مقدمة
1 ـ الروايات التى قيلت فى تاريخ أنس بن مالك تناثرت فى العراق فى فترة الرواية الشفهية ثم جمعها المؤرخ ابن سعد وسجلها فى كتابه ( الطبقات الكبرى )، وهو أقدم مرجع فى تاريخ الصحابة والتابعين ، وأكثرها صدقية. الصدقية هنا بمفهوم الحقيقة التاريخية ، وهى حقيقة نسبية وليست مطلقة ،ويصل اليها الباحث التاريخى .
2 ـ وهناك ضوابط فى البحث التاريخى فى تحرى وبحث ووزن الروايات لتمييز الصحيح منها والزائف ، وما يتعارض أويتداخل ، وما يتفق منها أويخالف ثقافة عصرها ، وما يخالف أو يتفق منها مع المنطق والعقل . ولكن من أهم معايير صدق الروايات عن شخصية ما أن تتضافر تلك الروايات فى رسم الشخصية التاريخية لتكون إنسانا متناسقا فى ملامحه النفسية وفى سلوكياته ومع ظروف عصره . وهذا المعيار بالذات يتمسك به الباحث التاريخى النزيه الذى لا يأبه بما وجدنا عليه آباءنا من تقديس بعض الشخصيات من الصحابة والتابعين وأئمة الأديان الأرضية للمسلمين .وهنا نقوم بتطبيق هذا المعيار البحثى فى تجلية شخصية الصحابى المشهور ( انس بن مالك ) خادم النبى محمد عليه السلام . فالجميع ينحنون إحتراما ـ ولا نقول تقديسا ـ لذكرى هذا الصحابى ، فهو أحد أئمة ومن أشهر أرباب الدين السّنى ، ومن كبار رواة ( الحديث ) عندهم .
3 ـ وحتى لا يتقوّل علينا أحدهم بأننا نفترى عليه فإننا ننقل سيرة ( أنس بن مالك ) مما كتبه عنه المؤرخ محمد بن سعد فى كتابه الضخم ( الطبقات الكبرى ) . ومحمد بن سعد هو من رجالات الحديث ومن أعلام الفقهاء السنيين الذين صمدوا مع أحمد بن حنبل فى فتنة ( خلق القرآن ) . وقام ابن سعد بتبويب وتنظيم كتابه ( الطبقات الكبرى ) طبقات على أساس رواية الحديث من التابعين الى الصحابة . وهو لا يخلو فى رواياته من تناقض وأكاذيب إلا إنه يظلّ أقدم المصادر التاريخية وأكثرها صدقية . وتوفى ابن سعد فى عام 222 وقيل 230 هجرية ، وقد نقل عنه اللاحقون الذين كتبوا فى تاريخ الصحابة .
4 ـ فهيا بنا نراجع ونحلل ما ذكره المؤرخ محمد بن سعد فى ( الطبقات الكبرى ) عن تأريخه للصحابى أنس بن مالك خادم النبى محمد عليه السلام .
أولا :رؤية عامة لأنس وعصره
1 ـ تخيل نفسك مكان أنس بن مالك ، خدمت النبى محمدا عليه السلام ولزمته صغيرا ، ثم عشت بعد موت النبى اكثر من ثمانين عاما . طال بك العمر حتى مات كل الصحابة وعشت طويلا بعد موت آخرجيل منهم ، ( مات أبوهريرة عام 59 ومات أنس عام 93 )، وكنت تعيش فى العراق حيث يوجد مئات الألوف من المسلمين الذين لم يروا النبى محمدا ولم يروا واحدا من أصحابه سواك ، وأنت لست مجرد صاحب له بل قد قمت بخدمته وعايشته فى صغرك . ألن تكون أيقونة للناس المتعطشين لسماع تاريخ النبى ؟ ألن يتوافد عليك الناس من كل حدب وصوب لمجرد رؤيتك ، ثم بعدها الحديث معك عن ذكرياتك مع النبى ؟ ، فإذا كنت تريد الشهرة ألن تقول ما يؤكد حب النبى لك ولأسرتك وما يرفع منزلتك أنت وأسرتك خلال أحاديث تنسبها للنبى وتضعها على لسانه ؟ خصوصا ولا يوجد من الصحابة من بقى حيا لكى يصحح ما تقول أن يكذّب ما تقول أو يتحفّظ على ما تقول .. وخصوصا أن ما يخرج من فمك لم يقله أحد قبلك فأنت المرجعية ، وأنت لا تنقل عن كتاب بل عن ذاكرتك ..