لمحة عن مجتمع المماليك فى عصر قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٨ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول : الفصل الأول :

 لمحة عن مجتمع المماليك  فى عصر قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية :

ألم في مؤخرة الأمير المملوكى ووباء في الصعيد:

1 ـ يقول ابن الصيرفي في أحداث النصف الأول من شهر محرم  874 "( ووصلت الأخبار من الوجه القبلى أن القمح وصل ثمنه بها إلى ستمائة درهم الأردب ، وأنه عزيز الوجود، وأن النصل- أى المرض ـ كان موجوداً في الآدميين ثم انتقل إلى البقر حتى أن البلاد جافت من ذلك، وشاع وذاع أن الأمير قانصوه.. حصل له في مخرج الغائط ألم شديد فتحوه بالفولاذ ، وهو في غاية الضرورة، وتوجه إليه الأمراء والعساكر للسلام عليه.."([1]). ) .في النص التاريخي السابق خبران، الأول عن غلاء حدث في الصعيد في محرم 874هـ وقد ارتبط هذا الغلاء بكارثة أشد هى وباء انتشر بين الناس وانتقلت عدواه إلى البقر حتى ( جافت البلاد) أى انتشرت فيها الجيف أى جثث الموتي من البشر والبقر!!. والخبر الثاني عن إصابة الأمير قنصوه الخسيف بألم في مؤخرته، وأن الأمراء والكبار زاروه وعادوه للطمأنينة عليه وعلى "مخرج الغائط".

2 ـ ويهمنا هنا أن المؤرخ ابن الصيرفي تساوى عنده الخبر الأول بالخبر الثاني، تساوي عنده موت مئات الألوف من المصريين في الصعيد الذى امتلأ بجثثهم دون أن تنال حقها في الدفن، تساوى عنده معاناة  الباقين من الغلاء والمجاعة، كل ذلك تساوى عنده بألم حدث في مؤخرة أحد الأمراء المماليك، فكم تساوى هذه المؤخرة المملوكية" بالعملة الصعبة ؟! . مؤخرة الأمير قنصوه تستحق كل هذا الاهتمام من المؤرخ المصري في الوقت الذى كان الوباء والمجاعة وآلات التعذيب تعمل عملها في الشعب المصري دون أن تستحق إلا بضعة سطور تساوى أهمية هذا الشعب عند السلطان ومؤرخيه. هذا هو حظ أجدادنا من مؤرخي عصرهم.! . لا يستحقون نيل إهتمام المؤرخين إلا إذا حدثت لهم مصيبة كالمجاعة أو الوباء.!. هذه هى الضريبة التى ينبغى أن يدفعها أجدادنا لكى يكتب لهم المؤرخون نعياً من بضعة سطور. ولا عزاء للمصريين .!.

المجتمع المملوكي يجدد دماءه باستمرار:

كان المجتمع المملوكي يجدد دماءه باستمرار. فكل أمير أو سلطان مملوكي يشترى مماليك تزداد بهم قوته، وأعظم الطوائف المملوكية هم المماليك السلطانية، أى مماليك السلطان القائم في الحكم. ويتدرج المملوك بعد عتقه في الناصب حسب كفاءته وقدرته على فن التآمر إلى أن يصل إلى الصفوف الأول في الجيش فيكون أمير مائة مقدم ألف، أو يصل في الصفوف الأولى في المناصب الرسمية مثل الداودار والزمام والاستادار.

وللعصر المملوكي لغته الخاصة التى ينبغى أن يهضمها كل باحث في ذلك العصر، وله تعبيراته المميزة وألقابه التى كان يطلقها على أصحاب المناصب الهامة.

أهم الوظائف المملوكية:

ونعطي فكرة سريعة عن بعض الوظائف الهامة في مجتمع الأمراء المماليك وهى كلها تدور حول السلطان.

