آلة الدَّين”.. سلاح البنوك لتكبيل العالم بأغلال القروض

في الثلاثاء ٠٧ - مارس - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

الديون مثلها مثل الآلات الرهيبة، فإذا دخل الإنسان فيها صار جزءا منها ولن يستطيع الخروج منها أبدا. هكذا يُصوِّر الوثائقي الفرنسي “آلة الدَّيْن” (Debt Machine) حال البشرية اليوم في عصر العولمة، متورطة كلها تقريبا بالديون، ولا تجد منها فكاكا.

لا يكتفي الفيلم بالنتيجة المذهلة التي يتوصل إليها، بل يقترح إلى جانبها معرفة أسبابها، ليغدو شريطا معرفيا يعطي مشاهده فكرة عميقة عن ظاهرة الديون التي تبرز في وقتنا كمعضلة مستعصية على الحل، آثارها التدميرية لا تنسحب على الدول والأفراد المتورطين فيها فحسب، بل على البشرية جمعاء، لأنها صارت -أو هكذا أريد لها أن تكون- حقيقة ثابتة في حياتنا المعاصرة، وجزءا من نظام اقتصادي عالمي يفرض شروطه علينا ويكبلنا بقيوده الحريرية.

طبقات الفيلم.. معمار فني ثقيل تربطه دعائم مرنة
بَنَت المخرجة “لور ديليسال” معمارها الوثائقي في طبقات متصلّة تربط فيما بينها بدعائم قوية، مثل الرسوم البيانية والمتحركة وبالتخطيطات التوضيحية، وقوَّت أساسها بآراء خبراء اقتصاد وعلماء اجتماع، فجاء متماسكا مفهوما بالرغم من صعوبة موضوعه الشديد الالتصاق بعلم الاقتصاد وتاريخه.

هذا ما يجعل الفيلم واحدا من الأفلام القليلة التي جازفت بالإبحار في موضوعات يخشى كثير من السينمائيين الاقتراب من دواماتها التي قد تسحبهم إلى أعماقها، إذا لم يحتاطوا جيدا ويتهيؤوا للخوض في تفاصيلها.

على التاريخ أسست “ديليسال” وثائقيها، فكانت تعود إليه كلما ارتفع مستوى التصاعد الدرامي لوثائقيها درجات، وعليه سيتشكل المشهد العام والتفصيلي للديون تاريخا وطبقات متراكمة من المعارف، مما يمنحه حيوية وسلاسة كانتا مطلوبتين، بسبب ثقل ما فيه من جوانب أكاديمية.


ديون الدول.. مصدر الثراء البشري الذي لا ينضب
أولى الحقائق التاريخية أن الديون قد ظهرت قبل “النقود”، وكانت تكون في الأسواق على شكل مبادلة، فمالك البضاعة يقدمها دَينا مؤقتا لمشتريها أو محتاجها، إلى حين تمكُّنه من سدادها على شكل بضاعة ثانية، وهكذا ظلت الديون عملية تبادل منافع لفترة زمنية طويلة تغيرت مع ظهور الدول والنقود.

حتى مرحلة قريبة لم تكن الديون وبشكل خاص ديون الدول تُمثِّل مشكلة، لأن معظمها كانت تلجأ إليها لسدّ حاجتها من العملات واستثمارها في عمليات النمو والتطوير، لكن مع الوقت تحولت إلى أغلال قيّدتها وجعلتها تابعة في سياساتها وقراراتها إلى البنوك الدائنة، والعامل الرئيسي وراء ذلك هو الفوائد المفروضة على الديون.

فحين تعجز الدولة عن دفع فوائد القروض في مواعيدها تضطر إلى استدانة المزيد لدفعها، وهكذا تدخل الدول وحتى الأفراد في “دوّامة الشر” التي تسحبهم نحو الأعماق، ليغرقوا كما يحدث لكثير من الدول النامية، وفي الآونة الأخيرة ظهرت بشكل جلي على بعض دول الاتحاد الأوروبي. أما عن سؤال لمَ تحب البنوك منح القروض إلى الدول؟ فالجواب يأتينا عبر رحلة ممتعة من الصور واللوحات والرسوم المتحركة التي تقوم بتوضيحها كما يلي: الدول عندها الثروة، ومصدرها الدائم دافع الضرائب.

