مفهوم الهداية في القرآن الكريم!

نسيم بسالم في الخميس ٠٣ - مايو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

   يلتَقي الإِنسانُ في واقِعه الاجتِماعي بِكثيرٍ مِن الكُسالَى وضَعفَة النُّفوس، وفاتِري الهِمم؛ يعبُّون مِن المَعاصي عبًّا؛ ويتخوَّضُون في لُجَجِها خَوضًا؛ وهُم في ذَلك عالمُون مُدركُون أنَّ ما تقتَرفُه أيديهِم عَينُ الحَرام، ومناطُ سَخطِ الله وعِقابِه؛ ولكنَّهُم يُعلّلُون النَّفس ويُسكِّنُون تباريحَها بِقولِهم: لَم يشأ الله هِدايَتَنا فما ذنبُنا؟ ولَو شاءَ لهَدانا؛ فالله يَهدي مَن يشاء ويُضلُّ مَن يشاء! أو بالعبارَة العامِّية الدَّارِجة على ألسُن بعض السُّفهاء: "المتربِّي مَن عند ربِّي"! وهُو نَفس الزَّعمِ والوَهم الذي ينسِفُه الله للأشقياءِ غدا يَوم القيامَة لمَّا يُعاينُون العذابَ، ويُدركُون أنَّه لا مفرَّ لهُم منه ولا مَحيص!

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[الزمر : 57].

- كأنَّ هَؤلاء يَرون أنَّ الهِدايَة حُظوَة وتفضيلٌ إلهيٌّ عشوائي يختصُّ بِه مَن يشاءُ مِن عبادِه دُونَما قانُون ناظِم أو نامُوسٍ حاكِم!

   فتَجدُ أمثَلهُم طَريقَة يقُول لَك: " وجهك برَكة، ادعيلي ربِّي يَهديني"، ثُمَّ يستمرُّ على ضَلالِه القَديم؛ إفكا وزورا وبُهتانا واختلاسا، ظُلمًا وعُدوانا؛ مُنتَظرا أن تهُبَّ عليه ريحٌ مِن الهِدايَة في يَومٍ مِن الأيَّام فتُنقذَه مِن ظُلماتِه ضَربَة لازِب!!!  تَماما كذَاك الذي فقَد حرارَة الخطِّ مِن جوَّالِه ينتَظرُ أن يمرُّ مِن منطقَة داخلَة في التَّغطيَة حتَّى تعُودَ الحياةُ إلى جِهازِه كرَّة أُخرى! بِهذه المَشاعِر يعيشُ كثيرٌ مِن عُصاةِ المُسلِمين؛ غرَّهُم حِلمُ ربِّهِم عليهِم، وألهاهُم  طُول الأَمل؛ وتمنَّوا على الله الأَماني، فغرَّهُم بالله الغَرور، وتفنَّنُوا في ألوانٍ مِن الفِسقِ والفُجور!

* قبلَ أن نُعرِّجَ على تتبُّعِ بعضِ موارِد الهِدايَة في القُرآن الكريم للتعرُّف على نواميسِها وسُنَنِها نقُولُ أنَّ الإِنسانَ – أيَّ إنسانٍ سويِّ الفِطرَة- يبحَثُ في سرِّه عَن الهِدايَة في كَثيرٍ مِن الأشياء التي يستَلغزُها فيما حَوالَيه؛ وتتَوارَد إلى خاطِرِه بينَ الفَينَة والأُخرى أسئِلةٌ مُحرِجة مُقلقَة يودُّ لَو يَجدُ لَها جَوابا يُبدِّدُ حيرتَه ويَشفي غليلَه!

- فهُو يتساءَلُ مِن أينَ أتيتُ؟! ومَن أتَى بي إلى هذه الحَياة؟! وماذا يُرادُ منِّي أن أفعلَه؟! وهَل هُنالِك حياةٌ أُخرَى بعدَ هذه الحَياة أم أنَّه محضُ العَدم والبِلى ولا شَيءَ وراءَ ذَلك؟!

- لمَ هذا التَّفاوُت العَجيبِ بينَ النَّاس في الصَّحَّة والمَرض؟! في الأَمن والخَوف؟! في الإعسارِ واليسَار؟! فيما تُدرُّ السَّماء وما تُخرجُ الأَرضُ مِن خيراتِها وبركاتِها؟!

- لماذا نَرى إنسانا وُلِد كَفيفًا ولَم يرَ النُّور في حياتِه قط، ونرَى آخَر مُمتَّعٍ بباصِرتيه إلى أرذَل عُمرِه؟! ألمزيَّة في هذا أم لنُقصٍ في ذَاك؟!

- ولِماذا نَجدُ دُولاً في مُنتَهى الأَمن والعافيَة والاستِقرار، ونَرى أُخرَى تُدمَّرُ وتُهلَك، ويُسامُ أهلُها سُوء العذاب؟! يُقتَّل أبناؤُها ويُستحيى نساءُها؟! أليسَ هذا الأَمر عجيبًا فِعلا؟!

- ونسمَع مرَّات ومرَّات عَن أطفالٍ ما إن خرجُوا إلى هذه الحَياة حتَّى وجدُوا أموالاً طائِلة بانتِظارِهم!! ونَسمَع عَن آخَرين لا يكادُون يحصُلون على قُوتِ يَومِهم بعدَ طُولِ كَدح وعَنت ساعاتٍ مَديدة؟! ما تَفسيرُ هذا؟!

- كيفَ نُفسِّر (غضَب الطَّبيعَة) أحيانًا على شَكلِ أعاصيرَ وزلازِل وبراكين وفيضانات؛ بحيثُ تُحصَد مئات الأَرواحِ، وتسقُط آلافُ البنايات؛ في غُضون دقائِق أو ساعات؟!

- هَل مِن المَعقُول أن يتنعَّم الظَّالِم الغاشِم بشتَّى مباهِج الحَياةِ وزخارِفِها سِنينَ عَددا، ويَركَب ظُهور العِباد ويمتصُّ دِماءَهُم، ويقصِم فقارَهُم؛ ثُمَّ يمُوتُ بعد ذَلك هُوَ ويمُوتُ مَن ظلَمهُم، وتنتَهي القصَّة ولا يُوجدُ مِن يقتصُّ مِن الظَّالِم للمَظلُوم، ولا لائِم ولا ملُوم؟!

*  أسئِلة كثيرَة لا تُحصَى عَددًا مِن هذا القَبيلِ تتناوَشُ كُلَّ مَن رجَع إلى فِطرتِه النَّقيَّة التي فَطرَه الله عَليها؛ تُقلِقُه مَعرفيًّا ووُجدانيا، وتُلحُّ على ضَميرِه لكَي يَجدَ جَوابا شافيًا علَّه يُحسُّ بشَيءٍ مِن الارتياحِ النَّفسي!! ولا شَأنَ لَنا طَبعا مَع مَن تنكَّر لِفطرتِه، وأخمَد أُوارَها قَسرًا مِن المُلحِدين والطَّبيعيين الذينَ لا يَرونَ مِن هذه الحَياة إلا مَجمُوعَة قَوانين فيزيائيَّة وبيولوجيَّة تحكُم عالَم الأَشياءِ ويكفُرون بِما وراءَ ذَلك! وبالمُناسَبَة  فالإلحادُ ليسَ بقناعَة عقليَّة أبدا وإنَّما هُو مَحضُ اعتِلالٍ نَفسي كَما يشهَد بِذَلك كبار العُلماء والفلاسِفَة!

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت :61- 63].

* والآن هَل يُتصوَّر مِن إلهٍ رَحيمٍ، لطيفٍ وَدُودٍ أَن يترُكَ عبادَه هكذا هَملاً ضَياعًا مِن غيرِ هِدايَةٍ وتبيين سَبيل؟!وبعبارَة أُخرَى: هَل نعزُو حيرَة الإنسان وتيهِه، واضطرابِ نَظمِ حياتِه (على خلافِ كافَّة المَخلُوقات) إلى تقصيرٍ مِن الباري عزَّ وجَل (حاشاه) في الهِدايَة، أم أنَّ التَّفريطِ يعُودُ على الإِنسان في عَدم اتِّباعِه للخطِّ الذي رسَمه خالقُه لَه لكَي يسعَد ويهنَأَ، ويحيى حياةً طيِّبَة؟!

