مجتمع المماليك وتطبيق الشريعة : شريعة الضرب فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٩ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول : طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى

الفصل الثانى : مجتمع المماليك وتطبيق الشريعة : شريعة الضرب فى عصر قايتباى

القسوة هى أسلوب التعامل في مجتمع المماليك:

1 ـــــ لنا أن نعذر ابن الصيرفي في انبهاره الشديد بسلطانه قايتباى.فالعملة السائدة في التعامل المملوكى هي الضرب، والضرب بشدة، الكبير يضرب الصغير، والمملوك الصغير يضرب الوزير والمباشرين- أى الموظفين- لأنه مملوك وهم من الشعب مهما بلغت درجة وظيفتهم، وإذا كان كبار الموظفين من الشعب يضربهم المماليك فالشعب المسكين في أسوأ حال. وإذا كان الضرب دائراً (عمال على بطال) فمن حق ابن الصيرفي أن يهلل كيفما شاء وهو يري السلطان يكرم سلطاناً سابقاً ويستقبله في القلعة ويسمح له بالتجول والاصطياد في الدلتا.

2 ــ في يوم السبت 25 ربيع الأول سنة 875 هـ أمر السلطان قايتباى بضرب أحد مماليكه ورسمه بسجنه في برج القلعة،وسبب ذلك أنه على حد قول ابن الصيرفي "أساء على الوالى ولكمه" .بسيطة.. شتم الوالى ولكمه... جرى خير..!!.. و إذا كان يلكم الوالى ويسبه فماذا كان يفعل ذلك المملوك مع الغلابة في الشارع.!!. ـ وقد يصل غضب السلطان قايتباى إلى حد أنه يضرب الداودار الثانى نفسه. ففي أول ربيع الأول 874 غضب قايتباى على الداودار الثاني تنبك قرا وضربه "صارت عيطه" على حد قول ابن الصيرفي، والسبب أن اثنين من الأمراء طلبا من السلطان إقطاعيين بلهجة خشنة لا يسمح بها بالبروتوكول المملوكي.ــ وفي يوم الخميس 13 محرم 875 أمر السلطان بتوسيط مملوك اسمه يونس، وبادر المشاعلى ــ أو عشماوى وقتها- بتوسيطه وقطعه نصفين بالسيف، وسجن رفيقه واسمه شرمنت ببرج القلعة، والسبب أنهما سكرا، ورمي يونس النشاب وهو سكران فقتل أحد المماليك في الطريق، فعاقبه قايتباى بالتوسيط وسجن رفيقه.

وكم من المماليك كان يسكر ويرمى النشاب في الطريق ويصيب أجدادنا الغلابة، ولا يهتم السلطان ومؤرخه ابن الصيرفي. ونترك السلطان ونرى ماذا كان يفعل غيره من الأمراء.

3 ـــ في أول محرم 875 ضرب الأمير اينال الأشقر غلاماً من غلمان أحد المماليك بسبب أنه سرق طائراً "أوزة" وعليقة شعير، فضربه اينال ضرباً مبرحاً ومثل به فجعل في أنفه سهماً مثقوباً وأشهره بالمدينة، يقول ابن الصيرفي معلقاً "فلا قوة إلا بالله..". والغلطة التى وقع فيها ذلك الغلام أنه سرق وانكشف أمره وحدث ذلك قبل أن يكون له نفوذ مثل الأمير اينال الأشقر.. لذلك حاكمة المجرمون الكبار..

المماليك يضربون كبار الموظفين المصريين:

1 ـ وهؤلاء المجرمون الكبار كانوا يضربون الموظفين المصريين إذا أرادوا تطبيق القانون.

وفي يوم الأحد 30 محرم 875 اشتكي موظفو الجمارك (المكس) للدوادار الكبير من مماليك الأمير تمر الحاجب لأنهم ضربوا أولئك الموظفين وشجوا رؤوسهم حين طلبوا منهم دفع الجمارك، وتأكد الدوادار من صدق أولئك الموظفين فأرسل للأمير تمر الحاجب يطلب إحضار أولئك المماليك المعتدين فرفض الحاجب، فما كان من الدودار الكبير إلا أن أرسل إليهم قوة من المماليك ومعهم قضاة فأحضروهم "على أقبح صورة" وضربوهم بالمقارع وأشهروهم في البلد "فتبهدل تمر الحاجب إلى الأرض وقويت شوكة الأمير الداودار".

