كبار السن في لبنان"... متروكون وحيدين ليواجهوا مصائر مليئة بالصعوبات

في الثلاثاء ١٩ - يوليو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

عام 2017، خرج محمد عيتاني (72 عاماً)، من بيته، بعد سنوات من الرقود في سريره من دون نشاط يُذكر. توجه إلى مرآب المبنى حيث يسكن، وأزال الشادر عن سيارته المركونة جانباً منذ أكثر من ثلاثة أعوام، ثم توجه بها إلى محلٍ لتبديل الإطارات في منطقة الجناح في بيروت.

"وصلت إلى هناك، وطلبت من العامل أن يستبدل الإطارات القديمة بأخرى جديدة، ثم وقفت أراقبه وهو يعمل. وعندما أوشك على الانتهاء، اقتربت منه وقلت له ممازحاً: هل يمكنك أن تملأ لي الإطارات القديمة بالحجارة؟"، يروي لرصيف22. تابع الشاب عمله "من دون أن يستطيع إخفاء علامات الحيرة"، وقبل أن يترك عيتاني محل التصليح، أفرج الشاب عن سؤاله:

ـ "لمْ تقل لي يا حاج لماذا تريد ملء الإطارات بالحجارة؟".

ـ "أريد أن أستخدمها لتحريك جسمي. ألا ترى كم أصبحتُ هزيلاً؟"، أجاب عيتاني وهو يحرّك يديه صعوداً كحاملي الأثقال، مفصحاً عن رغبته في استعادة قوّته الجسدية.
"تدريجياً ثم بغتةً"
يعود الرجل السبعيني بذاكرته إلى 30 عاماً سبقت تبديل الإطارات: "في بداية تسعينيات القرن الماضي، استلمتُ إدارة مبنى تعود ملكيته لعائلتنا، بدلاً من أبي. المبنى عبارة عن شقق مفروشة موزّعة على تسعة طوابق في منطقة كركاس في بيروت. كان عملي في المبنى يشمل كل شيء تقريباً، من استقبال المستأجرين وجدولة الحجوزات إلى توضيب الغرف وإدارة الموظفين وغيرها من الأعمال، وبقيت مواظباً على ذلك الروتين لأكثر من 25 عاماً، وذلك طبعاً منعني من تكوين علاقات اجتماعية خارج دائرة العمل، كذلك حدّ من إمكانية اهتمامي بنفسي وبأولادي بشكل كافٍ، ما انعكس سلباً على حياتي بعد التقاعد".

يقتبس عيتاني عن الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، من روايته "ثم تشرق الشمس"، ليخبر عن تقاعده، ويقول: "تقاعدتُ بطريقتين: تدريجياً، ثم بغتةً"، وهي إجابة لإحدى شخصيات الرواية الرئيسية عن سؤال: كيف أفلست؟

يكمل عيتاني، هذه المرة بكلماته هو: "بعد أن تخرجَّت ابنتي الكبرى من الجامعة سنة 2014، بدأتْ تساعدني في عملي، من المهام الصغيرة المتعلقة بالمحاسبة وجدولة المستأجرين إلى غيرها، ثم أخذَت شيئاً فشيئاً تتسلم زمام أمور العمل إلى أن أصبحت فجأةً مسؤولةً عن كل صغيرة وكبيرة في المبنى.

"كنت في البداية أحاول التدخل في شؤون العمل، وأصرُّ على ذلك"، يقول. ويضيف: "إلا أن حالتي الصحية وإصرار ابنتي أجبراني على التقاعد، وهكذا وجدت نفسي في البيت عاطلاً عن العمل، بلا صحبة وبلا نشاطات من أي نوع، وأصبحت أقضي معظم وقتي إما جالساً على الأريكة أو مستلقياً على السرير وفي كلتا الحالتين كنت دائماً أشعر بأنني وجهاً لوجه مع الوحدة والفراغ".