وهنا ليس مهما أن يتباعد الزمن بين وقتك وبين وقت مرافقتك للنبى ، وليس مهما أن يبلغ الفرق أكثر من سبعين عاما بين عصرك فى العراق فى دولة بنى أمية وبين عصر النبوة فى المدينة ، وليس مهما أن يعتريك نسيان الشيخوخة وقد جاوزت المائة عام ، ليس مهما عند سامعيك ومحبيك أن الشخوخة تضعف الذاكرة ، وهذه حقيقة قرآنية : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً (الحج 5 ). ليس هذا مهما لهم لأنهم جاءوا اليك مصدقين مقدما ما ستقوله ، ومتلهفين مقدّما على ما ستقوله لأن كل واحد منهم سيفاخر بأنه رآك وسمعك وهو يروى عنك . وإذا كنت تحبّ المال وتريد استغلال هذه المنزلة ألن تحولها الى إستثمار يدرّ عليك أموالا ؟ وهل إذا كان حصولك على الأموال يتطلب رضى الحاكم عنك ألن تداهن الحاكم وتسكت عن ظلمه ؟
2 ـ لقد عاش أنس بن مالك بالبصرة ، ولكن شهرته عمّت العراق كله ، لذا نقول إنه عاش بالعراق من عصر عمر بن الخطاب الى عهد الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك . إذن عزيزى القارىء : تخيل نفسك تعيش معظم حياتك فى العراق تتمتع بهذه الشهرة،وبعد موت عمر ورفع الحظر عن رواية الأحاديث أمضيت حياتك لتحقق هدفا واحدا هو استثمار صحبتك للنبى فى الرواية عنه لجمع المال والتمتع بالشهرة والجاه ، هذا مع أن وطنك القديم ( المدينة ) كان يموج بالثورة ضد الأمويين ، ووطنك الجديد (العراق) كان مسرح المعارك والمذابح والحروب الأهلية بين المسلمين ، وأنت غائب ومنصرف عن هذا كله تجمع المال وتداهن الحكام وتأخذ منهم العطاء والأموال مقابل سكوتك على الظلم وعدم نصرتك للمظلوم .
3 ـ منذ إستقر أنس بن مالك فى العراق وقد تعاقب علي الكوفة والبصرة ولاة كثيرون منهم العادل كأبى موسى الأشعرى ومنهم المخادع الزانى كالمغيرة بن أبى شعبه ومنهم السارق الكريم المعطاء مثل عبد الله بن عامر ، ومنهم السارق البخيل مثل عبد الله بن عباس، ومنهم ولاة الفتن والحروب الأهلية مثل زياد ابن أبيه أول من أرسى الأحكام العرفية وقتل المعارضة السلمية ، ثم إبنه الفاجرعبيد الله بن زياد قاتل الحسين وأهله فى كربلاء ، ومثله المختار الثقفى الذى انتقم للحسين بقتل عبيد الله بن زياد وطغمته ، ثم مصعب بن الزبير الذى قتل المختار الثقفى وذبح طغمته،ثم أخيرا الحجّاج بن يوسف سفّاح العراق . تخيل نفسك أنس بن مالك الذى يعيش كل هذه الحروب الأهلية بين (على ) و( الزبير وطلحة وعائشة ) فى ( الجمل ) وبين (على ) و معاوية فى صفين ، ، وكل ذلك وهو لا ينطق بكلمة حق ، ولا يأخذ موقف صدق ، ثم تأتى الدولة الأموية بكل مظالمها فترتكب مذابح كربلاء بالقرب منه ، وتقتل أهله الأنصار فى موقعة ( الحرّة ) فى المدينة ، ويستمر الحجاج الوالى الأموى بالعراق يسفك الدماء ، وأنس بن مالك يعيش آمنا متحالفا مع الدولة الأموية متمتعا بعطاياها ، والدولة الأموية تفرح بسكوت أنس عن ظلمها ، وتبالغ فى إكرامه لأنه بشهرته ومكانته وبسكوته على الظلم فقد أصبح حجة تؤكد شرعية الدولة وتؤكد فى نفس الوقت عدم شرعية المعارضة لها .
