مرحبا”.. فيلم يقتحم مجلس النواب ويغير قانون الهجرة في فرنسا

في الثلاثاء ١٤ - مارس - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكد يهدأ الجدل السياسي الذي أثاره في فرنسا فيلم “عيد التنورة” (La journée de la jupe) الذي أخرجه “جان بول ليليانفيلد”، وقامت ببطولته “إيزابيل عجاني”؛ حتى تفجّر نقاش محتدم آخر، على إثر صدور فيلم “مرحبا” (Welcome) لـ”فيليب ليوريه”.

وصل الأمر هذه المرة إلى مقاعد مجلس النواب الفرنسي، حيث نُظّم عرض خاص لهذا الفيلم الذي يروي قصة إنسانية مؤثرة عن معاناة المهاجرين السريين في مدينة كاليه شمال فرنسا. وعلى إثره تقدّم 150 برلمانيا بمشروع قانون لتعديل المادة “إل 622” من قانون إقامة الأجانب، وهي تعاقب بالسجن 5 سنوات وبغرامة ضخمة قدرها 30 ألف يورو، كل من يأوي أو يقدّم أي نوع من العون لمهاجر مقيم بصفة غير قانونية في البلاد.

وإذا بالجيل الجديد من سينمائيي “الموجة ما بعد الجديدة” (Nouvelle Vague) الذي يتصدّى لرياح الساركوزية التي عصفت ببلد “فولتير”؛ يؤسس لتوجّه فنّي جديد بدأ يُشار إليه بتسمية “سينما المواطنة”، وهي تأتي امتدادا واستكمالا لـ”سينما الالتزام” التي أسس لها “فرانسوا تريفو” ورفاقه في الستينات.

“ساركوزي”.. محارب الهجرة السرية إلى الفردوس الإنجليزي
مرة أخرى، أسهم فيلم “فيليب ليوريه”، على غرار “عيد التنورة” (2008) و”عدن في الغرب” (2009) (Eden à l’Ouest) الذي أخرجه “كوستا غافراس” في فضح مطبّات السياسات الساركوزية. فميناء كاليه الذي يعدّ المعبر البحري الأقرب نحو بريطانيا، يستقطب منذ سنين طويلة أعدادا كبيرة من المرشّحين للهجرة سرّا نحو “الفردوس الإنجليزي”.

ومع تشديد قوانين مكافحة الهجرة غير الشرعية خلال ولاية ساركوزي الأولى في وزارة الداخلية (2002 -2004)، تحوّلت كاليه وضواحيها إلى بؤرة متأزمة أمنيا وإنسانيا، بعد أن علق فيها مئات المرشحين للهجرة بسبب تعقيد فرص العبور نحو الضفة الأخرى لبحر المانش، الأمر الذي دفع بمنظمة الصليب الأحمر إلى فتح مركز إيواء إنساني خاص للتكفل بهم في بلدة سارليت.

عاد “ساركوزي” إلى وزارة الداخلية في مايو/أيار 2005، وشرع مبكرا في خوض الحملة التمهيدية لانتخابات الرئاسة، فكانت محاربة الهجرة السرية إحدى عناوينها الرئيسية، وهو ما دفعه إلى التنقل إلى عين المكان، واتخاذ قرار متشدد بإغلاق مركز الصليب الأحمر في سارليت، وسن ذلك البند المشار إليه أعلاه من قانون تنظيم إقامة الأجانب في فرنسا.

يتعلق القانون بمعاقبة وتغريم من يأوي أو يساعد مهاجرين غير شرعيين، وهو ما جعل فلول المرشحين للهجرة نحو بريطانيا تتوارى عن الأنظار، هربا من الملاحقات البوليسية، وبالتالي استطاعت الآلية الدعائية الانتخابية أن تروّج بأن الرئيس الخارق استطاع -كالعادة- أن يحلّ هذه المشكلة كغيرها بمفعول سحري.

