موضوع للمناقشة : خلق الله للإسلام وإخترع الإنسان للسلفية

في الأحد ٠٨ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

ليس صحيحا أن “الكتاب” لديه إجابة على كافة الأسئلة كما يدعي الأصوليون، فتلك بعض الأسئلة التي لا أحسبه يجيب عنها: بأي لغة كان جبريل عليه السلام يخاطب الأنبياء ـ على تعدد لغاتهم هم أنفسهم ـ ما هي درجة قرابة الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام من زوجة العزيز، كيف قضى يونس عليه السلام أيامه في بطن الحوت، ومتى قيام الساعة. ولا داعي للمحاجاة بأن الآية التي جاء بها أن “ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها” غير مقصود بها القرآن وإنما كتاب الأعمال الذي يعرض على البشر {ووُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ويَقُولُونَ يَا ويْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا ووَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.

خلق الله الإسلام واخترع البشر الإيديولوجيا. البشر يخترعون الإيديولوجيا دائما أثناء محاولتهم ملأ فراغات النص الديني، الإجابة ـ بدلا عنه ـ على الأسئلة التي لم يجب عنها النص، والتي صمت عنها طواعية رغبة في الإفلات ـ هو نفسه ـ من الإيديولوجيا، ورغبة أيضا في أن تكون مسكوتاته ملاذا لمرور تيار الزمن، لنفاذ الهواء، لإنعاش النص الديني، ولإنعاش العالم الذي يؤسسه الدين. في قصة الخلق بالقرآن قال الله لملائكته “إني جاعل في الأرض خليفة” فقالوا “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”، لم يذكر النص كيف عرفت الملائكة أن الخليفة المزمع خلقه سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء. فتحت فراغات النص طاقة للتفسير أمكنها في بعض التفسيرات استيعاب نظرية النشوء والتطور لدارون بما يعني أن الإنسان ـ الذي كان قد أفسد في الأرض وسفك الدماء بالفعل ـ  كان خلقه سابقا على الواقعة المذكورة وأن القول بجعل خليفة تعني اختيار أحد بني الإنسان خليفة لله في الأرض ومن ثم يكون تعلم آدم الأسماء كلها طفرة نوعية في التاريخ البيولوجي والثقافي والاجتماعي للإنسان ككائن. هذه واحدة من الثغرات التي يمكن أن تسمح بالتفسير وتجدده طوال الوقت. الإيديولوجيا ترتكب حماقتها فقط حين يحاول حراسها تثبيت تفسير بعينه باعتباره المكمل الطبيعي للنص، والسدادة المناسبة لتحويل النص إلى صخرة يمكنها صد الأفكار الخرقاء لأعداء الدين، ومن ثم يتحول النص الديني من “وسيلة” لهداية البشر إلى غاية في ذاته، لأنه يصبح في هذه الحالة هو الدين والدين هو.

في قصة الغواية مثالا لهذه الطريقة في ترميم النص وجعله صلدا. يقول النص إنه بعد خلق حواء عاشت وأدم في الجنة زمنا وكان مسموحا لهما بأن يأكلا من شجر الجنة عدا شجرة واحدة، لكن لسبب غير معلوم أكلا من الشجرة المحرمة فعوقبا بما نعرفه جميعا، المهم أن النص القرآني يقول “فأزلهما الشيطان عنها” فقال الله “اهبطوا منها” وفي سورة أخرى يقول “فوسوس لهما الشيطان”، أي أن حادث الغواية في النص القرآني يلقى باللائمة على الاثنين معا، فهما ـ معا ـ يزلان ويخالفان أمر الله ومن ثم تكون العقوبة واقعة عليهما معا بالتساوي. ورغم هذا فقد أمكن لرجال دين أن يملأوا مسكوتات النص بحكايات وخرافات أقدم من النص وبعضها أضيف فيما بعد، من بين هذه الحكايات بعض القصص التوراتية التي تدين حواء وتخصها بالخطيئة الأولى، ليناسب التفسير بيئة وثقافة المفسرين الذين يؤمنون بأن المرأة أحط من الرجل درجة، وأقل منه مكانة، ولتتحول المرأة كلها لا إلى عورة فقط ولكن إلى وسخ أيضا.