1 ـ فالداودار: هو الذى يبلغ الرسائل عن السلطان والذى يبلغه بالأمور والشكاوى، وهو صاحب الاستشارة والإشراف على البريد ، يعاونه في ذلك القائم على البريد السلطانى ولقبه أمير جاندار.  والداودار هو الذى يقدم للسلطان المكاتبات الرسمية . ويلاحظ أن سلطات الداودار ازدادت في عصر قايتباى، وكان الداودار يشبك من مهدى هو الشخصية الثانية في الدولة بعد السلطان قايتباى ، وهو صاحب القبة التى لا تزال موجودة فى ميدان ( حدائق القبة ) وبجوارها القصر الجمهورى ( قصر القبة ) .  وكان يعاونه الأمير تنبك قرا الذى تولى منصب الداودار الثاني.  وقد جمع الداودار الكبير يشبك من مهدى في هذا العصر مناصب أخرى فقد تولي منصب الوزارة ومنصب الأستادارية وأناب عنه من يقوم بكليهما.  وكان المؤرخ ابن الصيرفي يخلع ألقاباً كثيرة على الأمير يشبك الداودار الكبير، يقول مثلاً" خرج عظيم الدنيا ـــــ وصاحب حلها وعقدها ومشيرها ووزيرها واستادارها وداودارها الكبير وما مع ذلك دامت سعادته ــ من داره..".

2 ـ والاستادار: هو كبير موظفي القصر السلطانى والمشرف علي نفقة القصور السلطانية من مطابخ وشراب وحاشية وغلمان. والقصور السلطانية كانت تعرف بالآدر الشريفة، ولها موظف خاص لقبه زمام الآدر الشريفة يقوم بالأشراف على حياة السلطان في قصوره وهو طواشى بدرجة أمير طبلخانة ، أى أمير تدق له الطبول تحية له . وتحت يده عدة أفراد من الطواشية. والطواشية هم الخدم .

3 ـ وهناك أمير آخور، وهو رئيس الاصطبلات السلطانية والمشرف على ما فيها من خيول ومن فيها من موظفين وما يباع وما يشترى فيها .  والأوشاقية هم عمال الاصطبلات السلطانية. والركاب خانة هى مخزن آلات الخيول السلطانية ، والعمال فيها هم الركابدارية والسنجقدارية والمهمزدارية . ونكتفي بهذا من عمال وخدام القصور السلطانية.

4 ـ ونأتى إلى أهم الوظائف الحربية المملوكية ونعنى بها الأتابك أو قائد الجيش المملوكى، وكان يتولاها الأمير جانبك الإينالى قلقسيز، ولكن أسره شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية في شمال العراق، وتم تعيين الأمير أزبك من ططخ الظاهرى. والأتابك أزبك هو الذى أنشأ منطقة الأزبكية فى القاهرة وجعلها حدائق . ويعاون الأتابك كبار الأمراء في الجيش من رتبة ( مقدم ألوف )، أى أمير لمائة من المماليك وقائد لألف جندى أو : (أمير مائة مقدم ألف).

المماليك الجلبان:

1 ـ تنقسم الدولة المملوكية الى عصرين : المملوكية البحرية والمملوكية البرجية .وتبدأ القصة بالسلطان الأيوبى الصالح أيوب الذى استكثر من شراء المماليك ليستعين بهم كجيش خاص له فى حماية عرشه وفى الانتصار على المنافسين من بقية السلاطين  الأيوبيين . وبسبب كثرة مماليكه فقد قام السلطان الصالح أيوب بتأسيس معسكرات خاصة بهم منفصلة عن بقية الجيش الايوبى المكون من الأحرار ومعظمهم من الأكراد وقتها . أولئك المماليك كان يتم إسترقاقهم صغارا ، ويؤتى بهم عن طريق عصابات متخصصة الى تجار الرقيق فى حلب وغيرها ، وينقلونهم الى القاهرة فيشتريهم السلطان لينشئهم على طاعته وحمايته، ويتم تعليمهم اللغة العربية والعلوم الشرعية وفنون القتال والمهارات المختلفة. كانت تلك المعسكرات فيما يعرف الآن بالجزيرة فى القاهرة ، فأطلق عليهم لقب ( المماليك البحرية ) نسبة لبحر النيل . وبتخرج المملوك يتم عتقه ويعطى وظيفه بأن يكون من المماليك السلطانية التابعين للسلطان وقصره وحرسه وشئونه السياسية والادارية ، أو يكون جنديا محاربا من المماليك البحرية . ومثلا كان عز الدين أيبك من المماليك السلطانية للسلطان الصالح أيوب بينما كان خصمه سيف الدين أقطاى وبيبرس من المماليك البحرية أى المقاتلين . وتميز المماليك البحرية بالشراسة القتالية بينما إشتهر مماليك القصر (المماليك السلطانية ) بالدهاء وفنّ المكائد والمؤامرات . ومات الصالح أيوب إثناء مواجهة حملة لويس التاسع فاستطاعت شجرة الدر والمماليك البحرية والسلطانية هزيمة وأسر لويس التاسع وحفظ ملك سيدهم الصالح أيوب لابنه توران بشاه الذى تنكر لهم فقتلوه ، وتولت السلطنة شجرة الدر ثم تزوجت أيبك ، وقتلته فقتلها مماليك أيبك ، وولوا الطفل (على ) بن أيبك السلطنة تحت رعاية قطز ، الذى مالبث أن عزل الطفل (على بن أيبك ) وتولى مكانه ، وواجه قطز التتار وهزمهم ، وفى نشوة الانتصار قتله صديقه بيبرس وتولى السلطنة مكانه . ثم بايع بيبرس لابنه السعيد بركة ليكون سلطانا بعده ، وزوّجه من بنت قلاوون الألفى أكبر الأمراء المماليك ، ولكن قلاوون ما لبث أن عزل السلطان الشاب وتولى مكانه .

