الوحش الذي يلتهم الجميع.. لماذا لا ينتهي الغلاء في مصر أبدا؟

في الخميس ٢١ - يوليو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

أصبح من المعتاد في مصر أن ترتفع أسعار جميع السلع ارتفاعا دوريًّا طيلة شهور السنة، ومع كل مناسبة اجتماعية أو دينية، لا سيما أسعار الوقود والكهرباء التي ما انفكت الحكومة ترفع الدعم المُخصَّص لها على مدار السنوات الماضية، إلى جانب أسعار السلع الغذائية التي يشتكي الناس من ارتفاعها من شهر إلى آخر، وتتأثر بطبيعة الحال بأسعار الوقود، وكذلك بسعر صرف العملة المحلية أمام الدولار بالنظر إلى استيراد جزء كبير منها من الخارج.

يربط كثير من المحللين العرب موجة التضخُّم الحالية بآثار الحرب الروسية-الأوكرانية، بيد أن أزمة ارتفاع الأسعار في مصر أقدم من ذلك بكثير، بل وتعود جذورها إلى عقود من الانفتاح الاقتصادي الذي بدأه نظام السادات قبل نحو خمسين عاما، وربما إلى إخفاقات السياسات الاقتصادية الناصرية. هي أزمة مزمنة على ما يبدو، حتى باتت تعجُّ بها الأفلام والمسلسلات، وأشهرها مشهد المُمثِّل "عادل إمام" من فيلم "الإرهاب والكباب"، حين سأل أحد ركاب الحافلة الذي يهتم يوميا بقراءة الجرائد: "طب مفيش حاجة هتِرخَص؟"، فرد عليه الرجل الردَّ الشهير: "حاجات كتير هترخص وهتبقى بسعر التراب.. أنا وأنت والأستاذ وحضراتكم أجمعين"

حاول كتاب "متى ينتهي الغلاء في مصر؟ مقدمة وجيزة عن التضخُّم"، الذي نشرته دار المرايا عام 2017 بتحرير الباحث "محمد جاد"، أن يُقدِّم رؤية تفسيرية لأزمة التضخم في مصر. ولا يُقدِّم الكتاب الذي يقع في 180 ورقة إجابة شاملة عن هذا السؤال البسيط، لأنه وإن بدا بسيطا، فإنه يحتاج إلى إجابات شديدة التركيب والتعقيد. إن التضخم الذي يُعَدُّ حسابا لمتوسط زيادة أسعار السلع كلها بواسطة رقم واحد؛ يُعَدُّ "مؤشرا عموميا للغاية لا يعكس لنا تأثير حركة الأسعار على طبقات المجتمع المختلفة وكيف تكون أشد وطأة على الطبقات الأكثر فقرا".

صحيح أن التضخم ظاهرة طبيعية في أي اقتصاد، حيث يُنذر ارتفاعه فوق معدل 10% بتدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، لكن أسبابه ليست خارجية فقط، ففي حالة مصر التي يتناولها الكتاب، تبدو أزمة التضخم أزمة هيكلية، وتضرب بجذورها في قلب الاقتصاد المصري، ولا يبدو لها علاج ناجع حتى الآن. فكُل العلاجات والأدوية المُرّة التي تجرَّعها الاقتصاد ومعه المجتمع المصري كله تحت وطأة سياسات صندوق النقد الدولي والقرارات المتعثرة لإدارة الاقتصاد لا يمكن أن تشفي الاقتصاد المصري من أمراضه المزمنة، وليس التعويم وانخفاض العملة إلا أعراضا جانبية للاقتصاد المُعتَل الذي يصارع الموت منذ سنين.

