الأقصر.. عاصمة أعظم حضارات العالم القديم

في الجمعة ٢٠ - مايو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً



حين يكون النيل راعي الرواية وحارسها الأزلي، يكون للأسطورة حضورها المهيب، فهي ليست مجرد حكايات عابرة، لأن الحديث هنا عن تلك المدينة التي كانت حاضرة العصر الفرعوني وعاصمته، عندها تكون الرواية مصدرا للشغف والإلهام.

ها هي مدينة الأقصر أو مدينة المئة باب أو طيبة أو مدينة الشمس، المدينة التي تعددت أسماؤها ومرت عليها آلاف السنوات، وتعددت على حكمها حضارات مختلفة، إلا أنها لم تزل على مر العصور تلك المدينة المذهلة.
ينقلنا هذا الفيلم إلى عاصمة أقدم الحضارات في التاريخ الإنساني، حضارة الفراعنة التي ضمت بين جنباتها ثلث الآثار العالمية، ويزيد من روعة جمالها أن يشطرها نهر النيل إلى قسمين شرقي وغربي.

ابنة المياه الأزلية.. مدينة القوة والطيبة

تعددت أسماء المدينة وكان اسمها واسط وتعني الصولجان أي القوة، وهناك نص قديم يعود لعصر الرعامسة (مشتق من اسم رعمسيس أو رمسيس) يقول "هي خرجت من المياه الأزلية وتكونت فيها اليابسة، وحين تبنى مدينة في أي مكان فلا يطلق عليها اسم مدينة إلا لو كانت على صورة واسط"، وقد اعتبرها المصري القديم المدينة النموذج لما يبنى بعدها.

أما الشاعر اليوناني "هوميروس" فذكر في ملحمة الإلياذة اسمها طيبة، وهي مدينة يونانية ذات سبعة أبواب وعندما تحدث عن طيبة المصرية (الأقصر) ذكر أن لها مئة باب، ومن كل باب يخرج مئات الفرسان ويقول "هوميروس": "ليتنا كان لنا جزءا ولو يسيرا من كنوزها المخفية"، لقد كانت الأقصر عاصمة لإمبراطورية امتدت حتى الأناضول.

وكان أقدم اسم وصل إلينا هو واسط، إذ يقول المرشد السياحي فرانسيس أمين إن هناك تصويرا لمنقرع مع "إله طيبة" وفوق رأسه الصولجان، كما كانت تسمى مدينة "أمون" وتترجم بالكتاب المقدس "نوت أمون"، وأطلق عليها طيبة "تايبة"، وتعني المقصورة أي مدينة المقاصر والمعابد.

وعندما سمع الإغريق الاسم قرّبوه من لفظ طيبة، ولأن لا أحد كانت لديه معرفة بالقراءة الهيروغليفية أطلق على المعابد القصور، وفيها معبدي الأقصر والكرنك وسميت بالعربية الأقصرين ثم تحولت إلى كلمة الأقصر.

أساطير الأولين.. حبل يربط الفراعنة بالعصر الحديث

أهل الأقصر هم الوجه الحقيقي لتلك المدينة العتيقة، ولكن قبل التوجه إليها لا بد من خوض تجربة الركوب في المراكب الشراعية، ويرافق موسى تمساح -وهو أحد "المراكبية"- زوار المدينة في جولة على مياه النيل، حيث السكون والهدوء ممزوجين بروعة التاريخ والجغرافيا.

تشكل الأقصر بالنسبة لموسى الوطن والبيئة والأصالة والحياة، ويقول إن الفراعنة نقلوا الحجارة من أسوان إلى الأقصر لبناء المعابد والمقابر عن طريق المراكب، وكان النيل حياتهم.

مدينة الأقصر حاضرة النيل الفرعوني

على الطرف الآخر، يقابلنا الروائي أدهم العبودي وهو من أبناء المدينة، ويقوم حاليا بتأليف رواية جديدة مستلهما أحداثها من تراث المدينة غير المعروف، أما شخوصها فتنتمي للأقصر وهم عبارة عن أساطير تصنع الأحداث.

