امتطت مصر الناقة وشرعت في رحلتها إلى الماضي، وعبثاً الأمل في نزولها من على ظهرها أو حتى تعديل وجهتها ولو قليلاً، فلن يرحل الإخوان المسلمون وأذيالهم عن الحكم بالسهولة التي قد يتخيلها البعض، فهم لم يقفزوا عليه بباراشوت أو عبر انقلاب عسكري، وإنما عملوا على الوصول إليه طوال ثمانين عاماً بجد ودأب وإخلاص، وتحملوا في سبيل ذلك سائر صنوف المعاناة، وانتشرت كوادرهم الملتزمة والمنضبطة في سائر مؤسسات الوطن وشرايينه، كما أنه ليس صحيحاً ما لا يمل البعض من ترديده من أنهم قد اختطفوا ما نسميه "ثورة" أو ركبوها، فالهوجة أو الثورة هم أصحابها منذ البداية وحتى النهاية، لكنهم شاءوا أن يبدأوها متخفيين عن طريق خلاياهم المندسة وسط الحركات الجماهيرية مثل كفاية و 6 أبريل وما شابه، وقد أتاح لهم هذا التكتيك اجتذاب شباب وجماهير وحتى مفكرين حسني النية إلى حد السذاجة، فكان أن تحقق لهم ما عجزت أساليب حشدهم التقليدية عن تحقيقه طوال عقود عديدة خلت. . لقد امتلكوا الأرض والشعب قبل أن يصلوا إلى تلك الكراسي التي يتربعون عليها الآن، لهذا لن تستطيع أي قوة أن تخلعهم ما لم تحقق في القاعدة والشارع المصري ومؤسساته مثلما حققته تلك الجماعة المحظورة والمتغلغلة في الأرض المصرية في آن. . لقد حل ليل مصر الطويل، وبدأت ظلماته ترخي سدولها على سائر مناحي حياتنا، ولن تشرق الشمس بعده من تلقاء نفسها أبداً، وما المعارضة الحنجورية الصاخبة لحكم الجماعة المحظورة الآن إلا كما المحاولات الأخيرة اليائسة للذبيحة التي تمكن منها الجزار وشرع في تقييدها تمهيداً للنحر والسلخ.
أشهد أن الإخوان المسلمين يثبتون يوماً فيوماً أنهم أوفياء للعهد الذي قطعوه على أنفسهم مع الناس، ولم يتخاذلوا أمام المساومات والدعوات التي تطالبهم بدولة مدنية أو بمواقف وطنية تضع مصر أولاً، فلقد قدموا أنفسهم للناس دوماً على أساس تحقيق حلم الدولة الدينية وخلافة إسلامية عاصمتها أورشليم القدس وشعارها "طظ في مصر"، وهذا هو بالتحديد مفهومهم "للخير الذي يحملونه لمصر"، وها هم على مبادئهم ثابتون، وفي ذات أنفاقهم الهابطة ماضون، ووجهة نظري الشخصية أن أي وطني شريف لابد وسيرفض الدخول في وزارة الإخوان، لأنه لن يتاح له أن يكون ذاته فيسير على الخطوط المستقيمة والعلمية، وإنما سيكون ستارة يعملون هم من خلفها، وأداة ينفذون بها أغراضهم المفارقة للعلم وللصالح العام، ثم يكون هو كبش الفداء حين تبدأ تباشير الكوارث في الظهور، فلنتركهم يمارسون حقهم كاملاً في الحكم الذي فوضهم الشعب فيه عبر أول انتخابات مصرية حرة نزيهة، بغض النظر عما شابها من تجاوزات لا يمكن أن تخلوا منها أي انتخابات بدول العالم الثالث، فهي بلاشك لا تؤثر على الصورة النهائية للإرادة الشعبية التي اختارت التيارات الدينية بقوة ووضوح شديدين.