متاهة التضخُّم.. المُنعرَج الأول للفشل
أعلن الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء في يناير/كانون الثاني 2022 أن الأسعار بالمدن المصرية ارتفعت من 5.9% إلى 7.3%، لكن "رضوى السويفي"، رئيسة قطاع البحوث بشركة "الأهلي فاروس" لتداول الأوراق المالية، قالت إنها تتوقع أن ترتفع نسبة التضخم في مصر إلى 12%. (1) ماذا يعني هذا الكلام؟ الحقيقة لا يخبرنا مؤشر التضخم بالأسعار بقدر ما يخبرنا بوتيرة زيادتها، حيث يَجمَع الباحثون ببساطة أسعار السلع الاستهلاكية شهريا من الأسواق ثم يصوغونها في معادلة رياضية تُعبِّر عن مستوى أسعار جميع السلع، ثم يحسبون نسبة الارتفاع في ذلك الرقم دوريًّا ليُعبِّر عن نسبة التضخم.
يحدث التضخم نتيجة دافعَين رئيسيَّين، أولهما، ارتفاع طلب المستهلكين على سلع ما بنسبة أكبر من المعروض منها؛ مما يؤدي إلى ارتفاع سعرها، وثانيهما، ارتفاع تكاليف الإنتاج، لذا فعندما يزيد التضخم تلجأ الحكومة إلى كبح الرغبات الاستهلاكية للناس عبر السياسات النقدية والمالية، لكن ماذا يمكن أن تفعل في تكاليف الإنتاج؟ الحقيقة أن هذا السؤال يُلقي بنا مباشرة في قلب أزمة التضخم في مصر، فمنذ فشل مشروع "إحلال الواردات" الذي سعى إلى تحويل مكوِّنات الصناعة إلى مكوِّنات محلية، ودشَّنه "جمال عبد الناصر" في ستينيات القرن الماضي وأمَّم من أجله العديد من الشركات والمصانع بدعوى أن سيطرة الدولة على تلك المؤسسات ستساعدها في تنفيذ المشروع؛ باتت الصناعة المصرية في وضع هش، فهي من جهة تعتمد على مكوِّنات مستوردة من الخارج، ومن جهة أخرى تُسعَّر بالعملة المحلية التي إن انخفضت، فإن سعر المنتج المحلي يرتفع على المستهلك النهائي، حتى إن بعض السلع المستوردة تُصبح أرخص من السلعة المحلية.
بعدما فشل مشروع "إحلال الواردات"، لم تجد الدولة مفرا من زيادة استيراد المواد والمكوِّنات الوسيطة لاستمرار الصناعة، فعلى عكس الاعتقاد الشائع بأن الجزء الأكبر من فاتورة الاستيراد في مصر يرتبط بواردات ترفيهية، وعادة ما يُستشهَد على صوابية هذه المقولات المغلوطة بواردات أغذية الطبقة الراقية، فإن العكس هو الصحيح، حيث إن هيكل الواردات المصري يعتمد بالأساس على مدخلات الإنتاج أو الآلات والمُعدَّات المعروفة باسم "السلع الاستثمارية".

ولذا، صار التصنيع في مصر مرتبطا بالاستيراد، فكلما زادت الصناعة زاد الاستيراد، دون أن يزيد التصدير بالضرورة. وانعكس ذلك على التضخم في صورتين، أولا عن طريق استيراد التضخم من الخارج، بمعنى أن الأزمات التضخمية في الأسواق المُصنِّعة للسلع التي نعتمد على استيرادها تنتقل عدواها إلينا، وثانيا عن طريق ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلية كلَّما قلَّت قيمة الجنيه أمام عملات البلدان التي نستورد منها، ومن ثم زيادة أسعار السلع المُصنَّعة محليا باستخدام مكوِّنات مستوردة. وهنا يبرز السؤال: لماذا تنخفض قيمة الجنيه في المقام الأول؟ ولماذا لا تكون قيمته أعلى فنستطيع أن نستورد بأسعار أقل، ثم ننتج بأسعار أقل وننافس الأسواق العالمية؟ هذا يجعلنا نتحدث عن السبب الثاني لظاهرة التضخم وهو "التعويم".

التعويم.. مضاعفات للمرض نفسه

تخيَّل عزيزي القارئ أن الجنيه المصري عام 2017، أي عام صدور كتاب "متى ينتهي الغلاء في مصر؟"، كان يشتري ما قيمته نحو 2% فقط مما استطاع الجنيه شراءه عام 1979، كما أنه أمكن استبداله بـ4% فقط من العملة الأميركية التي أمكن شراؤها به عام 1983، هذا ما تقوله دراسة حاولت تتبُّع التغير في قيمة الجنيه المصري طيلة العقود الماضية. (2) وقد اكتشفت هذه الدراسة أن العملة المصرية المحلية تمر بأزمة "تعويم" كل عشر سنوات تقريبا، رغم أن الانخفاض الذي حدث للجنيه المصري ببداية هذا العام 2022 لم يمر بينه وبين آخر تعويم (عام 2016) سوى 6 سنوات فقط. ولكن لماذا تنخفض قيمة العملة المحلية من الأساس؟

