ناشطات وإعلاميات يمنيات: "ما نواجهه من مضايقات في المجتمع أسوأ من الحرب"

في السبت ٢٥ - يونيو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

"بسبب عملي الإعلامي، انفصلت عن زوجي، وتعرضت لتهديدات، وأتلقى باستمرار شتائم واتهامات تمس شرفي"... هذا ما كابدتهُ نعائم خالد (37 عاماً)، مراسلة قناة عدن الفضائية، خلال مشوار عملها في مجال الإعلام منذ 2003.

لا وقت مستقطعاً للإساءة والتجريح اللذين تتعرض لهما من قبل أناس لا تعرفهم، تقول نعائم لرصيف22، "وذنبي الوحيد أنني إعلامية"، مشيرة بذلك إلى واقع تعيشهُ هي وزميلاتها في اليمن حيث تنتشر جماعات دينية متطرفة إلى جانب شيوع التشدد القبلي.

تلتقط من ذاكرتها واحداً من المواقف التي واجهت العشرات منها: "استدعيت ذات مرة إلى احتفال ديني في تعز، فارتديت عباءة قصيرة ملونة وضيقة نوعاً ما، وذهبتُ إلى هناك، ولأن اللون الأسود الفضفاض هو لون الحياء والشرف بنظر الجماعات الدينية، طلب منّي القائمون على الاحتفال تغيير ملابسي كشرط لأباشر عملي، فانسحبت على الفور وقلت لهم: فعاليتكم لكم ولن أغيّر مبادئي بسببها".

في مناسبات أخرى، كادت نعائم أن تفقد حياتها. تتذكر كيف أن عناصر كانوا في نقطة أمنية شرقي مدينة تعز أشهروا أسلحتهم الرشاشة في وجهيهما، هي وزميلة لها، خلال تغطية تلفزيونية كانتا تقومان بها لتوثيق معاناة الناس في تلك المنطقة. فما كان منهما إلا أن غادرتا المكان حين رأتا البنادق متحفزة والغضب والتصميم في الوجوه. "كانوا مستعدين لإطلاق النار علينا، ليس لشيء إلا لكوننا صحافيتين"، تقول.

في حادثة أخرى، كانت الصحافية الشابة تسير وحدها وسط زحام الناس في شارع ديلوكس، وسط مدينة تعز، حين فوجئت بشخصٍ على دراجة نارية يمسك المقود بيدٍ وبالأخرى مسدساً مصوباً نحوها. كانت المسافة قريبة جداً بينهما، بحيث استطاعت إبعاد السلاح بيدها.

"لكنني لم أستطع منع الرصاصات التي أطلقت عليّ من فمه"، تقول بنبرة متقطعة، متذكرةً ما تلفظ به ذلك المجهول ضدها: "شتمني وهددني بالذبح وإلقاء جثتي في ساقية المجاري إذا لم أتوقف عن العمل في الإعلام، وردد الكلام ذاته شخصٌ آخر يبدو أنهُ كان رفيقاً له، وكان أيضاً يستقل دراجة نارية".

ذكورية المواقف
تحرص نقابة الصحافيين اليمنيين وبعض المنظمات المعنية بالعمل الإعلامي، كمرصد الحريات الإعلامية، على إصدار بيانات وإحصائيات عن الانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون (قتل، اختطاف، اعتداء، اعتقال، تهديد) من قبل أطراف النزاع في اليمن، غير أن البعض يشير إلى أنها تتعلق في الغالب بالصحافيين الذكور دون الإناث.

تؤكد ذلك وبشيء من الإحباط الإعلامية نوران النقيب. تقول لرصيف22: "الرصد يُظهر في الغالب انتهاكات وقعت ضد الزملاء الذكور، في حين أن الصحافيات والإعلاميات يتعرضن كل يوم إلى انتهاكات يقوم بها المجتمع ضدهن، لكن لا راصد لتلك الانتهاكات ولا عمل على منعها في ذات الوقت".

لكن تقصينا أظهر ردود فعل غاضبة لقطاعات واسعة في اليمن ومنها نقابة الصحافيين إزاء انتهاكات وقعت لصحافيات كذلك، إذ أدانت النقابة على سبيل المثال اعتقال الصحافية هالة باضاوي من قبل الاستخبارات العسكرية في حضرموت.