* لا أرَى إلاَّ أنَّ أقصَر طَريقٍ للجَوابِ على هذا السُّؤال؛ مِن غيرِ الدُّخول في مباحَثاتٍ فلسفيَّة وشقشقاتٍ كلاميَّة؛ هُو التَّأمُّل في عالَم الخَلقِ الواسِع الرَّحيبِ أينَ نقفُ على صُوَرٍ مِن الهِدايَة الربَّانيَّة مُنقطِعَة النَّظير؛ ثُمَّ ليَتساءَل كُلُّ عاقِلٍ مَع نفسِه بعد ذَلك: هَل يُعقَل أن يَهديَ الله كُلَّ تِلك العَوالِم والأُمَم مِن البهائِم والوُحوش، ويترُكَني أنا فقَط حائِرا لا أدري مِن أينَ أتيتُ ولكنِّي أتيتُ كما قالَ ذَلكم الشَّاعِر؟! أبصَرتُ قُدَّامي طريقا فمشيتُ! كيفَ جئتُ؟! كيفَ أبصَرتُ طريقي؟! أتمنَّى أنَّني أدري ولكنِّي لستُ أَدري! لستُ أدري لماذا لستُ أَدري؟! هَل يُعقَل أن يَجعَل الله حياتي طَلاسِم وألغاز وأُحجيات؟! وهُو الذي خلقَ سوَّى، وقدَّر فهَدى؟!

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه :49- 50].

صور مِن هدايَة الله للمخلُوقات

- هنالِك هِجرة شهيرة من البحار في المياه العذبة لأسماك السلمون البالغة لوضع البيوض، والتي تطالعنا بها الصور التلفازية بقفزاتها ـ تصل إلي 3-4 متر ـ بالغة الرشاقة والروعة والمرونة. تراها باذلة الجهد الكبير ضد مساقط المياه العاتية، وضد مشاكل سوء التغذية لا يصدها صاد عن غايتها واستمرار نسلها. ذلك النسل من السلمون الصغير الذي يعود ببطء، وفي اتجاه تيار الماء، نزولا إلى البحر في رحلة قد تستمر أربع سنوات. لكنه بعد بلوغه يعود ثانية لنبع النهر العذب الذي فقس فيه سابقاً ليعيد دورة حياة جديدة. فمن غير الله تعالى قد "ألهمه" ذلك؟!

- من الساحل البرازيلي تهاجر سلاحف البحر الخضراء البرازيلية (Chelonia mydas) للتكاثر قاطعة مسافة 2500كم، عابرة المحيط الأطلسي نحو السواحل الإفريقية، وعند جزيرةAscension تضع بيضها ومن ثم تعود إلي موطنها دون أن تضل طريقها. ويحار العلماء في تفسير تلك الرحلة العجيبة، فهل تترك السلحفاة رائحة معينة تهتدي بها حال عودتها، أم تسترشد بالتضاريس البحرية، أم بزاوية معينة للشمس بالنسبة للأرض، أم ببوصلة مغناطيسية؟! مَن غير الله تعالى هداها سبلها؟!

-  يوجد ما يزيد عن (8000) نوع من الطيور، فهل تعلم أفراخها الطيران أم إن هذه الخاصية "هداية" من الله تعالى؟! أجرى  باحثون ألمان تجربة للإجابة عن مثل هذا السؤال، حيث وضعوا صغار الحمام حديث الفقس في أنابيب ضيقة؛ بحيث لا تستطيع تحريك أجنحتها، وعند بلوغها سنا معينة قاموا بإطلاقها فطارت علي الفور! سُبحانَ الله الهادي! ومِن ناحيَةٍ أُخرَى نجدُ بعضًا مِن سباع الطير ومن يصطاد في الهواء، تساعد صغارها وتدربها عبر إلقاء قطع الطعام في الهواء ـ كي تَكتَسبَ مهارة إتقان فن القنص في الهواء! مَن الذي علَّم الآباءَ وأولادَها؟!

- عبر فصول العام مازالت هجرة الطيور (أكبر المهاجرين في الكائنات الحية) إلى حيث الدفء والغذاء، ووضع الأعشاش، وهداية الله تعالى لها حين عودتها أو عودة صغارها بمفردهم فيما بعد إلى موطنهم الأصلي، مثار اهتمام ودهشة بالغين من العلماء والمختصين .فعلي سبيل المثال خرسَنة القطب الشمالي ( Sterna paradisaea) تتكاثر في أقصى شمال أوربا وأمريكا وتهاجر في الخريف جنوبا إلي استراليا وأفريقيا، حيث تبقي حتى الرَّبيع؛  ومن ثم تعود إلى أرض تكاثرها في الشمال، في رحلة فريدة عجيبة لا تصدق، وتبلغ نحو 35.500 كم في السنة الواحدة. لقد تعددت تفاسير العلماء "لحواس التوجه"، ومدي الدقة في تحديد الاتجاه وأماكن الهجرة، ومن ثم العودة للموطن الأصلي، وصولا للقول بوجود مادة تعمل "كمغناطيس طبيعي" يتوافق مع المجال المغناطيسي للأرضِ ذهاباً وإيابا! إنها ـ من قبل ومن بعد ـ هداية الله لمخلوقاته.

-  كانت قد أجريت تجربة للتفريخ الاصطناعي لبيض الدجاج، عبر إحاطته من جميع جوانبه بالحرارة المناسبة ولكن دون تقليب، كما هدى الله تعالى الدجاجة لذلك! لكن مضى موعد الفقس دون خروج الفراريج، وفشلت التجربة. ليُعلم فيما بعد أن الدجاجة إنما تقلب بيضها منعاً من ترسب المكونات الأولية للفرخ في الأجزاء السفلى منه، ولذا فهي لا تقوم بتقليب البيض في اليوم الأول وكذا الأخير من فترة الحضانة، فمن هداها لذلك؟!

- وإذا تركنا الدجاجة وهدايتها في تقليب البيض، فمن الذي هدى ذَلك الفَرخ عند موعد فقسه كي يكسر بيضته عند أضعف أجزائها؟! ومن الذي هدى "العقاب المصري" كي يلتقط الحصى بمنقاره، ومن ثم يرتفع عاليا كي يسقطها بذكاء، وبخاصية من حدة بصر فائقة على بيض النعام العصيِّ على الكسر؟!

- لُوحظ قنفُذٌ يأكُل حيَّة؛ وكُلَّما أكَل جُزءًا مِنها؛ ذهبَ مُسرِعًا إلى شجَرة قريبَة مِنه ليَقضِم شَيئًا مِنها؛ ثُمَّ يعُودُ إلى أكلِ الحيَّة، وهكذا تكرَّرت العمليَّة مِنه مرَّات ومرَّات؛ ولمَّا اختُبِرت تِلك الشَّجرَة وُجدَ أنَّ بِها مادَّة تُضادُّ سُمَّ الأفعى؛ فيستَفيدُ القُنفذ مِن لَحم الأفعى مِن غيرِ أن يتضرَّر مِن سُمِّها! سُبحان الله! مِن أيَّة جامِعة عالميَّة تخرَّج ذَلك القُنفُذ؟!

* لَو شاءَ ربُّ العِزَّة والجَلال أن يجعَل حياةَ البشَر تسيرُ وِفقَ هُدَى غَريزي تَكويني كذَاك الذي نلمحُه عِندَ سائِر المخُلوقات التي بثَّها الله في هذه المَعمُورَة! فلا نَرى فيها عِوجًا ولا أمتًا! لا حُروب ولا تسلُّط طَبقي، ولا صِراع أجيال، ولا تَفرِقَة عُنصُريَّة، ولا أزمَة غذائيَّة، ولا استِحمار الشُّعوب (أو استِغنامُها كما يحلُو لبعضِهم مِن التَّنويعِ في العبارَة)، ولا تدَهُور العلاقات، ولا خيانَة زوجيَّة، ولا توتُّر نَفسي، ولا شَيءَ مِن قبيلِ ذَلك ممَّا هُو بيِّنٌ جُنوحُه عَن الفِطرَة السَّويَّة التي فَطر الله النَّاسَ عليها! أسمِعنا شَيئًا ممّا ذُكِر أو صِنوُه عِند أيَّةِ أمَّة مِن الأُمم التي ذَرأها الله في كَونه الشَّاسِع الفَسيح؟!

