كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى ): دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى
الفصل التمهيدى :
رابعا : منهج ابن الصيرفي في كتاب (الهصر):
1 ـ يقول ابن الصيرفي في كتابه (الهصر) ما يلى: (وفي هذا اليوم أضاف السلطان الملك الأشرف قايتباى- عز نصره- المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق عنده بالقلعة ضيافة ملوكية)([1]).هنا يورد المؤرخ ابن الصيرفي خبراً عن السلطان قايتباى وأنه استضاف ابن الظاهر جقمق وهو سلطان مملوكي سابق- وجعل له وليمة رسمية في القلعة.وهذا مثال للأخبار التاريخية نتوقف معه لنتعرف على المنتهج التاريخي.
وبالتدقيق في هذا المثل نعرف أن الحدث التاريخي له زمان وله مكان وله أبطال.. فأبطال الحدث التاريخي في المثال السابق هم السلطان قايتباى والمنصور عثمان وحاشية السلطان. ومكان الحدث التاريخي هو القلعة، والزمان الذى وقع فيه الحدث يقول عنه المؤرخ ابن الصيرفي وفي هذا اليوم وحين نرجع إلى الصفحة نتعرف على أن ذلك الحدث وقع يوم السبت العاشر من شوال سنة 873هـ. ومنهج ابن الصيرفي أنه يورد الأحداث باليوم والشهر وبالعام ، أى يتبع المنهج الحولى. لذا نقرأ أحداث شهر المحرم مرتبة حسب الأيام وبعدها يأتى شهر صفر هكذا إلى أن ينتهى العام ثم يأتي العام الثاني بمحرم ثم صفر وهكذا.
2 ـ فالمنهج الحولى في الكتابة التاريخية معناه أن يكون التأريخ للأحداث حسب الزمان وليس المكان أو الأبطال. وفي المنهج الحولى يتم ربط الأحداث كلها في إطار زمنى واحد هو الحول أو العام ،ويكون فيه المؤرخ كمن يصدر نشرة إخبارية بما حدث في هذا اليوم وما يليه، وذلك العام وما يليه وهكذا. وميزة هذه الطريقة أنها تعطينا سجلاً تفصيلياً بالأحداث اليومية والسنوية وتجعلنا نحس بإيقاع العصر ونبض الحياة فيها، كما أنّ فيها متسعاً لأحداث الشارع ومن فيه من جموع الشعب وما يحدث من عجائب وغرائب وترقي إلى اهتمام المؤرخ فيسجلها في وقتها ومكانها مع تفصيلاتها. ولكنّ عيب المنهج الحولى أنه يمزق سياق الحادثة التاريخية الواحدة التى تقع في سنوات متصلة ، فالعادة أن الحادثة التاريخية الكبيرة تقع متتالية الوقائع متتابعة الأحداث متوالية الفصول ،ولكن المؤرخ الذى يتعامل معها وفق المنهج الحولى يقطع ذلك التتابع المتسلسل ويتعامل معها كإحدى مفردات الأحداث ويفقدها حرارة التواصل ويقطع عنها ترابط الأحداث ويحرمها من إمكانية التفرد والتميز إذا كانت متفردة متميزة. والباحث الذى يسعى وراء حادث تاريخى معين عليه أن يقرأ كل حوادث العام والأعوام التالية ليستخلص موضوعه وسط أكوام الأحداث الأخرى ، ولنفترض أن باحثاً يسعى للتأريخ لحركة الزنج، تلك الثورة التى قام بها فقراء العصر العباسي والتى استمرت أحداثها الهائلة متصلة متوالية طيلة خمسة عشر سنة (255-270هـ) فعليه أن يرجع للمصدر الأساس وهو (تاريخ الطبرى) وقد كان معاصراً لهذا الحدث حيث توفي الطبري سنة 310 . ولكن الطبري في تاريخه يتبع المنهج الحولى، لذلك نراه يروى حركة الزنج في تاريخه في الجزء التاسع موزعة على ستة وثلاثين موضعاً وقد وزعها بين مئات الحوادث الأخرى الأقل أهمية ووسط أكثر من مائتين وخمسين صفحة. وبطبيعة الحال فإن أحداث الثورة لم تكن متقطعة مشتتة وإنما كانت هادرة متوالية مترابطة متتابعة.هنا يتنمى الباحث لو أن الطبري أراحه من العناء ووضع عنواناً اسمه "حركة الزنج" ثم روى تحته القصة من البداية للنهاية ، أو بمعني أخر تمني الباحث لو أن الطبري اتّبع المنهج الموضوعى.
3 ـ فالمنهج الموضوعى في إيراد الحقائق التاريخية هو ربط الحدث التاريخى بالمكان والأبطال أساساً فالحوادث التاريخية تدور من خلال تاريخ دولة في منطقة معينة أو من خلال تاريخ شخص معين ويكون الزمان هنا دائراً في إطار المكان أو الأشخاص. ومثال ذلك ما فعله الدينورى في تاريخ الدولة العباسية في كتابه "الأخبار الطوال" أو ما فعله السيوطى في "تاريخ الخلفاء".فالمؤرخ يتبع قيام الدولة وأحداثها مولياً وجهه نحوها من البداية للنهاية، ويكون السرد الزمني في إطار المكان والأبطال، وينصرف جهد المؤرخ إلى تجليه الموضوع من بدايته إلى نهايته.والمؤرخ الذى يتناول تاريخ شخص ما يبدأ ميلاده وربما بسيرة آبائه ثم يسير مع نشأته إلى أن يصل إلى قبره.إذا لدينا الأن منهجان في التاريخ (المنهج الحولى) الأفقي، (المنهج الموضوعى) الرأسي.
