ليس رفاهية.. ما الذي يفعله فقدان الشغف في كيمياء جسمك؟

في الأحد ٢٤ - يوليو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

قد لا يمر يوم دون أن تلتقط عينك كلمة «الشغف» على وسائل التواصل الاجتماعي، فهي تصف الحالة التي تسيطر على الناس أثناء مطاردة حلمهم وتجعلهم متحمسين تجاه ما يفعلونه يوميًا؛ فالعمل أو المذاكرة أو التدريب في «الجيم» أمور شاقة بطبيعة الحال، لكنها خطوات ضرورية في طريق تحقيق الحلم.

ولكن في رحلة السعي المحموم نحو الحلم، نمر ببعض اللحظات التي نطلق عليها «فقدان الشغف»، وعادةً ما يصف الإنسان نفسه بذلك عندما يفقد الرغبة في استكمال ما يفعله، فهل يعد «فقدان الشغف» تعبيرًا بلاغيًا نستخدمه عندما لا نريد الذهاب إلى العمل فحسب؟ أم أن للأمر أبعادًا جسمانية أبعد من ذلك؟ هذا ما سنجيب عنه في هذا التقرير.

ما يفعله بنا الشغف
مثل أية حالة عقلية للشغف تأثيرات على المخ وصحته، فأنْ يعيش الإنسان في حالةٍ من الشغف تجاه عمله لهو أمرٌ يساعد بشكل إيجابي وفعّال في صحة العقل، ليس فقط بمعنىً نفسي، بل بمعنى تشريحي أيضًا، فكيف ذلك؟

في دراسة ألمانية نشرت تحت عنوان «Changes in Gray Matter Induced by Learning» أو «التغييرات في المادة الرمادية الناجمة عن التعلُّم»؛ كان الهدف منها بحث تأثير التعلُّم على صحة العقل والذاكرة، ومن خلال هذه التجربة وجد الباحثون أن المشاركين في التجربة الذين كانوا يتعلمون شيئًا يشعرون تجاهه بشغف ومتعة، أظهروا نتائجَ مثيرة للاهتمام في المسح الضوئي لأمخاخهم.



وأكدت الدراسة أن تلك الفئة في الدراسة – التي كانت تتعلم شيئا يشعرون تجاهه بشغف ومتعة – أظهرت المسوحات الخاصة بأمخاههم زيادةً في حجم الدماغ، وخاصة المادة الرمادية، خلال سبعة أيام فحسب من ممارسة التعلُّم والتدريب، وجاء في نص الدراسة: «لا يمكن للتعلُّم ولا التمرين وحدهما تفسير هذه التغييرات»؛ إذ إن هذا ما يفعله الشغف في المخ، فكيف ذلك:

تتكون المادة الرمادية في المخ من الخلايا العصبية وتتواجد في الدماغ (بالطبقة الخارجية) ويُطلق عليها علميًا «قشرة الدماغ»، كما تتواجد في الجزء المركزي من الحبل الشوكي، وتحتوي المادة الرمادية على عدد كبير من الخلايا العصبية، وهذا ما يسمح لها بمعالجة المعلومات وإصدار أوامر جديدة تمُّر عبر الألياف العصبية الموجودة في المادة البيضاء، وتُشكل المادة الرمادية نصف الدماغ، بينما تشكل المادة البيضاء النصف الآخر؛ وبالتالي فإن الشغف بزيادته لحجم المادة الرمادية، ليس لديه القدرة فقط على تعظيم قدرة الفرد على التعلُّم فحسب، بل إنه يمنح من يتمتع به ذاكرة قوية وقدرة أكبر على تحليل الأمور وفهمها.

الشغف والمعاناة
في اللغة الإنجليزية تعني كلمة «Passion» «شغف»، وهي كلمة مشتقة من المصطلح اللاتيني «pati»، والذي يعني حرفيًا «معاناة»، أو «أن تعاني»، ولا يعتبر هذا الاسم غريبًا عن مفهومنا عن الشغف؛ فهو الشيء الوحيد الذي يجعلك تصبر على المعاناة التي تتكبدها من أجل الوصول إلى مُرادك؛ فماذا لو اختفى هذا الشغف؟ كيف يمكن أن يتعامل الإنسان مع تلك المعاناة؟

يؤكد علم الإعصاب أن الشغف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على الإبداع وتنفيذ المهام، ليس فقط لأسباب فلسفية أو نفسية، بل لأسباب جسدية تخص المخ أيضًا، فكلما مارس الإنسان العمل الذي يقوم به وهو في حالةٍ من المتعة؛ ينشط جزء معين في المخ يطلق عليه «الجسم المخطط-ventral striatum» وهو ما يعرف في علم الإعصاب بـ«المركز العاطفي في الدماغ».