وحمّلت النقابة في بيان صادر عنها في الأول من كانون الثاني/ يناير 2022 قيادة الاستخبارات العسكرية ومحافظ حضرموت المسؤولية الكاملة وطالبت بالإسراع في الإفراج عنها. وجاء في البيان أن "هناك أجهزة يمكن أن تقدم إليها لو كانت مخطئة أو لديها شيء مخالف، وليس جرجرتها إلى عتمة الاحتجاز وتقييد حريتها هكذا الذي لم ولن نتوقعه وهو غير مقبول أن يحدث".

وكانت باضاوي قد اعتُقلت في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2021 بسبب منشورات لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي انتقدت فيها السلطات المحلية في حضرموت، ووجهت إليها 12 تهمة منها "العمالة لدولة أجنبية والعمل مع خلايا إرهابية، وتهريب ألغام ومتفجرات".وبعد نقلها من سجن الاستخبارات إلى السجن المركزي في حضرموت، أفرجت المحكمة الجزائية عنها في 21 نيسان/ أبريل 2022 وفي جعبة تجربتها المريرة 100 يومٍ من الاعتقال. وبعد نحو شهر من ذلك، ألغي عقد عملها في مكتب الإعلام بالسلطة المحلية في حضرموت.

انتهاكات في كل مكان
تشير الحقوقية هبة عيدروس إلى أن الحوثيين يمارسون في المناطق التي يسيطرون عليها انتهاكات ضد الناشطات والإعلاميات ويحتجزنهنّ في السجون تحت مبررات "أغلبها أخلاقية"، وفقاً لتعبيرها.

وتستدرك: "لا توجد أية جهودٍ حقوقية أو أممية تخلّص الناشطات في أماكن سيطرة الحوثيين من فضاءات السجون" أما في المناطق الأخرى التي تسيطر عليها ما تعرف بالسلطة الشرعية، فتقول: "هنالك الكثير من العنف المجتمعي التي تتعرض له المرأة الناشطة في الحياة اليومية".

"الرصد يُظهر في الغالب انتهاكات وقعت ضد الزملاء الذكور، في حين أن الصحافيات والإعلاميات يتعرضن كل يوم إلى انتهاكات يقوم بها المجتمع ضدهن، لكن لا راصد لتلك الانتهاكات ولا عمل على منعها في ذات الوقت"
وتوضح: "يساهم العرف المجتمعي في إبقاء أغلب النساء صامتات غير مدافعات عن حقوقهن القانونية وذلك خشية التعرض للعار والفضيحة ولكون أغلب المتحرشين هم من متسكعي الشوارع".

وتشير عيدروس إلى أن أغلب الناس في اليمن ما زالوا ينظرون إلى المرأة الناشطة والإعلامية من زوايا تُختصر بمصطلحات العفة والشرف التي دائماً ما يكون معيارها حجب صورة المرأة، وعدم الاختلاط بالرجال.

وتلفت إلى أن العنف اللفظي هو أكثر أشكال الانتهاكات شيوعاً ضد الناشطات والإعلاميات، وتبدأ في الغالب بتعليقات مسيئة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تمتد إلى العنف الجسدي، والتحريض على الإيذاء، تقول بأسف.

طالبة الإعلام مستوى ثاني في جامعة تعز، سكون أحمد (20 عاماً) اختبرت جزءاً كبيراً مما أشارت إليه عيدروس. تقول بأسى بالغ إن "الكثير من النساء كنّ يحرضن والدتي لمنعي من الاستمرار في دراسة الإعلام، ووصفن لها الإعلاميات بمصطلحات قبيحة تطعن بشرفهن".

"كانت تلك البداية فقط"، تواصل سكون بحدةٍ، وتضيف: "سرعان ما انتقل الأمر من النساء إلى الرجال، وأخذ أبناء الحي يدعونني بالعاهرة كلما مررت بجانبهم".

وآخر موقف من هذا القبيل عاشته، كان في آذار/ مارس 2022، حين كانت تمشي في الحي إلى جانب زميلتين لها وإذا بواحدٍ من الرجال يصيح مُردداً: "معانا بالحارة بيت للدعارة".

ولم يكتفوا بذلك وفقاً لما تروي، بل وصل بهم الحال إلى أن يضعوا مراقباً يلاحقها من مكان إلى آخر، لمعرفة إنْ كانت على علاقة برجال أم لا. وتقول بتأثر شديد: "اتهاماتهم ومراقبتهم لي مسيئة وتجرحني، لكن لا أجد مَن أشكو له، فمجتمعنا دائماً ضد المرأة وليس هناك قانون يحميها".

وتلفت إلى أن المجتمع يطلق أحكامه على المرأة لأبسط شيء تقوم به، حتى وإنْ لم تكن تعمل في مجالٍ ما، كالإعلام، وتقول: "بمجرد أن تضع المرأة أحمر شفاه بدرجة غامقة والقليل من المكياج على وجهها، يلصق بها المجتمع لقب عاهرة".

