مهاجرو المناخ.. هل سيواجه العالم اضطرابا اجتماعيا هائلا بحلول منتصف القرن؟

في الثلاثاء ١٧ - يناير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

لنفترض أن عبد الله شاب متوسط الحال يعيش في إحدى القرى بدولة عربية ما، يعمل في الزراعة وتزوج قبل عدة أشهر بعد جني محصول الفواكه وجمع أرباحه التي استخدمها في تجهيز بيته، زوجته الآن حبلى في طفلها الأول، لكن عبد الله مطمئن نسبيا، فقدوم الطفل يتزامن مع جني المحصول الجديد، تأتي الأرباح الجديدة بالفعل ويتصور صديقنا أن الحال سوف يستمر على هذا المنوال، لكن ذلك لا يحدث للأسف.

خلال عدة أشهر، يكتشف أن هناك آفة تنتشر في محصوله، يحاول قدر الإمكان أن يتخلص منها، لكن الأمر يكلفه 35% من إنتاجه هذا العام، ثم في العام التالي تضرب البلاد موجة حارة وتؤثر على الزهور الخاصة بالفواكه فينخفض الإنتاج بنسبة أكبر، وبعد أن كانت المشكلات تواجه عبد الله كل تسع أو عشر سنوات أصبحت تظهر كل عدة أشهر، صديقنا لا يعرف السبب، لكنه مَلَّ من انخفاض الدخل وضيق الحال، فقرر ترك الزراعة والسفر إلى مدينة تبعد عن قريته 150 كيلومترا للعمل بها، قبل أن تلتحق به زوجته وأطفاله.

يندرج ما فعله عبد الله وأسرته تحت مصطلح "الهجرة الداخلية"، التي تعني انتقال الناس من مكان إلى آخر داخل الدولة نفسها، وعادة ما تكون من الريف إلى المدن، بفعل أسباب ودوافع مختلفة، لكن ما يشغل اهتمام العلماء هو سبب واحد رئيسي من هذه الأسباب، ألا وهو التغير المناخي.

طبق عزيز جدا

تشير دراسة صادرة عن وزارة الزراعة الأميركية إلى أن درجات الحرارة المرتفعة قد تؤدي إلى خفض محصول الأرز بنسبة تصل إلى 40% بحلول نهاية القرن الحالي في بعض المناطق. (رويترز)
لنأخذ الأرز على سبيل المثال، وهو ثاني أهم الحبوب المزروعة في العالم بعد الذرة، في الوطن العربي يُستخدم الأرز وجبةً رئيسية يومية، لكن يبدو أنه يواجه عدة مشكلات ستجعله نادرا أو على الأقل أغلى من المعتاد، فقد وجدت دراسة نُشرت مؤخرا(1) في دورية "بي إن إيه إس" (PNAS) أن ارتفاع المتوسط ​​السنوي لدرجات الحرارة الصغرى يتزامن ذلك مع انخفاض محصول الحبوب بنسبة 10% لكل زيادة بمقدار درجة مئوية واحدة في درجة الحرارة. في السياق ذاته، تشير دراسة أخرى(2) صادرة في 2018 عن وزارة الزراعة الأميركية إلى أن درجات الحرارة المرتفعة قد تؤدي إلى خفض محصول الأرز بنسبة تصل إلى 40% بحلول نهاية القرن الحالي في بعض المناطق.

هناك أسباب معقولة ترجح حدوث مشكلات من هذا النوع مع معظم المزروعات التي يعتمد عليها البشر في غذائهم، بداية من الأرز وصولا إلى البطاطس والقمح وحتى القهوة، فدرجات الحرارة المرتفعة تؤدي إلى زيادة تبخر الماء من التربة، ما يؤدي إلى جفافها وبالتبعية يجهد النباتات، أضف إلى ذلك أن التغيرات المناخية تخل بمواعيد الإزهار، فإما أن تزهر النباتات مبكرا جدا وإما متأخرا جدا، ويؤدي ذلك إلى اختلال الإنتاج.

عموما، تعتمد الزراعة ومصايد الأسماك وتربية المواشي على المناخ، لا يتعلق الأمر فقط بالحالات الاستثنائية التي باتت وتيرتها ترتفع عاما بعد عام (الموجات شديدة الحرارة مثلا)، ولكن مجرد ارتفاع متوسطات درجات الحرارة السنوي ولو بقدر يسير يؤثر في كل البيئة الزراعية، بداية من احتياجات النبات للماء والحرارة ووصولا إلى مستويات المغذيات ورطوبة التربة وغيرها.