لذا فعندما تمارس عملًا ما أو نشاطًا ما يتضمن معاناة، تنشط تلك المنطقة في المخ، والتي لها القدرة على تغيير وجهة نظرك العاطفية عن المعاناة، ويؤكد علم الأعصاب أن هذا الأمر ليس مجرد إيحاء، بل شيء يحدث داخل عقلك فعليًا.

فمع تنشيط تلك النقطة في المخ – المركز العاطفي – يجري صَبْغ المعاناة بنظرة عاطفية جديدة، وينظر الفرد إلى المعاناة التي يتكبدها على أنها شيء يستحق التعب، ويشعر بالرضا عن نفسه؛ لأنه يعاني في سبيل ما يحب أو ما يريد في الحياة، ولذلك هناك علاقة وطيدة بين الشغف وما يطلق عليه علم الأعصاب «المرونة العصبية-neuroplasticity» إذ إن الشغف قادر على تفعيل تلك العملية في المخ، فكيف يحدث الأمر؟

الشغف وكمياء المخ
عندما تحب أحدًا ويسيطر عليك الشغف به تجد نفسك مقبلًا على المخاطر التي كنت تتجنبها في السابق، وقد ترتكب أفعالًا لايصدق عقلك أنك تقوم بها؛ وهو ما يوصف بـ«جنون الحب»، وهو ما يشعر به من يقومون ببعض الأعمال الإبداعية والفنية، ولذلك يقال أيضًا إن «الفنون جنون»، ولكن هذا ليس جنونًا؛ بل تغييرات جذرية في كمياء المخ؛ فأثناء شعور الإنسان بالشغف هناك اثنان من الناقلات العصبية يجري تحفيز إفرازهما في المخ، وهما الدوبامين و الأوكسيتوسين.

أما الدوبامين فهو ناقل عصبي له عدة وظائف في المخ، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بحصول الإنسان على المكافأة، وعندما نواجه تحديًا ما ونتغلب عليه تطلق أدمغتنا موجة من الدوبامين تمنحنا إحساسًا بالسعادة، وتحفزنا على السعي مرة أخرى وراء تحدٍ جديد، ولذلك يكون الدوبامين دافعًا لاستكشاف الجديد من التحديات للحصول على المزيد من المكافآت؛ قد يبدو الأمر أنه عبارة عن سلسلة من المعاناة ظاهريًا، ولكنها معاناة مرتبطة بالسعادة.

أما الأوكسيتوسين فهي مادة كميائية تُعرف لدى علماء الأعصاب بأنها «كيمياء العناق» بمعنى أن تدليك الجسم والعناق يساعد في إفراز هذا الناقل العصبي في المخ فيعمل على تقليل الشعور بالألم الجسدي، والتوتر، والإجهاد، ولذلك يقوم المخ بإفراز هذا الناقل العصبي أثناء الشعور بالشغف لتخفيف وطأة الشعور بالإرهاق الجسدي نتيجة عدد ساعات عمل طويلة.

فيمكن أن ترى على سبيل المثال رسامًا أو ملحنًا يسهر طوال الليل دون أن يأكل أو يرتاح لينهي لوحته أو مقطوعته الموسيقية، وهو منعزل عن كل ما حوله؛ ويكون زاد الفنان في تلك اللحظة هو الشغف، وما يمنحه لجسده من كيمياء مساعدة متمثلة في الدوبامين.

ماذا لو اختفى الشغف؟
عندما يفقد الإنسان الشغف يفقد قدرته على التعلُّم السريع، ولذلك فعندما يعمل شخصٌ ما في وظيفة لا يحبها قد يشعر بالغباء لأنه لا يستطيع فهمها، على الرغم من أن عقله قد يعمل بكفاءة أكبر إذا تولى وظيفة أو تعلم شيئًا يحفز الشغف بداخله.

فالمعاناة في حالة فقدان الشغف ليس لها معنى أو مغزى، وسيشعر الشخص الفاقد للشغف بها في كل خطوة يخطوها، وأي ألم جسدي سيمر به بسبب هذا العمل لن يتخلص منه بمساعدة كيمياء المخ التي تساعد الشخص الشغوف فيما يفعله، ولذلك يشعر من يعمل عملًا يكرهه بالكسل وضعف القدرة على الاستيعاب، ولكن في المقابل تجده نشطيًا، وسريع الحركة، وذكيًا إذا مارس رياضة، أو لعبة يحبها مع أصدقائه بعد ساعات العمل.

في المحصلة ما تخبرنا به كيمياء المخ هو أن الشغف ليس رفاهية، ولا أمرًا جانبيًا فيما يخص العمل أو السعي وراء الحلم، فهذا الشعور بمثابة الوقود الذي يأخذك إلى وجهتك بأفضل وأسرع طريقة؛ وإذا فقدته لن تكون قادرًا على الاستمرار.
اجمالي القراءات 715