حتى مع افتراض حسن النية فإن مصر تدار شؤونها الآن بعقليات موغلة في التخلف والبدائية، فعندما يصرح رئيس جمهورية مصر في القرن الحادي والعشرين قائلاً "من لديه مظلمة فكلي آذان صاغية"، أو يقول أن "العدالة ستتحقق بالحب"، لا نجد هنا أثراً لشهادة الدكتوراة في الهندسة الأمريكية، بل نجد عقلية شيخ حارة في قرية صغيرة من قرى مصر. . من الطبيعي أن تكون "النهضة" التي حدثونا عنها من هذا القبيل، نهضة بمعايير عصور البداوة البدائية، التي لا تعرف النظم المؤسسية وحسن اختيار القائمين عليها، وآليات المراجعة المستمرة الذاتية لتلك المؤسسات، بما يؤدي لانخفاض الأخطاء المسماة مظالم إلى حدها الأدنى، وتقوم تلك المؤسسات بنفسها بتصحيح وتدارك أخطائها عبر آلياتها الخاصة، لكن ما يستطيعه رئيسنا الإخواني ذو التركيبة العقلية الماضوية هو نشر صوره وهو يؤم الناس في الصلاة تأكيداً على أنه الخليفة الذي يجمع بين الرئاسة الدنيوية والإمامة الدينية للأمة، وأن يدعو الناس للنزول لتنظيف الشوارع من القمامة بأنفسهم، ومن الطبيعي والوضع هكذا ألا يكون أمام الناس إزاء فشل المؤسسات وفسادها إلا التظلم للسيد الجالس في قصره الجمهوري.
أشهد أن الإخوان المسلمين يثبتون يوماً فيوماً أنهم أوفياء للعهد الذي قطعوه على أنفسهم مع الناس، ولم يتخاذلوا أمام المساومات والدعوات التي تطالبهم بدولة مدنية أو بمواقف وطنية تضع مصر أولاً، فلقد قدموا أنفسهم للناس دوماً على أساس تحقيق حلم الدولة الدينية وخلافة إسلامية عاصمتها أورشليم القدس وشعارها "طظ في مصر"، وهذا هو بالتحديد مفهومهم "للخير الذي يحملونه لمصر"، وها هم على مبادئهم ثابتون، وفي ذات أنفاقهم الهابطة ماضون، ووجهة نظري الشخصية أن أي وطني شريف لابد وسيرفض الدخول في وزارة الإخوان، لأنه لن يتاح له أن يكون ذاته فيسير على الخطوط المستقيمة والعلمية، وإنما سيكون ستارة يعملون هم من خلفها، وأداة ينفذون بها أغراضهم المفارقة للعلم وللصالح العام، ثم يكون هو كبش الفداء حين تبدأ تباشير الكوارث في الظهور، فلنتركهم يمارسون حقهم كاملاً في الحكم الذي فوضهم الشعب فيه عبر أول انتخابات مصرية حرة نزيهة، بغض النظر عما شابها من تجاوزات لا يمكن أن تخلوا منها أي انتخابات بدول العالم الثالث، فهي بلاشك لا تؤثر على الصورة النهائية للإرادة الشعبية التي اختارت التيارات الدينية بقوة ووضوح شديدين.
حتى مع افتراض حسن النية فإن مصر تدار شؤونها الآن بعقليات موغلة في التخلف والبدائية، فعندما يصرح رئيس جمهورية مصر في القرن الحادي والعشرين قائلاً "من لديه مظلمة فكلي آذان صاغية"، أو يقول أن "العدالة ستتحقق بالحب"، لا نجد هنا أثراً لشهادة الدكتوراة في الهندسة الأمريكية، بل نجد عقلية شيخ حارة في قرية صغيرة من قرى مصر. . من الطبيعي أن تكون "النهضة" التي حدثونا عنها من هذا القبيل، نهضة بمعايير عصور البداوة البدائية، التي لا تعرف النظم المؤسسية وحسن اختيار القائمين عليها، وآليات المراجعة المستمرة الذاتية لتلك المؤسسات، بما يؤدي لانخفاض الأخطاء المسماة مظالم إلى حدها الأدنى، وتقوم تلك المؤسسات بنفسها بتصحيح وتدارك أخطائها عبر آلياتها الخاصة، لكن ما يستطيعه رئيسنا الإخواني ذو التركيبة العقلية الماضوية هو نشر صوره وهو يؤم الناس في الصلاة تأكيداً على أنه الخليفة الذي يجمع بين الرئاسة الدنيوية والإمامة الدينية للأمة، وأن يدعو الناس للنزول لتنظيف الشوارع من القمامة بأنفسهم، ومن الطبيعي والوضع هكذا ألا يكون أمام الناس إزاء فشل المؤسسات وفسادها إلا التظلم للسيد الجالس في قصره الجمهوري.