مارلين حداد، طبيبة نفسية عيادية وأستاذة محاضرة في كلية الطب في جامعة القديس يوسف، وتعمل في مركز AgeOptimum لرعاية المسنين، منذ عام 2012، تشرح لرصيف22، كيف أن "المشكلات والصعوبات النفسية التي يواجهها الأشخاص عند بلوغ سن الشيخوخة تختلف حسب السيرة الذاتية الفردية لكل شخص. على سبيل المثال، يقلّ احتمال الإصابة باضطرابات كالاكتئاب أو القلق المرتبط بالصحة الجسدية لدى الأشخاص الذين لديهم في الماضي مستوى حياة جيد على صعيد تلقّي التعليم الجيد، وممارسة الهوايات والرياضات، وأيضاً تلعب العلاقات الأسرية والاجتماعية دوراً مهماً في هذا الشأن".
وتضيف حداد في ما يخص قضية التقاعد، أن "ردود الفعل تجاه التقاعد عن العمل أيضاً تختلف من شخص إلى آخر، فهناك الكثير من الأشخاص الذين هم في الأصل يعانون من مشكلات نفسية، كالقلق والتوتر في حياتهم السابقة، ومنهم من هو في الأساس شخص انطوائي وليست لديه علاقات اجتماعية جيدة. في هكذا حالات، يكون العمل وسيلةً لتصريف القلق والحد من الشعور بالوحدة، ولذلك فإنهم بعد التقاعد يصبحون عرضةً للاضطرابات النفسية بنسبة أكبر من غيرهم".

وعن الآليات التي يجب اتّباعها، والتي من شأنها تحسين ظروف كبار السن على الصعيد النفسي، تفيد حداد بأن "المؤسسات الحكومية في لبنان لا تلعب دوراً فعالاً والقطاع الخاص له الأفضلية في هذا الشأن".

وتلفت إلى "المفاهيم الخطأ في مجتمعاتنا العربية في ما يخص قضية تقاعد كبار السن، ولعلّ من أبرزها مفهوم حث الآباء والأمهات، أو الأجداد والجدات، على التوقف عن العمل بغرض الحصول على الراحة، مما يتسبب لهم بالشعور أحياناً بمشاعر سلبية مرتبطة بالتقدم في العمر وعدم القدرة على مواصلة الحياة المثمرة".

"مفهوم حثّ الآباء والأمهات، أو الأجداد والجدات، على التوقف عن العمل، بغرض الحصول على الراحة، يتسبب لهم بالشعور أحياناً بمشاعر سلبية مرتبطة بالتقدم في العمر وعدم القدرة على مواصلة الحياة المثمرة"
وتتابع: "على سبيل المثال، في مركز AgeOptimum الذي أعمل فيه، نتّبع التوجه ذاته الذي تتّبعه منظمة الأمم المتحدة مع كبار السن، والذي ينص في مضمونه على تشجيع كبار السن ممن لا تزال لديهم القدرة الجسدية والذهنية على مواصلة الحياة المثمرة لبدء أعمال خاصة بهم، أو الانخراط في أعمال تطوعية وممارسة نشاطات تبعد عنهم الشعور بالوحدة وعدم الأهمية".

"ما زلت قادراً..."
بعد أن استلمت ابنة عيتاني إدارة المبنى بشكل كامل، يروي الأب: "قضيتُ ثلاث سنوات متتالية لا أفعل فيها شيئاً سوى المكوث في البيت. كان ذلك في الفترة الواقعة بين نهاية عام 2013 وحتى بداية عام 2017"، أي في منتصف ستيناته، وهو العمر المحدد للتقاعد وفق القوانين اللبنانية.

"كانت سنوات سيطر عليّ خلالها الشعور بالملل والضيق"، يقول ويضيف: "كنت أتشاجر مع أفراد العائلة لأسباب تافهة وأحياناً كنت أتجادل طويلاً مع موظفي المبنى، لا لشيء ذي أهمية، ولكنني فقط كنت أحاول أن أجد أحداً يسمعني إلا أن ذلك أيضاً لم يكن يجدي نفعاً، إذ لم يشعرني بأي تحسن".

أخذ ثقل الشعور بالوحدة يزداد يوماً بعد يوم في يوميات الرجل المسنّ، ويردّ تفاقم هذه المشاعر السلبية إلى "عدم وجود بيئة مجهزة لاستقبال كبار السن: لا طرقات مجهزةً بشكل آمن لممارسة الرياضة، ولا مساحات للتنزه، ولا أي نوع من الأنشطة الترفيهية المتعلقة بكبار السن".

بعد ثلاث سنوات على هذه الحال، قرر أنه "لا بد من إيجاد حل لما أنا فيه من عزلة وخمول جسدي". عند وصوله إلى هذا المنعطف يستعيد عيتاني حادثة تبديل الإطارات التي أراد ملأها بالحجارة.