مثال آخر في قصة ابني آدم قابيل وهابيل. يصمت النص القرآني عن السبب الذي من أجله تقبل الله قربان أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وصمت عن السبب الذي من أجله يحول أحدهما غضبه على الله إلى أخيه. صوامت النص سمحت بأن تملأ بحكايات تقول إن الأخوين قدما قربانهما من حصاد زرعهما، فاختار أحدهما أفضل ما في حصاده ليقدمه قربانا فيما خص الآخر أفضل ما في حصاده لأهل بيته وقدم قربانه من حنطة فاسدة. الحكاية خطاب. والخطاب يقول إن الله عاقب الأخ الذي بخل على الله بما لم يبخل به على أهل بيته. أحدهما إذن كان يعمل من أجل الأرض/الحياة بينما الآخر كان يعمل من أجل السماء/الحياة الأخرى. معاقبة الأول في الحكاية تدعم مسار الأيديولوجيا الأصولية ومن ثم وجب تثبيتها فأمكن قراءتها في كتب التراث والتفسير، بعد إضافة حكاية أخرى تقول إن الدافع الحقيقي وراء قتل الأول الآخر كان بسبب رغبته في الحصول على امرأته. دائما هي المرأة!

الفارق بين النص بمسكوتاته وبين النص بعد ترميمه هو الفارق بين الدين وبين الخطاب الديني، بين الدين وبين الإيديولوجيا. الأخيرة لا يصنعها الدين بل إنه من الحقيقي أنها هي التي تستخدم الدين لتبرير وضعها ولإكساب نفسها شرعية وجود لأنها في كل الأوقات سابقة على الدين وتالية له. كراهية المرأة كانت سابقة على النص القرآني، بل كانت سابقة على الأديان السماوية، لكنها ـ بترميم صوامت النص الديني ـ أمكنها الاستمرار ومقاومة الحلحلة والتفكيك سواء تلك التي بفعل الزمن أو تلك التي بفعل البشر المنحازين للحقيقة على حساب الإيديولوجيا.

السلفية باعتبارها شكلا من أشكال الإيديولوجيا المستندة على الدين والمحتمية به تفعل ذلك بترميمها كل المسكوت عنه في النص القرآني، هي لا تسمح بوجود فجوات، تبدو طوال الوقت كما لو كانت تحاول تصحيح أخطاء النص(!) فإن قال النص “لكم دينكم ولي دين” وإن قال “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ردمت على النص بنصوص أخرى بعضها ينتمي للحديث وبعضها للروايات وبعضها لخرافات الكتب القديمة لتدارك أمر هؤلاء الذين سمح لهم النص بالمضي قدما في حياتهم دون عقاب. الدين يؤجل الحساب “إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر” لكن الأيديولوجيا لا تسمح بمثل هذا التسامح من قبل الله، لا تسمح بأن يفلت أحدهم من العقاب، سواء عقاب “القتل” باعتباره “كافرا” أو عقاب العزل والاضطهاد والقمع. ولأن السلفية كأي أيديولوجيا لا تسمح بمثل هذا التهاون مع المخالفين والذين لديهم ما يرممون به فراغات النص وصوامته بصيغة أخرى فإنها تعتمد تفسيرا واحدا وترميما واحدا وإجابة واحدة ولدرأ فتنة تعدد التفسيرات والترميمات والإجابات فإنها تساوي بين تفسيرها الأوحد وبين الدين، لتصبح محاولة مقاومة التفسير الأوحد مقاومة للدين نفسه، ومحاولة مناقضة الإجابة الوحيدة مناقضة للدين نفسه، ومن ثم محاولة تقديم أي بدائل للفهم تعديا على الدين ومحاربة له، بل يفرط السلفيون أحيانا في اعتبار أي هجوم على التفسير الذي يقدمونه باعتباره لا محاربة للدين فحسب بل محاربة لله نفسه.

