مصر من زلزال مضى عام 1992 الى زلزال متوقع عام 2012

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٣٠ - مايو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

أولا :

1 ـ فى مستشفى المطرية بالقاهرة كان صاحبى بجانب زوجته الشابة وهى تعانى مخاض أول تجربة للولادة ، وفجأة تزلزل المستشفى ، وعلا الصراخ وبدا كما لو أن القيامة قامت ، حدث زلزال 12 اكتوبر 1992 ، وهرب الطبيب والممرضة ، ووجد صاحبى نفسه يهرب مع الهاربين فى لحظة ذعر نسى فيها زوجته وهى تضع مولودها ، وقبل أن يصل صاحبى فى جريه الى السلم المكتظ بالمتدافعين تذكر زوجته التى تركها خلفها ، فعاد بصعوبة يشق جموع الناس ، وعاد لزوجته فو جدها قد ولدت بنتا . بعدها باسبوع كانت المولودة بيننا نتندر على الحادث ، وأطلقنا عليها لقب ( زلزالة ) لأنها ولدت فى لحظة الزلزال . الآن السيدة ( فاتن ) أو ( زلزالة ) سابقا تزوجت وأنجبت ابنا اسمه ( أحمد ) على إسم أبيها الذى فرّ لحظة مولدها .

2 ـ خلال العمر الذى عاشته ( زلزالة ) أو السيدة ( فاتن ـ أم أحمد ) ومن زلزال اكتوبر 1992 الى هذا العام 2012 ، تغيرت مصر كثيرا ، ليس تغيرا نوعيا ، ولكنه تغيّر كمّى ، إذ إزدادت فيها ثقافة الوهابية وتشعبت فيها طوائف السلفية و تكاثر فيها أتباع الاخوان المسلمين ، ولم يعد الايمان بالوهابية قصرا على أغلبية الشعب والأغلبية الصامتة بل إعتنقها أرباب الحكم من نظام مبارك وحزبه وعصاباته بل وأجهزته الأمنية والعسكرية، وزادوا بالوهابية وأساطيرها فى الشفاعة والنجاة من عذاب القيامة فسادا وطغيانا وتجبرا . وفى نفس الوقت فإن تيار الوهابية ومنظماته وطوائفه وقادته لم يتخلفوا عن موكبة الفساد ، بل تعايشوا معه واستفادوا منه . وبهذا أصبح نظام مبارك ومعارضوه ( يدا واحدة )، أو بقول أكثر دقة أصبحا وجهين لعملة واحدة تجمع الفساد والاستبداد .

بعد عشرين عاما من زلزال اكتوبر 92 أصبحت مصر على شفا زلزال آخر يصنعه تطاحن نظام مبارك ومعارضيه حول رئاسة مصر . قامت الثورة المصرية ونجحت فى خلع مبارك ونقله الى استراحة فخمة بينما لا يزال نظامه العسكرى الأمنى الحزبى حاكما ، ويقف فى مواحهته الوهابيون الاخوان والسلفيون ، وبينهما تم تهميش الثورة وهزيمة رموزها . الصراع بين نظامى الاستبداد (القائم والقادم ) قد يسفر عن زلزال أعتى وافظع . والقاسم المشترك بينهما قائم وهو الدين الوهابى ، مع اختلاف الزى والمظهر.

ثانيا

1 ـ حدث زلزال 92 يوم الاثنين ، وهو الموعد الاسبوعى لصدور جريدة الأحرار التى كنت أكتب فيها . وفى الإثنين التالى نشرت لى الأحرار هذا المقال الذى يصوّر حال مصر فى أسبوع الزلزال ، وأعيد نشره هنا :  

2 ـ ( جريدة الأحرار) بتاريخ 19/10/1992 .

قال الراوي

الزلزال .. والزلزال !!

        *الزلزال الذي أصاب مصر عصر يوم الاثنين الماضي ينبغي أن يزلزل الكثير مما تعودنا عليه من خمول وتهاون وسكوت على الفساد .. ذلك الزلزال لو حدث في بلد متقدم ما نتج عنه كل ذلك الحجم من الخسائر في البشر والممتلكات . ولكنه لأنه حدث عندنا في مصر فقد ارتفعت أرقام الضحايا بدون مبرر ، وبدأ الترهل واضحا في بعض الأجهزة ،وظهر الارتباك في معظمها . وإن كان الزلزال كارثة بكل المقاييس فإنه لا يخلو من عظات ودروس ، إذا كان هناك من يستفيد من الدروس ..لقد أسقط الزلزال الكثير من المباني الحديثة والقديمة .. وتلك ظاهرة مصرية فقط ، انفردنا بها عن العالمين ، لأنه يعني بالنسبة لنا في مصر أن هناك من المباني القديمة ماهو آيل للسقوط وأن هناك من المباني الحديثة ما جعله الفساد كذلك ..

·إن معظم مباني القاهرة القديمة قد انتهى عمرها الافتراضي ، وتلك المباني تحتل وسط البلد حيث يرتفع سعر المتر فيها إلى مبالغ مفزعة ، خصوصا في الدرّاسة والعتبة وأبو العلا ورمسيس والسيدة وغيرها ، والظاهرة السائدة في هذه المناطق أن تحتل مقدمة الشوارع بعض العمارات الحديثة لتستر عورة المباني القديمة التي يبلغ عمرها أحيانا مائة عام ، وبعض تلك المباني القديمة  يتكيء على عمارات قوية تحميها من السقوط ، وبعضها يتساند ويتعاون على الصمود ، وجاء الزلزال فتراقصت ومنها ما سقط ومنها ما لا يزال ينتظر .. وماتت نفوس زكية بغير ذنب ..

