" يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ " 82:6
إن الإنسان لفى خسر...قليلا ما تشكرون

محمد صادق في الأربعاء ٠١ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

إن الإنسان لفى خسر...قليلا ما تشكرون

بسم الله الرحمن الرحيم

"وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏"1-3: 103

فى هذه السورة الكريمة، قرر سبحانه بعلمه الكاشف أن الإنسان بصفة عامة هو فى خسران. مع إستثناء القلة التى آمنت حق الإيمان وقدَّرت ربها حق قدره، وعملوا الصالحات فى نظر الله سبحانه أنها صالحات يقبلها ويثوب عليها، وتواصوا بالحق، وأول ما يخطر ببالى عند رؤية كلمة الحق، يذهب ذهنى فورا إلى القرآن الكريم، وتواصوا بالصبر وهو من أهم شروط المؤمن الحق. فلماذا قرر رب العباد أن الإنسان فى خسر؟ لأن رب العباد عالم الغيب والشهادة هو الذى خلق الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به نفسه، فبعلم الله الكاشف، أخبرنا بما لا نعلم فقال أيها الإنسان إنك تعيش فى هذه الدنيا وأكثركم فى خسران لأنكم لم تؤمنوا حق الإيمان ولم تعملوا الصالحات، ولكن تحسبون أنكم تحسنون صنعا، وبين أيديكم القرآن الكريم والرسول يدعوكم لما يحييكم، ومع كل ذلك تكفرون وتتكبرون وتكذبون على الله ورسوله، ولم تتحلوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.

فلننظر إلى آية قليلة فى كلماتها ولكن عظيمة فى معناها ولو تعقلها الإنسان لصلح حاله. يقول رب العزة:

" يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ " 82:6

أيها الإنسان، ما غرك بربك، من الذى جعل لك السمع والأبصاروالأفئدة، من الذى سخر لك ما فى الأرض جميعا منه، من الذى يتوفاك بالليل ويبعثك فى النهار، ألم تعلم أن الله سبحانه هو الذى خلقك فصورك وفى أى صورة ما شاء ركبك، وبعد ذلك تكَّذب بيوم الدين ولا تحض على طعام المسكين ولم تقدر الله حق قدره، لماذا تشرك بربك أيها الإنسان المغرور. وبالرغم من كل هذا وأكثر، أنظر خطاب الله لهذا الإنسان الكفور اليؤوس القنوط، فحين قرر سبحانه مخاطبة هذا الإنسان بهذه الصفات فكان المتوقع أن يقول له ما غرك بربك الجبار، أو بربك القهار أو ما شابه ذلك من كلمات ولكن قال سبحانه " ما غرك بربك الكريم، سبحان الله فى كرمه وفضله، ألا نتعظ وندرس كتاب ربنا حتى نفوز برضاه...

وصف الإنسان فى القرآن

ضَعِيفًا، يَئُوسٌ كَفُورٌ ، فَرِحٌ فَخُورٌ ، ظَلُومٌ كَفَّارٌ‏‏، عَجُولًا،  كَفُورًا ، يَئُوسًا ‏، قَتُورًا‏، أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏، ظَلُومًا جَهُولًا، خَصِيمٌ مُبِينٌ،  يَئُوسٌ قَنُوطٌ،  ‏كَفُورٌ مُبِينٌ ، هَلُوعًا ، لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ .‏

هذه هى أوصاف الإنسان من خالق الإنسان، أوصاف مباشرة للإنسان وهناك أوصاف أخرى غير مباشرة ولكنها تؤدى إلى نفس النتيجة ولكن بكلمات أخرى مختلفة. فبكل هذه الأوصاف نجد أن الإنسان فى خسر إلا الذين تخلصوا من هذه الصفات بإذن ربهم وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر بعد الإيمان الحقيقى وعملوا الصالحات، الذى رب العباد بعلمه الشامل يعلم الصالحات من غير الصالحات وليس لنا أن نزكى أنفسنا وندعى أننا نعمل الصالحات فالأمر والحكم لله العلى القدير.