4 ـ لقد تفرّغت الروايات التاريخية ترصد ( البراكين ) التى تأججت وانفجرت وتتابعت بعد موت النبى عليه السلام ، من حرب الردة الى الفتوحات الى الفتنة الكبرى والصراع الدموى الذى واكب واستمر مع الدولة الأموية واستمر فى حياة أنس بن مالك وبالقرب منه الى أن مات أنس فى ولاية الحجاج على العراق. تلك الروايات التاريخية لم تذكر أن أنس بن مالك قد شارك فى معركة مع الحق أو مع الباطل ، بل إن ترجمته فى الطبقات الكبرى تكتفى بما ذكره هو عن نفسه من خدمته للنبى ، ثم مقتطفات من سيرته فى العراق وهو يعيش مترفا مستريحا بينما كان العراق ـ ولا يزال ـ يعيش على فوهة بركان ، من حروب أهلية وفتن ودسائس وحمامات دم . عاش أنس بن مالك شاهدا على ذلك كله ثمانين عاما ، لا يأبه بما يجرى حوله لأنه ظل مشغولا بما هو أهم لديه ، وهو جمع المال والعيش فى ترف ما استطاع برغم معاناة الناس من حوله ، وأقرب الضحايا كانوا من تلامذته والتابعين عليه الرواة عنه أحاديثه ، والذين خلقوا له الشهرة فى حياته وبعد مماته. هذا ما تنطق به سيرة أنس بن مالك فى الطبقات الكبرى لابن سعد ، وهى العمدة والمرجع الأول فى سيرة الصحابة .
ثانيا : (أنس بن مالك )، فى الطبقات الكبرى لابن سعد:
1 ـ نسب أنس : انس بن مالك بن النضر بن ضمضمابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار . وامه امسليم بنت ملحان وهي ام اخيه البراء بن مالك .
2 ـ طول عمره : عاش انس بن مالك ( مائة سنة وسبع سنين ) أى 107 عاما . ماتبالبصرة سنة اثنتين وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك .ورواية أخرى تقول مات انس بنمالك سنة ثلاث وتسعين ، وهو آخر من مات مناصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالبصرة.ورووا عن أنس قوله : ( مابقي احد صلى القبلتين كلتيهما غيري ) .
3 ـ تعاونه مع الظلم الأموى : كان أنس ـيزور الحجاج بن يوسف والى العراق الأموى ، وهو العدو اللدود لكل تلامذة أنس ، وقد تزين أنس لهذا اللقاء فارتدى عمامة سوداء وصبغ لحيته بلون أصفر . تقول الرواية : ( اخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا عيسىبن طهمان قال رايت انس بن مالك دخل علىالحجاجوعليه عمامةسوداء وقد خضب لحيته بصفرة ).
ولنتعرف على والى العراق صديق أنس بن مالك ، وقد عاش أنس منعما فى كنفه( 18 ) عاما، من عام 75 الى أن مات عام 93 . كان الحجاج بن يوسف قائد الجيش الأموى الذى انتصر على عبد الله بن الزبير وقتله وصلبه. ومكافأة له عيّنه الخليفة عبد الملك بن مروان واليا على الحجاز، فاشتهر بالقسوة والشدة ، ونجح فى ارهاب من تبقى من الصحابة فى مكة والمدينة. وظل أميراً على الحجاز ما بين 73 :75 هجرية . وكان العراق كعادته فى العصر الأموى يموج بالفتن والقلاقل فعاقب عبد الملك بن مروان أهل العراق بتعيين الحجاج واليا عليهم ، فحكمهم بالحديد والنار من عام 75 الى أن توفى عام 95 بعد عامين من وفاة أنس . لم يترك الحجاج فى العراق رأسا يرتفع إلا قطعه ، وقد بلغ قتلاه مائة وعشرين ألفا ، ومات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة ، وقد أحصوا ضحاياه في السجون ـ من بقي منهم حيا ـ فوجدوا ثلاثة وثلاثين الفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب وليست له جريمة، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد ، ولم يكن للحبس ستر يمنع البرد أو الحر . فكان من يموت منهم يستريح بالموت من عناء السجن . وإسراف الحجاج في الدماء جعله يحتل مكانه متميزة في التاريخ الأموي والأنسانى أيضا.. وانعكس بالتالي علي تصرفات المثقفين والفقهاء من تلامذة انس، بعد ما رأوا الحجاج يضطهد بقية الصحابة ويستهين بهم بدون أي شفقة أو وازع وهم في نهاية العمر .. ولذلك احتبست الآراء في الصدور وانزوي كل صاحب رأي في قعر بيته يخشى على حياته من إرهاب الحجاج . ولنأخذ على ذلك مما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى في ترجمة فقيه الكوفة في عهد الحجاج وهو " إبراهيم ألنخعي " الذي عاش حياته في رعب من الحجاج حتى مات دون الخسمين بعد وفاة الحجاج ببضعة اشهر سنة 96 هجرية. فقد أرسل الحجاج شرطيا للقبض على إبراهيم النخعى ، وكان عنده في البيت رفيقه إبراهيم التيمي فجاء الشرطي للبيت يقول أريد إبراهيم ، فأسرع إبراهيم التيمي يقول:" أنا إبراهيم "، وسار مع الشرطي للحجاج وهو يعلم أن المطلوب هو إبراهيم النخعى ، ولكن لم يرد أن يدل عليه، وجيء به للحجاج فأمر بحبسه بدون تهمة ، يقول ابن سعد عن الفقيه ابراهيم التيمى : " ولم يكن لهم ظل من الشمس ولا كنّ من البرد ، وكان كل اثنين في السلسلة ، فتغير إبراهيم، ( أى تغيرت ملامحه ) فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها ، فمات في السجن " .!..