   أتناهَى إلينا أنَّ النَّمل اجتَمعَت  يَومًا (أو العناكِب) لتُنادي بإسقاطِ المَلك أو الحاكِم، وتُصيِّح بإسقاطِ النِّظام وتبديلِه تَنديدًا بتردِّي الأَوضاع المَعيشيَّة وخَنق الحُرِّيَّات؟! كلاَّ وحاشاها! فأنَّى لَها أن تُغيِّرَ نِظامًا مِن تدبيرِ الحَكيم الخَبيرِ الذي وسِع كُلَّ شَيءٍ عِلما؟!

   ولَكن ما بالُ هذا الإنسان التَّعيس الذي ما يَفتَأ ينعتِقُ مِن براثِن مُشكِلَة حتَّى تعتورُه أُخرَى وأُخرَى وأُخرَى في جحيمٍ لا يَنتَهي ولا يبدُو أنَّه سيَنتَهي أبدَ الدَّهر؟! أليسَ هُو الآخَر مَهديًّا بِفطرتِه كسائِر ما خَلقَ الله؟! فما تفسيرُ هذه المُفارَقة العَجيبَة المُغربَة ؟!

-  الجَواب بُكلِّ بساطَة أنَّ الإِنسان - وإن كانَ مفطُورًا فِطرَةً سويَّة لا يُماري في ذَلك أحد- إلاَّ أنَّ هدايَتَه شاءَ الله أن تكُون تكليفيَّة لا تَكوينيَّة؛ يترتَّبُ عليهَا في النِّهايَة ثوابٌ لِمن اختارَ هِدايَة الخالِق سُبحانَه واتَّبعَها؛ وعقابٌ لِمن حادَ عَنها واتَّبعَ هواه واختارَ هِدايَة الشَّيطان!

{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة : 13].

{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام : 149].

{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل : 9]

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) } الإنسان.

{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}؟! البلد.

* إذَن فالإِنسانُ مَهديٌّ مِن خالِقِه الرَّحيم سُبحانَه؛ هِدايَة بيانٍ وإضاءَةٍ لكلا طَريقي الشُّكر والكُفر؛ ثُمَّ هُو حُرٌّ تَمامَ الحُرِّيَّة في المَنهَج الذي يَنتقيه، والمَهيَع الذي يسلُكُه إلى أن يُنبَّأ يَوم القيامَة بِما قدَّم وأخَّر! فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير!

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت : 17].

- لَقَد هَدى الله قَوم ثمُودَ كَما هَدى سائِر البَشر إلى طريقِ الهُدَى ودينِ الحق؛ ولكنَّهُم استحبُّوا العَمايَة والغوايَة فتنكَّبُوا عَن سواءِ الصِّراط؛ وهكذَا فَعل الله ويَفعَل مَع كُلِّ أمَّة خلقَها؛ ولَن تجدَ لسُنَّة الله تبديلا ولَن تجدَ لسُنَّة الله تَحويلا!

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس :35- 36].

* مَن غيرُ الله يَهدي عبادَه؟! أليسَ هُو وَحدَه لا شَريكَ لَه، وكُلُّ ما سِواهُ يستَمدُّ الهِدايَة مِنه سُبحانَه؟! إذَن: لا شكَّ أنَّ أيَّ حصيفٍ أريبٍ يَفزَع إلى مَن بيَدِه مقاليدُ الهِدايَة أصالَةً؛ لا أن يتشبَّثَ بأهدابِ مَن هُو يبحَثُ عَن الهِدايَة في نفسِه؛ ولا يهدِّي إلاَّ أن يُهدَى! فما بالُ هذه القُطعان البشريَّة تلهثُ وراءَ كُلِّ ناعِق، وتتَّخذُ مِن نفسِها فِئران تَجارِب لكُلِّ نظريَّة جَديدَة برَّاقَة طُبِّلَ لَها وزُمِّر؛ حتَّى تتنكَّبَ في النِّهايَة الوَيلات وتتجرَّع الحَسرات؟! قُتِل الإنسان ما أكفَره!

{قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام : 71].

* أليسَ الخالِق العَظيمُ هُو الذي هَدانا بالنُّجوم اللآلئ في جوِّ السَّماء في اللَّيالي الحالِكَة الظَّلماء؛ وبالطُّرق السَّابلَة ولَو في شُعَبِ البيداء! أيُتصوَّر أن يترُكَنا نضربُ في عَماء ونَخبِطُ خبطَ عشواء؟!

{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل: 63].

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام : 97].

{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء : 31]

* والآن: قَد سلَّمنا يا ربِّ لهُداك، وقرَّرنا ألاَّ نعبُدَ إلاَّ إيَّاك؛ ولا نسأل الهِدايَة مِن سواك! فكَفى بِكَ هادِيًا ونصيرا! أنتَ الذي تقُول الحقَّ وأنتَ وحدَك تهدي السَّبيل! ولَكن يا ربِّ ما المَخرَجُ مِن الظُّلماتِ الحَوالِك إلى نُورِك المُبين؟! إلى أينَ نلتَجئ؟ وبِم نستَمسك؟!

    يَأتي الجَوابُ الإلهي واضِح اللَّهجَة صادِق المَحجَّة خِطابًا للعالَمين: إنَّ الحلَّ لكُم يا عبادي كُلُّ الحلِّ! والنَّجاة كُلُّ النَّجاة في القُرآن الذي بينَ أيديكُم تنثُروه نثرَ الدَّقل، وتُهذرمُونَ كلماتِه هذرمَة، وتتلونه للبرَكة في مناسباتكم وحفلاتكُم، وتتنافسُون في طباعتِه وتجويدِ حُروفِه! لَو تدبَّرتُموه وعقلتُم آياتِه، وتبصَّرتُم ببصائِره؛ فلَن تبغُوا عَنه حِولاً ولَن تجدُوا مِن دُونِه مُلتَحدا! ولَكن اتّخذتُم لَه بدائِل ونبذتُموه وراءَكُم ظِهريًّا، ولَم تدرُسوه حقَّ دراسَتِه! فحقَّ عليكُم مِثلَ ما حقَّ على أهلِ الكِتاب، ولله الحكمَة البالِغَة وفصلُ الخِطاب! اسمعُوا إلى هذه الآيات بإنصاتٍ وخُشوعٍ علَّها تُحيي فيكُم قُلوبًا مَيتة، وتُسمِعُ فيكُم آذانًا صُمًّا!

{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم : 1].

{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة :15-  16].

{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: 38.

{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه :123- 124].

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح : 28].

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185].

{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ : 50].

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء : 9].

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن :1- 2].

* لَم يُغِفِل خالِقَنا العَظيم أمَّة مِن الأمَّة مِن الهِدايَة إلى سواءِ السَّبيلِ وتبيين المَنهَج والطَّريقَة؛ فهذه بعض آياتٍ تُضفي صِفَة الهِدايَة إلى كُتبٍ أنزِلت على أمَمٍ مِن قبلِنا! فَما أجلَّ عَدل الباري عزَّ وجل بينَ خلقِه، وما أعظَم رحمَته بعبادِه أجمَعين!

يقُول تَعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ. مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}[آل عمران:3-  4].

ويقُول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون : 49].

ويقُول أيضا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ .هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر :53- 54].

* والسُّؤال الذي يتبادَر الآن لكُلِّ مَن يتدبَّر هذه الآيات ويتمعَّن في معانيها: فلِمَ لَم يهدِ الله تَعالى جبلاًّ كثيرًا ومَنبَع الهِدايَة في أيديهِم؟! في قَديم الزَّمان وحديثِه؟! بَل نَجدُ الكَثيرَ ممَّن يحمِل شِعارَ الإسلام ويحشُر نَفسَه في صفِّ المُسلِمين بعيدًا كُلَّ البُعدِ عَن الخطِّ الذي رسَمه القُرآن الكَريم لعبادِ الله الصَّالِحين البَررة؟! فَأين الخَلل؟! وما مَكمَن السِّر؟!