لهذا فإنهم بعد تدشين معمارهم النصي الذي يساوون بينه وبين الدين فإنهم يسكنونه، بل ويسجنون أنفسهم فيه طواعية، خوفا عليه، وخوفا على أنفسهم أيضا، ليتحول النص بعد ترميمه وفقا لعقيدتهم أو وفقا لإيديولوجيتهم قلعة الله الحصينة التي أخلفهم عليها لحمايتها من المتربصين بالدين. ولأنهم يخافون حد الموت أن تتسلل الفتنة بينهم فإنهم يترفعون طوال الوقت عن قراءة أية تفسيرات أخرى أو حتى زيارة أية قلاع آخرى تدعي أنها قلاع الله. لهذا يغلب على حراس الدين جهلهم بما يُكتب في حقهم ورفضهم لما يمكن أن يزيحهم عن مواقعهم قيد أنملة، ويدفعون طوال الوقت باتجاه تحول الأطراف إلى مراكز ليتحول الجميع إلى دعاة حتى تكون الأطراف أولى خطوط الحماية للمراكز الأصولية الأصلية، ومن ثم فإنه بتحول الجميع إلى دعاة يصبحون خطوط حماية للشيخ الذي يقبع في مركز الدعوى.

هؤلاء المسجونون في النص بعد ترميمه يمكن أيضا أن يخالفوا النص نفسه للحفاظ على المعمار النصي الجديد الذي شيدوه له. فإذا كان النص القرآني في مجمله دعوة للنظر في العالم فإنهم ـ حماية لمعمارهم ـ يحولون النظر في العالم إلى النظر في النص، فما يفعله زغلول النجار مثلا أنه يبحث عما يمكن أن يقوله النص قسرا أو طواعية للاتفاق مع الاكتشافات الراهنة للعلوم الطبيعية، ليتحول النص إلى موسوعة للعلوم بل لتاريخ العلوم طالما أن تاريخ العلم في سيرورة، وفي الوقت الذي ينشغل فيه الغرب ـ الكافر ـ بالنظر في العالم ـ مستجيبين لأمر الله ـ فإن الشرق ـ المسلم ـ ينكفئ على النص وفي النص خوفا عليه وكأن الانشغال عن النص ومغادرة سكناه سوف تجعله في أيدى السارقين أو عرضة للهدم، ومن ثم أمكن القول إن الغرب الكافر يحقق خلافة الله على الأرض أكثر من هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم خلصائه وحراس دينه.

الملفت في أمر هذه القلاع الإيديولوجية المقنّعة بالدين أنها تستغل الدين لتثبيت ثقافاتها التقليدية ولحماية تراثها وتصوراتها عن العالم وليس العكس، فالحقيقي أن الدين لديهم يحمي الثقافة التقليدية وليس حفاظهم على الثقافة التقليدية رغبة في حماية الدين، بدليل مثلا أن الخطاب الذي أرسله الشيخ القرضاوي لملك السعودية يطالبه فيه بالسماح للسيدات بقيادة السيارات رُد عليه من قبل مفتي السعودية بالقول إن القرضاوي لا يفهم طبيعة “التقاليد” السعودية!. لم يجادله الأخير في مسائل فقهية ولكنه قطع عليه الطريق بالحديث عن التقاليد، عن الثقافة المحلية، ما سكت عنه أن التبرير الديني لمنع السيدات من قيادة السيارات ليس أكثر من غطاء ديني لتثبيت الثقافة المحلية ومقاومة زحزحتها. المنطلق إذن لم يكن النص الديني وإنما النص الموازي/النص الثقافي الذي تم به ترميم فجوات النص الديني ليصبح هو الدين والدين هو.

النص الموازي أيضا هو إحدى إشكاليات الأصولية الكبرى وإحدى إشكاليات السلفية أو الإيديولوجيا المقنّعة بالدين. كافة الأصوليات في العالم تستند دائما إلى نصوص موازية أكثر من اعتمادها على النص الأصلي. في حالتنا هذه فإن النص الأصلي هو القرآن، والذي من المفترض أنه المرجعية الأصلية للمسلمين فيما اعتمدت الأجيال التالية للخلفاء الراشدين على عدة نصوص موازية أهمها طبعا “الحديث النبوي” أو ما يعرف بسنة النبي. الإشكالية تكمن في تحول النص الثانوي أو الموازي إلى قوة أكبر من النص الأصلي، لأنه إذا اتفقنا على أن النص الأصلي نص مفتوح وحمال أوجه وممتلئ بالفجوات والصوامت فإنه في النص الثانوي دائما حكايات يمكن بها ترميم هذا النص والإجابة بها على كافة الأسئلة وفي أي وقت وفي أي ظرف.