وأثرت تلك الحادثة على سلوك الفقيه الشاب إبراهيم ألنخعي فسيطر عليه الرعب من الحجاج ما بقي الحجاج حيا . وظل حينا من الدهر مستخفيا في بيت صديقه أبي معشر تطارده وساوسه ومخاوفه من إرهاب الحجاج . وكان في لقاءاته السرية مع أصحابه يستحل لعن الحجاج مستدلا بقوله تعالي " ألا لعنة الله علي الظالمين " ويتشجع أحيانا فيسب الحجاج . أمّا إذا كان يجلس مع غرباء فإنه يأخذ جانب الحذر والتوجس مخافة أن يكون بينهم أعوان للحجاج ، وهو يتذكر وصية قالها له أحد أصدقائه من الفقهاء : تذهب إلي المسجد الأعظم فيجلس إليكم العريف والشرطي ، ويكون إبراهيم ألنخعي أكثر حصافة فيقول لهم : نجلس في المسجد فيجلس إلينا العريف والشرطي أحب من أن نعتزل فيرمينا الناس برأي يهوي .. أي كان يخاف من الانزواء ، ويخاف أيضا من إظهار آرائه ، لذلك كان يظهر امام الناس انتقاده للمرجئة ويقول لبعض الشيعة علي مسمع الجالسين : أما إن عليا لو سمع كلامك لأوجع ظهرك ، وإذا كنتم تجالسوننا بهذا فلا تجالسوننا . ولم يتخلص إبراهيم النخعي من شبح الحجاج إلا عندما بشره صديقه حماد بموت الحجاج يقول حماد: ( بشرت إبراهيم بموت الحجاج فسجد ، وما كنت أري أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت إبراهيم يبكى من الفرح .).!.
هذا الحجاج كان يقتل الناس بمجرد الاشتباه ، وبمجرد كلمة ينطق بها أحدهم ، والذى كان معظم ضحاياه من القرّاء والفقهاء ( أى المثقفين بتعبير عصرنا) ، وكان منهم كثيرون من تلامذة انس بن مالك يروون عنه أحاديثه . ومع ذلك لم يأبه بهم أنس بل كان يزور السفاح فى دار الامارة ، مع أن المفترض أن الأمير هو الذى يقوم بزيارة هذا الصحابى ( الجليل ).