2 ـ وتوسع السلطان قلاوون فى شراء المماليك ليضمن بهم إستمرار الحكم فى ذريته ، فضاقت بهم معسكرات الجزيرة فنقلهم الى جواره فى القلعة ليقيموا فى أبراجها ، فأطلق عليهم المماليك البرجية . أولئك المماليك البرجية الذين استكثر بهم قلاوون وذريته ما لبث أن تحكموا فى السلاطين الضعاف من ذرية قلاوون ، وانتهى الأمر بتولى  السلطان برقوق الحكم كأول السلاطين فى الدولة المملوكية البرجية ، وهو الذى قضى على حكم ذرية السلطان قلاوون البحرى ودولته المملوكية البحرية .

3 ـ وفى الدولة المملوكية البرجية إشتهر إستقدام المماليك الشباب وليس الأطفال من الخارج خصوصا من أواسط آسيا وأوربا، حيث كان يتم فيها قنصهم وأسرهم وخطفهم ثم استحضارهم الى حلب التابعة للسلطنة المملوكية توطئة لبيعهم فى مصر. وبتوالى عشرات السنين أصبح معروفا فى تلك البلاد أن أولئك المخطوفين من أبنائها ينتهى بهم الحال ليكونوا أمراء وسلاطين فى مصر ، لذا أصبح من الشائع فى تلك المناطق الآسيوية والأوربية وحتى من بلاد المسلمين فى عصر المماليك البرجية وقوع الشباب الطموحين فى الاسترقاق بارادتهم ليؤتى بهم مماليك فى مصر المملوكية  أملا فى مستقبل أفضل . بل كان بعض الأمراء المماليك بعد أن يتوطد أمره فى مصر يستقدم اهله ويضمهم الى الطبقة المملوكية ويعطيهم رتبة مملوكية، وهكذا فعل السلطان برقوق الذى استقدم أباه ، وكان هناك أولاد عمومة وأقارب من أمراء المماليك مما يدل على مجيئهم مماليك بإرادتهم . وبينما نبغ قلائل من هذه النوعية من المماليك التى يتم ( جلبهم ) كبارا فإن الأغلبية العظمى من(المماليك الجلبان ) كانوا أوغادا حقيقيين طامعين فى الثروة والسلطة بلا علم ولا خلفية ثقافية أو سياسية سوى السلب والنهب والفتن . كانوا أقرب الى قطاع الطرق وعصابات الإجرام ، فأسهموا فى نشر الفتن فى الدولة المملوكية البرجية ، فاشتهرت البرجية بكثرة عزل السلاطين ، قبل وبعد السلطان قايتباى الذى يؤرخ له مؤرخنا ابن الصيرفى .