وقد حدث نفس الشيء في شهر ربيع ثان سنة 874، فقد وصلت شحنة أغنام من الوجه القبلي للأمير قنصوه فأراد أخذها بدون أن يدفع المكس (الجمارك) ولكن الوزير قاسم أعاق تسليم الغنم إلا بعد دفع الجمارك، فأرسل إليه قنصوه يطلبها فامتنع قاسم، فغضب قنصوه واستعد ليركب إلى الوزير" ليبهدله ويضربه" على حد قول ابن الصيرفي، فبلغ قاسم ذلك فركب وحضر إليه ليصالحه على شيء" أى ليتفق معه اتفاقاً ودياً، فما كان من الأمير قنصوه الاينالى إلا أن ضرب الوزير ضرباً مبرحاً مؤلماً، ويقول ابن الصيرفي "ومع ذلك فلم يطلق له قاسم الغنم" وفي النهاية تدخل الداودار الكبير وحصل قانصوه على الغنم.

2 ـــ والجديد هنا أن المضروب كان الوزير وليس مجرد موظفي الجمارك. وضرب الأمراء المماليك للوزراء وكبار الموظفين لم يكن إلا حدثاً عادياً في ظل السلطة العسكرية في أى مكان وزمان، يقول ابن الصيرفي عن الأمير بردبك البجمقدار ت 875 "كان يتسلط على الوزير والاستادار والمباشرين بالضرب والسب فيكتبون له ولمن في خدمته الجوامك ( أى المرتبات المالية ) واللحم الجيد الصنف والمثمن.( أى المرتبات العينية ). وهو من الفرسان الشجعان الأبطال..".وهكذا رأينا طرفاً من شجاعته وبطولاته مع كبار الموظفين المصريين، فكيف به من الغلابة في القاهرة. ذلك البطل الشجاع كان يستخدم نفوذه في الضغط على الوزير والاستادار وكبار المباشرين والموظفين لكى يكتبوا له مرتبات زائدة أو "جوامك" ولكى يكتبوا له "جراية" خاصة من اللحم والأسلوب المفضل لديه في دولة العسكر هو الضرب والشتم وما أشدهما من وسيلة للإقناع..

وفي يوم الخميس 29 من ذى القعدة 876 حدث أن الأمير ازدمر الإبراهيمية ضرب عشرة من مماليكه ضرباً مبرحاً بالمقارع وسجنهم في سجن المقشرة الرهيب، وذلك لأنهم ضربوا داوداره وموظفيه ضرباً مبرحاً، فقد طلبوا من الدوادار جامكية أو مرتب ثلاثة شهور فرفض. ووقع نفس الحادث للأمير تمر الحاجب مع مماليكه فضربهم.

3 ــكان الضرب هو العملة السائدة بين المماليك، والدوادار الكبير كان مشهوراً في هذا المجال وكم عانى من كبار الموظفين، وحدث أن سافر للصعيد ثم رجع للقاهرة يوم الاثنين 7 محرم 874 فكان الجميع في استقباله من الأمراء والرؤساء والمباشرين، يقول ابن الصيرفي عنهم "ووجم غالبهم لقدومه" لماذا ؟لأن يده كانت ثقيلة في الضرب..وفي مجتمع الغابة هذا كان الأمير المملوكي الوديع لا أهمية له، يقول ابن الصيرفي عن الأمير قايتباى المؤيد "وكان أميراً مباركاً عديم الشر والخير، وهو كما قال مخدومنا الجمال يوسف عين المؤرخين: لا يصلح للسيف ولا للضيف".فلانه عديم الشر وعديم الخير أيضاً فكان لا يصلح لشيء لا السيف ولا للضيف، وهذا هو المقياس في دولة الغابة.

أنين الشعب من قسوة المماليك:

1 ـ والمؤسف أن الضرر والضرار كان عالى الصوت في ذلك العصر، وإن كان المؤرخون لا يسمعون ما يدور حول السلطان، أما أنات المظلومين من عوام الشعب فلم تحظ بالاهتمام. ونحن نتحسس هذه الأنات ولا نجد لها إلا لمحات بين السطور.ومنه ذلك النداء الذى نودى به في القاهرة يوم الخميس 13 محرم 875 "أن أحداً من المماليك السلطانية لا يحمل سلاحاً ولا يضرب أحداً من العوام ومن فعل ذلك وسط بلا معاودة..".وقد صدر هذا النداء شديد اللهجة أثناء التجهيز الحربي لغزوة شاه سوار الثائر على الدولة في العراق.ونفهم أن ذلك النداء شديد اللهجة لم يصدر من فراغ. وأكاد أسمع من خلاله صراخ المظلومين من أجدادي.!!

