من مصر إلى الجزائر.. لماذا يظن العرب أن كل مشاكل الاقتصاد تحل بالسياسة النقدية؟

في السبت ٠٣ - مارس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

من المعلوم اقتصاديًا أن «السياسة النقدية» تحتل الصدارة في هيكل السياسات الاقتصادية، وخاصة خلال العقود الأخيرة، ولا شك أنها لعبت دورًا بارزًا في تحقيق النهضة الاقتصادية لكثير من الدول المتقدمة؛ إذ تمثل محور السياسة الاقتصادية الكليّة، لكن تبقى المبالغة في تطبيق السياسة النقدية من أكبر المخاطر التي تهدد اقتصادات الدول بشكل خاص، والاقتصاد العالمي بشكل عام، فالمبالغة دائمًا ما يكون لها تأثير عكسي على وضع واتجاه النشاط الاقتصادي.

ويقصد بـ«السياسة النقدية» مجموعة الإجراءات التي تتخذها السلطات النقدية متمثلة في البنك المركزي من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وذلك من خلال عدة أدوات أهمها: سعر الفائدة، وسعر الصرف، والإصدار النقدي، وسعر الخصم، والسوق المفتوحة، والاحتياطي النقدي، والرقابة المباشرة على الائتمان، وغيرها. وبالرغم من محورية السياسة النقدية، إلا أنها تبقى إحدى الأدوات الرئيسة لمثلث السياسات الاقتصادية الكلية، فهي ضلع في مثلث السياسات الاقتصادية (النقدية – المالية – التجارية)، ولا يمكن القول إنها فقط قادرة على حل كل مشاكل الاقتصاد.
في الأسطر القادمة سنتطرّق إلى بعض الدول العربيّة التي اعتمدت سياسات نقديّة من أجل الخروج من أزماتها الاقتصاديّة.

3 نماذج عربية اعتمدت على السياسة النقدية لحل
مشاكلها الاقتصادية

بات من الشائع عربيًا تغيير محافظ البنك المركزي مع بداية انطلاق الدولة في طريق الإصلاح الاقتصادي، في إشارة إلى اعتماد السياسة النقدية محورًا رئيسًا في دعم استقرار الاقتصاد. وأشهر الدول التي اتبعت هذا النمط كانت الجزائر ومصر، وأخيرًا تونس. وبالرغم من اختلاف المشاكل الاقتصادية التي تمر بها هذه البلدان، إلا أن الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول متقاربة كثيرًا، سواء من جانب الخلل الكبير الموجود في الميزان التجاري، أو العجز المتفاقم في الموازنة، وصولًا إلى معدل التضخم المرتفع.

1- الجزائر.. تمويل «غير تقليديّ» لتجاوز الأزمة

في 31 مايو (أيار) 2016 قرر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إقالة محافظ البنك المركزي محمد لكصاسي على خلفية الأوضاع الاقتصادية التي عانتها البلاد بسبب هبوط أسعار النفط العالمية، بالرغم من أن لكصاسي كان يشغل هذا المنصب لأكثر من 10 سنوات، فقد جاء قرار إقالته لأسباب ربما لا تندرج ضمن مسؤولياته؛ إذ كان القرار نابعًا عن توجه الدولة نحو تنشيط السياسة النقدية لعلاج ما أفسدته أسعار النفط.

 

لكن وبعد مرور نحو عامين على عزل لكصاسي، مازالت المشاكل الاقتصادية ذاتها مستمرة، بل إن الوضع الاقتصادي قد تدهور أكثر، فلم ينجح هذا الاتجاه في تحقيق الاستقرار المنتظر، ومنذ بداية الألفية الثالثة ظهرت المحاولات الجزائرية الحثيثة جليّة من أجل تعميق الدور الذي تقوم به السياسة النقدية في البلاد، إلا أن دراسة جزائرية صدرت في 2014، من جامعة محمد خيضر – بسكرة – بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، خلصت إلى أن السياسة النقدية فشلت في السيطرة على معدلات التضخم في الجزائر في الفترة ما بين 2003 إلى 2008، بل جاءت النتائج عكسية، وكانت المحصلة هي ارتفاع التضخم بصورة أكبر.

اقرأ أيضًا:

 

وحاليًا تشير الأوضاع الاقتصادية في الجزائر إلى أن السياسة النقدية لم تعالج أيًّا من المشاكل المزمنة، سواء من العجز التجاري أو التضخم، بل فشل المركزي في الحفاظ على مستوى الاحتياطي النقدي، فبعد أن وصل في 2013 إلى نحو 194 مليار دولار، تتوقع الحكومة أن يصل إلى 85.2 مليار دولار بحلول نهاية 2018، بينما تراجع بنحو 16.8 مليار دولار خلال 2017 فقط، وهو ما يوضح أن السياسة النقدية لم تنجح في إيجاد حالة استقرار حقيقة.