ضعف الوعي القانوني
المدير التنفيذي لمركز الدراسات والإعلام الاقتصادي محمد إسماعيل، ينفي أن تكون المرأة، أياً كان مجال عملها، وحيدة دون حماية أو دعم، ويقول لرصيف22 مفاخراً إن من بين مشاريع مركزه مراقبة ورصد الانتهاكات التي تطال الصحافة وحرية التعبير في اليمن، وإصدار تقارير موثقة بنحو ممنهج بشأن انتهاكات الحريات الإعلامية وإصدار تقارير دورية عن الحريات الإعلامية وأوضاع الإعلام في اليمن بنحو عام.

ويضيف إلى ذلك "إصدار التقارير الدورية ومناصرة قضايا وحقوق الصحافيين والصحافيات، فضلاً عن الدعم النفسي، ومساعدتهم للحصول على دعم مالي من الهيئات والمنظمات الدولية المعنية".

"بمجرد أن تضع المرأة أحمر شفاه بدرجة غامقة والقليل من المكياج على وجهها، يلصق بها المجتمع لقب عاهرة"
أما الدعم القانوني فيتمثل بحسب إسماعيل بتقديم استشارات قانونية للصحافيين أو توكيل محامين لبعض الصحافيين الذين يُعتقلون. ويضرب مثالاً على ذلك قضية الصحافية هالة باضاوي، إذ وكل لها المركز محامياً ليترافع عنها، إلا أنها رفضت ذلك، لكونها "كانت قد وكلت بالفعل محامياً آخر عنها".

ويذكر المحامي عمر الحميري أن قانون الجرائم والعقوبات في الدستور اليمني ينص على محاسبة كل شخص يقوم بالإساءة اللفظية أو الجسدية بحق الأشخاص الآخرين، وتبعاً للمادة 292 من قانون الجرائم والعقوبات فكل مَن سبّ غيره أو قذفه يعاقَب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة مالية، كما تنص المادة 254 من القانون نفسه على حبس الأشخاص الذين يقومون بتهديد غيرهم لمدة سنة أو تغريمهم مالياً.

ويضيف لرصيف22 أن القانون اليمني يحمي بذلك المرأة التي تقدم شكوى ضد مَن يعنفها، ويؤكد من خلال اطلاعه أن العديد من الناشطات لجأن إلى المحاكم لتقديم شكاوى عن انتهاكات وقعت عليهن.

ويطرح الحميري قضية أستاذة علم الاجتماع في جامعة تعز وعضوة هيئة التشاور والتصالح وصياغة الدستور في المجلس الرئاسي د. ألفت الدبعي كمثال على ذلك.

ويقول إنه في 18 نيسان/ أبريل 2022 نشرت صحيفة "أخبار اليوم"، وهي صحيفة يومية مستقلة، مقالاً للصحافي محمد العمراني، حمل عنوان "عن ألفت الدبعي الناشئة المتسولة باسم المرأة والمتلوّنة بحسب المصالح" احتوى العديد من مفردات القذف والسب والتحريض والإساءة ضدها.

هذا الأمر دفع الدبعي إلى تقديم شكوى للنائب العام في الجمهورية بتاريخ 5 حزيران/ يونيو 2022 ضد الصحيفة ورئيس تحريرها سيف الحاضري، والكاتب محمد مصطفى العمراني.

ويعد تقديم الشكوى وفقاً للحميري خيار ردع فعّال في قضايا السب والإساءة العلنية ويمنع تكرار حالاتها. ويعزو عزوف بعض الناشطات عن التقديم بشكاوى ضد مَن يسيء إليهن إلى ما يسميه "ضعف الوعي القانوني وعدم الثقة بمؤسسات العدالة واستثقال الإجراءات والتكلفة المادية لمتابعة القضايا".

تحكي د. ألفت الدبعي، لرصيف22 عن الأسباب التي تقف خلف العنف ضد الناشطة والإعلامية اليمنية، وأولها برأيها يعود إلى طبيعة الدور التقليدي الذي اعتاد عليه المجتمع اليمني في ما يتعلق بالنساء، وهو حصر دورها في المجال الخاص، أي "المنزل وما شابه".

وتُضاف إلى ذلك "ثقافة تقليدية راسخة تزدري العاملات في المجال العام، وبنحو خاص المجال الإعلامي أو المجتمع المدني".

