جمال مبارك رئيسًا لبنك القاهرة

في الثلاثاء ٣٠ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

جمال مبارك رئيسًا لبنك القاهرة بقلم د. عمار على حسن ٣٠/ ٦/ ٢٠٠٩
قبل ساعات قليلة طيّرت وكالات الأنباء، وعرضت الفضائيات، وبثت الإذاعات، خبرا سيتوقف عنده تاريخ مصر المعاصرة طويلا، بعد أن اتفقت وسائل الإعلام كافة على أن ما ترتب على هذا الخبر لم تشهد له مصر مثيلا منذ أحداث ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ حين انتفض المصريون وقتها عن بكرة أبيهم احتجاجا على الغلاء المفاجئ للأسعار. كان الخبر قصيرا فى لغته، لكنه عميق فى دلالته. ففى سطر واحد ذكر الجميع أن رئيس الوزراء قد أصدر قرارا بتعيين السيد/ جمال محمد حسنى مبارك رئيسا لبنك القاهرة.

وها هى الملايين تهبط مهرولة إلى الشوارع، تهلل للمرة الأولى، وربما الأخيرة، لقرار يصدر عن رئيس الحكومة، وها هى الأذرع مرفوعة، والأيادى منقبضة على حزم وأمل فى أن مصر تتغير فعلا. ومن نافذة شقتى فى قلب القاهرة، لمحت لافتة خشبية عريضة يحملها عشرة رجال أشداء، مكتوبا عليها من أولها إلى آخرها بخط عريض يقتحم حتى العيون الكليلة: «نبارك القرار الحكيم»، وبعدها لاحت لافتة أخرى تحملها بنات يتمايلن فى خيلاء وسرور مكتوب على سطحها القماشى الأبيض: «الرجل المناسب فى المكان المناسب».

وخطفت ملابسى، وارتديت ما خف منها وستر، وهممت لأجرى إلى الشارع. ولحظة أن كنت بالباب موجهًا رأسى شطر المصعد، نادتنى زوجتى بصوت يهزه الفرح: «جمال فى نشرة الأخبار»، فرجعت ثلاث خطوات إلى الخلف، حتى حاذيت الشاشة الزرقاء، وأصخت السمع، فتناهى إلى أذنىّ تصريحه الذى سيظل محفورا فى ذاكرة المصريين سنوات طويلة: «لن نبيع بنك القاهرة، وسأعمل ما فى وسعى من أجل أن يكون الأفضل فى الشرق الأوسط كله».

وما إن فرغ من كلامه حتى وجدت نفسى أصفق له للمرة الأولى فى حياتى، وأقول لزوجتى: «خبرته الحقيقية فى مجال البنوك، وعليها تفتح وعيه خارج القصر الكبير، أليست خبرته فى مجال الاستثمار البنكى تعلمها حين عمل ببنك (أوف أمريكا).. الرجل انتهى أمينا مع نفسه، وليس أمينا للسياسات، فاختار العمل الذى يمكّنه من أن يقدم شيئا لبلده، ومن يدرى فلعل البنك يخرج فى عهده من عثرته».

وجريت إلى الشارع، وغصت فى بحر الأجساد المائجة. وسار الحشد الملتهب فرحا حتى بلغ مبنى رئاسة الوزراء، وهو يهتف، بكل ما أوتيت الحناجر من طاقة، لهذا القرار الذى تفادت به مصر منعطفا خطيرا. وحين انكسرت الشمس على الحوائط مؤذنة بالرحيل، رجعنا إلى بيوتنا بقلوب تفيض امتنانا، ونفوس يحدوها أمل عريض.

ولما جنَّ الليل تدفقت علينا برامج «التوك شو» ولا حديث لها إلا جمال والبنك والقرار المشهود. ورحت أتنقل بين المحطات، فتسكب فى أذنىّ ثرثرات واستشهادات وأخذا وردا، من كل على قدر طاقته. ففى «العاشرة مساء» كان هناك شخصان من «لجنة السياسات» وثالث محايد يبرهنون على أن من يدير بنكا بوسعه أن يدير دولة.