- الجَواب على هذا الإشكالِ المُحيِّر أنَّ الله سنَّ للهدايَة قوانينَ ونَواميس لا تَختلفُ عَن تِلك التي نَحفظُها في عالَم المادَّة؛ فكَما أنَّ هذه لا تتخلَّف فكذَلك تِلك لا تتخلَّف ولا تتحوَّل ولا تتبدَّل! ولا يغرُّنا اقتِرانُها بالمَشيئَة؛ فمشيئة الله مُنزَّهَة عَن العَبثِ والعشوائيَّة! إن هيَ إلاَّ محضُ العَدل ووَضعُ كلّ شَيءٍ في نصابِه؛ وأيُّ عَدلٍ كعدلِ الباري سُبحانَه وتَعالى؟!

- رُبَّما جِماعُ قَوانين الهِدايَة في كِتاب ربِّنا سُبحانَه وتَعالى الآيَة التي يَحفظُها الجَميع، ولَكن قلَّ مَن يقفُ عِندَها بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ يُثمِر عَملاً وإقبالاً أكثَر على الجُهد ابتِغاءِ مرضاة الله تعالى.

يقُول الخالِق الحَكيم في خاتِمة سُورة العَنكبُوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت : 69] .

- أجل!! مَن كابَد وتعنَّى في سبيلِ الهِدايَة بنَفسٍ مُخلِصَة، وعَزيمَة صادِقَة، وجُهدٍ دؤوب حَثيث لا يَعرِف الوَنى والكَسل؛ فاتَّقى وآمَن وأحسَن وتابَ وعَمل صالِحًا فتَح الله عليه مِن نسائِم الهِدايَة، ومتَّعهُ بأعظَم جنَّة يتفيَّأ المَرء ظِلالَها في الدُّنيا؛ جنَّة القُرب مِن الله تَعالى؛ وأمَّا مَن أسرَف على نفسِه وظلَمَها، واختارَ سَبيلَ الغوايَة والضَّلالَة؛ تركَه الله في ظُلمات الجَهل والهَوى إذا أخرَج يَده لَم يَكد يراها! هذه مَشيئَة الله! كُلاًّ يُولِّه ما تَولَّى، ويُيسِّر لَه السَّبيلَ الذي يَختار! فمَن اهتَدى فإنَّما يهتدي لنفسِه، ومَن ضلَّ فإنَّما يضلُّ عليها! ومَن يهدِ الله فلا مُضلَّ لَه، ومَن يُضلِل فلا هادِي لَه! وسينكشِف يَوم القيامَة للجَميعِ مَن تنكَّب عَن الصِّراط السَّوي ومَن اهتَدى!

* سأنتَقي الآن بعضَ آياتٍ تُبيِّن الصِّفات الواجِب توفُّرُها في كُلِّ مَن أرادَ أن يكُونَ مِن المُهتَدين، وآياتٍ تُبيِّن الصِّفات التي إن علِمَها الله في إنسانٍ حرمَه مِن نُور الهدايَة وضيائِها السَّني مَهما كانَت منزلتُه في عُيون الخَلق! فالله صارِمٌ في تنفيذِ سُننِه وحاشاهُ أن يُحابي أحدًا، أو يفضِّله مِن غيرِ ما مُوجب! ولَو شاءَ لَهدَى النَّاسَ جَميعا!

   يقُول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس : 57].

 - يعني كُلُّ تِلك العطايا الرَّبانيَّة تكُون للمُؤمنين حَصرًا لا يُشارِكُهم فيها غيرُهم.

   ويقُول سُبحانَه: { فَبَشِّرْ عِبَاد. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزمر :17- 18]

-  لاحِظ أخي الكَريم بذلَ الجُهد في الاستِماع والاتِّباع كيفَ يُثمِر الهِدايَة! فاتَّبعني أهدِك صراطًا سويًّا! يا قَومِ اتَّبعُون أهدِكُم سَبيلَ الرَّشاد!

   ويقُول أيضا في النِّساء: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء :66- 68].

- الفِعل لا الأماني الفارِغة هُو الذي يستَمطِر رَحمات الله تعالى وتثبيتِه للقُلوب، والأجور العَظيمَة، والهداية إلى الصِّراط المُستقيم! ترجُو النَّجاة ولَم تسلُك مسالِكَها، إنَّ السَّفينَة لا تَجري على اليبسِ! فالقُرآن فيه هُدى ونُور نَعم! ولَكن هُدًى للمُتَّقين! هُدًى وموعظَة لِقَومٍ يُوقنُون! هُدًى وبُشرَى للمُحسِنين!

يقُول تعالى في التَّغابُن: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن : 11].

- يعني: أرادَ أن يُؤمِن بالله، وبذَل وُسعَه بعدَ ذَلِك بصدِقٍ؛ فإنَّ الله أكرَم الكُرماء يُنادي للمُجافي المُعرِض، فكيفَ بالوامِق المُحب؟! فَمن يُردِ الله أن يهديَه يشرَح صَدرَه للإسلام ومَن يُرد أن يُضلَّه يجعَل صَدره ضيِّقا حرِجا كأنَّما يصَّعد في السَّماء!

 وفي الرَّعد نقرأ قَوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد : 27].

- نَعم المُنيبُ المُخبِت هُو الذي يستَحقُّ الهِدايَة، وأمَّا المُعرض المُستنكف الثَّاني لعطفِه فلا هدايَة ولا هُم يحزنُون! إنِّي ذاهِبٌ إلى ربِّي سيَهدين! إلاَّ الذي فَطرني فإنَّه سيَهدين!

في يُونس نقرأ قَوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس: 9]...

-  يهديهم ربُّهم بإيمانِهم وإخلاصِهم لا بادِّعائِهم وأمانيهِم! والذين اهتَدوا زادَهُم هُدى وآتاهُم تَقواهُم! إنَّهُم فتية آمنُوا بربِّهِم وزدناهُم هُدى! وهكذا! الهِدايَة ليسَت بالمَجّان؛ لابُدَّ أن يتفصَّد جبينُ المَرءِ عرقًا مِن أجلِها! والجَزاءُ مِن جنسِ العَمل! ولَنا في إخوانِنا الجنِّ عِبرَة ومَوعِظة لمَّا أعلنُوها صَراحَة للعالَمين: وإنَّا لمَّا سَمعنا الهُدَى آمنَّا بِهن فمَن يُؤمن بربِّه فلا يَخافُ بَخسًا ولا رَهقا!

    يقُول تعالى في سُورة المائِدة: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة :15- 16].

- يعني مَن تحرَّى رِضوان الله تَعالى في كُلِّ ما يأتي وما يَذر مُستنيرا بِنُور الكِتابِ وآياتِه؛ كانَ حريًّا بالله سُبحانَه وتَعالى أن يُخرِجَه مِن سماديرِه، ويُحرِّره مِن ظُلماتِه! ومَن أضلُّ ممَّن اتَّبع هَواه بِغيرِ هُدى مِن الله إنَّ الله لا يَهدي القَوم الظَّالِمين!

وأختِم بِهذه الآيَة في سُورة البَقَرة؛ يقُول فيها الباري سُبحانَه: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26].

- أمَّا الذين آمنُوا فآياتُ الله في حقِّهِم زيادَة في الخَير، وزيادَة في الإيمان واليَقين، وأمَّا الذين في قُلوبِهم مَرض فتَزيدُهم – والعياذُ بالله – رِجسا إلى رِجسِهم! فكَما أنَّ للقُرآن مُكافآت فكذلِك لَه عُقوبات! فلا حياديَّة مَع القُرآن! إمَّا أن تكُونَ مَعه أو يكُون عليك! ولَكن حاشا ربُّنا أن يَظلِم أحدًا! فالذي عَلِم الله مِن قلبِه خَيرا آتاهُ خَيرا ولَو كانَ يعيشُ في أخبث البيئات على وَجه الأَرض! ومَن علِم مِن قلبِه فُسوقًا وإعراضًا وكِبرا ومُعاجَزَة، أضلَّه عَن سواءِ السَّبيل ولَو كانَ مُسامِتًا مسجِد الله الحَرام!! الله جدُّ دَقيقٍ في أمرِ الهِدايَة مِثلَما هُو دَقيقٌ في تسيير النُّجوم والأَجرامِ في السَّماء!

{وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 258]... {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 264].

{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة : 108]...{ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف : 52].

{فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل : 37]...{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر : 3].

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل : 104].

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر : 28].

* يَعني مَن كانَ مُتَّصفًا بِهذه الصِّفات المذكُورة في الآيات وشَرح بِها صَدرًا – طواعيَّة مِن نَفسِه واختيارًا -  فلَن يملِك أحدٌ أن يَهديَه مِن دُونِ الله ولَو كانَ رسُول الله صَلوات ربِّي وسَلامُه عَليه ذي البَلاغِ المُبينِ والخُلقِ العَظيم! فسُبحانَ الهادي المُضل جلَّ جلالُه!

{وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يونس : 43].

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص : 56].

{أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء : 88].

{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ} [الزمر : 37].

* لكُلِّ مَن أرادَ أن يسلُكَ سَبيلَ الهِدايَة بِصدِقٍ وشَوق؛ فلَه في سيرَة المَهديِّين مِن الأنبياءِ والصَّالِحين سَلفًا وأُسوَة! فهذا خَليلُ الرَّحمن بَحثَ عَن الهِدايَة بِصدقٍ وتجرُّد ومَوضوعيَّة، ونبذَ جَميع الوَثنيَّات والآبائيَّات وراءَ ظَهرهِ فجَعل الله مِنه ومِن ذُرِّيته نماذِج تُحتذَى، ويُقتَفى أثرُها، وأمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم وأتابعَه بأن يستَمسِكوا بِغرزِهم، ويقتفُوا خُطاهُم!

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ؟؟} الأنعام.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} الأنعام.

* وختاما أقُول أنَّ الهِدايَة ليسَت نُقطَة في الزَّمان؛ يمرُّ بِها المَرء فيَهتَدي – بِعامِلٍ مِن العَوامِل – فيبقَى مَهديًّا أبدَ الدَّهر! بل إنَّ الشَّيطان اللَّعين بالمِرصاد لا يترُكُ الإِنسان وشأنَه؛ ولا يهنَأ نَفسا حتَّى يَراه مُرتدًّا على أدبارِه، ناكِصًا على عَقبيه!

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد : 25].

- فلذا ليسَ مِن الصُّدفَة أن نسأل ربَّنا في كُلِّ ركَعة لَدى قراءَتنا لسُورة الفاتِحَة {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، فالطَّريقُ طَويل ذُو أشواك، وشُعبه كثيرَة نحتاجُ في كُلِّ مرَّة إلى هِدايَة؛ بل هِدايات مِن خالِقنا الرَّحيم الوَدُود! وكَفى بِه هاديًا ونصيرا! وعسى ربُّنا أن يَهديَنا سواءَ السَّبيل؛ إنَّه سميع قريبٌ مُجيب.

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 213].

والحَمد لله ربِّ العالمين

 

 

 

 

B

#بقلم الطَّالب: نسيم بسالم

 

 

 

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين

مفهوم الهداية في القرآن الكريم

   يلتَقي الإِنسانُ في واقِعه الاجتِماعي بِكثيرٍ مِن الكُسالَى وضَعفَة النُّفوس، وفاتِري الهِمم؛ يعبُّون مِن المَعاصي عبًّا؛ ويتخوَّضُون في لُجَجِها خَوضًا؛ وهُم في ذَلك عالمُون مُدركُون أنَّ ما تقتَرفُه أيديهِم عَينُ الحَرام، ومناطُ سَخطِ الله وعِقابِه؛ ولكنَّهُم يُعلّلُون النَّفس ويُسكِّنُون تباريحَها بِقولِهم: لَم يشأ الله هِدايَتَنا فما ذنبُنا؟ ولَو شاءَ لهَدانا؛ فالله يَهدي مَن يشاء ويُضلُّ مَن يشاء! أو بالعبارَة العامِّية الدَّارِجة على ألسُن بعض السُّفهاء: "المتربِّي مَن عند ربِّي"! وهُو نَفس الزَّعمِ والوَهم الذي ينسِفُه الله للأشقياءِ غدا يَوم القيامَة لمَّا يُعاينُون العذابَ، ويُدركُون أنَّه لا مفرَّ لهُم منه ولا مَحيص!

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[الزمر : 57].

- كأنَّ هَؤلاء يَرون أنَّ الهِدايَة حُظوَة وتفضيلٌ إلهيٌّ عشوائي يختصُّ بِه مَن يشاءُ مِن عبادِه دُونَما قانُون ناظِم أو نامُوسٍ حاكِم!

   فتَجدُ أمثَلهُم طَريقَة يقُول لَك: " وجهك برَكة، ادعيلي ربِّي يَهديني"، ثُمَّ يستمرُّ على ضَلالِه القَديم؛ إفكا وزورا وبُهتانا واختلاسا، ظُلمًا وعُدوانا؛ مُنتَظرا أن تهُبَّ عليه ريحٌ مِن الهِدايَة في يَومٍ مِن الأيَّام فتُنقذَه مِن ظُلماتِه ضَربَة لازِب!!!  تَماما كذَاك الذي فقَد حرارَة الخطِّ مِن جوَّالِه ينتَظرُ أن يمرُّ مِن منطقَة داخلَة في التَّغطيَة حتَّى تعُودَ الحياةُ إلى جِهازِه كرَّة أُخرى! بِهذه المَشاعِر يعيشُ كثيرٌ مِن عُصاةِ المُسلِمين؛ غرَّهُم حِلمُ ربِّهِم عليهِم، وألهاهُم  طُول الأَمل؛ وتمنَّوا على الله الأَماني، فغرَّهُم بالله الغَرور، وتفنَّنُوا في ألوانٍ مِن الفِسقِ والفُجور!

* قبلَ أن نُعرِّجَ على تتبُّعِ بعضِ موارِد الهِدايَة في القُرآن الكريم للتعرُّف على نواميسِها وسُنَنِها نقُولُ أنَّ الإِنسانَ – أيَّ إنسانٍ سويِّ الفِطرَة- يبحَثُ في سرِّه عَن الهِدايَة في كَثيرٍ مِن الأشياء التي يستَلغزُها فيما حَوالَيه؛ وتتَوارَد إلى خاطِرِه بينَ الفَينَة والأُخرى أسئِلةٌ مُحرِجة مُقلقَة يودُّ لَو يَجدُ لَها جَوابا يُبدِّدُ حيرتَه ويَشفي غليلَه!

- فهُو يتساءَلُ مِن أينَ أتيتُ؟! ومَن أتَى بي إلى هذه الحَياة؟! وماذا يُرادُ منِّي أن أفعلَه؟! وهَل هُنالِك حياةٌ أُخرَى بعدَ هذه الحَياة أم أنَّه محضُ العَدم والبِلى ولا شَيءَ وراءَ ذَلك؟!

- لمَ هذا التَّفاوُت العَجيبِ بينَ النَّاس في الصَّحَّة والمَرض؟! في الأَمن والخَوف؟! في الإعسارِ واليسَار؟! فيما تُدرُّ السَّماء وما تُخرجُ الأَرضُ مِن خيراتِها وبركاتِها؟!

- لماذا نَرى إنسانا وُلِد كَفيفًا ولَم يرَ النُّور في حياتِه قط، ونرَى آخَر مُمتَّعٍ بباصِرتيه إلى أرذَل عُمرِه؟! ألمزيَّة في هذا أم لنُقصٍ في ذَاك؟!

- ولِماذا نَجدُ دُولاً في مُنتَهى الأَمن والعافيَة والاستِقرار، ونَرى أُخرَى تُدمَّرُ وتُهلَك، ويُسامُ أهلُها سُوء العذاب؟! يُقتَّل أبناؤُها ويُستحيى نساءُها؟! أليسَ هذا الأَمر عجيبًا فِعلا؟!