هناك عدة عوامل لتحديد قيمة العملة المحلية، غير أن العامل الأكثر تأثيرا هو خضوعها لقوى العرض والطلب بالسوق العالمي، فكلما زاد الطلب على العملة زادت قيمتها، وما يجعل الطلب يزداد على العملة هو السلع والمنتجات التي تُباع بها، أي إن قيمة العملة المحلية ترتبط ارتباطا وثيقا بقوة الاقتصاد المحلي لتلك العملة. في الحالة المصرية، لم يخضع الاقتصاد المصري لآليات السوق الحر في الحقبة الناصرية، فكانت النتيجة الطبيعية للتحكُّم في سعر الصرف وعدم تركه لقوى العرض والطلب هو ظهور سوق سوداء للعملة، وكلما كان الاقتصاد المصري يزداد ضعفا، وخاصة بعد الأزمات المتتالية التي واجهته منذ حرب 1967، اتجه سعر العملة الصعبة في السوق إلى الارتفاع، وهو ما فاقم من الضغوط على صانع القرار لزيادة سعر صرف العملة الأجنبية التي تحتاج إليها الدولة ورجال الأعمال للاستيراد.

في الوقت نفسه، تزايدت الضغوط على الجنيه مع حلول موعد تسديد القروض متوسطة وطويلة الأجل التي أخذتها مصر في حقبة الستينيات، إلى جانب القروض قصيرة الأجل التي سحبتها بعد حرب 1967، ومن ثمَّ بدأت المبالغ المُخصَّصة لخدمة الديون تتزايد وتستنزف نسبة كبيرة من حصيلة الصادرات، حتى وصلت هذه النسبة إلى ربع حصيلة الصادرات عام 1970. وطوال عقدَيْ السبعينيات والثمانينيات، حاولت الدولة المصرية توحيد سعر الصرف، لكن تزايد الديون وضعف الاقتصاد أدى إلى أزمة عام 1991، حيث اقتربت الدولة المصرية من الإفلاس أكثر من أي وقت مضى مع عجزها عن سداد الديون. بيد أن الرياح جاءت بما تشتهي السفن حين اندلعت الحرب ضد صدام حسين بعد اجتياح الكويت، وشاركت مصر فيها مقابل إسقاط نصف ديونها مع إعادة جدولة النصف الآخر. وقد كانت هذه اللحظة هي لحظة دخول مصر بالكامل إلى نظام الاقتصاد الحر، حيث صارت قيمة الجنيه المصري خاضعة لقوى العرض والطلب، مما أدى إلى تخفيض قيمته مع الوقت، إذ توالت سلسلة التعويم عام 2003، ثم عام 2016، وأخيرا عام 2022.

يقول الاقتصادي "جودة عبد الخالق" إنه "منذ تخفيض سعر صرف الجنيه عام 1991 في ظل برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيُّف الهيكلي، تم ربط الجنيه المصري بالدولار. وقد أسهم التخفيض الاسمي في قيمة الجنيه في زيادة تكاليف الإنتاج بشكل محسوس في بعض القطاعات نظرا لارتفاع نسبة المكوِّنات الوسيطة المُستورَدة في المنتجات المحلية. وما لم يُدعَم تخفيض سعر الصرف بإجراءات أخرى لتخفيض التكلفة أو زيادة الإنتاجية، فإن ذلك ينعكس سلبا على القدرة التنافسية للإنتاج المحلي في كلٍّ من الأسواق الأجنبية وفي الأسواق المحلية أيضا".

