كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى ): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى
الفصل التمهيدى
خامسا : تنوع المادة التاريخية في تاريخ ابن الصيرفى ( إنباء الهصر بأبناء العصر ):
1 ـ ابن الصيرفي تلميذ لمن سبقه من المؤرخين المصريين، اتبع منهجهم ، وتنوعت في كتابه (الهصر) المادة التاريخية بنفس النسق الذى سار عليه المقريزى وابن حجر.
2 ـ وقد كان ابن خلدون أول من أشار في مقدمته إلى تنوع المادة التاريخية من تاريخ عالمى الى تاريخ محلى في كتب التاريخ، ويقول "ثم أن أكثر التواريخ لهؤلاء، يقصد الطبري وأمثاله- عامة المسالك والمناهج.. ومن هؤلاء من استوعب ما قبله الملة من الدول والأمم كالمسعودى ومن نحا نحوه، وجاء بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد.. واستوعب أخبار قطره واقتصر على تاريخ دولته كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها([1]).
3 ـ وتاريخ الطبري أبرز مثل للتاريخ العالمى، إذ بدأه ببداية الخلق وتاريخ الأنبياء والأمم السابقة، وذلك حسب المنهج الموضوعى،أى يتناول تاريخ كل قوم من البداية إلى النهاية ثم يبدأ في تاريخ قوم آخرين وهكذا، ثم إذا وصل إلى السيرة النبوية التزم بالمنهج الحولى وترتيب الحوادث حسب السنين. والسبب أن الطبري لم يجد تقويماً يؤرخ به الأمم السالفة حسب المنهج الحولى، وعندما وصل إلى تاريخ الإسلام كان التقويم الهجري في انتظاره. وقد ضم تاريخ الطبري مجمل ما يعرفه من تاريخ العالم القديم ، وهى فى منظورنا الآن أشبه بالخرافات ، ولكنها تعبير صادق عن معارف الناس وقتها ، ثم قام بالتأريخ للمسلمين نقلا عن روايات شفهية وتدوينات متفرقة وأخبار جمعها ودونها الإخباريون ، مع النقل عن ابن اسحاق والواقدى وابن سعد ، فى تاريخ السيرة وعصر الخلفاء من الردة والفتوحات الى الفتنة الكبرى ، والعصر الأموى والعصر العباسى الأول الى أن وصل الى عصره فأصبح يؤرخ من واقع المشاهدة والمعايشة ، ولكن جريا على ( التاريخ العالمى ) أو التاريخ العام . ولكن ذلك التاريخ العالمى العام كان عند الطبرى مرتكزاً في حقيقة الأمر على بغداد عاصمة الخلافة العباسية التى يراها الطبري بؤرة الأحداث، ولذا انشغل ببغداد والعراق أكثر من اهتمامه بالمناطق الأخرى. وكان التاريخ العام العالمي مناسباً لعصر الطبري وأمانيه في أن يذوب العالم الإسلامي في الخلافة العباسية وأن تظل بغداد عاصمة العالم المتحضر، إلا أن قيام الدولة المستقلة وازدهار الحواضر الإسلامية التى نافست بغداد أوجد نوعاَ آخر من المادة التاريخية وهو التاريخ المحلى.
4 ـ فإذا كان التاريخ العام العالمى يتجاوز حدود المكان الذى يعيش فيه المؤرخ وعصره وزمانه فإن التاريخ المحلى هو الذى يقصر اهتمامه على التاريخ للأقطار والدول والمدن والاشخاص، لذا ظهرت المؤلفات التاريخية في تاريخ مكة وتاريخ البصرة وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق وتاريخ حلب وتاريخ الفسطاط والقاهرة.
5 ـ واستأثرت مصر باهتمام مؤرخيها الذين كتبوا في قضائها وخططها، أى عمائرها- كما فعل الكندي وابن زولاق والقضاعى والقفطي والأدفوى. ثم جاء القرن التاسع فبرز المقريزى بالسلوك والخطط وتاريخ الخلفاء الفاطميين عدا رسائله الصغيرة في الطواعين والقبائل العربية والنقود.
6 ـ وتواصل التاريخ المصرى- وهو تاريخ محلى- ما بين كتاب ابن عبد الحكم في الفتح العربي لمصر إلى تاريخ ابن إياس الذى رصد وسجل واستقبل الفتح العثمانى لمصر في القرن العاشر الهجري.. ثم إلى تاريخ الجبرتى وفتح نابليون لمصر أى تواصل التاريخ المصري طيلة العصور الوسطي.على أن هذا التواصل في التاريخ لمصر اتبع نفس المنهج الذى بدأه الطبري عمدة المؤرخين والمفسرين فاتخذ المؤرخون المصريون من مصر مركزاً وبؤرة للحدث كما فعل الطبري ببغداد والعراق.