لقد مزجت الأسطورة عند المصريين القدماء بين الفرح والحزن، واستمر ذلك حتى يومنا هذا، ومن طقوسهم بعد الدفن أنهم كانوا يقيمون عيدا ويزوروا المتوفى، وهذا إيمانا منهم بالحياة الأخرى، واليوم يترجم المصريون ذلك التقليد بإقامة الموالد.

ويرى فرانسيس أمين أن اللغة مكررة، فعند الموت كانوا يقولون في الندب والرثاء يا أسدي يا سبعي والآن يا جملي يا سبعي، كما أن اللغة العامية المحكية فيها ما يزيد عن خمسة آلاف كلمة مصرية قديمة، وآلاف التعبيرات القديمة مثل بطبط وحتتك بتتك وهي مصرية قديمة كذلك أدوات الزراعة مثل الفأس والنورش.

إرث المعابد.. حِرف النحت والموسيقى

يعد الحفر على حجر ألباستر "المرمر" حرفة موروثة من زمن الفراعنة وقد وجد العديد من النقوش المحفورة على هذا الحجر، يقول جابر عزب وهو صانع ألباستر إنه ورث هذه الحرفة عن أسلافه، ويتوجب على الصانع أن يمتلك ناصية الموهبة الفنية.

يقوم الصناع بجلب هذه الأحجار من البر الغربي بعد وادي الملوك، وينقل بواسطة البغال والحمير لوعورة المكان، ومن ثم يجري تصنيعه يدويا، أما الألوان الطبيعية فيقومون بإحضارها من جبل قريب لمعبد "حتشبسوت"، وتطحن وتمزج مثل الماضي تماما، ويستخدم الألباستر داخل المقابر كعاكس للشمس فينير المكان، ثم يبدأ النحت عليه.

حجر ألباستر "المرمر" حرفة موروثة من زمن الفراعنة

أما بالنسبة للموسيقى فقد استخدم الفراعنة آلة الهرب والدفوف، وهذا ما دلت عليه الصور الجدارية في المعابد، ويقول المغني الشعبي ضياء حفني إنهم لا يزالون متمسكين بتلك الآلات الشعبية وبتراثهم الغنائي في المحافظة مع إضافة بعض التعديلات في الجمل والألحان، ويستخدمون آلات مثل العود والربابة والدفوف، وهي تصنع يدويا في الصعيد.

وقيل إن وصف الأقصر قديما كتب في مقصورة تمتد ثلاث شنين أي أربعين كيلومترا، وتحدث المؤرخ اليوناني القديم ثيودر الصقلي عن سكانها، وقال إنهم ست مئة ألف ساكن، وكان عدد الكهنة في المدينة كبيرا جدا، وقد قدره بعض المؤرخين بأكثر من 80 ألف كاهن وكاهنة، وقد حوت الأقصر العدد الأكبر من المعابد في العالم.

يقول المرشد السياحي فرانسيس أمين إن الأثر يبنى على الأثر، ولا يمكن بناء معبد فجأة، بل لا بد أن يبنى على أساس معبد آخر، وهناك ما لا يقل عن ستين معبدا في البر الغربي لكن لم يبق منها إلا القليل.

يعتبر معبد "هابو" المعبد الوحيد الذي بقي كاملا، وقيل لو أتى الكهنة اليوم لمارسوا طقوسهم فيه وهذا لاكتماله، وفي العصور القبطية بنيت كنيسة بداخله، واتخذ الرهبان مقابر طيبة ملجأ لهم من الاضطهاد في زمن الرومان. ومن أهم المعابد أيضا معبد "رامسيوم" لرمسيس الثاني، وقد استخدم حتى العصور الرومانية وكان مخزنا ومكانا لإدارة مدينة طيبة.

معبد الملكة حَتشِبسُوت.. هندسة عابرة للأجيال

أما معبد "حَتشِبْسُوت" المتفرد في تصميمه، فقد بُني في حضن الجبل وهو مكان القلب للإله "رع" الذي أطلق عليه قدس الأقداس، وقد ارتبط المعبد بالذراعين، ويقرأ اسم "حتشبسوت" بالمصرية القديمة "مسطرة مع العدالة والذراعين والإله "رع".

