ما زلتُ أشـْعـُـر بخجلٍ شديدٍ أمام كلِّ عربيٍّ أو مستشرقٍ أو مستعربٍ أو حتى طالب أوروبي أشقر الشعر، أبيض الوجه عليه أعين زُرْقُ تعلـَّـم العربية وقرأ أنَّ العرب يحبون لغتـَـهم حُباً شديداً.
الآن، وفي هذه اللحظة بالذات تتملكني رغبة جارفة أنْ أشاهد بيتَ المستشار أحمد رفعت، وأبحث فيه عن كتاب قديم أو جديد، عن رواية أحرجه أحدُهم وأهداه إياها فخجل أنْ يرفضها، ثم تـَـقـَـبـَّـلها علىَ مَضض.
أسترجع كلَّ الألسنة الأعجميةِ في عالمنا العربي وأقارنها بلسانِ المستشار أحمد رفعت فأستعيذُ باللــه من الشيطان الرجيم.
تولـَـد اللغة في بلاد الرافدين، ويشتد عودها في سوريا، وتترعرع في اليمن، وتنتصب بفخر في موريتانيا، ثم تموت على لسان قاضٍ مصري بينه وبين لغته كراهية غير مفهومة.
كنت أعتذر للعرب من لغة مذيعاتـِـنا في الفضائية المصرية، فإذا بي أقـَـدّم خالصَ عزائي واعتذاري وأسفي عمّا بـَـدَرَ من المستشار أحمد رفعت، فهذا رجلٌ لا يُمــُـتّ للسانـِـنا بأيّ صِلةِ قـُـرْبىَ، وكان يتمارض في حصّة اللغة العربية منذ السنة الأولى الابتدائية وحتى تخرجه.
هل يُعقل أنَّ كــُـتـُـبَ القانون المعروفة بلغتـِـها الثرية، وضخامةِ حجمها لمْ تؤثر قيدَ شـَـعـْـرَةٍ في لسان المستشار؟
سيظل هذا العارُ اللغويُّ يلاحق المصريين في وطنـِـنا العربي الكبير، وسيرتاب أكثرُهم في ( مجمع اللغة العربية)، وسيرقص طرباً مَنْ يظنون أنَّ الدورَ الرياديَّ الثقافيَّ المصريَّ تراجع إلىَ الصفر، والحقيقة أنَّ المستشارَ هو الذي سـَـقـَـط وانجرف معه الجهازُ القضائيُّ برُمـَّـتـِـهِ.
كان يعلم أنَّ الدنيا كلــَّـها ستنصت إليه، وكان معه مُساعدان يعرفان قـَـطـْـعاً أنه لا يستطيع قراءةَ اللغة العربية أو آية واحدة من القرآن الكريم، ولا شك في أنَّ هناك عشرات القـُـضاة والمستشارين يدركون أنَّ هذا الرجل الذي سينطق بحُكم تاريخي يعاني من صعوبة في قراءة لغته الأم، ومع ذلك فقد تركوه يقذف في آذاننا بكلمات متداخلة، ومبعثرة، ومعادية لقواعد اللغة العربية.
أغلب الظن أنَّ الناطقين بلغتـِـنا الجميلة أرادوا وضعَ أصابعـِـهم في آذانـِـهم خشية التلوّث لولا أهمية الحُكم الذي لم يبتعد كثيراً عن اللغة، فكلاهما سقيم.
لغة مريضة تقوم بتبرئة جمال وعلاء مبارك ومساعدي العادلي، لابد أن تصدر عن نفس غير سوية!
خـَـجـِـلٌ أنا من عربـِـنا الذين يفتخرون بأنَّ اللغة هي الشيءُ الوحيدُ الذي لم يتفرق العربُ حوله، فنحن نـَـفـْـصـِـل تماما بين اللغة الجميلة والرصينة والسليمة والثرية وبين مناسبات النـُـطق بها، بل إنَّ أعظمَ شعراء العرب كان مدّاحاً للحُكام، وكان كافور يأمر المتنبي بقصيدة فتأتي كأنها حِكْمة فريدة في صناعتها، إذا اختل منها حرفٌ تداعت له سائر الحروف بالسهر والحُمَّىَ!
كنت في باكورة شبابي أحفظ عن ظهر قلب ( رسائل الأحزان) و ( أوراق الورد) لمصطفى صادق الرافعي، وأتعاطف مع الدكتورة بنت الشاطيء في تفسيرها البياني حتى وهي تعارض التفسير العلمي للدكتور مصطفى محمود، وننصت بشغف لفاروق شوشة في ( لغتنا الجميلة ).