نستطيع أن نفهم من حديث عبد الخالق كيف يتسبَّب اعتماد المُنتَج المحلي على مكوِّنات مستوردة في ارتفاع التضخم في السوق المحلي وقت انخفاض العملة، لكن ما الذي يقصده عند الإشارة إلى تنافسية المنتج المحلي في الأسواق الأجنبية؟ ترتبط هذه القضية بجدلية كبيرة بين الاقتصاديين حول سياسات التعويم وآثارها الإيجابية والسلبية على الصادرات، وتقع قضية التضخم في قلب هذا الجدل. فالعلاقة البسيطة المباشرة بين التعويم ودعم الصادرات هو أن تخفيض الجنيه أمام عملات الأسواق التي تُصدِّر إليها مصر، مثل الدولار واليورو، يعني تخفيض سعر المنتج المصري في تلك الأسواق، ومن ثمَّ تحفيز التصدير بسبب الإقبال الأكبر على شراء السلعة المصرية التي باتت أرخص سعرا الآن في الأسواق الأجنبية.

لذا لا تندهش عزيزي القارئ إذا سمعت أن البنوك المركزية تلجأ إلى تخفيض قيمة العملة المحلية بهدف دعم الاقتصاد على المدى الطويل، فهي تتحمل الآثار قصيرة الأجل لارتفاع التضخم في السوق المحلي بعد تخفيض العملة على أمل أن يساهم تراجع العملة في تقليل أسعار المنتجات المحلية المُصدَّرة للخارج، ومن ثم يمنحها ذلك فرصة أكبر للمنافسة في الأسواق العالمية، على أن تجلب لها الصادرات العملة الصعبة، مما يدعم العملة المحلية في الأخير على المدى البعيد، بل ويرفع قيمتها مجددا أمام عملات البلاد الأخرى.

لكن ذلك لا يحدث في حالة الاقتصاد المصري بالضرورة، فقد توقَّفت الصناعة المحلية عند مرحلة التجميع، ولذا فإن المنتجات المُصدَّرة لا تتمتَّع بقدر عالٍ من التنافسية حتى بعد تخفيض الجنيه، لأن نسبة كبيرة من مكوِّنات إنتاجها مستوردة من الخارج. وقد عارض كثير من الاقتصاديين دعاوى التعويم قبل عام 2016، محتجين بأن مصر تستورد 60% من احتياجاتها، وحتى ما تُصدِّره فإن 40% من مكوِّناته مستوردة. وفي تلك الحالة فإن تعويم الجنيه لا يزيد من الصادرات، بل يزيد من فاتورة الواردات، ومن ثمَّ ترتفع الأسعار على المستهلك النهائي. وقد صدق الخبراء بالفعل، فبعد انخفاض قيمة الجنيه عامَيْ 2013 و2014؛ انخفضت قيمة الصادرات من 26 مليار دولار إلى 22.2 مليار دولار، وبعد تعويم عام 2016 ارتفعت قيمة الصادرات بنسبة 16%، لكن العُملة فقدت نحو نصف قيمتها بلا رجعة. كيف تصل الدولة إذن إلى هذه المرحلة من فواتير الاقتراض المتضخمة والانهيار في قيمة العملة؟

العجز كمصدر للتضخم
ما عجز الموازنة العامة؟ وما علاقة عجز الموازنة بالتضخم؟ نحن نعرف أن الحكومة تنفق جزءا من مصروفاتها السنوية على دعم السلع مثل رغيف العيش أو السولار أو الكهرباء، وهو ما يُخفِّض أو يُثبِّت أسعار السلع الأساسية والخدمات. إذن من المفترض أن تكون تلك المصروفات سببا في الحد من التضخم والغلاء، لكن ذلك لا يحدث. قبل أن نحل هذا الإشكال، علينا أن نعرف أولا أن المصروفات التي تنفقها الدولة، سواء على الدعم أو الأجور أو التعليم والصحة والاستثمارات العامة، تأتي من الإيرادات، أي ما تجمعه الدولة من ضرائب ومن أرباح ومن بيع البترول والغاز ومن دخل قناة السويس وغير ذلك. ولكن عندما تكون المصروفات أكبر من قيمة الإيرادات، تحدث أزمة "عجز الموازنة". تخيَّل أنك قد صرفت كل راتبك الشهري بحلول منتصف الشهر، ولم تُسدِّد بعد فاتورة الماء والكهرباء والإنترنت، فماذا تفعل؟ ستأخذ سُلفة من العمل أو تقترض من أحد أصدقائك أو تبحث عن عمل آخر، وهذا بالضبط ما تفعله الحكومات.