وفي بقية تفاصيل الحادثة: "بعد أن بدّلتُ إطارات السيارة، ذهبت إلى منطقة الدبّية الواقعة بين العاصمة بيروت ومدينة صيدا جنوباً، وفيها أملك قطعة أرض ورثتها عن والدي تبلغ مساحتها نحو 18 ألف متر مربع. عاينت الأرض وعُدت من فوري إلى بيروت بقرار بناء سياج إسمنتي حولها".

في البداية، "جميع أفراد عائلتي عارضوا قراري، وعدّوه هدراً للمال، في حين أن الأرض بور وليس فيها ما يحتاج إلى الحماية بسياج". يسترجع عيتاني كيف اضطر إلى معاودة شرح قراره لأبنائه مرّةً بعد مرة، لجهة خطّته لتخفيض كلفة البناء، ولجهة أنه يخطط لتدوير استخدام الصناديق البلاستيكية، وملئها بالإسمنت لبناء السياج، وأن حاجته من الأمر ليست حماية الأرض بل تخفيف شعوره بالخمول والملل والوحدة. يظهر في حديثه أن مجهوداً كبيراً احتاجه ليفسّر أن حاجته من بناء السياج كانت "أن أحس بأنني ما زلت قادراً على فعل ما أريد".

"عندي ولاد... وما عندي"
في غرفة لا تتجاوز مساحتها أربعة أمتار مربعة، تجلس وفاء فرغل (65 عاماً)، على أريكة مهترئة تآكلت بفعل مرور الزمن، في انتظار ابنتها فاطمة (34 عاماً)، بفارغ الصبر، ليس لأنها ابنتها فحسب، ولكن لأنها أيضاً المعيل الوحيد لها.

فاطمة ليست ابنة وفاء الوحيدة، لكنها هي التي تهتم بإعداد الطعام لها وغسل ملابسها وإعطائها الأدوية في مواعيدها. تلخّص الحال لرصيف22، بقولها: "عندي أولاد غير فاطمة... وما عندي"، في إشارة منها إلى بعدهم عنها، وتضيف: "لم أعد أراهم منذ أن تزوجوا وانصرف كل منهم إلى حياته".



وفاء فرغل (65 عاماً)

تقول رنا غنوي، وهي ناشطة حقوقية ومتخصصة في العمل الصحي الاجتماعي وعملت في مؤسسات ومراكز تُعنى بشؤون كبار السن، من بينها نادي العمر المديد التابع لدار الأيتام الإسلامية، لرصيف22، إن "في لبنان كما في معظم دول الشرق الأوسط لا يوجد نظام تكافلي مؤسساتي مستمَدّ من قوانين، وإنما هناك عرف اجتماعي قائم على فكرة رعاية الأهل للأبناء ليحدث العكس لاحقاً".

و"تختلف الأعراف والتقاليد المتعلقة بالتكافل الأسري وتتباين نسب تطبيقها باختلاف الثقافة المرتبطة بالنظام القبلي، ما يجعلها حاضرةً عند بعض شرائح المجتمع بنسبة أكبر من شرائح أخرى"، تضيف.

"طرقتُ أبواب النواب والوزراء والجمعيات الخيرية لتأمين أدوية أمي، لكن من دون جدوى، والمرة الوحيدة التي حصلنا فيها على مساعدة عينية كانت في الانتخابات النيابة الأخيرة، وكانت عبارةً عن مبلغ زهيد تقاضته أمي مقابل الإدلاء بصوتها"
وتقول مفندةً فكرة التكافل والتضامن الاجتماعيين وارتباطهما بسياقات محددة: "يمكن أحياناً عدّ الأزمات مصدر تحفيز للتكافل المجتمعي والأسري، وهذا ما شهدناه في أكثر من حدث، كما بعد تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020، حين هرعت المؤسسات غير الحكومية والأفراد للتطوع لتخفيف تبعات الانفجار ومساعدة المتضررين، إلا أن هذه الحالة من التكافل الاجتماعي تبقى هشةً في ظل ما يعانيه لبنان من انهيار اقتصادي وتدهور في الأحوال المعيشية، وهي أيضاً وقتية متصلة بالحدث نفسه، وما تلبث أن تنتهي مفاعيلها على الأشخاص الأكثر حاجةً إلى هذا التضامن".