والمعبد مرسوم على اسم الملكة، فاعتراضه كمسطرة هو العدالة، والأعمدة الجانبية هي الذراعين، وكل يوم تشرق الشمس يكتمل اسم الملكة "حتشبسوت"، وأول أشعة للشمس على المعبد تكون على "رع" وهي آلهة الشمس، ثم تنتشر على باقي المعبد الذي غطي بأحجار الجير اللامعة فينعكس الضوء على الوادي.

الأقصر هي مدينة المعابد والأعمدة

لم يذكر المصريون القدامى الموت وتحاشوا ذكر الكلمة، فكانوا يقولوا تذهب إلى الضفة الغربية أي مكان المقابر لأن الضفة الغربية خصصت للمقابر، أما الضفة الشرقية فهي للمعابد ووادي الملكات هو أكبر مقبرة لملوك الفراعنة، وسمي بوادي الجميل، ورغم أن الدلتا هي العاصمة الإدارية، فقد كانوا يدفنون موتاهم في العاصمة الدينية وهي الأقصر، والجدير بالذكر أن كل المعابد الجنائزية في البر الغربي كان يقام فيها طقوس دينية، وكان أهم ركن في المعبد هو قدس الأقداس الذي لا يدخله إلا الكهنة والملوك.

أما حراس المعابد في الوقت الحاضر، فقد اعتبروا حراس تاريخ وحضارة ويقع اختيارهم من قبل لجنة خاصة تحدد صفاتهم. يقول شحات علي -وهو أحد الحراس- "ننتقل من منطقة لأخرى وهي عادة عند الحراس للتعرف على المكان، فنحن ندرك تماما أهمية المكان وثقله التاريخي، وعلينا الحفاظ على الآثار فيه"، ويعتبر شحات الأقصر حاضنة حضارة وثقافة، ولا يحب مغادرتها من شدة تعلقه بها.

عبادة الآلهة الفرعونية.. آمنت صورتي وكفر قلبي

بُني معبد الأقصر الذي تميز بأعمدته الضخمة وبنائه المعقد في عهد الأسرة الثامنة عشر والتاسعة عشر للملك "أمنحتب الثالث" والملك "رمسيس الثاني"، وهو من أكبر البنائين، وقد أضيفت للمعبد أبنية تعود للعصور المتأخرة من الأسرة الواحدة والعشرين، وحتى الأسرة الثلاثين.

وينسب طريق الكِباش الواصل بين معبد الأقصر ومعبد الكرنك إلى "نختَـنِـبّو الثاني" آخر فرعون في تاريخ مصر، وهو طريق أبو الهول، ويرمز الكبش إلى الإله آمون ويمتد الطريق ثلاثة كيلومترات تزينه تماثيل الكباش من الجانبين.

معبد رمسيس أو معبد الأقصر هو أهم معالم المدينة الأثري

بعد الإسكندر المقدوني أصبحت مصر ولاية بطلمية يونانية وقد استمروا في البناء، لذا وجد على جدران معبد الأقصر الكثير من الغرافيتي أو المخربشات التي تنتمي للعصر اليوناني.

وفي العهد الروماني بنى الرومان الآلهة الفرعونية رغم أنهم لم يعتقدوا بها، وقد قال الإمبرطور الروماني أغسطس إنه لا يعبد الحيوانات، ورغم ذلك فقد ظهر كملك فرعوني يتعبد للآلهة المصرية، والكتابة التي تحيط بنقوشه وتماثيله هي مكتوبة بالخط الهيروغليفي المصري.

سوق التحف.. فراعنة السياحة

يعد سوق الأقصر هو المكان المخصص لبيع التذكارات والتحف المصرية وهو مقصد للسياح القادمين إليه لاقتناء القطع الفنية ذات الرمزية التاريخية والأثرية.

عز الدين رشدي هو صانع حلي يقول إنه كان يصنعها من العاج، أما حاليا فهي تصنع من عظام الإبل، ويقوم بتصنيعها يدويا ويكتب الأسماء للزبناء باللغة الفرعونية، ولكن مع وجود الآلات الحديثة قل عملهم اليدوي الذي كان يحتاج للوقت، فالناس تفضل الأشياء السريعة.

