعون فتطرف فرعون فى الكفر، فجعله يقتل كل السحرة أجمعين بلا إستثناء:( لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) الاعراف )، ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) الشعراء) . وجاء الانتقام من فرعون وقومه بالغرق أجمعين بلا إستثناء : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)( الزخرف ).بينما أنجى الله جلّ وعلا موسى وقومه أجمعين قبل غرق فرعون وقومه :( وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) الشعراء )

4 ـ  وتسلّط الشيطان فنزغ بين يوسف وأخوته ، وفى النهاية قال يوسف قوله لإخوته :(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) يوسف )، أى كلهم أجمعين بلا إستثناء .

5 ـ  وفى أحوال الاخرة يقول عن جمع البشر جميعا يوم الحساب:( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) (الدخان ). فلن يهرب أحد من يوم الحساب ، ولن يتخلف كافر أو مؤمن عن المساءلة :( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) الحجر ). وعن دخول الكافرين أتباع ابليس النار يقول جلّ وعلا عنهم جميعا : (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) الشعراء )

رابعا :

أجمعون مع وجود إستثناء

ولكن لا يستقيم فى الواقع أن يحدث التعميم دائما فى كل الأحوال ، فلا بد أن يحدث إستثناء . والدليل الواضح هو ما حدث فى قصة لوط . يقول جل وعلا عن هلاك تلك القرية الظالمة قرية قوم لوط : (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (36)( الذاريات ). ونجا أهل لوط  ( أجمعين ) ما عدا زوجته وهى من أهله ، وتكرر هذا الاستثناء فى القرآن الكريم فى قصة لوط : (  إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ (60) الحجر)(فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171)( الشعراء )، ( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135)( الصافات ). هنا يأتى الإستثناء من ( أجمعين ) بواحدة هى ( زوجة لوط ) وهى من جنس المستثنى منه وهم ( أهل لوط ) .

خامسا :

( أجمعون ) فى الحالتين فى قصة سجود الملائكة لآدم : وفى قصة السجود لآدم يأتى مصطلح ( أجمعون) مطلقا بلا إستثناء ، كما يأتى مقيدا بالأستثناء حسب الواقع .

1 ـ فى سورة الحجر نجد الحالتين معا : أجمعين مع الاستثناء مرة ، ومرة أخرى مطلقة بلا إستثناء حسب الموضوع . يأتى الإستثناء فى سجود الملائكة كلهم أجمعين سوى واحد منهم هو ابليس الذى رفض السجود : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) ( الحجر ) كما يأتى فى نفس السورة وفى الحوار الذى دار بين رب العزة وابليس إستثناء آخر من ( أجمعين ) فابليس يتوعد بأن يغوى أبناء آدم أجمعين إلا العباد المخلصين : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (40)) ( الحجر ) ثم يأتى فى نفس السورة ونفس السياق ونفس الحوار ( أجمعين ) بلا إستثناء ، فيما يخص مصير ابليس وأتباعه من البشر ، وأنهم أجمعين وبلا إستثناء سيدخلون جهنم ، هى موعدهم أجمعين : ( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) الحجر )

2 ـ ويتكرر هذا فى سورة ( ص ) فى نفس السياق عن السجود لآدم : فيأتى الاستثناء برفض ابليس السجود وحده دون أقرانه من الملائكة : ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74)( ص) ويأتى وعيد ابليس بغواية أبناء آدم أجمعين سوى المخلصين من عباد الرحمن:(    قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (83)( ص ) ثم يأتى وعيد الله جل وعلا بأن يملأ جهنم بابليس وأتباعه أجمعين بلا إستثناء : ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) ص).

3 ـ ويتكرر هذا الوعيد الالهى المطلق بإدخال إبليس وأتباعه أجمعين وبلا إستثناء الى الجحيم ، ففى سورة البقرة :( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)، وفى سورة الأعراف : ( قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) ( الاعراف ).

أخيرا:

سجد الملائكة كلهم أجمعون لآدم طاعة لأمر الله جل وعلا ، ما عدا واحدا فقط من الملائكة هو ابليس الذى أبى واستكبر وجادل رب العزة بكل وقاحة فعاقبه رب العزة بأن طرده وأهبطه الى مستوى الجن ، أى إن ابليس عصى ربه ف( كان ) أى أصبح من الجن .. وشرحنا من قبل أن مصطلح ( كان ) يعنى أحيانا ( اصبح ) و ( صار ) .

والله جلّ وعلا هو الأعلم .

اجمالي القراءات 27834