برأي غنوي، "استمرار الأزمات وتواليها، حكماً سيؤثران سلباً على تماسك منظومة التكافل المجتمعي والأسري المستمدة من العادات والتقاليد، وذلك لأن الإنسان عموماً يتمتع بقدر معيّن من القدرة على التعرض للضغوط، وبعد تواليها وتفاقمها، ينعطف إلى التركيز أكثر على احتياجاته الشخصية، بينما تأتي احتياجات الآخرين في الدرجة الثانية، وهذا إنْ جاز التعبير، إعادة ترتيب للأولويات وفق غريزة البقاء".

في النتيجة، تعود الناشطة إلى الدور الذي يُفترض أن تلعبه المؤسسة العامة، أي الدولة، وتقول: "محدودية قدرة الأفراد على تأمين حاجات بعضهم البعض، لا سيما في ظل الأزمات، تحيلنا إلى أهمية وجود قوانين تنظّم وترعى شؤون كبار السن في لبنان من قبل مؤسسات الدولة وعلى رأسها وزارتا الصحة والشؤون الاجتماعية".

فرغل هي واحدة من كبار السن الذين يعانون يومياً بسبب غياب السياسات المخصصة لرعاية مَن هم في مثل وضعها. تسرد كيف تراجعت أحوالها بينما تكبر في العمر: "قبل أربع سنوات، وبسبب سكتة قلبية، توفي زوجي الذي كان يعيلنا من خلال عمله في صناعة كراسي الخيزران في منطقة طريق الجديدة في بيروت، وبعد وفاته بدأت أحوالنا المعيشية بالتدهور، وفجأةً وجدت نفسي بلا معيل".

تقول: "حاولت بدايةً الاستعانة بأولادي الذين يعيشون بدورهم ظروفاً معيشيةً صعبةً، لكنهم عاجزون عن تقديم المساعدة لي، فلجأت بعدها إلى الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية، ولم أتلقَّ سوى الوعود، لا شيء سوى الوعود".

اضطرت وفاء إلى البحث عن عمل على الرغم من حالتها الصحية السيئة، فهي تعاني من مرض السكري وتحتاج إلى حقن الإنسولين بشكل منتظم. بعد بحث شاق، "ساعدني فاعل خير في إيجاد وظيفة في مستشفى المقاصد في بيروت حيث توليت وظيفة عاملة نظافة في قسم الجراحة لمدة لم تتجاوز الشهر، وانقطعت عن العمل مضطرةً بعد أن تعرضت لحادث سير فقدت على إثره قدرتي على المشي، فأصبحت وقد تخطيت الستين من عمري مقعدةً وعاطلةً عن العمل وبلا مأوى". هكذا "تقطعت بي السبل، ولم أجد سنداً سوى ابنتي فاطمة".

فاطمة هي الابنة الثالثة لوفاء بعد ولدين ذكرين متزوجين ويعيشان بعيداً عنها. تقول فاطمة لرصيف22: "بعد الحادث الذي تعرضَت له والدتي، اضطررت إلى الانتقال والعيش معها. قبل ذلك كنت أعيش وحيدةً مع ابني بعد انفصالي عن زوجي الذي يعيش حالياً في سوريا".

وتضيف، وهي تعدّ على أصابعها: "طرقت أبواب النواب والوزراء والجمعيات الخيرية. لم أترك أحداً لم أطرق بابه لطلب المساعدة في تأمين أدوية أمي، لكن من دون جدوى، والمرة الوحيدة التي حصلنا فيها على مساعدة عينية كانت في الانتخابات النيابة التي أُجريت في أيار/ مايو الماضي، وكانت عبارةً عن مبلغ زهيد تقاضته أمي مقابل الإدلاء بصوتها لأحد النواب".

تكافح فاطمة لتأمين مصاريف البيت وتأمين أدوية السكري لوالدتها: "سابقاً، كنتُ أشتري بشكل منتظم أدوية أمي من خلال عملي كسائقة تاكسي، أما اليوم فبات تأمين الأدوية إلى جانب المصاريف المعيشية أمراً بالغ الصعوبة في ظل الوضع الاقتصادي المنهار. ومؤخراً بتّ أقترض ثمن الأدوية من أقاربي أو أصدقائي".