4 ـ وقد حرص السلطان قايتباى على الاستزادة من شراء المماليك (الجلبان) ليؤكد بهم سلطانه ، لذا كان شديدا فى تأديبهم . وبتكاثر ( جلب ) الشباب من الخارج رقيقا ليكونوا مماليك حكاما فى مصر فقد فكّر بعض المصريين فى أن يكون مملوكا صاحب ثروة وسلطة ، فسافر لآسيا ليقع بارادته فى الاسترقاق ليكون ضمن المماليك ويتمتع بالنفوذ بعد عتقه . ويروى ابن الصيرفي أن السلطان قايتباى كان يضرب مملوكاً من مشترياته الذين أعتقهم . وابن الصيرفى يعلل سبب ضرب قايتباى لمملوكه لأن المملوك ( وهو فى الأصل مصرى حرّ ) تعجّل ، فبمجرد أن ترقى وتم عتقه وحصل على المال أخذه وأخذ الزى العسكرى المملوكى وخيوله  وغادر المعسكر ليتزوج ، يقول مؤرخنا ابن الصيرفى : ( وسبب ذلك كونه تزوج- أى المملوك- ونزل من الطبقة (أى من الطابق الذى كان يعيش فيه فى برج القلعة ) وأخذ قماشه وخيوله وصار لا يملك غير ما عليه. ) المضحك هنا أن المملوك المزيف ( المصرى الذى تنكر وصار مملوكا ) فضح نفسه وهو يصرخ عند الضرب فأخذ يستغيث بالسيدة نفيسة على عادة المصريين وقتها ، وهذا ليس مألوفا فى المماليك الجدد القادمين لمصر من الخارج . يقول ابن الصيرفى : ( وأعجب من هذا أن السلطان غضب أعظم الغضب لكون المملوك صار يأكل الضرب ويقول: يا ستى نفيسه، فصار السلطان يقول لمقدم طبقته: هذا ما هو جلب إنما هو زقاقى، يعنى لأى شيء يضرب ولا يقول توبه خجم على عادة الأتراك؟ ثم أمر أن يسلموه لتاجره المقيم بحلب.). أى عرف قايتباى أنه ليس مجلوبا من الخارج بل هو مصرى من أزقة القاهرة ، وأرجعه للتاجر الذى جاء به من حلب. أى إن ذلك الشاب المصرى سافر لأبعد من حلب وأوقع نفسه فى الاسترقاق لكى يؤتى به الى مصر مملوكا، وأن ذلك التاجر الحلبى خدع السلطان قايتباى وباع له شاباً على أنه من الأتراك ولكنه كان مصريا ً، وظهر ذلك حين كان يضربه السلطان فصار يستغيث ويقول مثل المصريين "فى عرضك يا ستى نفيسه" أى يتوسل بالست نفيسه ولا ينطق كالأتراك صارخاً باللغة التركية قائلا : توبه خجم.. ونعيد القول بأن ذلك المملوك رضى بالاسترقاق بمحض إرادته ولمجرد التكسب لذا فإنه بمجرد أن أعتقه السلطان أسرع  ونزل من المعسكر وأخذ ملابسه وخيوله ليتزوج فافتضح أمره، وعندما ضربه السلطان أخذ يتوسل بالست نفيسه، وفهم السلطان من توسله بالست نفيسه أنه مصرى أصيل ( زقاقي ) من أزقة القاهرة وحواريها([2]).

5 ـ وبالمناسبة : ففى مشروع ( تحويل التراث الى دراما ) تم تجهيز مسلسل ممتد هو ( مجالس ابن إياس ) الذى يقوم فيه ابن إياس بالتجول فى تاريخ المسلمين حاكيا نوادره وخفاياه ، مناقشا لها مع جلسائه ، كما يتم فى المجالس التعرض للقصص الحقيقية التى كانت تحدث وقتها بتاريخ اليوم والشهر والعام . وكان الاعتماد فى حكاية هذه القصص المعاصرة لابن اياس على تاريخ ابن اياس وتاريخ الهصر لابن الصيرفى وتاريخ السخاوى . ومن القصص التى تعرضت لها مجالس ابن اياس هذه القصة الدرامية المأخوذة من تلك الحادثة التى ذكرها ابن الصيرفى ، وتم تحويلها الى دراما بطلها شاب مصرى قاهرى طموح أحب فتاة من بنات الناس ( أى من ذرية المماليك من الطبقة العليا ) ولكن لم يجرؤ على التقدم لها فسافر الى خراسان وأوقع نفسه فى الاسترقاق حتى جىء به الى حلب ومنها بيع مملوكا وأصبح من المماليك السلطانية للسلطان قايتباى ، ولكن لم يستطع الانتظار فترك المعسكر ليتزوج بحبيبته ، فانكشف أمره . وهناك مئات القصص من هذا النوع جاءت بين سطور التاريخ المملوكى خصوصا تاريخ الهصر ، وتم تحويلها الى دراما فى مجالس ابن إياس. ومشروع تحويل التراث الى دراما مع أهميته القصوى فلم يجد من يتعاون معنا فى تنفيذه . 