7 ـ وقد تطرف المؤرخون المصريون في التركيز على المحلية المصرية إلى درجة تناقض معها اهتمامهم بما يحدث خارج مصر، فلا يذكرونه في الأغلب إلا إذا كان إنعكاساً للوضع المصري في القاهرة، أو إذا تفاعل معه بالحرب أو السلم . ولا عيب في ذلك طالما التزم المؤرخ بمفهوم التاريخ المحلى الذى يعنى قصر الاهتمام على وطنه وما يختص به، إلا أن ذلك لا ينسحب على الطبري الذى ولى وجهه شطر بغداد والخلافة العباسية مع أن تاريخه أسماه "تاريخ الرسل والملوك أو تاريخ الأمم والملوك".
8 ـ وابن الصيرفي في (الهصر) اتبع مفهوم التاريخ المحلى إذ جعل من مصر مركز الأحداث، ولديه أكثر من مبرر، فالدولة المملوكية في عصره كانت مركز الأحداث وبؤرتها وكانت جيوشها تحارب شاه سوار الذى كان تابعا لها فى شمال العراق ثم ثار عليها يطلب الاستقلال ، فانهزم وتم أسره وجىء به الى قايتباى ليلقى مصيره مسمّرا على جمل يطاف به فى شوارع القاهرة . وكان حكام الإمارات الصغيرة في آسيا الصغرى والعراق، بل والعثمانيون يرسلون سفراءهم للقاهرة طلباً لمودة السلطان قايتباى.
9 ـ وابن الصيرفي في تأريخه لوصول أولئك السفراء يجعله ضمن الأحداث الداخلية المحلية في القاهرة المملوكية، لذا لا نستنكر عليه أن جعل عنوان تاريخه "إنباء الهصر بأبناء العصر) فهو قاهرى يرى عصره وحياته ودنياه في القاهرة "أم الدنيا" ، فقد لازم أسواقها تاجراً ، وتعلم على يدى علمائها طالباً ودخل على سلطانها قاضياً. بل أن محلية ابن الصيرفي تظهر واضحة في أسلوبه العامّى وتعبيراته المصرية الدارجة، وإحساسه كمصرى بالظلم وتعبيره عنه برغم مدحه للسلطان وأعوانه. وبهذه المصرية المحلية في ابن الصيرفي يتميز عن أستاذيه المقريزى وابن حجر، بل ويتميز بها عن رفيقه ابى المحاسن المؤرخ المملوكي الأصل الذى كان لا يخفي تعاليه على عوام الشعب. كما يتميز ابن الصيرفي بهذه المحلية المصرية عن رفيقه المؤرخ المصرى السخاوى الذى أوسع في كتابه الضخم "الضوء اللامع" لكثير من التراجم لأهل الشام والعراق والحجاز ولم يقصره على مصر وإنما دار مع رجال القرن التاسع داخل مصر وخارجها، وصاغه بأسلوب فصيح. ولا نجد شبهاً لابن الصيرفي في مصريته ومحليته إلا في ابن اياس في الأسلوب والعقلية والمنهج والمادة التاريخية.
10 ـ لقد حفل "إنباء الهصر" بإشارات متفرقة لأحداث العالم الخارجي التى جاءت أنباؤها إلى مصر وسلطانها قايتباى، وسارع ابن الصيرفي بتسجيلها ضمن الأحداث التى يدونها كل يوم فيما يخص تاريخ مصر واهتمامات أبنائها بالعالم الخارجي، أى جعلها أخباراً محلية..
ومنها نتعرف على أخبار العثمانيين وعلاقاتهم بمصر المملوكية فى عهد قايتباى . من ذلك أنه يقول عن العثمانيين "وصل إلى السلطان قايتباى".. "كتاب الأمير حاجب حلب يتضمن أشياء منها أن المقر الناصرى محمد بن عثمان متملك بلاد الروم غضب على وزيره محمود باشا وقبض عليه قبضاً شنيعاً([2]). فأخبار الدولة العثمانية تصل للسلطان قايتباى في القلعة عن طريق واليه في حلب، وابن الصيرفي يخلع على السلطان العثماني لقباً مصرياً مملوكياً ( المقرّ الناصرى ) مع اعترافه بأنه "متملك بلاد الروم" ، لأن العثمانيين ورثوا ملك الدولة الرومانية البيزنطية ، بعد أن فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية ، ودمّر الدولة البيزنطية فكان يطلق عليهم أحيانا ( الدولة الرومية ) . وبالطبع فإن أحداً في ذلك الوقت لم يكن ليتصور أن العثمانيين سيجهزون على الدولة المملوكية فيما بعد.