4 ـ وقد أثرت الأحوال السياسية على اختيار المؤرخ للمنهج الحولى أو المنهج الموضوعى. كانت الدولة العباسية تبسط سلطانها على أكثرية العالم الإسلامى وقد ورثت حكماً استمر متصلاً قبلها في الدولة الأموية وفي الخلافة الراشدة، لذا كان التاريخ لهذه الفترة المركزية يميل للمنهج الحولى. كان مركز الأحداث الهامة في المدينة ثم في الكوفة، ثم في دمشق ثم في بغداد.والمؤرخ الذى يعيش بجانب مركز السلطة بإمكانه أن يتعرف على أهم أخبار العالم في عاصمة المسلمين ثم تأتيه الأخبار من باقى الأمصار أو الولايات. وما كان أسهل عليه حينئذ أن يكتب تلك الأخبار حسب ورودها وترتيبها الزمني، أى يكتبها بالمنهج الحولى، وتاريخ الطبري هو النموذج الكلاسيكى للمنهج الحولى، تراه في تاريخه قد استغرق في أحداث بغداد والخلافة العباسية ومن خلالهما ينظر لباقى العالم.
5 ـ ثم ضعفت الدولة العباسية وقامت دول مستقلة على حسابها في مصر والغرب والشرق. وتأثر المؤرخون بالوضع الجديد فكتبوا مؤلفات في الدول الجديدة تقتصر في الحديث عنها من البداية إلى النهاية وتكتب في تاريخ مؤسسها وأبطالها ، كما فعل البلوي وابن الداية في الدولة الطولونية وسيرة الطولنيين وما كتبه ابن زولاق في سيرة الأخشيد وما كتبه ابن واصل وأبو شامة في الدولة الأيوبية. وكل ذلك يمثل المنهج الموضوعى أصدق تمثيل. ثم قامت الدولة المملوكية لترث العباسيين والأيوبيين وتقود المنطقة ، وكان لابد أن ينعكس الوضع الجديد على المنهج التاريخي، وأثمر مزجاً رائعاً بين المنهج الحولى والمنهج الموضوعى. 6 ـ وكان المقريزى أبرع من طبق ذلك المنهج الجديد. فالمقريزي في كتابه "السلوك" ارتبط أساساً بالمكان وهو مصر المملوكية والسلطة الحاكمة فيها ، أى ارتبط بالموضوع، فبدأ بمقدمات قيام الدولة ثم راح يفصل في أحداثها وأخبارها، ولكنه مع ارتباطه بالموضوع- وهو المكان والأبطال- إلا أنه أرخ للأحداث وفق ترتيبها السنوى أى اتبع المنهج الحولى داخل الموضوع. ويلاحظ أن المقريزى قد حاول تجنب عيوب المنهج الحولى حتى لا تتشتت الوقائع التاريخية لذا نراه يكثر من العناوين التاريخية المتعاقبة ويجعل الفصول قصيرة وبرز ذلك في الأجزاء الأولى من تاريخه (السلوك) حين كان ينقل عن السابقين، فلما وصل إلى التأريخ لعصره فاضت الأخبار لديه فأصبح يؤرخ باليوم وكل ما يحدث في الشارع المصري وفي القلعة مركز الحكم المملوكى، لذا نراه في استغراقه بتسجيل الأحداث ينسي وضع العناوين ويكتفي من ذلك بعنوان واحد يذكر فيه بداية تولى السلطان الحكم، ويسير مع الأحداث اليومية في إطارها الموضوعى (مصر المملوكية).
والمهم أن المقريزى ارتبط بالموضوع وهو مصر المملوكية ولكنه من خلال الموضوع أرخ بالسنين أى بالتاريخ الحولى في إطار التاريخ الموضوعى.وعلى نسق المقريزى سار ابن حجر في "إنباء الغمر بأبناء العمر" الذى أرخ فيه السنوات التى عاشها منذ مولده، وسار على نفس المنهج أبو المحاسن والسخاوى ثم ابن إياس في الأجزاء الأخيرة من تاريخه (بدائع الزهور).
وعلى نفس النسق سار مؤرخنا ابن الصيرفي في (الهصر).
7 ـ والمقريزى بدأ كتابه (السلوك) بعرض سريع للدولة الأيوبية يمهد به لمصر المملوكية وكلما اقترب من العصر الذي يعيشه وهو القرن التاسع تمهلت حركته وتكاثرت مادته التاريخية وكثرت أراؤه وتعليقاته، حتى إذا أصبح يؤرخ للأيام التى يعيشها أصبح شاهد عيان على الأحداث، وتحولت كتابته التاريخية إلى ما يشبه اليوميات التى تحكي حوادث الشارع المصري وترسم خلجاته وتنقل نبضاته.
وكذلك فعل ابن الصيرفي في (الهصر).
8 ـ وعادة فالأجزاء الأخيرة من تلك المؤلفات هى أثمن ما يكتب لأنها تنقل صورة حية للأحداث، ومن هنا تكمن أهمية ما كتبه ابن الصيرفي فى (أنباء الهصر)، في وقت مات فيه المقريزى وابن حجر والعيني، ولم يعد من أثر لعبقرية المقريزى إلا ما نراه في (الهصر) من التزام ابن الصيرفي بمنهج المقريزى العبقري الذى جمع بين المنهج الحولى والمنهج الموضوعى في تسجيل الواقع الحى للمجتمع المصري في عصر قايتباى.
[1])) أنباء الهصر 64.