أولاد الناس

1 ـ وقد تكاثرت ذرية المماليك الذين عاشوا من قبل فى مصر وتزوجوا بها وصارت لهم عائلات من الأحرار الذين لم يمسهم الرق، وفى عصر قايتباى صاروا طبقة اجتماعية عليا يطلق عليهم ( أبناء الناس ) ، 2 ـ ويذكر مؤرخنا ابن الصيرفى فى أحداث يوم الاثنين 2 شعبان 876 أنه قبض الوالى ( وهو الآن يشبه وظيفة مدير الأمن ) على شخص من أولاد الناس وهو سكران ، وصعد به للسلطان فضربه السلطان حد الخمر ، وحلّفه أن لا يعود للسكر، .يعنى ابن ناس ويسكر!! لا يصح طبعاً.

كان قايتباى يتعامل بالضرب مع مماليكه ومع أبناء الطبقة المترفة ( أولاد الناس ) ومع ( كل الناس ) .

المماليك والتقلبات السياسية:

1 ـ عرف أمراء المماليك النعيم وعانوا من البؤس تبعاً للتقلبات السياسية. وحين يتولى السلطان كان يبادر بالتخلص من أعدائه ومنافسيه بالقتل أو بالسجن، وينشئ له حاشية جديدة، وربما تأخذه الرحمة بعد أن يتوطد أمره فيفرج عن بعض المسجونين ويكون ذلك أحياناً بشفاعة بعض الأمراء الجدد الذين كانوا رقيقاً ومماليك من قبل لأولئك الأمراء القدامي أصحاب الجاه القديم والذين غدر بهم (الزمن ) . وهكذا عرف أمراء المماليك العز بعد الذل والذل بعد العز، وأيقنوا مثل كل المصريين أن الدنيا ساقية دوارة. ولهذا يمتلىء عصر المماليك بأروع الدراما الانسانية التى قد لا يتصورها الخيال .

2 ـ ومن تاريخ الهصر نأخذ بعض الأمثلة في عصر قايتباى:

في يوم السبت 9 ذو القعدة 876 صعد الأتابكي أزبك بن ططخ الظاهرى إلى حضرة السلطان وشفع في حاشية الصاحب ابن كاتب جكم، وكانوا مسجونين من مدة خمسة شهور، استجاب السلطان وأطلقهم من السجن.  وفي هذه الأيام كان المحتسب يشبك الجمالى معزولاً عن منصبه يعانى الذل، ويقول فيه المؤرخ ابن الصيرفي "والمحتسب ضعيف منقطع بداره ، وليتها القاضية ليحصل للمسلمين بل ولخلق الله قاطبة بذلك العيشة الراضية ، فإن هلاكه فيه بقاء لمهج غالب أمة محمد (ص ) فإنه شق عليهم وعلى طلبة العلم وشيوخ العلم وقضاة الشرع .! فاللهم أحكم فيه بعدلك قريباً". لقد عرف المحتسب يشبك الجمالى أياماً من العز والنفوذ ثم انتهى أمره إلى الخمول فتشفي فيه المظاليم.

وفي يوم عيد الأضحى 876 وصل القاهرة الأميران الكبيران جرباش كرد المحمدى الناصري الذى كان أتابكا في سلطنة خشقدم، ويشبك بن سليمان الذى كان داوداراً في سلطنة خشقدم وسلطنة يلباى، وكانا مسجونين في دمياط، ولكن عفا عنهما السلطان قايتباى وجئ بهما للقاهرة وصعدا بين يدى السلطان في هيئة ذليلة يصفها المؤرخ ابن الصيرفي فيقول "وصعدا من الغد بين يدى السلطان وقد لبسا طرحاً وفي أعناقهما مناديل صفا، فقبلا الأرض وباسا يد السلطان.." وشفع الأمير جرباش المذكور في الأمير جانبك كوهيه المسجون في دمياط فلم يقبل السلطان شفاعته.

كان قايتباى من قبل تابعاً للأمير جرباش كرد الأحمدي حين كان الأخير قائداً للجيش المملوكي في سلطنة خشقدم، وكان الأمير يشبك بن سلمان هو الداودار صاحب النفوذ ومرت الأيام ودارت الساقية فأصبح قايتباى  سلطاناً وجئ بالأميرين من السجن ليقبلا يد قايتباى بعد أن تسلطن!! ..على رأى المصريين : دنيا غرورة!!