تقوم الحكومات في تلك الحالة بالاقتراض أو طباعة المزيد من النقود لتُسدِّد القروض التي أخذتها بجانب فوائد الديون التي تُعرَف بـ"خدمة الدين". والنتيجة أن تلك الحكومة ستجد موازنة العام التالي قد تآكلت بسبب القروض وخدمتها، فتقترض مرة أخرى لسد عجز الموازنة، وهكذا. ولتقليل عجز الموازنة تلجأ الحكومة إلى خفض الإنفاق وزيادة الضرائب، ولعلها تُقلِّص الدعم وتطبع المزيد من النقود، حتى تصل إلى نقطة لا يمكنها فيها تقليل الإنفاق ولا تقليل عجز الموازنة ولا تسديد الديون، فيحدث الإفلاس. ولكن ما علاقة ذلك بالتضخم؟

هناك عدة نظريات تشرح العلاقة بين عجز الموازنة والتضخم، أهمها نظرية "كمية النقود" التابعة لمدرسة "ميلتون فريدمان" مؤسس مدرسة الاقتصاد النيوليبرالي، وتدور هذه النظرية حول فكرة رئيسية مفادها: إذا زادت كمية النقود المتداولة داخل الاقتصاد ولم يقابل هذه الزيادة إنتاج مكافئ، فإن الأفراد الذين حصلوا على هذه النقود سيوجِّهونها إلى طلب استهلاكي أكبر، ولأن الطلب يزداد مع ثبات الإنتاج والمعروض من السلع، فسترتفع الأسعار ومن ثم يزيد التضخم. كيف تزيد النقود دون أن يزيد الإنتاج؟ هناك طرق عدة تؤدي إلى ذلك، أكثرها شيوعا لجوء الحكومة إلى التوسُّع في طباعة النقود بكميات تفوق حجم الثروات الحقيقي في البلاد، وهذا هو ببساطة الرابط بين العجز والتضخم. في مواجهة هذه النظرية، ثمَّة نظرية أخرى تابعة لمدرسة "الهيكليِّين" الذين يرون أن العوامل المؤثرة في العرض والطلب داخل الاقتصاد الحقيقي لها دور أساسي في معدلات التضخم، فكلما توسعت الدولة في الاستدانة انخفضت قيمة عُملتها المحلية، ومن ثمَّ ارتفع التضخم

في الفترة بين عامَيْ 2001-2006 ازدهرت معدلات النمو الاقتصادي في مصر بفضل عوامل عدة أبرزها انتعاش الأسواق المالية العالمية، لكن متوسط عجز الموازنة آنذاك بلغ 9.2% من الناتج المحلي، ووصل الدين العام المحلي إلى 93% من الناتج الإجمالي. وفي نهاية تلك الفترة، لم تلجأ الدولة إلى طباعة النقود فحسب، بل ولجأت إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لسد عجز الموازنة، الأمر الذي أدى -حسب الخبراء- إلى ارتفاع نسبة التضخم من 4.2% إلى 11%. ولكن ما أثر التضخم على الأجر؟ وما أثره على الفقراء؟

التضخم الذي يسير في اتجاه واحد
لا تستورد مصر فقط مستلزمات الصناعة، فهي تعتمد في سلعها الأساسية مثل الوقود والخبز على الاستيراد، الأمر الذي يجعل التضخم بالغ التأثير على الحياة اليومية للمصريين. وقد حاولت إحدى الدراسات التي صدرت عن البنك الدولي عام 2008 أن ترصد مسار التضخم في مصر أثناء الفترة بين عامي 2000-2011، وهي فترة حرجة للغاية على مستوى الاقتصاد العالمي، إذ شهدت معدلات نمو مرتفعة في بداية العقد شجَّعت على زيادة الأسعار العالمية، حتى تراجع النمو تراجعا حادا بسبب الأزمة المالية عام 2008. وقد خلُصت الدراسة إلى أن "الأسعار المحلية تتأثر بزيادات أسعار الغذاء العالمي، ولكن يبدو أنها بشكل ما معزولة عن تأثير انخفاضات الأسعار العالمية".