خلق الإنسان ضعيفا

" الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " 8:66

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ..... كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (2:187

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّف عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا " 4:28‏‏"

من رحمته وإحسانه ، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه ، ضعف البنية ، وضعف الإرادة ، وضعف العزيمة ، وضعف الإيمان، وضعف الصبر ،فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ، ما يضعف عنه وما لا يطيقه صبره وقوته‏.‏

" وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ " 11:9

يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان ، أنه جاهل ظالم بأن الله إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق  والأولاد وما إلى ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس ، وينقاد للقنوط، فلا يرجو ثواب الله ، ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو خيرا منها ‏.‏وأنه إن أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته ، أنه يفرح ويبطر ، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير ، ويقول‏:" ‏ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ‏" فرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه ، فخور بنعم الله على عباد الله ، وذلك يحمله على الغرور والبطر والإعجاب بالنفس ، والتكبر على الخلق . ‏وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده، وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء فلم ييأسوا، وعند السراء فلم يبطروا ، وعملوا الصالحات.‏

نِعَمْ الله وعدم الشكر

"وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏" 14:34‏

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا‏)‏ فضلا عن قيامكم بشكرها ‏(‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏) هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي مقصر في حقوق ربه كفَّار لنعم الله ، لا يشكرها ولا يعترف بها إلا من هداه الله فشكر نعمه ، وعرف حق ربه وقام به‏.‏ ففي هذه الآيات من أصناف نعم الله على العباد شيء عظيم ، مجمل ومفصل يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره .

من النعم الذى أنعم الله على الإنسان بعد ما أمره بعمارة الأرض ولكى يقوم بهذا وذاك سهل له طرق الكسب ليقوم بالعمارة ويقوم بالتكاليف الذى أمره بها الله سبحانه مثل الإنفاق والزكاة والصدقات ورعاية الأسرة قال عز من قائل:

" وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ" 7:10

مكناكم فى الأرض لتقوموا بإقامة دين الله سبحانه ولعمارة الأرض بما يرضى الله السميع العليم، ولذلك فقد جعل لكم سبل المعيشة حتى تتمكنوا من تلبية هذا التكليف ولكن قليلا ما تشكرون، لماذا أيها الإنسان؟ لماذا قلة الشكر وفى بعض الأحيان لا شكر على الإطلاق وكأنها قضية مسلمة، فأنظر ماذا قال ربنا الكريم:

"  إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ " 100:6

وقال أيضا فى غير مكان: "  وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ‏‏ " 22:66

الدعاء بالشر والعجلة

" وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا " 17:11

المقطع الذى ذكر فيه هذه الآية الكريمة بدأ ب " إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (17:9

هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم , فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان. فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له.

ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها ولقد يفعل الفعل وهو شر ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي.

" وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ "

نِعم الله في ركوب البحر وتهديد الكفار بالغرق

" وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا " 17:67

بدأ الله سبحانه هذا المقطع فيقول: رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66

ذلك ما يبيته الشيطان للناس من شر وأذى،  ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان ويستمعون إليه.ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش وينجيهم من الضر والكرب ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق . . ثم إذا هم يعرضون ويكفرون.

والسياق يعرض هذا المشهد مشهد الفلك في البحر نموذجا للحظات الشدة والحرج . لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى وأشد حساسية ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن.

إنه مشهد يحس به من كابده ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار.

والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله (إنه كان بكم رحيما) فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان.

ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند و مجير إلا الله فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه: (ضل من تدعون إلا إياه).

ولكن الإنسان هو الإنسان فما إن تنجلي الغمرة وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة  فينسى الله وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر: (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار.

اختلاف موقف الناس من الضر والنفع

" وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا" 17:83

يقول الله سبحانه فى الآية التى تسبق هذه الاية الكريمة: " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) ففى القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، وفي القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة ‏وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزعات الشيطان وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير." وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارا ".

فأما حين يترك الإنسان بلا شفاء ورحمة . حين يترك لنزعاته واندفاعاته فهو في حال النعمة متبطر معرض لا يشكر ولا يذكر وهو في حال الشدة يائس من رحمة الله تظلم في وجهه فجاج الحياة. والنعمة تطغى وتبطر ما لم يذكر الإنسان واهبها فيُحمد ويُشكر والشدة تيئس وتقنط ما لم يتصل الإنسان بالله فيرجو ويأمل ويطمئن إلى رحمة الله وفضله فيتفاءل ويستبشر. ومن هنا تتجلى قيمة الإيمان وما فيه من رحمة في السراء والضراء سواء.

كرم الله في مقابل بخل الإنسان

" قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا‏ " 17:100‏

من سياق الآيات التى قبلها نرى أن أولئك الذين يقترحون على الرسول عليه السلام، تلك المقترحات المتعنتة من بيوت الزخرف وجنات النخيل والأعناب والينابيع المتفجرة . . بُخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها لأمسكوا وبخلوا خوفا من نفادها ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض.

وهي صورة بالغة للشح فإن رحمة الله وسعت كل شيء ولا يخشى نفادها ولا نقصها ولكن نفوسهم لشحيحة تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها.