لفهم الأمر، يمكنك أن تفكر في المنظومة البيئية الزراعية على أنها مسطح ضخم بحجم ملعب كرة قدم مملوء بعشرات الآلاف من قطع الدومينو التي تقف إلى جوار بعضها بعضا على مسافات قريبة، يُعَدُّ تحريك قطعة واحدة منها فقط بمنزلة خطر على كل القطع، الأمر كذلك بالنسبة لعلاقة ارتفاع متوسطات الحرارة مع كل شيء له علاقة بالزراعة.

التراقص على حافة المدن

(رويترز)
يُعيدنا ذلك من جديد إلى عبد الله، يصل صديقنا إلى المدينة فيكتشف المفاجأة، حيث لم يكن هو الوحيد الذي تضررت زراعته مع السنوات، هناك بالفعل معدلات مرتفعة من الهجرة من القرية إلى المدينة بدأت منذ عقود قبله، الآن بات هذا الشاب الطيب يعي أن المشكلة أكبر منه، بل اكتشف أنه كان محظوظا كفاية ليصمد كل هذه السنوات.

في غضون ذلك، ومع تزايد معدلات المهاجرين باستمرار، تفقد إدارات المدن القدرة على التنظيم، وبالتالي فإن هؤلاء المهاجرين عادة ما يتراكمون في أحزمة تحيط بالمدن لا تتلقى التجهيز المناسب من صحة وتعليم وعمران، وعلى مدى عقود من هذا التراكم يمكن في بعض الأحيان، خاصة في البلاد الهشة سياسيا أو اقتصاديا، أن تضطرب الأمور فجأة، وينقلب حال البلاد كلها.

وجدت بعض الدراسات بالفعل أن موجات الجفاف في شرق سوريا(3) قبل عام 2011، التي أدت إلى تدمير الأراضي الزراعية التي كان يعتمد عليها 800 ألف شخص على الأقل، وبالتبعية نفوق ما لا يقل عن 85% من مواشيهم، تسببت في موجة هجرة كبيرة من الريف للبحث عن عمل في المدن السورية الكبرى، الأمر الذي ساهم في اندلاع الثورة ثم الصراع المسلح في سوريا، لم يكن هذا سببا رئيسيا بالطبع، لكنه ساهم في الأزمة.

يمكنك أن تلاحظ وجود وضع مماثل فيما يتعلق بالنزاع في دارفور بغرب السودان(4)، حيث انخفض هطول الأمطار بنسبة 30%، وتراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 70%، الأمر الذي تزامن مع ارتفاع معدلات الحرارة السنوية بمقدار 1.5 درجة، حيث يُعتقد أن كل تلك التغيرات ساهمت في نشوب الصراع بين القبائل الرعوية والزراعية، بسبب التنافس على استخدام الأرض لرعي الماشية وزراعة المحاصيل.

كان ما سبق مجرد أمثلة على ظاهرة أعم، باتت تُعرف الآن باسم "الهجرة المناخية"، وهو اصطلاح يعبر عن هؤلاء الذين تركوا بيوتهم نتيجة لتغيرات المناخ، وعموما فقد أدت موجات الحر والجفاف الناجمة عن تغير المناخ إلى خفض النمو الاقتصادي العالمي بما يصل إلى 29.3 تريليون دولار بين عامي 1992-2013، وتظهر تلك المشكلات خصوصا في المناطق الهشة مثل أفريقيا جنوبي الصحراء.

وفيما يبدو فإن الأسوأ لم يأتِ بعد، حيث يُظهر تقرير جديد(5) نُشر في الربع الأخير من 2022 أن قارة أفريقيا ستشهد هجرات (داخلية وخارجية) لنحو 113 مليون شخص، ستحدث معظم الهجرات بسبب المناخ، وبشكل أكثر تفصيلا يقول التقرير إن عدد الأشخاص الذين ينتقلون من مكان إلى آخر بحثا عن الحماية والعمل سيرتفع من 1.5% من سكان أفريقيا اليوم إلى ما يصل إلى 5% بحلول منتصف القرن الحالي.

في القرن الأفريقي فقط، يمكن أن يجبر المناخ ما يصل إلى 9% من السكان (49 مليون شخص تقريبا) على الانتقال في العقود المقبلة، ليس فقط بسبب مشكلات الزراعة وتربية الماشية والمزارع السمكية، ولكن كذلك بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر الذي سيدفع سكان المدن الساحلية إلى هجرات داخلية أو خارجية يمكن أن توصف بأنها "ملحمية"!