- ونسمَع مرَّات ومرَّات عَن أطفالٍ ما إن خرجُوا إلى هذه الحَياة حتَّى وجدُوا أموالاً طائِلة بانتِظارِهم!! ونَسمَع عَن آخَرين لا يكادُون يحصُلون على قُوتِ يَومِهم بعدَ طُولِ كَدح وعَنت ساعاتٍ مَديدة؟! ما تَفسيرُ هذا؟!

- كيفَ نُفسِّر (غضَب الطَّبيعَة) أحيانًا على شَكلِ أعاصيرَ وزلازِل وبراكين وفيضانات؛ بحيثُ تُحصَد مئات الأَرواحِ، وتسقُط آلافُ البنايات؛ في غُضون دقائِق أو ساعات؟!

- هَل مِن المَعقُول أن يتنعَّم الظَّالِم الغاشِم بشتَّى مباهِج الحَياةِ وزخارِفِها سِنينَ عَددا، ويَركَب ظُهور العِباد ويمتصُّ دِماءَهُم، ويقصِم فقارَهُم؛ ثُمَّ يمُوتُ بعد ذَلك هُوَ ويمُوتُ مَن ظلَمهُم، وتنتَهي القصَّة ولا يُوجدُ مِن يقتصُّ مِن الظَّالِم للمَظلُوم، ولا لائِم ولا ملُوم؟!

*  أسئِلة كثيرَة لا تُحصَى عَددًا مِن هذا القَبيلِ تتناوَشُ كُلَّ مَن رجَع إلى فِطرتِه النَّقيَّة التي فَطرَه الله عَليها؛ تُقلِقُه مَعرفيًّا ووُجدانيا، وتُلحُّ على ضَميرِه لكَي يَجدَ جَوابا شافيًا علَّه يُحسُّ بشَيءٍ مِن الارتياحِ النَّفسي!! ولا شَأنَ لَنا طَبعا مَع مَن تنكَّر لِفطرتِه، وأخمَد أُوارَها قَسرًا مِن المُلحِدين والطَّبيعيين الذينَ لا يَرونَ مِن هذه الحَياة إلا مَجمُوعَة قَوانين فيزيائيَّة وبيولوجيَّة تحكُم عالَم الأَشياءِ ويكفُرون بِما وراءَ ذَلك! وبالمُناسَبَة  فالإلحادُ ليسَ بقناعَة عقليَّة أبدا وإنَّما هُو مَحضُ اعتِلالٍ نَفسي كَما يشهَد بِذَلك كبار العُلماء والفلاسِفَة!

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت :61- 63].

* والآن هَل يُتصوَّر مِن إلهٍ رَحيمٍ، لطيفٍ وَدُودٍ أَن يترُكَ عبادَه هكذا هَملاً ضَياعًا مِن غيرِ هِدايَةٍ وتبيين سَبيل؟!وبعبارَة أُخرَى: هَل نعزُو حيرَة الإنسان وتيهِه، واضطرابِ نَظمِ حياتِه (على خلافِ كافَّة المَخلُوقات) إلى تقصيرٍ مِن الباري عزَّ وجَل (حاشاه) في الهِدايَة، أم أنَّ التَّفريطِ يعُودُ على الإِنسان في عَدم اتِّباعِه للخطِّ الذي رسَمه خالقُه لَه لكَي يسعَد ويهنَأَ، ويحيى حياةً طيِّبَة؟!

* لا أرَى إلاَّ أنَّ أقصَر طَريقٍ للجَوابِ على هذا السُّؤال؛ مِن غيرِ الدُّخول في مباحَثاتٍ فلسفيَّة وشقشقاتٍ كلاميَّة؛ هُو التَّأمُّل في عالَم الخَلقِ الواسِع الرَّحيبِ أينَ نقفُ على صُوَرٍ مِن الهِدايَة الربَّانيَّة مُنقطِعَة النَّظير؛ ثُمَّ ليَتساءَل كُلُّ عاقِلٍ مَع نفسِه بعد ذَلك: هَل يُعقَل أن يَهديَ الله كُلَّ تِلك العَوالِم والأُمَم مِن البهائِم والوُحوش، ويترُكَني أنا فقَط حائِرا لا أدري مِن أينَ أتيتُ ولكنِّي أتيتُ كما قالَ ذَلكم الشَّاعِر؟! أبصَرتُ قُدَّامي طريقا فمشيتُ! كيفَ جئتُ؟! كيفَ أبصَرتُ طريقي؟! أتمنَّى أنَّني أدري ولكنِّي لستُ أَدري! لستُ أدري لماذا لستُ أَدري؟! هَل يُعقَل أن يَجعَل الله حياتي طَلاسِم وألغاز وأُحجيات؟! وهُو الذي خلقَ سوَّى، وقدَّر فهَدى؟!

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه :49- 50].

صور مِن هدايَة الله للمخلُوقات

- هنالِك هِجرة شهيرة من البحار في المياه العذبة لأسماك السلمون البالغة لوضع البيوض، والتي تطالعنا بها الصور التلفازية بقفزاتها ـ تصل إلي 3-4 متر ـ بالغة الرشاقة والروعة والمرونة. تراها باذلة الجهد الكبير ضد مساقط المياه العاتية، وضد مشاكل سوء التغذية لا يصدها صاد عن غايتها واستمرار نسلها. ذلك النسل من السلمون الصغير الذي يعود ببطء، وفي اتجاه تيار الماء، نزولا إلى البحر في رحلة قد تستمر أربع سنوات. لكنه بعد بلوغه يعود ثانية لنبع النهر العذب الذي فقس فيه سابقاً ليعيد دورة حياة جديدة. فمن غير الله تعالى قد "ألهمه" ذلك؟!

- من الساحل البرازيلي تهاجر سلاحف البحر الخضراء البرازيلية (Chelonia mydas) للتكاثر قاطعة مسافة 2500كم، عابرة المحيط الأطلسي نحو السواحل الإفريقية، وعند جزيرةAscension تضع بيضها ومن ثم تعود إلي موطنها دون أن تضل طريقها. ويحار العلماء في تفسير تلك الرحلة العجيبة، فهل تترك السلحفاة رائحة معينة تهتدي بها حال عودتها، أم تسترشد بالتضاريس البحرية، أم بزاوية معينة للشمس بالنسبة للأرض، أم ببوصلة مغناطيسية؟! مَن غير الله تعالى هداها سبلها؟!

-  يوجد ما يزيد عن (8000) نوع من الطيور، فهل تعلم أفراخها الطيران أم إن هذه الخاصية "هداية" من الله تعالى؟! أجرى  باحثون ألمان تجربة للإجابة عن مثل هذا السؤال، حيث وضعوا صغار الحمام حديث الفقس في أنابيب ضيقة؛ بحيث لا تستطيع تحريك أجنحتها، وعند بلوغها سنا معينة قاموا بإطلاقها فطارت علي الفور! سُبحانَ الله الهادي! ومِن ناحيَةٍ أُخرَى نجدُ بعضًا مِن سباع الطير ومن يصطاد في الهواء، تساعد صغارها وتدربها عبر إلقاء قطع الطعام في الهواء ـ كي تَكتَسبَ مهارة إتقان فن القنص في الهواء! مَن الذي علَّم الآباءَ وأولادَها؟!

- عبر فصول العام مازالت هجرة الطيور (أكبر المهاجرين في الكائنات الحية) إلى حيث الدفء والغذاء، ووضع الأعشاش، وهداية الله تعالى لها حين عودتها أو عودة صغارها بمفردهم فيما بعد إلى موطنهم الأصلي، مثار اهتمام ودهشة بالغين من العلماء والمختصين .فعلي سبيل المثال خرسَنة القطب الشمالي ( Sterna paradisaea) تتكاثر في أقصى شمال أوربا وأمريكا وتهاجر في الخريف جنوبا إلي استراليا وأفريقيا، حيث تبقي حتى الرَّبيع؛  ومن ثم تعود إلى أرض تكاثرها في الشمال، في رحلة فريدة عجيبة لا تصدق، وتبلغ نحو 35.500 كم في السنة الواحدة. لقد تعددت تفاسير العلماء "لحواس التوجه"، ومدي الدقة في تحديد الاتجاه وأماكن الهجرة، ومن ثم العودة للموطن الأصلي، وصولا للقول بوجود مادة تعمل "كمغناطيس طبيعي" يتوافق مع المجال المغناطيسي للأرضِ ذهاباً وإيابا! إنها ـ من قبل ومن بعد ـ هداية الله لمخلوقاته.