وتبرير ذلك، وفقاً للدبعي، هو خرقهن لحاجز الفصل الاجتماعي المقام بين النساء والرجال، "وكأن تشجيعهن سوف يؤدي إلى انفلات النساء بعيداً عن الذهنية التقليدية التي اعتاد عليها المجتمع".

وتشير إلى زاوية أخرى تصفها بالأخطر والأكثر انتشاراً، وتتمثل بالخطاب الديني المتشدد المحرض ضد نشاط المرأة المدني بل وضد ظهورها في المجال الإعلامي، واتهام المرأة العاملة فيهما بالتحلل من القيم والأخلاق، وتؤكد أن "هذا النوع من الخطاب الزائف له دوره في التأثير في المجتمع اليمني المتدين بالفطرة".

وتقترح الدبعي لوقف مثل هكذا خطاب تحريضي قيام الدولة بوضع سياسة إعلامية بديلة عنه، أو على الأقل التقليل من تأثيره.

أسوأ من الحرب ذاتها
مع سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، بدأت حكاية طالبة الإعلام في جامعة صنعاء في حينها، رشا كافي (25 عاماً)، إذ هددها الحوثيون لتصدّرها الاحتجاجات داخل الجامعة وخارجها ضد المليشيا المسلحة.

تقول لرصيف22: "كنت بنظرهم فتاة مدعومة من الخارج لبث الفوضى، ويتم استخدامي لجذب الشباب للاحتجاجات، ونعتوني بتوصيفات أخرى قذرة روجتها وسائلهم الإعلامية وقتها".

قبل نهاية عام 2014، وخلال وقفة احتجاجية للمطالبة بإطلاق سراح زملاء لها كانوا مختطفين وهم يحيى القباطي، صامد السامعي، حسين الحذيفي، وأنس المذحجي، حاصر مسلحون يتبعون ميليشيا الحوثي ويرتدون ثياباً عسكرية رشا وانهالوا عليها بالشتائم.

وأخذوا بالقوة مجموعة من الصحف كانت بحوزتها ومزقوها أمامها، وصرخ أحدهم في وجهها: "يا عميلة هذه هي الصحف التي تستخدمينها للإيقاع بالشباب".

تخلت رشا عن حلمها في إكمال دراسة الإعلام، وقررت ترك العاصمة والالتحاق بالسلك العسكري في اللواء 35 مدرع التابع للحكومة الشرعية، بقيادة العميد عدنان الحمادي، في مدينة تعز.

ترأست كتيبة من النساء بعد تدريب استمر لثمانية أشهر، لكن وحتى هناك واجهت الكثير من العراقيل، وفقاً لروايتها، أكثرها إيلاماً بالنسبة إليها شائعات سمعتها، بعضها شككت بشرف وعذرية نساء الكتيبة.

كان ذلك أسوأ ما كان عليها مواجهته، "أسوأ من الحرب ذاتها"، وفقاً لتوصيفها. وازداد الأمر سوءاً مع تداول بعض المواقع الإخبارية التابعة لجماعة الحوثي صوراً لها مع المجندات وإشارةً إلى أن مقاتلي تعز يستخدمون النساء في "جهاد النِكاح" وهذا ما دفعها إلى ترك السلك العسكري والعودة إلى مقاعد الدراسة والالتحاق بقسم العلوم السياسية في جامعة تعز.

غير أن تهديدات تلقتها من تنظيم القاعدة عبر رسائل ومكالمات هاتفية، منعتا رشا من إكمال دراستها وهو ما أثر بنحو كبير على نفسيتها واضطرها في كانون الثاني/ يناير 2018 إلى ترك اليمن والسفر إلى مصر، لدراسة علم الاجتماع في القاهرة.

وعن حالة رشا وكثيرات غيرها في اليمن، تقول الطبيبة النفسية منى الشرحبي لرصيف22: "تعرض المرأة لاتهامات تمس شرفها قد يصيبها بالخجل والانطواء. والتعرض لتجارب كالعنف الجسدي أو اللفظي يسبب ردة فعل قد تستمر لأشهر أو سنوات، تسمى كرب ما بعد الصدمة، وتبدأ أعراضه بعد أسابيع أو شهور من الحادث وعادة ما تظهر في غصون ستة أشهر".

رشا كانت محظوظة لأنها وجدت طريقة تبعدها عما يسيء إليها إلى مكان تواصل فيه طموحها، في حين أن كثيرات غيرها، لم يجدن ملاذاً سوى جدران منازلهن يقضون بينها ما تبقى من أعمارهن.
اجمالي القراءات 660