على الجانب الآخر لجأ «المركزي» إلى سياسة طبع النقود كأحد الحلول للأزمة الاقتصادية في البلاد، إلا أنها لم تنجح كذلك حتى الآن في جلب الاستقرار، فقد أصبح التمويل غير التقليدي هو الممول الأساسي لموازنة الجزائر 2018، وذلك للمرة الأولى التي تلجأ فيه الجزائر لهذا النوع من التمويل – طبع النقود – وبدأ الأمر في السابع من سبتمبر (أيلول) الماضي؛ عندما صادقت الحكومة على مسودة تعديلات قانون يهدف لتأمين مصادر تمويل جديدة لتغطية عجز الموزانة.

اقرأ أيضًا: «طباعة النقود».. هل تكون الدوامة الأخيرة التي تُسقط اقتصاد الجزائر؟

ويؤكد المحللون أنه إذا لم يتم إرفاق طباعة النقود باستدراك اقتصادي حقيقي، فلن تستطيع الجزائر الخروج من دوامة الأزمات الاقتصادية بعد هذا الإجراء بسهولة، فلا تزال نحو 95% من الإيرادات تأتي بشكل مباشر أو غير مباشر من قطاع الطاقة، وحوالي 83% من النسيج الإنتاجي يتكون من صغار التجار أو الخدمات، بالمقابل فإن القطاع الإنتاجي يبقي هامشيًا، ويمثل أقل من 5% من الناتج الداخلي، خاصة أن 95% من النسيج الصناعي عبارة عن شركات صغيرة غير مبتكرة، وهو ما يضع اقتصاد البلاد أمام مشاكل هيكلية لن تعالجها السياسة النقدية وحدها، بل قد يجعل الاعتماد عليها بكارثة اقتصادية.

2- مصر.. نتائج عكسية بسبب السياسة النقدية

في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، قال بيان صادر عن الرئاسة المصرية: «إن محافظ البنك المركزي هشام رامز سيترك منصبه بعد انتهاء مدته في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام»، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ تم تعين طارق عامر، وهو الذي راهن عليه النظام المصري في إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية، من خلال السياسة النقدية والتي يعتبر الهدف الرئيس والمعلن منها في مصر. وحسب قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003، هو العمل على استقرار الأسعار.

 

وبالرغم من تركيز عامر على عمل تغييرات جذرية في البلاد من خلال السياسة النقدية، لكن هذه الاجراءات لم تنجح في تحقيق استقرار أوضاع سوق الصرف في مصر، بالرغم من المحاولات المتكررة، بل تدهورت الأوضاع في أحيان كثيرة، إلى أن جاء قرار تحرير سعر الصرف. وإثر ذلك القرار الذي استقر على أثره سوق الصرف بعد أن فقد الجنيه أكثر من 90% من قيمته، كانت البلاد على موعد مع إخفاق جديد، وهو معدل التضخم، والذي تخطى حاجز الـ30% في فبراير (شباط) 2017، وسجل نحو 33% في يوليو (تموز) 2017، وهو المعدل الأعلى في تاريخ البلاد.

اقرأ أيضًا:

 

والخلاصة هي أن السياسة النقدية في مصر لم تنجح في تحقيق إصلاح للأوضاع الاقتصادية؛ كانت تلك هي النتيجة التي خلصت إليها دراسة لشرين الشواربي، أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، بعنوان السياسة النقدية: الاستقرار الاقتصادي وأشياء مهمة أخرى (2014 – 2017)، بل إن الاعتماد عليها بشكل أساسي كان لها أثر سلبي كبير، فبعد وصول أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية متجاوزة نسبة الـ20%، تراجعت الاستثمارات المحلية، وكذلك تأثرت معظم القطاعات الاقتصادية.

3- تونس.. إقالة محافظ «المركزي» لم يحلّ الأزمة

وفي تونس، لا يختلف الوضع كثيرًا في البلاد عن الجزائر ومصر، فقد استقال محافظ البنك المركزي التونسي من منصبه مؤخرًا، ويمكن القول أن هذه الاستقالة جاءت أيضًا بعد فشل في الوصل من خلال السياسة النقدية إلى استقرار اقتصادي؛ إذ يترك المنصب في ظل وضع متدهور للنقد الأجنبي، حيث هبطت احتياطيات تونس من العملة الأجنبية إلى مستويات تغطي الواردات لنحو 82 يومًا فقط، وهو أدنى مستوى لها في 15 عامًا؛ إذ تسارعت وتيرة الهبوط منذ 2017، بفعل ارتفاع عجز ميزان التجارة من جهة، وهبوط أسعار صرف الدينار التونسي مقابل الدولار واليورو.

اقرأ أيضًا:

 

كما تعاني تونس حاليًا من تصاعد معدل التضخم، إذ ارتفع من 4.6% خلال شهر يناير (كانون الثاني) 2017 إلى 6.9% في يناير 2018، وهو أعلى مستوى للتضخم في البلاد منذ 2011، بينما سجل العجز في الميزان التجاري خلال السنة الماضية أرقامًا قياسية، وبلغ بنهاية العام الماضي نحو 15.592 مليار دينار تونسي (6.236 مليار دولار) مرتفعًا بنسبة 23% مقارنة مع العام السابق له، حسب المعهد التونسي للإحصاء.