في ثقافة تقوم على الإيمان بالمطلقات، وتتكاثر بالتالي فيها التابوهات المحرم الاقتراب منها، يكون مصير الناقد الجاد الباحث عن جذور الإشكاليات والقضايا المصيرية المزمنة والمستعصية على المعالجة هو أن يكون هدفاً لأحجار الراجمين، فإذا ما تناولنا مثلاً العلاقة المشبوهة بين سلطة الإخوان المسلمين الحالية في مصر وبين الحكومة الإرهابية المقالة في غزة، تحذيراً من أن نجد أنفسنا نطبق بأيدينا خطة شارون لتوطين الفلسطينيين في سيناء، وفي ذات الوقت نساهم في ضرب التيار المدني الفلسطيني بنصرتنا لجماعات الإرهاب التي يئن الشعب الفلسطيني في غزة تحت وطأتها، نرى من يفشل عن حسن أو سوء نية في التقييم الصحيح لمقاربتنا، ويعدها شعوبية بغيضة تستهدف الشعب الفلسطيني وقضيته التي صارت "تابو" يحرم الاقتراب منه خارج نطاق المطلقات التي آمنا بها، وننتفض هلعاً وجزعاً وتكفيراً إذا ما خرج أحدهم عن خطوطها المستقيمة الأزلية. . ورغم أنني أنتقد بالأساس إرهابيي حماس وأخوتها، إلا أنني في الحقيقة ولسوء حظي لا أرى جوهر مشاكلنا عموماً في ذؤابة الشجرة، أي في الحكام الذين نصب عليهم اللعنات ليل نهار، ولكن في جذورها الممتدة في ثقافة الشعوب وسلوكياتها ومطلقاتها وما تسميه ثوابتها، وبالتالي أجدني رغماً عني أنتقد الشعب المصري الذي أنتمي إليه، وأنتقد الأقباط الذين أنا واحد منهم، ويفشل كثيرون في إدراك - أو أفشل أنا في توضيح - أن النقد عندي ليس كما يتصور البعض يأتي على خلفية كراهية أو استهداف، بل هو من قبيل نقد الإنسان لذاته، تلك العملية الوجوبية التي بدونها تتخلف الشعوب غارقة في مستنقع أخطائها التي تتحاشى وتحرم الاقتراب منها، فكما أرفض الثقافة التي تعتبر الحاكم أو رجل الدين "تابو" مقدس، فإنني أيضاً أرفض اعتبار "الشعب" أو "الأمة" "تابو" مقدس يحرم ويجرم الاقتراب منه نقدياً. . أنتمي للإنسانية بل وللكائنات الحية ولكل ما في هذا الكون من جبال ووديان وأنهار وبحار، وبالتالي لا يمكن أن يكون لي موقفاً مبدئياً مضاداً لأي إنسان أو شعب أو مكون من مكونات هذا الكون الفسيح الذي نمتلكه جميعاً.