الطريف أنه حين حضر انس بن مالك الموت اوصى ان يغسله تلميذه المشهور ( محمد بنسيرين ) ويصلي عليه . واضح هنا أن ( أنس ) كان يحبّ تلميذه محمد بن سيرين كثيرا، ولذلك أوصى بأن يكون هو الذى يغسّله ويصلى عليه ، مع وجود العشرات من أولاد أنس وأحفاده. ولكن كان محمد بن سيرين محبوسا فى سجن الحجاج ، فاتى أهل أنس الامير ليأذن لهم بخروج محمد بن سيرين من السجن ، فاذن لهفخرج ابن سيرين وذهب فغسله وكفنه وصلى عليه في ( قصر انس ) المشهور ، ثم رجع ابن سيرين مباشرة الى السجن ، ولميذهب الى اهله . أو لم يتمكن من رؤية أهله ، أو ربما لم يمكّنه أعوان الحجاج من رؤيته أهله . والسؤال هنا لماذا لم يتوسط أنس فى حياته لدى الحجاج للإفراج عن تلميذه الحبيب من السجن ؟ ومعلوم أنه محبوس سياسيا بلا محاكمة كالعادة ، أى حبس احتياطى بمفهوم عصرنا.! وهناك رواية أخرى تقول إن ابن سيرين كان محبوسا بسبب عجزه عن سداد دين ، وهذا بعيد عن التصديق فى رجل فقيه ورع مثل ابن سيرين ، ولكن مع افتراض صحة هذه الرواية نسأل لماذا لم يقم أنس بتسديد ذلك الدين عن تلميذه الحبيب وينقذه من السجن ؟ . فى الحالين لم يتوسط أنس لرفع الظلم عن ابن سيرين ولم يسع لقضاء الدين عنه. كل ما تذكره وهو يحتضر أن يوصى تلميذه الناسك بغسله والصلاة عليه ، وكان محمد بن سيرين من نسّاك وعلماء العراق وقتها . لم يهتم أنس بن مالك بتلامذته فى محنتهم على أيدى حلفائه ولاة بنى أمية خصوصا الحجاج . كان جلّ إهتمام أنس هو المال الذى يأتيه من الأمويين والترف فى الملبس والمظهر الذى يحاكى به مترفى الأمويين وولاتهم . وحافظ أنس على حبّه للمال والترف حتى عندما بلغ أرذل العمر وجاوز المائة .
4 ـ حبه للمال: عن حبه للمال يقول ابن سعد : ( ..قال اخبرنا بكار بن محمد عن ابيه قالكان انس بن مالك من احرص اصحاب محمد على المال ). وحين تكاثرت أموال أنس فقد إستخدم روايته للأحاديث للدفاع عن نفسه ولتحصين ذلك المال من شبهة أنه يأتى له من الظالمين آكلى السحت ، كأن يزعم أن هذا المال جاءه إستجابة لدعوة النبى له وهو فى صغره ، يقول أنس : ( ذهبت بي امي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله خويدمك ادعالله له .! قال : اللهم اكثر ماله وولده واطل عمره واغفر ذنبه . قال انس : فقد دفنت من صلبيمائة غير اثنين او قال مائة واثنين ، وان ثمرتي لتحمل في السنة مرتين ، ولقد بقيت حتىسئمت الحياة ، وانا ارجو الرابعة ) أى يرجو غفران ذنبه . وقال أنس أيضا فى تأكيد للحديث السابق : اني لاعرف دعوة رسول اللهصلى الله عليه وسلم فيّ وفي مالي وفي ولدي ).
ولكن كان أنس يضطر للاعتراف بأنّ هذا المال يأتى اليه من ولاة الظلم ، يضطر للاعتراف ليدفع عن نفسه تهمة أخرى ، نقرأ هذه الرواية : ( قال اخبرنا وكيعبن الجراح والفضل بن دكين قالا حدثنا عبد السلام بن شداد ابو طالوت قال رايت علىانس عمامة خز وجبة خز ومطرف خز ، فقالوا له ما لك تنهانا عن الخز وتلبسه انت ؟ فقال :انامراءنا يكسوناها فنحب ان يروه علينا ) . أى إن أنس كان ينهى خلال أحاديث يختلقها عن لبس الخزّ (أى الحرير)، بينما يستبيح لنفسه أن يتباهى كالأمراء بلبس الحرير ، وحين قيل له :" تنهانا عن الخز وتلبسه انت ؟ "، ردّ معترفا بأن أسياده ينعمون عليه بهذا الحرير، وهو يحب أن يروه مرتديا هداياهم الحريرية :( انامراءنا يكسوناها فنحب ان يروه علينا ).