كنت أرى قصيدة ( اليتيمة ) لـ ( دوقلة المنبجي ) كأنها إعجاز من الإعجاز، وفي كل مرة أقرأها تتجدد من تلقاء نفسِها:
ويــزيـــنُ فـــوديها إذا حسرت = ضــافـــي الغدائر فاحمٌ جَعــد
فــالوجـه مثل الصبح مُبيضٌّ = والشعــر مــثــل الليل مسودُّ
ضــدّانِ لـمـا استجمعا حسُنا = والضــدُّ يــظهــر حُسنه الضــدُ
وكـــأنهـــا وسنَــى إذا نظرت = أو مـدنـف لــمَّــا يُفِـق بـــعـــد
بــفتــور عيــن ٍ مــا بهـا رمَدٌ = وبـــهـــا تُــداوى الأعين الرمدُ
لغتنا الجميلة هي الرباط الوحيد الذي لم تستطع كل قوى الاستعمار أن تنال منه، فتدخل مكتبة لتنقل أصابعـَـك من كتابٍ إلى آخر، ولا تعرف إلا أنَّ بين دفتي الكتاب لغة الضاد، ويكتب العُماني أدباً يستمتع به المغربي، ويُلقي الموريتاني قصيدةً فيصفق لها اليـَـمـَـنيُّ، وينشر السوريُّ مقالا في فصلية أدبيةٍ سعودية فيصحح كويتيٌّ تركيبَ جملةٍ فيها، ويعترض أردنيٌّ فيأتي سودانيٌّ بحجة سيبوية يصمت إزاءها الجميع.
لغتـُـنا الجميلة كنز لا يفنىَ، وإذا أحببتها فـَـتـَـحـَـتْ لك خزائنَ مُفرداتِها، فإذا وقعتَ في غرامِها، والتهمتَ كـُـتـُـبَاً وفصليات ودوريات وقصائدَ فإنَّ اللغة العربية تمنحك بسخاءٍ أكثر مما تبحث عنه، بل إنها تساعدك أنْ تستبدل مفردةً بأخرى أكثر تناغُماً وانسجاماً وجرساً موسيقياً.
أستعين دائما بالحِكمة الصينية التي كانت شعارَ معرض فرانكفورت الدولي للكتاب عام 1983 ( إذا لم تقرأ على مدىَ ثلاثة أيامٍ فستفقد أحاديثـُـك أصالتـَـها، وطلعتـُـك جمالـَـها)، تلك التي لو تعلّمها المستشار أحمد رفعت فربما أقنعته منذ ثلاثين عاما أن يقرأ ولو عدة صفحات في كل عام.
الحُكم الظالم الذى أتىَ بلغة هشـَّة، عـَـرْجـَـميـّـة، مترنحة كأن لسانَ صاحبـِـها لا ينطقها، لكنها تتدحرج منه وتهرب من بين شفتيه، كان أيضا بسبب النفور من الثقافة والعلوم الإنسانية وسُنن الأمم وتاريخ الشعوب وكتابات السجون والمعتقلات وروايات المسحوقين في أقبية تحت الأرض، فكان المستشار في صراع مرير ضد العدل ولغته الأم، ضد الثقافة والفكر، ضد السماء و .. مصر!
أتخيل هذا الرجلَ وقد تناهت إلى مسامعه كلمات (همسة حائرة) و( مضناك جفاه ومرقده) و( النهر الخالد ) و( سلوا قلبي ) و( حديث الروح ) فيصرخ بهستيريا مجنونة طالباً من أهل بيته اغلاق المذياع فوراً، فأذناه تنفران من كل صور الجمال.
أحب اللغة العربية حُباً جماً، وأنفر من أي كتاب يهينها بين غـُـلافيه، وأغضب من مذيعات الفضائية المصرية وهن يجعلن كل كلمة مفعولا به وبها.. تشكيلا وتعذيباً، ولا تهمني جنسية الكاتب أو أيديولوجيته أو عقيدته أو مذهبه، وأستمتع أحيانا بروعة قصائد تتعارض أفكارُها مع قناعاتي الإيمانية، لكنني أقوم فوراً بعملية فصل بين الاثنين كما يفعل ،مثلا، كل عُشـّـاق المتنبي.
اللغة العربية كائن حيّ به روح، وإذا كنتَ في حالة غرام وصبابة وولـَـهٍ بها فيمكنك أن ترى ابتسامتَها وهي تمدّ حروفها لكَ بمُفردةٍ، وتسمع ضحكاتها وهي تتمنَّع قليلا فتفتح كـُـوّة صغيرة، ثم فجأة تجد نفسَك أمام مغارة بها من اللآليء والجواهر والأحجار الكريمة ما يجعلك ترقص طرباً من هذا الكرم اللغوي البديع والنادر.
إنها تشترط عليك شيئاً واحداً فقط حتى تبادلك حُباً بحبٍ.. أنْ تقرأ العربية قبل أن تأوي إلى فراشِك، فإذا قرأتَ عَشر دقائق في كل يوم فكأنك قرأتَ عشرين كتابا من القـَـطـْـعِ المتوسط في العام.
أعودُ إلىَ اعتذاري الشديد لكل أبناء وطننا العربي الكبير مؤكداً أنَّ المستشار الذي أهان لغتــَـنا ليس مِنـّـا، عدلا أو لساناً، حُكماً أو حروفاً، فسامحونا على ما فرَّطنا في نعمة الله علىَ العرب، فمصرُ عربية ولو حاول إغتيالَ لغتـِـها كلُّ قـُـضاتـِـها ومُستشاريها وإعلامييها!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 7 يونيو 2012