نازحون بسبب إعصار مداري شمال موزمبيق (الأوروبية)
لا تقف المعاناة عند حدود أفريقيا، ففي دولة جنوب شرق آسيوية مثل بنغلاديش(6)، حيث يعيش ثلث السكان على طول ساحل منخفض غارق بالفعل ويصبح يوما بعد يوم غير صالح للسكنى، من المتوقع -بناء على النماذج المناخية- أن يغادر أكثر من 13 مليون شخص بلادهم بحلول منتصف القرن. ويمتد الأمر للدول الغنية كذلك، فمثلا يواجه أكثر من نصف مناطق الغرب الأميركي ظروف جفاف شديدة دفعت بعض المزارعين إلى استخدام القوة بشكل غير قانوني لفتح بوابات السدود لأجل الري، وفي مرحلة ما سيضطر بعض هؤلاء للهجرة.

عالميا، تتوقع منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة أن يكون هناك مليار مهاجر نتيجة للظروف المناخية بحلول نصف القرن، ويُعَدُّ هذا التقدير متفائلا، حيث ترى نماذج أخرى أن العدد سيصل إلى 1.2-1.4 مليار مهاجر. لكن الأسوأ من ذلك يأتي في سياق التدابير التي تتخذها بعض الدول "الغنية" بالفعل بهدف تعزيز وحماية الحدود الوطنية والإقليمية في شمال الكرة الأرضية. تورد مجلة "نيتشر" البحثية الشهيرة بعض(7) الأمثلة المهمة، حيث تهدف أجندة الاتحاد الأوروبي إلى حماية الحدود "بقصد إبقاء الناس في أماكنهم وتقليل الهجرة"، وتصنف وزارة الدفاع الأميركية الهجرة المناخية باعتبارها مسؤولة عن الآثار السلبية على الأمن البشري في بلدان المقصد، وتنتهج أستراليا سياسة أكثر تشددا يوما بعد يوم في فرض ما يُسمى بـ"السيطرة الإقليمية".

مدار الفوضى

(مواقع التواصل الاجتماعي)
يرى كريستيان بارينتي، الكاتب والعالم المتخصص في نطاق الاجتماع والجغرافيا، في كتابه "مدار الفوضى" أن جميع الدول الموجودة بين مداري السرطان والجدي، كالصومال وغينيا وساحل العاج وأفغانستان وغيرها، ستتأثر بالتغير المناخي بحيث يمكن أن تتعرض لتغيرات اجتماعية قاسية، التغير المناخي هنا ربما لا يكون السبب الأوحد في تلك التغيرات، بل هو أقرب ما يكون للقشة التي قصمت ظهر البعير، فهذه الدول عادة ما تكون هشة أساسا سياسيا واقتصاديا.

يرى بارينتي أن السيناريو المتوقع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل كما يقول، أن هناك مخططين عسكريين غربيين وزعماء سياسيين يعرفون بالفعل أخطار تجمع الاضطراب السياسي مع تغير المناخ، وهم يتوقعون عواقب وخيمة لاجتماع الأمرين تشمل الحروب الأهلية وتدفقات اللاجئين، واستجابة لذلك يتصور هؤلاء العسكريون والسياسيون مشروعا مفتوحا على المستوى العالمي من أجل قمع اللجوء.

لكن بارينتي يؤكد أن ذلك لن يكون كافيا، فبين المدارين يعيش أكثر من ثلاثة مليارات شخص، ولن تفلح الجدران العازلة ولا الأسلاك الشائكة أو الأسلحة الثقيلة في قمع ذلك الهجوم المهيب، والأَوْلى أن تعمل تلك الدول على تحسين اقتصاد المنطقة بين المدارين الذي كان التغير المناخي عاملا رئيسيا في انهياره في المقام الأول، وأن تعمل على تخفيف آثار التغير المناخي.

الغريب في الأمر أن تلك الدول النامية المهددة بالانهيار مجتمعة لم تنفث من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي إلا القليل مقارنة بأباطرة الطاقة في الدول الغنية، ويعني ذلك أن الإنفاق في سبيل إنقاذ اقتصاداتها هو حق أساسي لها وليس تعطُّفا من الدول الكبرى.

في نهاية المطاف، إذا تطورت الأمور لدرجة الفوضى التي يتحدث عنها باريني، فإن اللوم كله سيُلقى على هذه الشعوب الفقيرة، وسيخرج اليمين المتطرف ليكسب نقطة سياسية على حساب المهاجرين حينما يهتف: "اذهبوا إلى بلادكم"، سيقولون إن هذه الشعوب دخلت في الفوضى لأن تلك هي طباعهم، لا لأن العالم المتقدم، الذي لم يتفق بعد على تسوية "مقبولة" للحد من الغازات الدفيئة التي يبثها في سماوات الأرض، هو السبب في المصير الكارثي الذي ينتظر نصف البشر خلال العقود القليلة المقبلة.
اجمالي القراءات 421