الحرف اليدوية والتذكارات محلية الصنع هي مقصد السواح وذكرياتهم المحمولة

أما أم شمس وهي أيضا صانعة حلي، فإنها تعمل في بيتها ثم تبيع أعمالها للتجار، وتحضر الطلبات حسب حاجة السوق، كما أنها تساعد الفتيات في تعلم هذه الصناعة.

ويصف حجاج الخلاوي بائع التذكارات حال السوق بالماضي حيث كان عبارة عن شوادر (مظلات مثل الخيام) غير مرتبة، أما اليوم فأصبح السوق منظما وتحولت الشوادر إلى محلات سياحية ومقاهي.

زوايا ومعابد.. احتفالات صوفية فرعونية

في الأقصر تختلط المشاهد الاحتفالية الفرعونية بالاحتفالات الصوفية والموالد، ويعد مولد سيدي أبو الحجاج أحدها، وقديما كانوا يبدأون بالتحضيرات قبل شهر، ويحتفل به المسيحيون والمسلمون على حد سواء.

وكانوا يفتحون الصواوين (السرادق) ويقيمون الليالي ويحضّرون الموائد، وتأتي فرق الزمارة والدوارة. يقول المرشد السياحي فرانسيس أمين إن يوسف أبو الحجاج هو الرمز لمصر الإسلامية، وأقام في معبد الأقصر واستخدم أحد أعمدة المعبد كمحراب فارتبطت المدينة به، واستمرت الموالد التي تقام له حتى يومنا هذا، وينتظره الناس كل عام.

طقوس تاريخية يقوم بها أهل الأقصر كل سنة

تتولى عائلة الحجاجية مولد سيدي أبو الحجاج، وقد اكتسبت هذه العائلة قيمة اعتبارية من سكان المدينة، ويعتبر أحمد شمس الدين الحجاج واحدا من أكابر هذه العائلة، وهو روائي ألّف رواية الشيخ نور الدين التي تحولت فيما بعد لدراما تلفزيونية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية، واعتبرت روايته من أفضل مئة رواية عربية، وقد أفنى عمره يتتبع أثر "الحدوتة" الشعبية، ومزجها بالأسطورة للإنسان الأقصري.

أبو الحجاج.. قاضي قضاة بغداد يحط في الأقصر

يقول أحمد شمس الدين إن "أبو الحجاج" قدم من بغداد وكان قاضي القضاة فيها في آخر العصر العباسي، لكنه ترك المدينة عند دخول التتار الذين عاثوا فسادا في البلاد، وبعدها أصبح يعيش في تأملاته، فقد ذهب إلى مكة ثم المدينة، وبعدها انتقل إلى مصر، وهناك التقى بمجموعة من المتصوفة الكبار، ولم تكن الأقصر وقتها إسلامية بل كان الناس فيها يحتكمون إلى التقاليد والأساطير.

قام "أبو الحجاج" بنشر الإسلام في الأقصر، وكان كريما مع الناس، وفتح بيته لهم وأنشأ مسجدا في معبد الأقصر، وأصبحت الناس تذهب للصلاة فيه بل حتى من أجل تأبين الموتى وعقود الزواج التي تعقد فيه للتبرك، وهو من علمهم التسامح الديني، لذا دفنت تريزا بالقرب منه، والناس في المدينة يعيشون تسامحا دينيا قل نظيره.

موكب "أبو الحجاج" تقليد سنوي يلف المدينة عن آخرها

يلف موكب "أبو الحجاج" المدينة من اليمين إلى اليسار تماما مثلما كان يقام موكب الإله الأكبر أمون عندما يزور معبد زوجته بالكرنك باحتفال كبير إلى أن يصل إلى معبد الأقصر. ويرى أحمد شمس الدين أن الأسطورة ليست خرافة بل عقيدة، ويدلل على ذلك بما ذكر في القرآن من "أساطير الأولين"، وتعني روايات الأولين، لذا ارتبطت الناس بالأسطورة التي هي جزء من حياتهم.

إذا كانت مصر هبة النيل فإن الأقصر هبة الحجر الذي خلدها وحافظ على بقائها آلاف السنين، وحفظ أساطيرها وحكاياتها على جدران معابد بنيت به، فأضحت شاهدا على أعظم حضارات التاريخ.
اجمالي القراءات 732