وتشهد تونس منذ أشهر وضعًا غير مستقر فيما يخص العملة وأسعار الفائدة، ففي 18 أبريل (نيسان) الماضي، قالت وزيرة المالية التونسية السابقة لمياء الزريبي حينها: إن البنك المركزي سيقلص تدخلاته لخفض الدينار تدريجيًّا، ولكنه لن يسمح بانزلاق كبير للعملة المحلية مثلما حدث في مصر عندما جرى تعويم الجنيه. تصريحات الوزيرة تسببت في الكثير من التقلبات بالسوق التونسي؛ ودفعت الدينار للتراجع بشكلٍ حاد، وهو الأمر الذي دفع المركزي التونسي في 26 من نفس الشهر إلى رفع سعر الفائدة.

اقرأ أيضًا: هل تسرع «المركزي التونسي» في رفع أسعار الفائدة للمرة الثانية خلال شهر؟

وقبل نهاية أبريل قرر رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد، إعفاء وزيرة المالية من مهامها، وتكليف وزير التعاون الدولي والاستثمار بالإشراف على الوزارة، وهي المحاولة التي لم تنجح أيضًا في وقف هبوط الدينار الذي لم يسبق له مثيل، وذلك رغم نفي البنك المركزي لأي خطط لخفض قيمة الدينار.

«المركزي» لجأ مرة أخرى لرفع سعر الفائدة الرئيسي بعد أكثر من شهر من هذه الحادثة، وتحديدًا في 24 مايو الماضي، وذلك في محاولة لوقف هبوط الدينار وتخفيف التضخم، لكن حتى الآن لم تستجب الأسواق لقرار المركزي، وهو ما يثبت فشل السياسية النقدية في وقف نزيف الاقتصاد التونسي.

لماذا تلجأ الدول العربية للسياسة النقدية أكثر من غيرها؟

يبقى هذا السؤال هو الأهم الآن؛ إذ يعتقد مدحت نافع، الأكاديمي المصري، وعضو اتحاد البورصات العالمية، أن شيوع نمط الاعتماد على السياسة النقدية بنسبة أكبر مرتبط بسرعة تأثير السياسة النقدية في الأوضاع الاقتصادية باعتبارها قصيرة الأجل بطبيعتها، وتحقّق نجاحات سريعة «quick wins» من شأنها أن ترسل إشارات إيجابية تؤثر في الاقتصاد العيني، وتعمل على حفز النشاط الإنتاجي والتصديري.

 

وتابع نافع خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أن السياسة المالية بطبيعتها شديدة التأثر بالعوامل السياسية، نظرًا لاتصالها بالسياسة الضريبية، والدعم، وكلاهما له تأثير كبير على التأييد الشعبي لمؤسسة الحكم في كل البلاد، حتى التي قطعت شوطًا كبيرًا في الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة التي من المعروف اتجاه سياستها المالية في كثير من الأحيان عكس السياسة النقدية لمحاولة موازنتها ومراعاة الجانب السياسي للصرف، بينما يؤكد أن السياسة الاقتصادية (نقدية ومالية وتجارية) يجب أن يتم التعامل معها جميعًا بدرجات متناسبة، وأي تعامل خلاف ذلك ينتج عنه سياسة اقتصادية عرجاء.

ويتفق علي عبد الرؤوف الإدريسي، رئيس اللجنة الاقتصادية بحزب «مستقبل وطن»، وأستاذ الاقتصاد بجامعة 6 أكتوبر المصرية مع نافع؛ إذ يؤكد أن الإصلاح الاقتصادي يجب أن يعتمد على كافة السياسات الاقتصادية، إلا أن الاتجاه نحو السياسة النقدية يعود غالبًا إلى التأثير السريع على أسواق الصرف، سواء الرسمية أو السوداء، وذلك من خلال رفع أو خفض أسعار الفائدة.

اقرأ أيضًا:

 

وبجانب سرعة التأثير يمكن القول أن هذا الاتجاه في الدول الثلاث المذكورة أعلاه يعود إلى استناد هذه الدول إلى برامج إصلاحية من البنك والصندوق الدوليين، وهما المؤسستان الماليتان المعروف عنهما الاعتماد بدرجة أكبر على السياسة النقدية عند تصميمهما لبرامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والنقـدي؛ أو ما يسمى ببرامج التثبيت والتكيف الهيكلي، وهو نمط تم اعتماده في معظم الدول النامية؛ إذ جعلت هذه المؤسسات السياسة النقدية محور السياسة الاقتصادية الكلية، وبالأخص في معالجة مشكلتي عدم الاستقرار الاقتصادي والتضخم.

في المقابل، يمكن القول: إن الإهمال العربي في النماذج السابقة التي ذكرنها (مصر – الجزائر – تونس) للسياسات الاقتصادية الأخرى من مالية وتجارية يمكن تفسيره من ناحيتين: الأولى هي طول الفترة التي تحتاجها هذه السياسات لظهور نتائج حقيقية، وهو جانب لا يناسب حكومات هذه الدول التي تريد التفاخر بإنجاز سريع. والثانية هي إهمال المؤسسات المالية العالمية التي تعتمد عليها هذه الدول في إصلاح تلك السياسات

اجمالي القراءات 2026