المتابع لخطابات مشايخ السلفية يدرك حجم الإلمام بالحديث والمرويات على حساب الإلمام بالقرآن. لا أقول إنهم لا يحفظون القرآن بل أعني أن خطابهم غالبا ما يخلو إلا فيما ندر من الاسترشاد بالنص القرآني فيما الحديث طوال الوقت عن المرويات والحكايات التي تمتلئ بها كتب التراث، فتلك ـ ولأنها من صنع بشر يتفقون تماما في الإيديولوجيا ـ يمكن طوال الوقت مساواتها بالنص الأصلي لمنحها حصانته، ومن ثم تتحول تلك المرويات إلى قرآن وتتحول مفردات هذه المرويات إلى مفردات الله.

وبالكيفية نفسها تساوي الإيديولوجيا السلفية بين التاريخ وبين الدين، فكل مرويات التاريخ عن السلف الصالح هي مفردات الدين وموجباته وحلاله وحرامه، فإن ضرب السلف الصالح زوجاته كان ضرب المرأة دينا، وإن تكلمت زوجات النبي من وراء حجاب كان الكلام من وراء حجاب دينا، وإن غزا السابقون وأسروا وسبوا كان الغزو والأسر والسبي دينا، وإن ربّى السابقون لحاهم كانت اللحية دينا وتقصير الإزار دينا واستخدام المسواك دينا، وإن قتل السابقون وكفّروا بعضهم بعضا كان القتل والتكفير دينا.

لهذا وجد الحكام دائما في حراس الإيديولوجيا الدينية ذراعا للبطش بمعارضيهم وأساسا لتثبيت عروشهم عليه، وقصة العلاقة بين رجال الدين والحكام علاقة تفرد لها آلاف الصفحات في الكتب التراثية. وفي ظني أن استبعاد التيار العقلاني المتسامح للإسلام كان سببه سياسي بالأساس وليس لأية أسباب دينية، فالتيار العقلاني ـ وخاصة لدى المعتزلة ـ كان يعتبر أن الإمامة اختيار الأمة، فيما يعتبر التيار النصي أو الأصولي أنه لا خروج على الحاكم درأ للفتنة فيما بالغ بعضهم مثلا كإخوان الصفا بالقول إن الحاكم خليفة الله على الأرض، على الرغم من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه “من بايع رجلا بغير مشورة المسلمين فلا يبايَع هو ولا الذي بايعه”. لهذا وشمت دائما الأصولية الدينية بالسياسة، لأنها لا تنشغل بالسياسة فحسب بل يمكن استخدامها دائما لتدعيم الحكم بغطاء شرعي.

ما أقوله إن السلفية التي هي إحدى أشكال الإيديولوجيا المقنّعة بالدين في إدعائها بأنها تحمي الدين فإنها تعارض الدين نفسه حماية للتاريخ، تعارض النص حماية للسياق الذي ظهر فيه النص. وإذا كان الإسلام ثورة حررت الإنسان بإزاء ذاته وحررته من ثقل التراث وعفن الموروث كما حررته بإزاء مجتمعه بإعادة تركيب البنية الاجتماعية لتكون أكثر تسامحا وأكثر عدالة فإن إصرار الحركة السلفية ـ كمنهج إيديولوجي ـ على استبدال تراث بتراث وموروث بموروث تحوّلها من قوة مضافة للإسلام إلى قوة منقوصة منه لأنها تسجن الإنسان مرة أخرى وتعيده للجاهلية مرة أخرى، هذه المرة باسم الإسلام.

***

ملحوظة: نشر هذا المقال في جريدة أخبار الأدب بتاريخ 7 يناير 2011.

اجمالي القراءات 8277