وفى «٩٠ دقيقة» كان كادر فى الحزب الوطنى يشتبك فى عراك حام مع أحد قادة حركة «كفاية» ويفض اشتباكهما أستاذ فى الاقتصاد السياسى، معروف عنه الاستقلالية والنزاهة. وفى «الحياة اليوم» كان هناك تقرير مطول عن تاريخ بنك القاهرة. أما «القاهرة اليوم» فقد صال بنا مذيعه الصاخب وجال فى الحديث عن الفروق المالية بين راتب رئيس الجمهورية وما يكسبه رئيس البنك.

وفى برنامج «بلدنا» وجدت أستاذا فى علم الاجتماع يتحدث بحرارة عن الفضائل الاجتماعية لوضع الشخص المناسب فى مكانه، ودخل على الهاتف فى عجالة طبيب نفسى ليتحدث عن مخاطر الاغتراب الوظيفى، وأراد أن يلمح إلى أن جمال كان سيعانى من هذه المشكلة لو أصر على حيازة منصب «رئيس الجمهورية» لكن المذيعة لم تمهله، وانتقلت إلى فاصل إعلانى طويل.

وفى برنامج «البيت بيتك» كانت الكاميرا وسط موظفى بنك القاهرة، فسمعنا إشادات بالرئيس الجديد، والآمال المعلقة على عهده السعيد، فلما انتقلت الصورة إلى الاستديو راح مذيع لجنة السياسات يلمح إلى أن «البنك» بروفة لـ»الدولة»، وأن التغيير طرأ على الأسلوب وليس على الغاية.

لكن الناس فى الشارع لم تقف طويلا إلا عندما تتمنى فاستمرت فى فرحها، وقام بعض رجال الأعمال من غير أصحاب الحظوة بنشر إعلانات فى الصحف مهنئين. أما أصحاب الحظوة منهم فقد توقفوا عن كلمة «البروفة» وعولوا كثيرا على هذا المسار، فسحبوا أموالهم من البنوك الأجنبية، وأودعوها لدى بنك القاهرة. وبعد ساعات تسربت أخبار إلى الصحافة الأجنبية نسبتها إلى ما سمتها «مصادر موثوق منها» بأن هذا القرار «كان مدروسا بعناية، ولم يكن أمام جمال مفر من قبوله، وأنه نهاية طريق وليس بدايته».

فى اليوم التالى فك رجال الأعمال ودائعهم وأعادوها إلى البنوك الأجنبية، واستقال عشرون من أعمدة «أمانة السياسات» وذابت، فجلس أغلب الوزراء على كراسيهم جلسة كاملة لأول مرة، شاعرين بالاستقلالية، لأن الأمور ستسير فى خطها الشرعى، ولن يكون عليهم مكابدة عناء عرض كل شىء على «كيان» غير دستورى أو شخص خارج «الهيكل الرسمى»، ووصل ارتياح الوزراء إلى الصحف، فاطمأن الشعب إلى أن الأمر استقام على ما ينبغى أن يكون عليه، وانطوت الصدور على أمانيها وفرحها.

الحزن فقط كان من نصيب سكان الشارع الذى يقع فيه المقر الرئيسى لبنك القاهرة، ففى أول يوم لتسلم جمال عمله الجديد، وضعت الحواجز والمتاريس على مدخليه وكل الممرات المؤدية إليه، وخضع الرائحون والغادون لتفتيش دقيق، بمن فيهم عملاء البنك ذاته.. وشيئا فشيئا راح السكان يتركون شققهم إلى أى مكان، وبأى ثمن، ولم يرغب غيرهم فى أن يحل مكانهم بسعر زهيد.

وتسربت الأنباء تباعا عن انسحاب أصحاب المدخرات الصغيرة من بنك القاهرة، بعد أن تناقلت الصحف تصريحا منسوبا إلى «مصدر عليم» عن تغيير اسمه إلى «البنك الدولى لكبار المستثمرين».

اجمالي القراءات 5515