مثلاً حالة التدني المصرية لا تقتصر على الجماعات الدينية الإسلامية رغم تأثيرها السلبي الهائل، فالتدني والجهالة والفساد حالة مصرية عامة لا يختص بها مكون مصري دون الآخر، إذ يساهم فيها الجميع كل بنصيبه ووفق حجمه وظروفه، وأبسط مثال هذا الشباب القبطي الذي يجاهد الآن لتولي راهب زاهد منصب بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وليس أحد هؤلاء الأساقفة والمطارنة الذين للكثيرين منهم سجلات فساد مكنونة في خزانة التكتم القبطية الأرثوذكسية، والتي فاحت في الوطن الكثير من روائحها العفنة، فقد حاول جيلي مثل هذا بكل ما أوتي من قوة عام 1970، وكانت الإسكندرية والقمص بيشوي كامل (قديس العصر) ركناً قوياً في هذه الدعوة، ومع ذلك منينا بالخسران، وجاء الأنبا شنودة رغماً عن أنوف الجميع، ليصير بعد ذلك إلهاً معبوداً من غالبية الأقباط، فنحن قد يتاح لنا أن نهتف كما نشاء، لكن الكنيسة كما الوطن بين براثن ذئاب لا تعرف هوادة ولا تهاون في سبيل الاستحواز على السلطة والجاه والثروة، وعلى من ينقب عن الفساد أن يذهب إلى حيث ادعاءات القداسة، فسيجد هناك كافة صنوفه.
هو إذن ليل مصر المقدر له أن يطول حتى يشبع المصريون من نعيم الحياة في ظلمات الجهالة التي اختاروها لأنفسهم، وعلى المتضرر نافد الصبر أن يبحث له عن بقعة أخرى تحت الشمس يستطيع أن يعيش فيها محتفظاً بكرامته وبكينوته الإنسانية، أما من تخطوا مثلي خريف العمر ودخلوا في شتائه فربما رأوا أن ما تبقى لهم من العمر لا يستدعي مشاق الرحيل، وليبقوا ينتظرون الفجر، باذلين ما وسعهم من جهد في التمهيد له.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
مثلاً حالة التدني المصرية لا تقتصر على الجماعات الدينية الإسلامية رغم تأثيرها السلبي الهائل، فالتدني والجهالة والفساد حالة مصرية عامة لا يختص بها مكون مصري دون الآخر، إذ يساهم فيها الجميع كل بنصيبه ووفق حجمه وظروفه، وأبسط مثال هذا الشباب القبطي الذي يجاهد الآن لتولي راهب زاهد منصب بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وليس أحد هؤلاء الأساقفة والمطارنة الذين للكثيرين منهم سجلات فساد مكنونة في خزانة التكتم القبطية الأرثوذكسية، والتي فاحت في الوطن الكثير من روائحها العفنة، فقد حاول جيلي مثل هذا بكل ما أوتي من قوة عام 1970، وكانت الإسكندرية والقمص بيشوي كامل (قديس العصر) ركناً قوياً في هذه الدعوة، ومع ذلك منينا بالخسران، وجاء الأنبا شنودة رغماً عن أنوف الجميع، ليصير بعد ذلك إلهاً معبوداً من غالبية الأقباط، فنحن قد يتاح لنا أن نهتف كما نشاء، لكن الكنيسة كما الوطن بين براثن ذئاب لا تعرف هوادة ولا تهاون في سبيل الاستحواز على السلطة والجاه والثروة، وعلى من ينقب عن الفساد أن يذهب إلى حيث ادعاءات القداسة، فسيجد هناك كافة صنوفه.
هو إذن ليل مصر المقدر له أن يطول حتى يشبع المصريون من نعيم الحياة في ظلمات الجهالة التي اختاروها لأنفسهم، وعلى المتضرر نافد الصبر أن يبحث له عن بقعة أخرى تحت الشمس يستطيع أن يعيش فيها محتفظاً بكرامته وبكينوته الإنسانية، أما من تخطوا مثلي خريف العمر ودخلوا في شتائه فربما رأوا أن ما تبقى لهم من العمر لا يستدعي مشاق الرحيل، وليبقوا ينتظرون الفجر، باذلين ما وسعهم من جهد في التمهيد له.
الولايات المتحدة- نيوجرسي