وبالعودة إلى الوالدة وفاء، تقول: "أتشارك مع ابنتي وحفيدي هذه الغرفة الصغيرة التابعة لمديرية الأوقاف الإسلامية، وهذه الغرفة على صغر حجمها هي كل ما نملكه من مساحة للنوم والجلوس وحتى الطبخ، لذا لم نصبح مشردين". وتضيف: نحن مجبرون على تحمّل ضيق مساحة الغرفة، لأننا لا نستطيع تحمّل كلفة دفع إيجار شقة مناسبة، فكلفة إيجار هذه الغرفة الصغيرة هي أقصى ما نستطيع تحمّله، وهي 550 ألف ليرة لبنانية شهرياً". وتردف بقلق: "قبل أيام تلقينا إخطاراً من مديرية الأوقاف بأن الإيجار سيرتفع إلى الضعف في العام المقبل".

ما بين مسنّ يمتلك عقارات ومسنّة تحاول جاهدةً تلافي التشرد والحفاظ على سقف تعيش تحته بالحد الأدنى من متطلبات العيش، تظهر قضية مستجدة تتصل بالأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان منذ نهاية عام 2019، وهي قضية المتقاعدين الذين وجدوا أنفسهم بعد عقود من الخدمة بلا راتب كافٍ للعيش أو تعويضات تلبّي أدنى متطلباتهم في السن الذي وصلوا إليه.

حياة عواضه، مواليد بيروت عام 1953، هي موظفة متقاعدة في القطاع التعليمي الحكومي، بدأت مشوارها المهني كمعلمة في "مدرسة الشهيد عبد الكريم الخليل"، في منطقة الشياح، في ضواحي بيروت الجنوبية، ثم انتقلت إلى مدرسة الغبيري الأولى وبقيت هناك كأمينة مكتبة إلى حين تقاعدها عام 2017.

كانت عواضة مستعدة على الصعيد النفسي لتجربة التقاعد عن العمل، غير أن تآكل قيمة راتبها بسبب انهيار العملة اللبنانية ترك لديها شعوراً بالإحباط والقلق.


رواتب في مهب ريح الانهيار
سهيلة غريب (67 عاماً)، عملت في قطاع التعليم الرسمي كمدرسة للّغة الفرنسية بين عاميْ 1977 و2009، ثم أكملت مشوارها المهني كمنسقة أنشطة في مدرسة مجدل بعنا الرسمية، في قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان، وأحيلت على التقاعد في نهاية العام 2019، وتقيم حالياً في منطقة مار إلياس في بيروت.

تشرح سهيلة لرصيف22: "كموظفة في القطاع الرسمي، كنتُ من المخيّرين بين تلقّي تعويض نهاية الخدمة أو الحصول على راتب تقاعدي، وهذا بطبيعة الحال ما يحصل مع جميع موظفي القطاعات الحكومية، وقد اخترت الراتب التقاعدي. وتضيف: "راتبي يبلغ ثلاثة ملايين وخمسمئة ألف ليرة لبنانية، أي ما كان يعادل 2300 دولار أمريكي".



سهيلة غريب في صورة ملتقطة في منطقة البقاع

قبل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ نهاية عام 2019، ولا تزال تتفاقم، تروي سهيلة: "كنتُ راضيةً إلى حد ما عن وضعي المادي والمعيشي، إذ كان راتبي يؤمّن لي الحد الأدنى من العيش الكريم، لا سيما أنّي من هواة السفر، فكنت أدّخر جزءاً منه لتغطية تكاليف السفر حين أستطيع، وقد زرت دولاً أوروبيةً عدة".

ولكن كل شيء اختلف دراماتيكياً بعد الأزمة. تصف سهيلة كيف انهار كل ما كانت تهتم به في تقاعدها إثر الأزمة: "بعد الأزمة، تقلّصت قيمة راتبي التقاعدي من 2،300 دولار أمريكي إلى ما يوازي 140 دولاراً، وهذا المبلغ لم يعد يغطّي فواتير الماء والكهرباء، ناهيك عن المأكل والملبس والأدوية".

وتضيف: "اليوم بتنا جميعاً نواجه صعوبةً في تأمين الحد الأدنى من احتياجاتنا الأساسية، وباتت الغالبية العظمى من كبار السن المتقاعدين في مهب ريح الأزمة الاقتصادية". وتكمل: "على الصعيد الشخصي، بات لدي رعب من احتمال إصابتي بأي مرض أو أي حالة طارئة بعد أن فقد راتبي التقاعدي قيمته".

ويعاني لبنان منذ صيف عام 2019، من أزمة اقتصادية غير مسبوقة صنّفها البنك الدولي في تقرير نُشر منتصف عام 2021، واحدةً من أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر، إذ فقدت العملة المحلية 90% من قيمتها الشرائية، وبات أكثر من نصف سكان لبنان تحت خط الفقر.