وبما أن البشر لا ينتهون، بل تزداد أعدادهم كل يوم، فلن تفلس الدول بسهولة، وعليه فالدولة زبون مضمون، على عكس الشركات المُعَرضة دوما للأزمات والإفلاس، لذا فإن البنوك تعطي القروض للدول بسخاء، لتحصل منها على الفوائد والأرباح، ولا يهمها مستوى نموها، لذلك تستمر في منح ديونها إلى إيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا وغيرها، على كثرة ما تعانيه من مشاكل اقتصادية.


والأرقام تحكي بنفسها، فاليوم وصل حجم الديون البنكية المقدمة إلى دول الاتحاد الأوروبي ما يقرب من نصف تريليون يورو، ومع هذا فإن ديون الدول لا تمثل مشكلة حقيقية بذاتها إذا لم تتجاوز نسبة 60 % من دخلها القومي، بحسب الخبراء المساهمين في الوثائقي، وهذا ما أثبتته معاهدة “ماستريخت” التي ألزمت دولها بعدم تجاوز هذه النسبة.

اقتراض الإمبراطوريات.. وقود الحروب الذي يقدمه المرابون
عمليا ووفق مراجعات الفيلم المعرفي المذهل تجاوز كثير من الدول الضعيفة هذه النسبة المحددة، لدرجة بلغت في البرتغال 129%، وفي بقية الدول المستدانة لا تقل النسب عنها كثيرا.

ونتيجة لذلك اضطرت حكوماتها إلى تخفيض ميزانياتها وإهمال مشاريع التنمية فيها، فكل ما تقترضه لا يذهب إلى تنمية الدولة، بل إلى محاولاتها الدائمة لدفع ديونها حتى تحصل على جديد مكانها، أي أن تستمر في دورتها التي لا نهاية لها، ومعها يأتي سؤال منطقي: ماذا يحدث لو أن الدول امتنعت عن دفع ديونها للبنوك؟

التاريخ يُعيننا على الإجابة والتقنية الحديثة تُمَكِّن الوثائقي من عرضها بأجمل صورة، فقبل نشوب الحرب العالمية الأولى وعلى امتداد تاريخ الإمبراطوريات الأوروبية على وجه الخصوص، كانت الدول تقترض الأموال من المُرابين لتغطية تكاليف حروبها، وفي الغالب لا تعيدها إليهم، فالسلطة المطلقة كانت للحكام والدول.

“السنوات الذهبية”.. خطة أمريكية تقيد اقتصاد العالم
مع اقترابنا من نهاية الحرب العالمية الأولى حدث انقلاب اقتصادي أطلق عليه علماء الاقتصاد “السنوات الذهبية”، وقد دشنه الأمريكيون بتحالف رأسمالهم مع دولتهم الطامحة، وعبر توفيره مناخا استثماريا كبيرا نشطت الأسواق، وتوفرّت السيولة عند المواطن، فتعزّز مركز الدولة السياسي.

استمر هذا الحال في أمريكا، ثم انسحب على أوروبا وبقية العالم نسبيا لمدة ثلاثة عقود، ثم انتهى حين قرر ساسة وأصحاب البنوك الأمريكية ربط الاقتصاد العالمي بعملتهم الدولار، فصاروا يتحكمون في الأسواق المالية، ويؤثرون على قيمة عملات بقية الدول من خلال ضخ الدولار أو سحبه، فتتغير قيمة بقية العملات، وبالتالي تتغير أسعار البضائع والمنتجات في العالم كله، مما يؤثِّر سلبا على نسبة التضخم فيها.

اقتراض الدول.. ربقة تقيد بها الحكومات الفاسدة شعوبها
مركزة رأس المال في الدولة الأغنى وتجميعه في بنوكها العملاقة دفعها إلى تشجيع عمليات الإقراض للدول والأفراد، وبالتدريج نقل رأسُ المال المجتمعَ الأمريكي ثم العالمي، من مرحلة الإنتاج الصناعي إلى الإنتاج المالي.

أصبح المال هو المتحكِّم في قيادة الاقتصاد لا الصناعة، ولاستمرار حيويته تشجع البنوكُ الناسَ والحكومات على أخذ القروض، وقد شهدت فترة الثمانينيات أكبر حركة إقراض إلى الدول النامية، وارتبطت حكوماتها وقادتها مباشرة بالبنوك المانحة، مما زاد الحاجة إليها والخضوع إلى شروطها.