-  كانت قد أجريت تجربة للتفريخ الاصطناعي لبيض الدجاج، عبر إحاطته من جميع جوانبه بالحرارة المناسبة ولكن دون تقليب، كما هدى الله تعالى الدجاجة لذلك! لكن مضى موعد الفقس دون خروج الفراريج، وفشلت التجربة. ليُعلم فيما بعد أن الدجاجة إنما تقلب بيضها منعاً من ترسب المكونات الأولية للفرخ في الأجزاء السفلى منه، ولذا فهي لا تقوم بتقليب البيض في اليوم الأول وكذا الأخير من فترة الحضانة، فمن هداها لذلك؟!

- وإذا تركنا الدجاجة وهدايتها في تقليب البيض، فمن الذي هدى ذَلك الفَرخ عند موعد فقسه كي يكسر بيضته عند أضعف أجزائها؟! ومن الذي هدى "العقاب المصري" كي يلتقط الحصى بمنقاره، ومن ثم يرتفع عاليا كي يسقطها بذكاء، وبخاصية من حدة بصر فائقة على بيض النعام العصيِّ على الكسر؟!

- لُوحظ قنفُذٌ يأكُل حيَّة؛ وكُلَّما أكَل جُزءًا مِنها؛ ذهبَ مُسرِعًا إلى شجَرة قريبَة مِنه ليَقضِم شَيئًا مِنها؛ ثُمَّ يعُودُ إلى أكلِ الحيَّة، وهكذا تكرَّرت العمليَّة مِنه مرَّات ومرَّات؛ ولمَّا اختُبِرت تِلك الشَّجرَة وُجدَ أنَّ بِها مادَّة تُضادُّ سُمَّ الأفعى؛ فيستَفيدُ القُنفذ مِن لَحم الأفعى مِن غيرِ أن يتضرَّر مِن سُمِّها! سُبحان الله! مِن أيَّة جامِعة عالميَّة تخرَّج ذَلك القُنفُذ؟!

* لَو شاءَ ربُّ العِزَّة والجَلال أن يجعَل حياةَ البشَر تسيرُ وِفقَ هُدَى غَريزي تَكويني كذَاك الذي نلمحُه عِندَ سائِر المخُلوقات التي بثَّها الله في هذه المَعمُورَة! فلا نَرى فيها عِوجًا ولا أمتًا! لا حُروب ولا تسلُّط طَبقي، ولا صِراع أجيال، ولا تَفرِقَة عُنصُريَّة، ولا أزمَة غذائيَّة، ولا استِحمار الشُّعوب (أو استِغنامُها كما يحلُو لبعضِهم مِن التَّنويعِ في العبارَة)، ولا تدَهُور العلاقات، ولا خيانَة زوجيَّة، ولا توتُّر نَفسي، ولا شَيءَ مِن قبيلِ ذَلك ممَّا هُو بيِّنٌ جُنوحُه عَن الفِطرَة السَّويَّة التي فَطر الله النَّاسَ عليها! أسمِعنا شَيئًا ممّا ذُكِر أو صِنوُه عِند أيَّةِ أمَّة مِن الأُمم التي ذَرأها الله في كَونه الشَّاسِع الفَسيح؟!

   أتناهَى إلينا أنَّ النَّمل اجتَمعَت  يَومًا (أو العناكِب) لتُنادي بإسقاطِ المَلك أو الحاكِم، وتُصيِّح بإسقاطِ النِّظام وتبديلِه تَنديدًا بتردِّي الأَوضاع المَعيشيَّة وخَنق الحُرِّيَّات؟! كلاَّ وحاشاها! فأنَّى لَها أن تُغيِّرَ نِظامًا مِن تدبيرِ الحَكيم الخَبيرِ الذي وسِع كُلَّ شَيءٍ عِلما؟!

   ولَكن ما بالُ هذا الإنسان التَّعيس الذي ما يَفتَأ ينعتِقُ مِن براثِن مُشكِلَة حتَّى تعتورُه أُخرَى وأُخرَى وأُخرَى في جحيمٍ لا يَنتَهي ولا يبدُو أنَّه سيَنتَهي أبدَ الدَّهر؟! أليسَ هُو الآخَر مَهديًّا بِفطرتِه كسائِر ما خَلقَ الله؟! فما تفسيرُ هذه المُفارَقة العَجيبَة المُغربَة ؟!

-  الجَواب بُكلِّ بساطَة أنَّ الإِنسان - وإن كانَ مفطُورًا فِطرَةً سويَّة لا يُماري في ذَلك أحد- إلاَّ أنَّ هدايَتَه شاءَ الله أن تكُون تكليفيَّة لا تَكوينيَّة؛ يترتَّبُ عليهَا في النِّهايَة ثوابٌ لِمن اختارَ هِدايَة الخالِق سُبحانَه واتَّبعَها؛ وعقابٌ لِمن حادَ عَنها واتَّبعَ هواه واختارَ هِدايَة الشَّيطان!

{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة : 13].

{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام : 149].

{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل : 9]

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) } الإنسان.

{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}؟! البلد.

* إذَن فالإِنسانُ مَهديٌّ مِن خالِقِه الرَّحيم سُبحانَه؛ هِدايَة بيانٍ وإضاءَةٍ لكلا طَريقي الشُّكر والكُفر؛ ثُمَّ هُو حُرٌّ تَمامَ الحُرِّيَّة في المَنهَج الذي يَنتقيه، والمَهيَع الذي يسلُكُه إلى أن يُنبَّأ يَوم القيامَة بِما قدَّم وأخَّر! فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير!

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت : 17].

- لَقَد هَدى الله قَوم ثمُودَ كَما هَدى سائِر البَشر إلى طريقِ الهُدَى ودينِ الحق؛ ولكنَّهُم استحبُّوا العَمايَة والغوايَة فتنكَّبُوا عَن سواءِ الصِّراط؛ وهكذَا فَعل الله ويَفعَل مَع كُلِّ أمَّة خلقَها؛ ولَن تجدَ لسُنَّة الله تبديلا ولَن تجدَ لسُنَّة الله تَحويلا!

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس :35- 36].

* مَن غيرُ الله يَهدي عبادَه؟! أليسَ هُو وَحدَه لا شَريكَ لَه، وكُلُّ ما سِواهُ يستَمدُّ الهِدايَة مِنه سُبحانَه؟! إذَن: لا شكَّ أنَّ أيَّ حصيفٍ أريبٍ يَفزَع إلى مَن بيَدِه مقاليدُ الهِدايَة أصالَةً؛ لا أن يتشبَّثَ بأهدابِ مَن هُو يبحَثُ عَن الهِدايَة في نفسِه؛ ولا يهدِّي إلاَّ أن يُهدَى! فما بالُ هذه القُطعان البشريَّة تلهثُ وراءَ كُلِّ ناعِق، وتتَّخذُ مِن نفسِها فِئران تَجارِب لكُلِّ نظريَّة جَديدَة برَّاقَة طُبِّلَ لَها وزُمِّر؛ حتَّى تتنكَّبَ في النِّهايَة الوَيلات وتتجرَّع الحَسرات؟! قُتِل الإنسان ما أكفَره!

{قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام : 71].

* أليسَ الخالِق العَظيمُ هُو الذي هَدانا بالنُّجوم اللآلئ في جوِّ السَّماء في اللَّيالي الحالِكَة الظَّلماء؛ وبالطُّرق السَّابلَة ولَو في شُعَبِ البيداء! أيُتصوَّر أن يترُكَنا نضربُ في عَماء ونَخبِطُ خبطَ عشواء؟!

{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل: 63].

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام : 97].