"اليوم، بتنا جميعاً نواجه صعوبةً في تأمين الحد الأدنى من احتياجاتنا الأساسية، وباتت الغالبية العظمى من كبار السن المتقاعدين في مهب ريح الأزمة الاقتصادية. لدي رعب من احتمال إصابتي بأي مرض أو أي حالة طارئة بعد أن فقد راتبي التقاعدي قيمته"
كحال كثيرين، التزمت سهيلة بيتها لمدة عامين، إذ تزامن موعد تقاعدها مع انتشار وباء كورونا مطلع عام 2019، ومع تخفيف قيود الحجر المنزلي بدأت باستعادة نشاطات كانت تخطط للقيام بها عندما كانت لا تزال في وظيفتها.

تقول: "أنا الآن مشتركة في نادٍ رياضي أذهب إليه ثلاث مرات في الأسبوع، كذلك أمارس رياضة المشي مرتين في الأسبوع أذهب خلالهما في الصباح الباكر إلى حديقة الصنائع العامة في منطقة الظريف في بيروت، ثم أعود إلى بيتي"، كما تلجأ إلى اليوغا والتأمل لتحمل الواقع المرير الذي أنتجته الأزمة الاقتصادية، و"هذا ما يساعدني حالياً على تخفيف وطأة الوضع الذي وصلنا إليه".

قانون شاخ في أدراج مجلس النواب
يشرح المحامي اللبناني والناشط الحقوقي هادي نخول، لرصيف22، كيف أن "لبنان لم يخصص لكبار السن كلهم، الحماية الاجتماعية اللازمة بما يكفل لهم الاستقرار اللازم والضروري عبر تقديمات ومساعدات مستدامة أو عبر نظام تقاعدي يؤمّن لهم راتباً شهرياً يستفيدون منه مدى الحياة".

ويضيف: "صحيح أن شريحةً معيّنةً تستفيد من نظام تقاعدي معيّن (موظفي القطاع العام، والأشخاص المستفيدين من نظام نهاية الخدمة لدى الضمان الاجتماعي)، لكن لا يوجد في لبنان نظام موحد لمعاشات التقاعد، وترتبط نظم التقاعد بنوع التوظيف، فهو لا يشمل الجميع وشروطه تستثني شريحةً كبيرةً من الراغبين في الانتساب".

على سبيل المثال، والكلام لنخول، "في حين أن موظفي القطاع العام وأفراد الجيش يتقاضون معاشات تقاعد ولديهم تأمين صحي، يفقد موظفو القطاع الخاص المستفيدون من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي هذه المنافع مع بلوغهم سن التقاعد وانقطاعهم عن الخدمة". وبناءً عليه، يرى أن المسألة "من المسائل الضرورية ومن الأولويات لدى مجلس النواب أن يأخذ بعين الاعتبار ضرورة إقرار قانون ضمان الشيخوخة بعد 18 سنةً من المماطلة".

ويشير نخول إلى أن مشروع قانون ضمان الشيخوخة أحيل من الحكومة إلى مجلس النواب منذ عام 2004، "ولا يزال حتى يومنا هذا في أدراج المجلس بسبب الخلافات والاعتراضات الكثيرة التي طالته من أكثر من جهة".

ويضيف: "هذا القانون عند صدوره سيؤمّن راتباً تقاعدياً، بالإضافة إلى مساعدات في حالة الوفاة، كما يعطي الحق لورثة المضمون بأن يرثوا الراتب التقاعدي بعد وفاة المستفيد الأوّل، لكن ضمن شروط محددة، ومن ميزاته أنه يمكن لأكثر من طرف أن يستفيد منه، كالأجير ورب العمل وحتى اللبنانيين الذي يعملون خارج لبنان".

إلى ذلك، يشرح نخول أن "لكل دولة خصوصيتها في التعاطي مع موضوع ضمان الشيخوخة، والاختلاف بين لبنان وأي دولة أخرى لجهة النظام الأفضل الواجب اعتماده في ما يتعلق بالشيخوخة، يطال أوجهاً عديدةً سواء من ناحية شروط الاستفادة أو من ناحية العمر مثلاً، إلا أن الهدف المرجو منه لا يزال واحداً، وهو تأمين مستوى معيشي لائق لكبار السن".
اجمالي القراءات 841