3 ـ هذا في الوقت الذى كان فيه الأمراء المماليك من حاشية السلطان يتقلبون في المناصب، ونأخذ بعض الأمثلة : ففي يوم الاثنين 19 ربيع الأول 877 تنازل الدوادار الكبير يشبك بن مهدي عن وظيفة الاستاداية للأمير قنصوه أمير سلاح، وصار الاستادار الأسبق ابن البقري يعمل في خدمته، وفي يوم السبت 30 محرم 886 عين الأمير قجماس أمير آخور نائباً للسلطان في الشام، ,وأقيم له احتفال ضخم في القاهرة.

4 ـ وكان بعضهم يصل إلى المناصب عن طريق الرشوة أو "البذل" فالأمير تمرباى الأشرفي سعى لوظيفة نائب السلطان في حلب عن طريق (البذل ) أى بذل الأموال. أى الرشوة ، وكان هناك ديوان للرشاوى إسمه ( ديوان البذل والبرطلة ) وعن طريقه يتم رسميا شراء المناصب ـــ بلا خجل ،وتحت شعار الشريعة السّنية وفى حمايتها ، بل بالرشوة كان يتم تعيين قضاة الشرع ( السنى ).!.

ولم يختلف الحال كثيرا فى مصر الراهنة . وقديما قال المتنبى :

وكم ذا بمصر من المضحكات   ولكنه ضحك كالبكا

المماليك البطالون، والأمير الطرخان:

1 ـ وهناك من المماليك من كان يعرف بالبطال. والبطال هو الأمير المملوكي العاطل الذى أحاله السلطان للمعاش بسبب غضبه منه أو بسبب كبر السن أو بسبب اضطراره للاختفاء أو الاعتكاف.والأمير الطرخان هو المعزول عن سلطاته غير مغضوب عليه وينال معاشاً.

2 ـ والأمير مغلباى طاز ت 873 عاش أواخر حياته بطالاً.وقد بدأ حياته خاصكيا في سلطنة المؤيد شيخ، ولما تولى الأشرف اينال جعله أميراً لعشرة، ثم تسلطن زميله فرقاه أمير طبلخانه وجعله أمير الحج، ثم صار أمير مائة ألف ودام على ذلك حتى كانت الفتنة التى خلع فيها صهره السلطان الظاهر يلباى فأحيل مغلباى طاز إلى البطالة وظل كذلك إلى أن مات 873 هـ منفياً في دمياط.

3 ـ أما الأمير لؤلؤ بن عبد الله الذى توفي في نفس العام 873 فقد لزم داره بطالاً إلى أن مات.. وقد كان لؤلؤ أميراً عالى القدر في سلطنة الأشرف اينال، فلما تولى السلطنة ابنه أحمد ابن اينال طمع هذا السلطان الشاب في جارية حسناء مغنية كانت في ملك لؤلؤ وطلبها منه ولكن لؤلؤ امتنع فغضب منه أحمد بن اينال وعزله فأصبح بطالاً.. ولما تولى خشقدم السلطنة أعاد لؤلؤ لدائرة الضوء وعينه زماماً وخازنداراً ثم عزله فاستمر بطالاً بداره إلى أن مات.  

4 ـ وفي نفس العام سنة 873هـ ، توفي الأمير بيبرس الأشرفي، وكان قد اعتقله السلطان الظاهر خشقدم يوم الخميس 26 ذو الحجة 865 وحبسه في الإسكندرية مدة ثم أفرج عنه وأمره بالإقامة بالقدس بطالاً فظل هناك إلى أن مات أواخر شهر رمضان 873هـ. ومن الأمراء الذين أصابتهم البطالة جرياش ويشبك المؤيدى وطوخ الأبوبكرى.

سلطان على المعاش في عصر قايتباى:

1 ـ وأصابت البطالة بعض السلاطين وكان منهم السلطان (السابق) المنصور عثمان بن جقمق الذى عاش في سلطنة الأشرف قايتباى وأسبغ عليه قايتباى كثيراً من التكريم. ففى يوم السبت 3 شوال 873 قدم السلطان (السابق) عثمان بن جقمق من منفاه بالإسكندرية إلى القاهرة ليستأذن السلطان قايتباى في الذهاب للحج. ويصف ابن الصيرفي ذلك اللقاء بين السلطان الحالى والسلطان السابق فيقول" وطلع المنصور من فوره إلى القلعة ونزل عن فرسه من باب الدرج ودخل إلى السلطان بالدهشة واستمر السلطان جالساً على مدورته إلى أن قاربه المنصور ووصل إلى ثلثى الإيوان قام إليه ، وأراد السلطان أن يعتنقه فأهوى المنصور إلى ركبة السلطان ليقبلها والشباك في يمينه .  وجلس المنصور تجاهه والمرتبة خلفه والشباك عن يساره، وتكلما ساعة فخلع عليه ( قايتباى ) كاملية مخمل أحمر بمقلب سمور وعليها فوقاني بوجهين بطراز مزركش، ولما تم لبسه ومشى إلى نحو السلطان خطوات قام له السلطان فقبل المنصور الأرض فنهاه السلطان عن ذلك بعد أن فعله، وعاد المنصور إلى منزله بعد أن عين له السلطان فرساً خاصاً أدهم بسرج ذهب وكنبوش (بردعه) زركش ركبه من باب الساقية وتوجه إلى باب الحريم ، فوقف هناك وأرسل السلام لخوند (زوجة السلطان) جهة السلطان فلما عاد عليه السلام توجه لمنزله الذى نزل فيه وهو بيت صهر زوج أخته الأتابكي أزبك بين الصورين.) . ونرى من الوصف التفصيلي السابق كيف أن المماليك كانوا يحافظون على البروتوكول في الاستقبال، ولم يمنع من ذلك أن السلطان المعزول (المنصور عثمان بن جقمق) كان له زمنه ونفوذه الذى كان فيه الأمير قايتباى يخر على وجهه ليقبل الأرض بين يديه، ولكن الساقيه دارت وجاء السلطان السابق ليركع أمام تابعه السابق، فالأيام دول، وسبحان من يعز من يشاء ويذل من يشاء.

وهذا الوضع لفت انتباه مؤرخنا ابن الصيرفي، يقول أن قايتباى أمر الأمراء والأعيان بالاحتفال بقدوم المنصور عثمان للقاهرة، فهرعوا له زمراً زمراً ، ومع هذا كله فلم يكن لحضور المنصور ودخوله القاهرة كبير أمر ، مع أنه أى المنصور عثمان كان الذى اشترى أولئك المماليك وهو الذى رقاهم ورفعهم، ويعلق ابن الصيرفي فيقول "فانظر لهذه الدنيا وفعلها بملوكها والمغرمين بها فسبحان الخالق المعطي الذى يؤتى الملك من يشاء لا إله إلى هو جل وعلا".وينتهزها ابن الصيرفي فرصة ليكيل المدح للسلطان قايتباى على أنه استضاف سلطاناً معزولاً دون أن يخشى من نفوذه وأتباعه السابقين، يقول "وفي الواقع فما رأينا سلطاناً أعظم ولا أضخم ولا أشهم ولا أفرس ولا أكثر توكلاً على الله من هذا السلطان الملك الأشرف، كونه يحضر من كان سلطاناً وابن سلطان بل أستاذه وابن أستاذه إلى القاهرة ويصعد إليه لقلعة الجبل وغالب من بالبلد من الأمراء المماليك من عتقاء أبيه ومماليكه بعد أن خلع من الملك من سابع شهر ربيع الأول من سنة 857هـ.