وفي موضع آخر يقول "وردت الأخبار عن ابن عثمان أنه أرسل إلى رودس ثلاثمائة قطعة ويحاصرها حصاراً عظيماً وقد ضيقّ عليهم"([3]). وقد تأتى أخبار العثمانيين للسلطان قايتباى عن طريق السفراء المبعوثين من الدولة العثمانية ، فيسرع ابن الصيرفي بتسجيلها فيقول "وصل جماعة من بلاد ابن عثمان في البحر وصحبتهم عدة من الفرنج وأسرى المسلمين ظفر بهم العثمانيين عند دمياط فاقتتلوا معهم وانتصروا عليهم"([4]).أى ان السلطان العثمانى يرسل الى قايتباى دلائل نصره على الفرنج الذين أغاروا على ميناء دمياط وأسروا بعض رجالها فأنقذهم العثمانيون وأسروا بعض الفرنجة المهاجمين .وكانت تلك السفارة باردة طيبة للعلاقات بين الجانبين خففت من بعض التوتر الذى ينشب بين حدودهما المشتركة، لذا فإن ابن الصيرفي يذكر أن "قاصداً" أى سفيراً من "ابن عثمان" وصل إلى السلطان المملوكي وحظي بتكريمه([5]).
11 ـ ومن شذرات أخرى من تاريخ ابن الصيرفي نتعرف على بعض الخلفيات من التاريخ العالمي خارج الحدود المصرية المملوكية.
فقد كان سفراء حسن بك صاحب ديار بكر يتوالون على القاهرة خصوصاً أثناء حرب الدولة المملوكية مع شاه سوار العدو المشترك للفريقين، لذا كان حسن بك الطويل يحارب شاه سوار ويبشر السلطان المملوكى بانتصاراته ويعتبر نفسه ضمن أتباعه.. يقول ابن الصيرفي "ورد الخبر على السلطان.... بأن حسن بك صاحب ديار بكر هو الذى كسر حسن على بن جهان صاحب العراقين واستولى على ممالكه.." ويتزايد نفوذ حسن بك وتتزايد علاقاته الطيبة بالمماليك، يقول ابن الصيرفي "وصل رسول حسن بك.. وأخبر السلطان..... بما ملكه من البلاد والقلاع ما لم يجتمع بيد أحد من الملوك قبله مع إظهار محبته لمولانا السلطان وأنه مملوك السلطان وأنه قتل من أولاد تمرلنك عدة وأن مقصوده رضى السلطان...." وتمكن حسن بك الطويل من قتل السلطان المغولى (أبو سعيد) وبعث برأسه إلى قايتباى فأمر بدفنها([6]).
وهناك أخبار أخرى عن المنازعات بين أمراء الحجاز ومنها "وصل الخبر بنزاع بين السلطان الينبوع مع السلطان المعزول خنافر"([7]).وهناك أخبار عن قبرص منها "حضر قاصد- أى سفير- نائب قبرص ومعه الجزية وقد طلب القاصد من ابن عثمان أن يكونوا تحت نظره أيضاً"([8]). وقد سمح السلطان قايتباى بأن يكون للعثمانيين نفوذ في قبرص وذلك منتظر بعد الاتفاق الودي بين العثمانيين والدولة المملوكية واتفاقهما على مواجهة التحركات البحرية الصليبية، وقد كانت تقوم بغارات على المواني المصرية في رشيد والإسكندرية وادكو([9]).
ثم هناك خبر طريف عن سفير ملك الهند الذى جاء يطلب من الخليفة العباسى بالقاهرة ومن السلطان قايتباى تقليداً له بالحكم([10]) وكانت هذه عادة هندية.. الأمر الذى يجعلنا نعذر ابن الصيرفي في جلوسه تحت قصر السلطان قايتباى مكتفياً به في تاريخه للعصر ومتخذاً منه رمزاً للتاريخ المحلى والتاريخ العالمي في نفس الوقت. يكفيه عذراً أن سلطان الهند يرسل للقاهرة سفيرا يرجو بأن تمنحه تفويضاً له بحكم بلاده...