دور المماليك في صعود التيار الديني المصري

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ١٣ - يونيو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

تدور حول الشخصية المصرية الحالية، مئات الأسئلة الحائرة لدى العامة، التي لم تقرأ تاريخ مصر جيداً، وخاصة خضوعها طيلة 267 سنة (1250-1517)  لحكم المماليك البحرية (1250-1372) والبرجية (1372-1517)، ثم حكم العثمانيين لمصر بواسطة ولاتهم خلال 288 سنة  (1517-1805) وإلى أن تولى محمد علي باشا الحكم. وقد بلغ عدد الولاة العثمانيين في هذه الفترة 138 والٍ؛ أي بمعدل واليين في كل سنة من سنوات العهد العثماني، في مصر. ولو جمعنا سنوات عهد المماليك، على سنوات عهد الولاة العثمانيين الطغاة، لكانت الحصيلة 555 سنة ؛أي خمسة قرون ونصف ويزيد، من الظلام، والتخلف، والظلم، والاستبداد والجهل.. الخ.

ولم يكن عهد العلويين (1805-1952) بقيادة محمد علي باشا وأبنائه من بعده مضيئاً، وتقدمياً تماماً. صحيحٌ أن محمد علي باشا، قضى على المماليك واستقل بحدود "معينة" عن الخلافة العثمانية، ولكن خمسة قرون ونصف القرن من التخلف والظلام، الذي ساد مصر، من الصعب أن تُمحى خلال قرن ونصف من حكم العلويين لمصر، سيما وأن بعض حكام العلويين لمصر كالخديوي اسماعيل، والخديوي توفيق، والملك فؤاد، والملك فاروق وغيرهم، لم يختلفوا كثيراً في حكمهم، وجبروتهم، وفسادهم، وتبذيرهم للمال العام عن حكم المماليك البحرية والبرجية. وعندما قامت ثورة 1952 وجدت أمامها تركة كبيرة وهائلة من الظلام، والتخلف، والأساطير، والعادات الاجتماعية، والطقوس الصوفية، والفقر، والمرض، ولكنها انشغلت عن كل هذا بالحروب الخارجية، في اليمن 1962، وفي فلسطين 1967، وفي فلسطين 1973، وفي الخليج 1991، وفي مشاكل السودان، وجنون السلطة الليبية، وجنون سلطة البعثيين في سوريا والعراق. إضافة الى حرب السويس 1956.

 

مظاهر الظلام والتخلف في مصر المملوكية

الشيخ الأزهري المصري، أحمد صبحي منصور، كان مِنْ بين مَنْ أرخوا لمصر في عهد المماليك. وكتابه الضخم (حوالي 1000 صفحة) (التصوف والحياة الدينية في المملوكية 1250-1517م) يعتبر مرجعاً رئيساً من المراجع التاريخية المهمة عن تلك الفترة. وقد قرأتُ هذا الكتاب أكثر من مرة. وفي كل مرة أجد في هذا الكتاب الأكاديمي التاريخي المميز حقائق جديدة، أتوقف عندها، وأتأملها، وأفكر فيها. ومن خلال هذا الكتاب المهم، توصَّلت الى حقيقة تاريخية، وهي أن ما يجري في مصر الآن، ليس نبتاً شيطانياً، ظهر فجأة بعد انفجار ثورة 25 يناير 2011، وإنما هو نتيجة تراكمات تاريخية، واجتماعية، وسياسية، وجينية مثيرة، ربما بدأت قبل العهد المملوكي، ونشطت، وازدادت، في هذا العهد، وفي عهد العلويين من بعدهم ، ثم في عهد الثورة 1952. وهناك عدة أدلة تاريخية واضحة، في مصر اليوم على ذلك.

 

عتبنا على المصريين

فنحن نعتب على مصر والمصريين، لأنهم يغالون في حب النساء وممارسة الجنس. ولعل شاعر الصوفية الأشهر (ابن الفارض) المدفون في مصر، كان من أكثر شعراء الصوفية مدحاً للمرأة وتبجيلاً للجنس. وقد برز ابن الفارض، وعُرف لدى العامة، لأنه كان شاعراً رقيقاً. وهو القائل:

أدين بدين الحب أنّى  توجهت         ركائبه فالحب ديني وإيماني

وكان ابن عربي الفيلسوف الصوفي (مات في دمشق، ودفن فيها) على الدرجة نفسها من الأهمية الصوفية. لكن ابن عربي كان فيلسوفاً ناثراً ، لم تنتشر أفكاره إلا بين الصفوة. في حين كان ابن الفارض – كشاعر - منتشراً بين العامة، وسواد الناس، كحال نزار قباني في هذا العصر. وكان لابن الفارض الأثر الكبير في انتشار ظاهرة حب النساء وممارسة الجنس، التي أدت الى زيادة عدد سكان مصر زيادة كبيرة، أصبحت عبئاً هائلاً، ومدمراً ، للاقتصاد المصري، ولخطط التنمية المصرية.