هذا يعني أن السوق المحلي يستجيب لارتفاع الأسعار العالمية ولا يُقدِّم الاستجابة ذاتها وقت هبوط الأسعار في الأسواق العالمية. وتُرجع الدراسة هذه الظاهرة إلى "جمود الأسواق، وضعف مؤسسات السوق، ونقص المنافسة، وعدم فاعلية حماية المستهلك". غير أن انعدام الرقابة على الأسعار، وعدم مكافحة الفساد والاحتكار، ليسا وحدهما المُعضلة التي يواجهها الناس في مصر. ففي الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار ارتفاعا جنونيا بسبب ارتفاع نسبة التضخم الناتج عن كل تلك السياسات الخاطئة، ومنها الفشل في إنشاء صناعة محلية قوية واللجوء إلى القروض وطباعة النقود التي تُقلِّل من قيمة العملة المحلية والعجز المتزايد في الموازنة المصرية؛ لا توجد زيادات بالتوازي في أجور المصريين تغطِّي هذا التضخم والغلاء في الأسعار.
في استبانة أجراها محررو الكتاب المذكور آنفا، أشارت النتائج إلى أن 64% من المشاركين من النساء والرجال لا تغطّي رواتبهم احتياجات أسرهم الأساسية؛ من مأكل ومشرب وتعليم وعلاج وسكن. فيما يؤكد الباقون أنهم يتمكَّنون من تغطية النفقات الأساسية عن طريق الدخل الإجمالي للأسرة، أي بالاعتماد على مشاركة الطرف الثاني (الزوجة/الزوج) في الإنفاق على احتياجات الأسرة من خلال العمل. وقد أكّد هؤلاء أن دخل أحد الطرفين وحده لن يكفي، كما أشارت النتائج أيضا إلى أن 46% من المشاركين يعملون لساعات إضافية أو في وظائف أخرى، والبعض الآخر يلجأ إلى الاستدانة.

من النتائج المُفزعة للاستبانة أن نحو 40% من الأسر تخلَّت عن جزء من نفقاتها لمواجهة ارتفاع الأسعار، سواء بالتخلي عن سُبل الترفيه مثل المصايف والتنزه، أو التخلي عن أنواع معينة من الطعام مثل اللحوم، أو التخلي عن جزء من متطلبات التعليم مثل الدروس الخصوصية وغيرها من المصروفات، أو خفض نفقات العلاج باللجوء إلى وسائل أقل تكلفة، أو التخلي عن المدخرات إن وجدت. أما بقية المشاركين (60%) فدخولهم بالكاد تغطي النفقات الأساسية، ولا يستطيعون توفير سُبل الترفيه لأنفسهم بطبيعة الحال. كما أشارت الملاحظات المرفقة بالعيِّنة إلى أن أجور معظم المشاركين زادت عامَيْ 2011 و2012 نتيجة عدد من الإضرابات والاعتصامات، وزادت أيضا عام 2017 لتعويضهم عن التضخم المفاجئ، لكن لم تكن تلك الزيادات كافية لتعويض تآكل قيمة أجورهم الحقيقية.

في النهاية، لا يطرح كتاب "متى ينتهي الغلاء في مصر؟" حلا شاملا وناجزا لأزمة التضخم وغلاء الأسعار، لكنه يُقدِّم كبسولة مختصرة لفهم أزمة التضخم في مصر وأسبابها، التي تتلخص في ضعف الصناعة ومن ثمَّ ضعف العملة المحلية، وفشل السياسات المالية الذي يؤدي إلى عجز الموازنة، ثم فشل السياسات النقدية في حلها وفي مواجهة التضخم. وفي الوقت نفسه، تزيد الدولة من فرض الضرائب على المبيعات التي يدفعها الغني والفقير بالتساوي، فيما تتقاعس عن فرض الضرائب الكافية على الدخول المرتفعة ومكافحة الفساد، وتتوسَّع في الاقتراض وفي مشاريع البنية التحتية والاقتصاد الخدمي من مراكز تسوُّق ومقاهٍ دون أن يكون لذلك عائد على الاقتصاد ولا زيادة في الاستثمار. والخلاصة هي أن تفاقم أزمة التضخم وغلاء الأسعار في مصر يحكي قصة الفشل في إدارة الاقتصاد، الذي ما انفك يتحمَّل أعباء إخفاقات التجربة الناصرية وتجربة الانفتاح الاقتصادي من بعدها، دون أن يستطيع جني ثمار كافية من أي نموذج اقتصادي طُبِّق في البلاد طيلة تلك العقود.
اجمالي القراءات 456