صداقة السبّاح والمهاجر.. منفعة متبادلة لعبور المانش
لم تكف الجمعيات والمنظمات الإنسانية عن دق ناقوس الخطر لأشهر، لافتة بأن السياسات الساركوزية لم تعالج مشكلة الهجرة السرية في كاليه، بل اكتفت بإخفائها عن الأنظار، مثلها مثل مشاكل أحياء الضواحي أو مشاكل البطالة والإجرام التي يُتلاعب بالأرقام والإحصاءات الرسمية بشأنها، للانتقاص من درجة تفاقمها، أو لإعطاء الانطباع المخادع بأنها إلى تراجع.

بدعوة من إحدى تلك الجمعيات، زار “فيليب ليوريه” منطقة كاليه، فصُعق بالأوضاع غير الإنسانية التي يتخبط فيها المرشّحون للهجرة السرية نحو بريطانيا، إذ يضطرّون إلى التخفي في غابات المنطقة، هربا من المطاردة الأمنية، ليعيشوا في ظروف مزرية أشبه بالحياة البدائية، بينما تعاني الجمعيات التي تحاول التكفل بأوضاعهم الصحية والإنسانية من المضايقات والتهديدات القضائية المستمرة.

ومن رحلته المؤثرة وسط تلك الفسيفساء من “مسحوقي العولمة” ذوي الجنسيات المختلفة العالقين في كاليه، استوحى “فيليب ليوريه” فيلمه “مرحبا” (Welcome)، وهو يروي قصة إنسانية مؤثّرة لمدرب سباحة من سكان المنطقة يدعى “سيمون” (الممثل فانسان ليندن) يتعلّق بالمهاجر الكردي بلال (الممثل فرات آيفيري) القادم من العراق، إذ يترجاه أن يعلّمه فنون العوم، ليقطع بحر المانش سباحة، أملا في الالتحاق بمن يحبّ على الضفة الأخرى.

فرات أيفري (بلال) مع مدرب السباحة الممثل فانسان ليندن
جعل “فيليب ليوريه” الهمّ العام يتداخل مع المعاناة الشخصية في هذه القصة، فـ”سيمون” أيضا يسعى لاستعادة زوجته التي هجرته، ويجد في إصرار بلال على قطع بحر المانش سباحة للالتحاق بحبيبته، معادلا رمزيا للتحدّي الشخصي الذي يخوضه هو الآخر من أجل استعادة حب زوجته، وهو ما منح الفيلم مزيدا من المصداقية والعمق الإنساني.

حبر غير قابل للمسح.. أساليب من عصر الشرطة النازية
بعيدا عن أي نبرة خطابية، استطاع “فيليب ليوريه” تسليط الضوء على المضايقات الأمنية المغالية التي تلاحق مدرب السباحة “سيمون”، لمجرد أنه ينقل في سيارته هذا اللاجئ الكردي أو يؤويه في بيته، وذلك ما يفسر عرض الفيلم في مجلس النواب الفرنسي، بمبادرة من نواب المعارضة، فقد عبّروا عن صدمتهم لأن هذا العقاب المسلط على من يؤوون مهاجرين سريين يذكّر بقوانين حكومة “فيشي” الموالية للاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، إذ كانت تعاقب كل من يؤوي أو يساعد يهودا هاربين من الملاحقة.

الشرطة الساركوزية تلاحق المهاجرين السرّيين وتضع أرقاما على سواعدهم مكتوبة بالحبر غير القابل للمسح
ومما زاد من أوجه المقارنة بين الحالتين أن الفيلم يعرض أن الشرطة الساركوزية -وهي تلاحق المهاجرين السرّيين الذين لا يمتلكون أوراق هوية- تقوم بإحصائهم عبر وضع أرقام على سواعدهم، وهي مكتوبة بالحبر غير القابل للمسح، تماما كما كانت “الغستابو” (الشرطة السرية الألمانية) تحصي اليهود المرشحين للمحرقة، عبر وشم أرقام خاصة على سواعدهم.

بعد عرض الفيلم شن الموالون للساركوزية في وسائل الإعلام وفي الطبقة السياسية الفرنسية حملةً واسعة ضد الفيلم، وفي مقدمتهم وزير الهجرة والهوية الوطنية آنذاك “إيريك بيسون”، وهو أحد وزراء الانفتاح اليساريين في حكومة “ساركوزي”، لكن رغم الحملة فقد أقبل أكثر من مليون فرنسي على مشاهدته خلال أقل من شهر من طرحه في قاعات العرض.