لماذا نعجز عن إيجاد الحل ؟ وإلى متى تبقى تلك البيوت القديمة تهدد حياة الأبرياء وتتحول إلى مدافن لأصحابها في غمضة عين ؟ .. أتصور أن يتجه الاستثمار إلى تلك المباني فيشتري الأرض ويوفر السكن لأصحابها ومستأجريها، ثم تقام عمائر حديثة على مستوى القرن الحادي والعشرين تناسب القاهرة أعظم وأعرق مدينة في أفريقيا والشرق الأوسط ..

·       وقد أصاب الزلزال بعض المباني الحديثة وأوضح إلى أي حد وصل الفساد بيننا .. إن بعض المباني القديمة الآيلة للسقوط صمدت ولم تسقط بينما سقطت عمارات حديثة وتحولت إلى رماد بسبب الجشع والفساد .وليت الأمر اقتصر على ذلك ،  بل وصل إلى المدارس فتصدعت وتساقطت فوق رءوس أبنائنا التلاميذ ، والمسئول عن ذلك هم المفسدون من المقاولين والموظفين .. ولا ينبغي أن تمر هذه الجريمة بلا عقاب .. لابد من مراجعة العقود والملفات لنعرف المسئول المتهم من المقاولين والموظفين ، فإن دماءنا وأموالنا ليست غنيمة مباحة لكل معدوم الضمير ..  

*  لقد بذل بعض المسئولين جهدا مشكورا وقت الكارثة ، وذلك واجبهم وتلك مسئوليتهم ، إلا أن التليفزيون أسهم في حرق أعصاب المصريين ووصل بهم إلى ما يقرب من الانفجار .. فقد ركز على أخبار السادة المسئولين واجتماعاتهم في مكاتبهم ، وتكاسل عن نقل أخبار الجرحى والمصابين والمشردين والأهالي الملهوفين . المصري يكاد يصيبه الجنون ليطمئن على أقاربه في أحياء القاهرة أو في الأقاليم ويفتح التليفزيون فيجد البرامج العادية ،  وينتظر النشرة على أحر من الجمر ، فيتميز غيظا وهو يسمع أخبارا مبتورة وأحاديث مطولة لبعض المسئولين لم يسأم التليفزيون من تكرارها ليزيد من إصابتنا بالضغط وتصلب الشرايين. ويأتي المصري من أمام بعض المستشفيات وقد رأي مئات الجرحى من الأطفال وتأكد من موت العشرات ويستمع إلى نشرة التليفزيون فيجدها تتحدث عن بضع حالات.. إلى هذا الحد بلغت استهانتهم بعقليتنا ومشاعرنا كما لو أننا اشترينا جهاز التليفزيون لنتمتع برؤية السادة المسئولين في كل مناسبة حتى لو كانت الزلزال . ولو كان التليفزيون يقوم بواجبه الوظيفي والقومي لألغى برامجه – كما ألغى الرئيس زياراته الخارجية – ولنزلت الكاميرات إلى الشارع تسجل كل شيء لتأتينا بأخبار الكارثة أولا بأول وفق متابعة دقيقة ومنظمة لكل بيت منهار وكل طفل مصاب وكل صريع وكل جريح ، ولقاء مع كل مسئول في موقعه في الشارع ، أو في غرفة العمليات ، عندها سيجلس كل مصري إلى جانب التليفزيون أو الراديو ويهدأ نفسا ويتصرف التصرف الملائم ، أما عندما يريد الاتصال التليفوني ليطمئن على أهله فلا يستطيع ، ويذهب إلى جهاز التليفزيون فيجده كما لو كان تابعا لجمهورية ساحل العاج – لا يعبأ بالكارثة – فليس أمام المواطن المقهور إلا أن يخرج في الشارع ويتكدس أمام المستشفيات ويعوق بتجمهره عمليات الإنقاذ ..

ومع تلك الصورة القاتمة فإن الكارثة قد أظهرت المعدن الأصيل لذلك الشعب العظيم الذي عاش شعبا واحدا سبعين قرنا من الزمان هبت السواعد الفتية تشارك في الإنقاذ ،  وتتبرع بالدم وتواسي المحزون ، امتزجت الدماء والدموع والصرخات بين المصريين جميعا ، لم يسأل أحد عن الطفل الضحية ، هل اسمه أحمد أو مرقص ..

أخيرا

 كان هذا المقال يناقش الفساد الخارجى ، وفيما بعد تكشّفت حقائق عن فساد الاسكان بسبب سقوط العمارات الحديثة فى الزلزال ، وتتابع سقوط عمارات أخرى بعدها بدون زلزال ، فنشرت مقالات أخرى كثيرة تركّز على الفساد العقيدى الداخلى ، فساد النفوس الكامن الخفى والذى أظهره زلزال 92 وتوابعه.ولكن كانت صرخات فى خرابة ، فالفساد الذى خرّب النفوس وكان كامنا عام 92 مالبث أن توحّش وظهر بأنيابه ينهش علانية أشلاء المصريين فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين . وقامت ثورة المصريين ، ولكن الفساد المتحكم فى النفوس أثبت انه أقوى من ثورة الشباب ، وها هو هذا الفساد ينذر بزلزال أعتى ، يهدد البلاد والعباد . 

اجمالي القراءات 21804