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي‏)‏ التي لا تنفذ ولا تبيد (‏إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ‏)‏ أي‏:‏خشية أن ينفد ما تنفقون منه ، مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله ، ولكن الإنسان مطبوع على الشح والبخل.

الجدال في الحق بعد ما تبين ويجادلون بالباطل‏ (‏لِيُدْحِضُوا بِهِالْحَقَّ)

" وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" 18:54‏

إنهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان . والديان يطالبهم أن يأتوا بشركائهم الذين زعموا ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا . . وإنهم لفي ذهول ينسون أنها الآخرة فينادون . لكن الشركاء لا يجيبون...

وهم بعض خلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا في الموقف المرهوب . وقد جعل الله بين المعبودين وعبادهم مهلكة لا يجتازها هؤلاء ولا هؤلاء . . إنها النار (وجعلنا بينهم موبقا ).

ويتطلع المجرمون , فتمتليء نفوسهم بالخوف والهلع وهم يتوقعون في كل لحظة أن يقعوا فيها . وما أشق توقع العذاب وهو حاضر وقد أيقنوا أن لا نجاة منها ولا محيص.

(ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا)

ولقد كان لهم عنها مصرف لو أنهم صرفوا قلوبهم من قبل للقرآن ولم يجادلوا في الحق الذي جاء به وقد ضرب الله لهم فيه الأمثال ونوعها لتشمل جميع الأحوال.

(ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)

ويعبر السياق عن الإنسان في هذا المقام بأنه (شيء) وأنه أكثر شيء جدلا . ذلك كي يطامن الإنسان من كبريائه ويقلل من غروره ويشعر أنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة . وأنه أكثر هذه الخلائق جدلا . بعد ما صرف الله في هذا القرآن من كل مثل.

‏الأمانة وأساس الثواب والعقاب

‏‏‏ " ‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"  33:72

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه . وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . والتي أخذها على عاتقه وتعهد بحملها وحده وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات وقصور العلم وقصر العمر وحواجز الزمان والمكان  دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز.

إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا.  هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة  وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا، وهذه الأرض تدور دورتها وتخرج زرعها  وتقوت أبناءها  وتواري موتاها.

وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال .. . كلها  تمضي لشأنها بإذن ربها وتعرف بارئها وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . ...........وحملها الإنسان:

الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده  ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ومقاومة انحرافاته ونزغاته ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق.

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم القليل القوة الضعيف الحول المحدود العمر الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع.

وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة . ومن ثم (كان ظلوما) لنفسه (جهولا) لطاقته . هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله . فأما حين ينهض بالتبعة . حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه والاهتداء المباشر لناموسه والطاعة الكاملة لإرادة ربه . المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال . . الخلائق التي تعرف مباشرة وتهتدي مباشرة وتطيع مباشرة ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل . ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء . . حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد . فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ومكان بين خلق الله فريد.

إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة . . هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى . وأعلنه في قرآنه وهو يقول: (ولقد كرمنا بني آدم). . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله  ولينهض بالأمانة التي اختارها والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.

وفى الختام، ولنا لقاء قريبا إن شاء الله، إن كان فى العمر بقية، لتكملة هذا الموضوع، نرى صفات الإنسان هى:

ضَعِيفًا، يَئُوسٌ كَفُورٌ ، فَرِحٌ فَخُورٌ ، ظَلُومٌ كَفَّارٌ‏‏، عَجُولًا،  كَفُورًا ، يَئُوسًا ‏، قَتُورًا‏، أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏، ظَلُومًا جَهُولًا، خَصِيمٌ مُبِينٌ،  يَئُوسٌ قَنُوطٌ،  ‏كَفُورٌ مُبِينٌ ، هَلُوعًا ، لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ .‏

17 صفة من خالق الإنسان ، لا تسر بأى حال من الأحوال، فعلينا أن ننظر بجدية فى أعماق أنفسنا ونتعرف على هذه الصفات الذميمة التى نتحلى بها أو بجزء منها وعلينا أن نتدبر كتاب رينا ونعقله ثم نحاول بقدر ما نستطيع التغلب على هذه السمات البذيئة الذى لا تنم عن شيئ إلا أننا تركنا القرآن وراء ظهورنا وغرتنا الحياة الدنيا.

من آيات الذكر الحكيم: "  أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا " 19:67

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " 14-67:12

أستغفر الله لى ولكم فإستغفروه إنه هو الغفور الرحيم....

اجمالي القراءات 16276