“سينما المواطنة”.. انتقالات في عوالم السينما الفرنسية
شهدت السينما الفرنسية انتقالات كبيرة في الفترة الماضية، بدءا من “لوران كانتيه” الذي حصل فيلمه “بين الجدران” (Entre les Murs) على السعفة الذهبية في مهرجان “كان” (2008)، إلى “جان بول ليليانفيلد” الذي سجلت “إيزابيل عجاني” من خلال فيلمه “عيد التنورة” عودة مدوية إلى واجهة الحياة السينمائية الفرنسية.

ثم مرورا بـ”ماثيو كاسوفيتش” في فيلم “الحقد”، و”غاسبار نوي” في فيلم “بلا رجعة” (Irréversible) عام 2002، وعبد اللطيف قشيش في فيلم “المراوغة” (l’esquive) عام 2003، وفيلم “كسكسي بالبوري” (La Graine et le Mulet) عام 2007، و”جاك أوديار” في فيلم “انظر إلى الرجال وهم يسقطون” (Regarde les Hommes Tomber) عام 1994، وفيلم “عن النبض توقف قلبي” (De Battre mon Cœur s’est Arrêté) عام 2005.

ثم وصولا إلى “فيليب ليوريه”، الذي يأتي فيلمه “مرحبا” (Welcome) عام 2009 امتدادا لتجاربه السابقة التي انصبّت كلها في تصوير عوالم المهمّشين والمسحوقين في فيلم “سقطوا من السماء” (Tombés du Ciel) عام 1993، وفيلم “زيّ محترم إجباري” (Tenue correcte exigée) عام 1997.

نوادي التنورة.. جيل الموجة ما بعد الجديدة
وتشهد السينما الفرنسية منذ منتصف التسعينيات بروز جيل جديد من السينمائيين، باتوا يلقبون بـ”الموجة ما بعد الجديدة”، تثمينا للنقلة النوعية والنبرة التثويرية التي يحملونها، إذ تذكّر بالنقلة المفصلية التي شكّلها ظهور “الموجة الجديدة” في الستينات.

لكن “الالتزام” بمفهومه التقليدي الستيني، تراجع هنا لتحل محلّه نبرة جديدة تسعى للتأسيس لـ”سينما المواطنة”.

المخرج “فيليب ليوريه” يأتي فيلمه “مرحبا” امتدادا لتجاربه التي ركزت عوالم المهمّشين والمسحوقين
فمن خلال فيلم “بلديّون”، استطاع رشيد بوشارب وأبطال فيلمه الخمسة الذين ينتمون جميعا إلى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين، أن يقنعوا الرئيس “شيراك” بإصدار قانون تأخر لأكثر من نصف قرن، للمساواة بين حقوق المتقاعدين من الجيش الفرنسي من ذوي الأصول المغاربية، وبين غيرهم من قدامى المحاربين ذوي الأصول الفرنسية المحضة.

وعلى إثر الجدل الذي أثاره فيلم “عيد التنورة”، أسست “نوادي التنورة” في 26 مقاطعة فرنسية، من أجل محاربة التمييز والتضييق على النساء والفتيات في الأحياء الشعبية الفرنسية. أما فيلم “فيليب ليوريه”، فقد أقبل على مشاهدته مليون فرنسي، وأسفر أيضا عن عريضة وقّعها مليونا شخص للمطالبة بإلغاء العقوبات التي تهدّد من يساعدون مهاجرين سريين.

بسبب فيلم “عيد التنورة” (2008)، أسست “نوادي التنورة” في 26 مقاطعة فرنسية
وقد بيّنت استطلاعات الرأي آنذاك أن 77% من الفرنسيين طالبو بإلغاء تلك العقوبات الساركوزية التي يعتبرونها مخالفة لقيم ومبادئ الجمهورية الفرنسية.
اجمالي القراءات 335