 

التراث الصوفي المملوكي المدمر

 ففي الأرياف (نسبة الفلاحين والعمال والبسطاء الى عامة الشعب حوالي 70%) يتزوج الغني والقادر مادياً ، بأكثر من زوجة، تبعاً لنصيحة ابن عربي، فيلسوف الصوفية (علماً أنه رحل قبيل العصر المملوكي، ولكن عقيدته ظلت مسيطرة على العصر المملوكي) التي وردت في عدة نصوص من كتابه المشهور (الفصوص). وكان جُلّ الشعب المصري في العهد المملوكي، يتبع الطرق الصوفية المختلفة، التي كانت منتشرة في مصر انتشاراً واسعاً، وخاصة في الأرياف، وفي المناطق السكنية الشعبية في المدن، التي عادة ما تكون  مكتظة بالسكان البسطاء، والمتدينين تديناً شعبياً بسيطاً.

ونحن نعتب على مصر والمصريين أنهم  منحوا الأولياء الكرامات لتغطية انحلالهم وعدم التزامهم خلقياً. ففي عهد المماليك قام الشعراني (وهو مؤرخ قدير، وصاحب كتاب "الطبقات الكبرى") بمنح الأولياء هذه الكرامات. وقال "أن لا بأس عليهم إذا وقعوا بأي ذنب، طالما أن الحقائق الوضعية، لا تؤثر في النقائص الكسبية." (ص652-653).

ونحن نعتب على مصر والمصريين، لأنهم  يؤلهون اليوم بعض الأولياء كالسيد البدوي الراقد في طنطا، وغيره. ولكن لنعلم أن هذا التأليه لم يكن ابن البارحة فقط. ففي العصر المملوكي كان مولد السيد البدوي أكبر تجمع بشري، ويعتمد على اسطورة تأليه السيد البدوي عند المصريين. وجزء من هذا التأليه جاء من اعتقاد خاطيء وكاذب، وهو شفاعة  البدوي فيمن يعصي في مولده. ويزعمون أن البدوي قال:" وعزة الربوبية ما عصى أحد في مولدي إلا وتاب، وحسُنت توبته."

كذلك، فنحن نعتب على مصر والمصريين من ارتفاع نسبة الدعارة في مصر. فصحيحٌ أن هذه النسبة مرتفعة. ولكن لم نسأل أنفسنا: لماذا؟ ومن أين جاءت إلى المصريين هذه الآفة الاجتماعية والأخلاقية؟

 

الشيخ منصور ليس وحده

سوف نركز استشهاداتنا في هذا الموضوع على كتاب الشيخ أحمد صبحي منصور السابق الذكر. وربما اعتقد بعض القراء أن الشيخ أحمد كان متحاملاً في كتابه على الصوفية المملوكية. ويكيد لها كيداً كبيراً. ولكنا قرأنا هذه الشواهد، في كتب تاريخية مختلفة منها: " الطبقات الكبرى" للشعراني، و "تاريخ ابن كثير"، و "نهاية الأرب للنويري"، و "الجواهر السنية لأبي الفتح المقدسي"، وغيرها من المراجع التاريخية الموثوقة. وكلها تقول وتتحدث بما قاله أحمد صبحي منصور، وتحدث به.

يقول الشيخ أحمد صبحي منصور في كتابة السابق أن "نشاط الصوفية في مجال القوادة أصيل قبل العصر المملوكي. وبعده ازداد هذا النشاط بازدياد التصوف في أواخر العصر المملوكي." (ص 699). وقد صاحب هذه الآفة الشذوذ الجنسي، المتمثل في الميل الى المردان، دون النساء.

وإن كنا نعتب على المصريين في النواحي الاجتماعية والأخلاقية، فنحن ما زلنا تعتب نعتب عليهم في سلوكهم السياسي، الذي من المؤكد أنهم ورثوه كذلك، من عهد المماليك، كما قرأنا في المراجع التاريخية المختلفة، وفي سِفر الشيخ أحمد صبحي منصور. ولا شك، أن المصريين بحاجة الى سنوات طويلة، لمحو الآثار السيئة التي خلفها المماليك والولاة العثمانيون، من بعدهم طيلة أكثر من خمسة قرون ونصف مضت.

فهل كان صعود التيار الديني في مصر الآن، أثراً من آثار هذه القرون الطويلة؟!

أما لماذا لم يصعد هذا التيار من قبل؟

فالجواب، أن التيار السياسي كالبذرة، لا تنبت إلا إذا توفرت لها شروط بيئية معينة، وهو ما حصل هذه الأيام في مصر.

اجمالي القراءات 13233