2ــ ونلمح صراخ أجدادنا المظلومين من بعض الإشارات التى تعبر عن ظلم الأمراء والمماليك، يقول ابن الصيرفي عن الأمير سنقر : "كان شديد الظلم على الخلق ، سيما لما عمّر الأشرف اينال المركب لغزو قبرص فخرب غيطان المسلمين وآذى خلق الله تعالى.. وصل إلينا خبر موته في هذا الشهر من هذه السنة واستراح وأراح الله العباد والبلاد من ظلمه وشره...". ويقول عن الأمير يشبك جن "كان غاية في الظلم والأذى والتجبر... وكان سيء الأخلاق.. إذا ضرب لا يرحم وإذا خاصم فجر وإذا غضب لا يطاق وفرح بموته كثيرون". ولما أنزلوا جثمانه إلى المقبرة كان ابن الصيرفي حاضراً، ويقول أن الدودار الكبير بكي وحزن عليه ويعلق ابن الصيرفي على بكاء الداودار الكبير فيقول "ومع ذلك فما ثم من يعتبر ولا يحسب حساب الآخرة".

والطريف أن ابن الصيرفي كان يمدح الداودار الكبير وينافقه في كتابه، ولكن لسانه زل فنطق بالحق في إشارة سريعة لظلم ذلك الأمير.

المحتسب المملوكي وظلمه لأهل القاهرة:

1 ــ وكلما اقترب الأمير المملوكي من دائرة التعامل المباشر مع الناس ازداد ظلمه للناس.. وينطبق ذلك على المحتسب يشبك الجمالى- محتسب القاهرة في عصر قايتباى. والمحتسب في الأصل وظيفة مدينة يقوم بها الفقهاء والعلماء شأنها شأن وظيفة القضاء . والمحتسب هو الذى يشرف على الأسواق والموازين والتسعيرة، وكانت له سلطات واسعة في العصر المملوكي ، فهو يفتش على الأسواق والمكاييل والموازين، وهو الذى يفرض العقوبة على المخالفين، وهو الذى يأمر بتنفيذها، أى هو الخصم والقاضى والجلاد معاً.

2 ـ وقد كان الأمير يشبك الجمالى مشهوراً بالتدين ، فعينه السلطان قايتباى أميراً للحاج، أى قائداً لقافلة الحج وذلك في يوم الخميس 25 ربيع الأول 873، ثم أضيفت له وظيفة الحسبة يوم الاثنين 24 ربيع ثان سنة 873.وكان يشبك الجمالى في ولايته للحسبة معبراً عن الطبيعة المملوكية العسكرية حتى لو كانت متدينة.

فهذا المحتسب المملوكي استكبر أن ينزل الأسواق بنفسه وأوكل المهمة لأتباعه الذين حازوا على على ثقته، فانفردوا بالأسواق يفرضون الاتاوات على التجار ومن يرفض دفع الاتاوات يحملونه إلى يشبك الجمالى المحتسب فيوقع به أشد العقوبة، هم يسرقون وهو يباشر هوايته في ضرب التجار المسكين الذين يرفضون دفع الاتاوة. يقول عنه ابن الصيرفي : ( وباشر يشبك المذكور الوظيفة المذكورة، لم يكشف البلد بنفسه ولا مرة واحدة ، ولا يعرف أحوال الرعايا والمسلمين إلا من أعوانه الذين في خدمته ، فصاروا أرباب أموال وأقمشة ودور وخيول وبغال وحمير ، وهو ماسك البقرة وغيره يحلبها ، فإنه لا يتعاطى شيئاً ، ولكن ما أحسن قول الشاعر.

ورابط الكلب العقور ببابه   فأصل ما بالناس من رابط الكلب  )

ويستطرد ابن الصيرفى فيقول عن يشبك المحتسب : ( وهذا في غاية الشماخة والترفع أن يقف على سوقي أو وزّان أو بيّاع ويعتبر (أى يختبر) أوزانهم وسنجهم وحوانيتهم وأمثال ذلك.. بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم ( أى الرشوة أو الاتاوة ) فيضربهم ثلاث علقات: واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وأخرى على أكتافه ، ويشهرونه بلا طرطور بل يكشفون رأسه. وهو الذى أحدث كشف الرأس ، مع أن جماعة كثيرين ممن فعل بهم عميوا وطرشوا ، فإن الواحد يكون ضعيف البصر أو به نزلة ( زكام أو نزلة برد ) فيكشفون رأسه أو يدرورون به في القاهرة فلا يرجع إلا بضرّ أو مثال ذلك..."). ويقول عن أحكامه "وأما أحكامه فالبخت والنصيب ، وأما أخلاقه ففي غاية الشراسة ، حتى أنه يغضب على من قربه وجعله أميراً ويستمر على ذلك الأشهر بل والأعوام،) ويقول عن تدينه السطحى : (هذا مع دينه المتين ومحافظته على الصلاة والصيام) ويقول عن جهله فى نقاشاته مع الفقهاء : ( ولكن عنده تعصب على الأمر الظاهر الجلى القطعي وعرف غالب الفضلاء من أرباب المذاهب وغيرهم ذلك منه) ثم يدعو عليه ابن الصيرفى فيقول : ( والله يعامله بعدله سريعاً".).!