الملصق الخاص بالوثائقي الذي يسبر أغوار الديون
ظهرت بسبب ذلك أولى علامات التبعية الاقتصادية بشكل واضح في أفريقيا التي لم تكتفِ بعض دولها بأخذ ديون أكثر من حاجتها الحقيقية، بل سعى قادتها إلى زيادة كمياتها لاستقطاع جزء منها في جيوبهم، فزاد الفساد، وارتفعت معدلات التضخم، وخضعت سيادتها لشروط وإملاءات الدول والبنوك الغنية.

أرباح تغنمها البنوك وخسائر تغرمها الشعوب.. سر اللغز
على أساس القاعدة العامة “الأسئلة تفضي إلى إجابات مطلوبة”، طرح الوثائقي قضية للنقاش تتعلق بآلية عمل البنوك، ولماذا هي لا تتعرض للخسارات مهما اشتدّت أزمات الدول المستدانة إلا ما ندر؟ الجواب على السؤال عند خبراء الاقتصاد.

تسترجع البنوك ديونها أو تعوِّض خساراتها من جيوب الناس ودافعي الضرائب، لا من الدول، لأن الدول على العموم تعتمد في اقتصادها على الناس وأموالهم وما ينتجون، وبالتالي فمن يعوِّض خسارات البنوك عمليا هو نحن، الناس العاديون، لكن حينما تربح البنوك فإن أرباحها لا تعود إلينا، بل إلى أصحابها الأثرياء، ويمكن تلخيص المعادلة بالتالي: في حالة الربح تكسب البنوك وحدها، وفي حالة الخسارة تدفع الشعوب الثمن.

فيما مضى وتحديدا في الفترة ما بين 1945-1975 كانت البنوك المركزية هي المصدر الأساسي للقروض، أما اليوم فالبنوك الخاصة هي مصدر 95% من القروض العالمية، وبمعنى آخر فالبنوك الخاصة هي المموِّل الأساسي الذي يكاد يكون الوحيد للدول، وهي من يوفر ديمومة بقائها، وتحرص بشدة على قتل كل فكرة تدعو إلى ضبط قواعد التعامل الاقتصادي العالمي.


منذ أواسط السبعينات وبتحكم البنوك المطلق على مقادير الأمور حدثت أزمات اقتصادية كبيرة وتلاحقت، في حين لم تشهد البشرية قبلها أزمات مشابهة على الإطلاق.

الإسقاط الديون عن الدول الفقيرة.. تضامن يرفضه الغرب
يُحيلنا الوثائقي إلى قضية اليونان بوصفها المثال الأسطع على الخلل الحاصل بين دول الاتحاد الأوروبي وبنوكها، فألمانيا تفرض شروطها عليها، وتدعوها إلى اقتراض المزيد من بنوكها، لدفع ديونها وفوائدها المستحقة في أوقاتها. لقد نسيت تماما ما قدمه العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إليها دون مقابل. فأين ذهبت تلك الروح التضامنية بين الشعوب والدول، ومتى تُسقط الدول الغنية ديونها عن الدول الفقيرة؟

يُظهر الوثائقي الفرنسي استحالة ذلك لشدة ارتباط أنظمة الدول الغربية بالبنوك العالمية، وبالتالي لا يمكن طلب ذلك من “آلهتها”.

هناك حقيقية يرتبها الوثائقي بجهد مذهل، فمصالح الدول الأوروبية لا يمكن فصلها عن السياسة النقدية العالمية، وعليه سيستمر الأمر كما هو عليه الآن؛ الفقير يستدين، والغني يأخذ فوائد على ماله ويفرض شروطه، والناس بحكم الآلية الرأسمالية المتبعة والكونية الطابع يرهنون أموالهم عندها، ولا تنتهي الدوامة من حركتها الساحبة إلا بإعادة رسم جديد للسياسة الاقتصادية العالمية، والالتزام بالقواعد المحددة لحركتها، والمطالبة بإسقاط الديون عن الدول تضامنا لا مِنّة، وإلا فالانقسام متسع إذا لم نرجع للعمل بالمبدأ القائل: الأموال وسيلة وليست هدفا نهائيا.
اجمالي القراءات 300