واشتهر قصر أنس فى منطقة الطّف بالبصرة ، وهو الذى مات فيه ، كما إشتهرت ضياعه ومزارعه وبساتينه . وكانت ضياع أنس تثمر له مرتين فى العام : ( قال اخبرنا محمد بن عبد الله الانصاري قالحدثنا ابي عن ثمامة بن عبد الله بن انس قال كان كرم انس يحمل كل سنة مرتين ). وأيضا حرص أنس على تحصين إيراده من ضياعه وبساتينه بالزعم بأن دعوته مستجابة ، مثل زعمه دعوة النبى له بتكثير أمواله. نقرأ هذه الرواية :( شكا قيّم لانس بن مالك في ارضهالعطش، قال : فصلى انس ودعا فثارت سحابة حتى غشيت ارضه حتى ملات صهريجه فارسل غلامهفقال انظر اين بلغت هذه فنظر فاذا هي لم تعد ارضه )، اى بزعمهم استجاب الله جل وعلا لدعوة أنس فجعل المطر يهطل على ضيعته فقط دون المزارع الأخرى العطشى ، أى إننا أمام أنانية وشحّ حتى فى سبك الروايات واختلاقها . وتأتى رواية أخرى بتفصيلات أكثر: ( جاء انسا اكار بستانه في الصيففشكا العطش ، فدعا بماء فتوضا وصلى ، ثم قال : هل ترى شيئا ؟ فقال : ما ارى شيئا ، قال فدخلفصلى ثم قال في الثالثة او في الرابعة : انظر. قال : ارى مثل جناح الطير من السحاب ، قالفجعل يصلي ويدعو حتى دخل عليه القيم فقال : قد استوت السماء ومطرت .! فقال: اركب الفرسالذي بعث به بشر بن شغاف فانظر اين بلغ المطر . قال فركبه فنظر ، قال : فاذا المطر لميجاوز قصور المسيرين ولا قصر الغضبان )، أى هطل فقط على مزارع أنس وقصوره .
5 ـ حبه للترف : سبقت الاشارة الى أن أنس إختلرع أحاديث تحرّم على الرجال لبس الحرير، وسنعرض لهذا بالتفصيل فى مقالات لاحقة تحلل شخصية أنس من خلال أحاديث . ونحن هنا مع أنس من خلال ترجمة حياته فى الطبقات الكبرى لابن سعد. وفيه تترى الروايات عن ترف انس فى لبس الحرير ، وترفه فى استعمال الخضاب ، أو صبغة شعره . ونرجو من القارىء التمعن فى هذه الروايات عن لبسه الحرير ( الخزّ) بكل أنواعه وألوانه :(أخبرنا الفضل بن دكين عن خالد بن اياس عن ابي عبيدة بن محمد بنعمار بن ياسر قال : دخلت على انس بن مالك وهو ملتحف به يعني ثوب خز)
( قال اخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا يزيد بنابي صالح قال رايت على انس الذي تسمونه الخز اصفر واحمر)
( قال اخبرنا مسلم بن ابراهيمقال حدثنا ابو كعب صاحب الحرير قال رايت على انس بن مالك مطرف خز اخضر له علم ).
ويقول ابو غالب الباهلي : (إنه تبع جنازة عبد الله بن عمير الليثي قال فاذا رجل علىبريذينه وعليه كساء اسود رقيق وعلى راسه خرقة تقيه من الشمس واذا قطنتان قد وضعهماعلى موقي عينيه قال قلت من هذا الدهقان ؟ قالوا هذا انس بن مالك.! قال فزحمت الناس حتىدنوت منه فلما وضعت الجنازة قام انس عند راسه فصلى عليه فكبر اربع تكبيرات لم يطلولم يسرع )
( قال اخبرنا وكيع بن الجراح عن سلمة بن وردان قال رايت على انس عمامة سوداءعلى غير قلنسوة قد ارخاها من خلفه )
( قال اخبرنا وكيع عن عبد السلام بن شداد ابي طالوتقال رايت على انس بن مالك عمامة خز)
(قال اخبرنا الفضل بن دكين وعبيد الله بن موسى قالا حدثنااسرائيل عن عمران بن مسلم قال رايت على انس بن مالك ازارا اصفر ورايته واضعا احدىرجليه على الاخرى .)
(قال اخبرنا محمد بن عبد الله الانصاري قال حدثنا بن عون قال رايتعلى انس بن مالك مطرف خز وعمامة خز وجبة خز )
( قالاخبرنا عفان بن مسلم قال حدثنا معتمر بن سليمان قال قال لي ابي رايت على انس مطرفااصفر من خز ما اعلم اني رايت ثوبا قط احسن منه )!!.