3 ـ وهذا المحتسب المملوكى المأفون قاسى منه شعب القاهرة عذاباً وغلاءاً في الأسعار.ففي يوم الثلاثاء 16 صفر 875 رفض بائع تين غلبان أن يدفع المعلوم لزبانية المحتسب فاحتملوه إلى ذلك الطاغية فضربه الثلاث علقات المعهودة ، وأشهره فى المدينة أى طيف به فى الطرقات ، ثم صلبه على باب دكانه في هيئة فظيعة، يقول ابن الصيرفي "ضرب المحتسب شخصاً من السوقية يبيع التين ثلاث علقات واحدة على مقاعده وأخرى على رجليه وواحدة على أكتافه، وأشهره بالمدينة على عادته التى يفعلها عرياناً مكشوف الرأس ، ثم رسم بصلبه بذراعه على حانوته وقررت يده الأخرى إلى ظهره، ولطخه عسلاً ، وأوقفه في الشمس ، فتسلط عليه النحل والزنبور والذباب وقاسى من العقوبة مالاً يوصف".).!! فهل كان ذلك البائع المسكين سارقاً أو قاتلاً؟ بالطبع لا، فكل ما هنالك أنه لم يستطيع دفع الاتاوة ربما لأنه لا يملكها.يقول ابن الصيرفي يعلل تلك العقوبة الهائلة "وسبب ذلك أن رسله الذين هم من جهته .. كانوا إذا طلبوا البلص- أى الرشوة- من فقير وامتنع ، ذكروا لأستاذهم عنه ما أرادوا ، وهو سريع الحدّة سريع الغضب لا يثبت في الأحكام فيطلبه ويفعل به ما ذكر.). ثم يتحدث ابن الصيرفي عن زيادة الأسعار التى كان التجار يفرضونها بعد أن يقدموا الرشوة لزبانية المحتسب : ( وإلا فكل سوقة مصر يبيع بزيادة عما يأمر به المحتسب حتى إذا نودي على الجبن بسبعة دراهم الرطل يبيعونه بثمانية بزيادة درهم، وكذا في سائر البضائع حتى اللحم". ثم يعود ابن الصيرفي يتحدث عن الثراء الفاحش لزبانية المحتسب "وأقول أن رسله الذين من جهته صار كل واحد منهم بأقمشة حرير والصوف العالى الغالى والنعال الخاصة المزينة والعبيد والجوارى الذين للخدمة والنفقات التى ينفقها كل يوم من لحوم وأعسال ودقيق وغير ذلك بعد أن كان الواحد منهم لا يملك إلا قميصاً وملوطة."؟) .!!

ثم يتحدث عن الغرامة الباهظة التى كان يفرضها المحتسب:( وكان المضروب أو المطلوب لبيت المحتسب لا يغرّم أكثر من نصف ( النصف هى العملة المملوكية وقتها ) أو نصفين بالكثير، فصار الآن يغرّم المائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة".).

4 ـــ وحدث خلاف بين السلطان والمحتسب يشبك بسبب تركة كان يطمع السلطان في الاستيلاء عليها فاستولى عليها قايتباى ، فاعتكف المحتسب في بيته مغاضباً، وترك الحبل على الغارب لزبانيته الذين إكتفوا بما يأخذونه من التجار وأغمضوا الطرف عن تلاعبهم بالأسعار وفي الوزن خصوصاً وزن الرغيف، فانتشر الغلاء وازدادت المعاناة.

5 ـ والسلطان قايتباى كان يعرف ظلم المحتسب ومع ذلك فلم يغضب عليه إلا عندما اختلفا حول المال، وفي النهاية فكلاهما- قايتباى ويشبك الجمالى- كان مشهورين بالتدين والصلاة والصيام والأوراد وكانا مشهورين أيضاً بالظلم.. وهذه هى الشخصية المملوكية التقليدية.

اجمالي القراءات 14375