2 ـ وفي السبت 10 شوال 873 أقام السلطان مأدبة للمنصور عثمان نقرأ وصفها التفصيلي في تاريخ ابن الصيرفي "عمل السلطان ضيافة للمنصور عثمان بن جقمق ضيافة ملوكية. وكيفية الضيافة: أن السلطان أرسل يعرف المنصور بذلك فركب المنصور من داره صهره الأتابك أزبك من بين الصورين وصعد لباب القلة فنزل هناك عن ظهر فرسه ، ودخل ماشيا إلى الحوش السلطانى ، فجلس فيه قليلاً إلى أن طلبه السلطان وجاءه الأذن بالدخول إلى البحرة التى جددها الملك الظاهر خشقدم، فجلس قليلاً وطلبه السلطان إلى أعلى البحرة القديمة فبمجرد وقوع بصر السلطان عليه قام له وجلسا بغير مرتبة، على أن كلا منهما جلس على مقعد ، ثم حضر الفطور من الأشربة وغيرها فتناولا منه المعتاد، ثم حضر السماط الملوكي المفتخر فأكلا، ولم يحضر السماط أحد من الأمراء المقدمين الألوف غير الأمير جانبك الأمير آخور الكبير وبعض أمراء عشرات وبعض خاصكيته، ولما انتهى السماط وقدموا المشروب من السكّر وغيره رسم السلطان بكامليه مخمل أخضر سمور بمقلب سمور ليلبسها المنصور فحضرت ولبسها وقاماً واعتنقا وانصرفا، وفي الحال رسم السلطان أن المركوب الذى طلب له يركبه من باب البحيرة من الحوش السلطانى فركب كما رسم وتوجه لمنزله....". ونتعرف هنا على بعض ملامح المآدب الرسمية المملوكية، فقد بدأت بدعوة السلطان قايتباى ضيفه المنصور، ثم جاء الضيف راكباً فرسه حتى باب القلة في القلعة، ثم دخل ماشياً إلى باب الحوش السلطانى، وهناك جلس فيه قليلاً إلى أن طلبه السلطان فدخل إلى البحرة التى بالقلعة حيث ينتظره السلطان، وهناك تعانقا وجلس كل منهما على مقعد، ثم تناولا الفطور، وبعده جاء السماط المفتخر وحضره أمير آخور وبعض الأمراء في القلعة، وجاء المشروب بعد السماط، وبعده أنعم السلطان على ضيفه برداء للتشريف (كاميلية) بمخمل أخضر سمور، وبعد أن لبس الضيف التشريفة عانق السلطان وانصرف، وأمر السلطان تكريماً له أن يركب نفس الحصان من باب البحرة إلى منزله، وعاد المنصور عثمان من ضيافة القلعة، تلك القلعة التى كان يعيش فيها من قبل سلطانا لمصر وكان قايتباى وقتها أميراً يقبل الأرض بين يديه، ولكنها الساقية.. لا تزال تدور!!

3 ـ وشرع المنصور عثمان في التجهيز للسفر للحج فأرسل له الأمراء معونات مالية وعينية على سبيل الهدية أو ربما الصدقة!! وقبيل توجهه للحج صعد المنصور ليودع السلطان قايتباى فخلع عليه السلطان كاميلية أخرى، يقول ابن الصيرفي "فكان طلوعه للسلطان في هذه السفرة ثلاث مرات". وعاد المنصور من الحج فاستقبله السلطان يوم الاثنين 11 محرم 874 وأكرمه وخلع عليه، وكانت أخت المنصور، وهى زوجة الأتابك أزبك- قد أهدت هدايا لمن بشرها بقدوم أخيها سالماً من الحجاز.  وفي يوم الأربعاء 7 صفر 874 صعد المنصور عثمان إلى السلطان يستأذنه في العودة إلى الإسكندرية فخلع عليه خلعة أخرى، وأقام له الأمير برسباى قرا مأدبة هائلة، وركب بعدها المنصور المركب من ساحل بولاق في طريقة إلى الإسكندرية.

وكان واضحاً تلك العلاقة التى كانت تربط قايتباى وذلك السلطان المعزول المنصور عثمان بن جقمق، وقد نهى قايتباى أن يكتب له المنصور في مراسلاته كلمة "المملوك" كما كانت العادة في الرسائل، وكتب نفس الشيء إلى سلطان معزول وأخر هو المؤيد أحمد بن اينال وكان ذلك في ذى القعدة 875هـ.

4 ـ واستأذن المنصور عثمان من السلطان قايتباى بأن يتوجه لثغر دمياط بسبب شجار حدث بين مماليك المنصورعثمان ومماليك نائب الإسكندرية أو حاكمها باسم قايتباى، فأمر قايتباى ذلك النائب بأن يذهب ويعتذر للمنصور عثمان ويقبل يديه ورجليه، وأذن للمنصور بالتوجه لدمياط وغيرها، وقد حدث ذلك في رجب 875هـ. ودخل المنصور عثمان إلى دمياط وهو يصطاد ودخل المحلة وغيرها، ويقول ابن الصيرفي مهللاً للسلطان الذى سمح للمنصور بذلك "فلله في هذا السلطان ما أعظم شجاعته عمن تقدمه من السلاطين إنه أطلق للملوك مثل ما أطلق لهم هذا الملك، والله ما له نظير في جميع أفعاله وأقواله.!!.".

 



([1])

([2]) لم يتوسل بالسيدة زينب لأن ضريحها لم ينشأ حتى  سنة 955هـ أى بعد هذه الحادثة بثمانين عاماً، ولو كان ضريح السيد زينب موجوداً لاستغاث صاحبنا بأم العواجز.

اجمالي القراءات 19476