( اخبرنا الفضل بن دكين عن خالد بن اياس عن ابي عبيدة بن محمد بنعمار بن ياسر قال دخلت على انس بن مالك وهو ملتحف به يعني ثوب خز)
( قال اخبرنا وكيعبن الجراح والفضل بن دكين قالا حدثنا عبد السلام بن شداد ابو طالوت قال رايت علىانس عمامة خز وجبة خز ومطرف خز فقالوا له ما لك تنهانا عن الخز وتلبسه انت فقال انامراءنا يكسوناها فنحب ان يروه علينا)
( قال اخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا يزيد بنابي صالح قال رايت على انس الذي تسمونه الخز اصفر واحمر)
( قال اخبرنا مسلم بن ابراهيمقال حدثنا ابو كعب صاحب الحرير قال رايت على انس بن مالك مطرف خز اخضر له علم)..
( قال حدثناابراهيم بن حميد عن اسماعيل بن ابي خالد قال رايت انس بن مالك وعليه مقطعة يمنيةوعمامة )
( قال اخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا بدر بن عثمان قال رايت على انس بن مالكعمامة سوداء )
(قالاخبرنا عمرو بن الهيثم عن اسرائيل عن عمران بن مسلم قال رايت على انس ازارا معصفرا)
( قال اخبرنا عمرو بن الهيثم قال حدثنا اسرائيل عن عمران بن مسلم عن انس قال رايتعليه ثوبين معصفرين )
( قال اخبرنا زيد بن الحباب قال اخبرني خالد بن عبد الله الواسطيقال اخبرني راشد بن معبد الثقفي قال رايت كم انس بن مالك وسعه فمه عظم الذراع )
( قالاخبرنا وكيع بن الجراح عن سلمة بن وردان قال رايت على انس عمامة سوداء على غيرقلنسوة وقد ارخاها من خلفه )
(قال اخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا عباد بن ابي سليمانقال رايت على انس بن مالك قلنسوة بيضاء ) وعن تحلّى أنس بالخاتم : ( قال اخبرنا عفان بن مسلم قال حدثنا حماد بن سلمةعن حميد عن انس بن مالك قال نهى عمر بن الخطاب ان يكتب في الخواتيم شيء من العربية، وكان في خاتم انس ذئب او ثعلب )
( قال اخبرنا عارم بن الفضل قال حدثنا حماد بن زيد عنايوب عن محمد قال كان نقش خاتم انس اسد رابض )
( قال اخبرنا عمرو بن عاصم الكلابيقال حدثنا همام بن يحيى عن بن جريج عن الزهري ان انس بن مالك نقش في خاتمه محمدرسول الله قال فكان اذا دخل الخلاء نزعه .)
وعن صبغ لحيته قالوا : ( قال اخبرنا عبيد الله بن موسى قال اخبرناشيبان عن الاعمش قال رايت انس بن مالك يصبغ لحيته بالصفرة )
( قال اخبرنا يحيى بن خليفبن عقبة قال حدثنا ابو خلدة قال رايت انس بن مالك يخضب بالصفرة ) (قال اخبرنا يزيد بنهارون قال اخبرنا اسماعيل بن ابي خالد قال رايت انس بن مالك وخضابه احمر ) ( قال اخبرناالفضل بن دكين قال حدثنا شريك عن بن ابي خالد قال رايت انس بن مالك احمر اللحيةورايته معتما قد ارخاها من خلفه .).
هذه الروايات من تلامذة أنس تعكس فى طيّاتها انبهارا بكرنفال الأزياء الحريرية والخواتم وصبغات الشعر التى كان يظهر بها انس حتى وهو فى أرذل العمر ، بينما كان تلامذة له يموتون تحت العذاب ( صبرا ) وفى أسمال بالية فى سجن الحجاج ، دون أن يأبه بهم أنس بن مالك.
أخيرا
1 ـ إعتمد هذا التحليل لشخصية أنس بن مالك من خلال ترجمته فى ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد ، على واحد من أهم ضوابط فى البحث التاريخى وهو تضافر الروايات فى رسم الشخصية التاريخية لتكون إنسانا متناسقا فى ملامحه النفسية وفى سلوكياته ومع ظروف عصره . وبهذا تضافرت روايات ابن سعد فى رسم شخصية متناسقة لأنس بن مالك . فماذا إذا رسم مؤرخ آخر بروايات أخرى ملامح مختلفة لنفس الشخصية ؟ بأيهما نأخذ ؟
2 ـ نناقش فى حلقة قادمة الصورة التى رسمها المؤرخ ابن الجوزى للصحابى أنس بن مالك .