{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء : 31]

* والآن: قَد سلَّمنا يا ربِّ لهُداك، وقرَّرنا ألاَّ نعبُدَ إلاَّ إيَّاك؛ ولا نسأل الهِدايَة مِن سواك! فكَفى بِكَ هادِيًا ونصيرا! أنتَ الذي تقُول الحقَّ وأنتَ وحدَك تهدي السَّبيل! ولَكن يا ربِّ ما المَخرَجُ مِن الظُّلماتِ الحَوالِك إلى نُورِك المُبين؟! إلى أينَ نلتَجئ؟ وبِم نستَمسك؟!

    يَأتي الجَوابُ الإلهي واضِح اللَّهجَة صادِق المَحجَّة خِطابًا للعالَمين: إنَّ الحلَّ لكُم يا عبادي كُلُّ الحلِّ! والنَّجاة كُلُّ النَّجاة في القُرآن الذي بينَ أيديكُم تنثُروه نثرَ الدَّقل، وتُهذرمُونَ كلماتِه هذرمَة، وتتلونه للبرَكة في مناسباتكم وحفلاتكُم، وتتنافسُون في طباعتِه وتجويدِ حُروفِه! لَو تدبَّرتُموه وعقلتُم آياتِه، وتبصَّرتُم ببصائِره؛ فلَن تبغُوا عَنه حِولاً ولَن تجدُوا مِن دُونِه مُلتَحدا! ولَكن اتّخذتُم لَه بدائِل ونبذتُموه وراءَكُم ظِهريًّا، ولَم تدرُسوه حقَّ دراسَتِه! فحقَّ عليكُم مِثلَ ما حقَّ على أهلِ الكِتاب، ولله الحكمَة البالِغَة وفصلُ الخِطاب! اسمعُوا إلى هذه الآيات بإنصاتٍ وخُشوعٍ علَّها تُحيي فيكُم قُلوبًا مَيتة، وتُسمِعُ فيكُم آذانًا صُمًّا!

{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم : 1].

{قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة :15-  16].

{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: 38.

{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه :123- 124].

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح : 28].

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة : 185].

{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ : 50].

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء : 9].

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن :1- 2].

* لَم يُغِفِل خالِقَنا العَظيم أمَّة مِن الأمَّة مِن الهِدايَة إلى سواءِ السَّبيلِ وتبيين المَنهَج والطَّريقَة؛ فهذه بعض آياتٍ تُضفي صِفَة الهِدايَة إلى كُتبٍ أنزِلت على أمَمٍ مِن قبلِنا! فَما أجلَّ عَدل الباري عزَّ وجل بينَ خلقِه، وما أعظَم رحمَته بعبادِه أجمَعين!

يقُول تَعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ. مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}[آل عمران:3-  4].

ويقُول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون : 49].

ويقُول أيضا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ .هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر :53- 54].

* والسُّؤال الذي يتبادَر الآن لكُلِّ مَن يتدبَّر هذه الآيات ويتمعَّن في معانيها: فلِمَ لَم يهدِ الله تَعالى جبلاًّ كثيرًا ومَنبَع الهِدايَة في أيديهِم؟! في قَديم الزَّمان وحديثِه؟! بَل نَجدُ الكَثيرَ ممَّن يحمِل شِعارَ الإسلام ويحشُر نَفسَه في صفِّ المُسلِمين بعيدًا كُلَّ البُعدِ عَن الخطِّ الذي رسَمه القُرآن الكَريم لعبادِ الله الصَّالِحين البَررة؟! فَأين الخَلل؟! وما مَكمَن السِّر؟!

- الجَواب على هذا الإشكالِ المُحيِّر أنَّ الله سنَّ للهدايَة قوانينَ ونَواميس لا تَختلفُ عَن تِلك التي نَحفظُها في عالَم المادَّة؛ فكَما أنَّ هذه لا تتخلَّف فكذَلك تِلك لا تتخلَّف ولا تتحوَّل ولا تتبدَّل! ولا يغرُّنا اقتِرانُها بالمَشيئَة؛ فمشيئة الله مُنزَّهَة عَن العَبثِ والعشوائيَّة! إن هيَ إلاَّ محضُ العَدل ووَضعُ كلّ شَيءٍ في نصابِه؛ وأيُّ عَدلٍ كعدلِ الباري سُبحانَه وتَعالى؟!

- رُبَّما جِماعُ قَوانين الهِدايَة في كِتاب ربِّنا سُبحانَه وتَعالى الآيَة التي يَحفظُها الجَميع، ولَكن قلَّ مَن يقفُ عِندَها بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ يُثمِر عَملاً وإقبالاً أكثَر على الجُهد ابتِغاءِ مرضاة الله تعالى.

يقُول الخالِق الحَكيم في خاتِمة سُورة العَنكبُوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت : 69] .

- أجل!! مَن كابَد وتعنَّى في سبيلِ الهِدايَة بنَفسٍ مُخلِصَة، وعَزيمَة صادِقَة، وجُهدٍ دؤوب حَثيث لا يَعرِف الوَنى والكَسل؛ فاتَّقى وآمَن وأحسَن وتابَ وعَمل صالِحًا فتَح الله عليه مِن نسائِم الهِدايَة، ومتَّعهُ بأعظَم جنَّة يتفيَّأ المَرء ظِلالَها في الدُّنيا؛ جنَّة القُرب مِن الله تَعالى؛ وأمَّا مَن أسرَف على نفسِه وظلَمَها، واختارَ سَبيلَ الغوايَة والضَّلالَة؛ تركَه الله في ظُلمات الجَهل والهَوى إذا أخرَج يَده لَم يَكد يراها! هذه مَشيئَة الله! كُلاًّ يُولِّه ما تَولَّى، ويُيسِّر لَه السَّبيلَ الذي يَختار! فمَن اهتَدى فإنَّما يهتدي لنفسِه، ومَن ضلَّ فإنَّما يضلُّ عليها! ومَن يهدِ الله فلا مُضلَّ لَه، ومَن يُضلِل فلا هادِي لَه! وسينكشِف يَوم القيامَة للجَميعِ مَن تنكَّب عَن الصِّراط السَّوي ومَن اهتَدى!

* سأنتَقي الآن بعضَ آياتٍ تُبيِّن الصِّفات الواجِب توفُّرُها في كُلِّ مَن أرادَ أن يكُونَ مِن المُهتَدين، وآياتٍ تُبيِّن الصِّفات التي إن علِمَها الله في إنسانٍ حرمَه مِن نُور الهدايَة وضيائِها السَّني مَهما كانَت منزلتُه في عُيون الخَلق! فالله صارِمٌ في تنفيذِ سُننِه وحاشاهُ أن يُحابي أحدًا، أو يفضِّله مِن غيرِ ما مُوجب! ولَو شاءَ لَهدَى النَّاسَ جَميعا!

   يقُول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس : 57].

 - يعني كُلُّ تِلك العطايا الرَّبانيَّة تكُون للمُؤمنين حَصرًا لا يُشارِكُهم فيها غيرُهم.

   ويقُول سُبحانَه: { فَبَشِّرْ عِبَاد. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزمر :17- 18]

-  لاحِظ أخي الكَريم بذلَ الجُهد في الاستِماع والاتِّباع كيفَ يُثمِر الهِدايَة! فاتَّبعني أهدِك صراطًا سويًّا! يا قَومِ اتَّبعُون أهدِكُم سَبيلَ الرَّشاد!

   ويقُول أيضا في النِّساء: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء :66- 68].

- الفِعل لا الأماني الفارِغة هُو الذي يستَمطِر رَحمات الله تعالى وتثبيتِه للقُلوب، والأجور العَظيمَة، والهداية إلى الصِّراط المُستقيم! ترجُو النَّجاة ولَم تسلُك مسالِكَها، إنَّ السَّفينَة لا تَجري على اليبسِ! فالقُرآن فيه هُدى ونُور نَعم! ولَكن هُدًى للمُتَّقين! هُدًى وموعظَة لِقَومٍ يُوقنُون! هُدًى وبُشرَى للمُحسِنين!

يقُول تعالى في التَّغابُن: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن : 11].

- يعني: أرادَ أن يُؤمِن بالله، وبذَل وُسعَه بعدَ ذَلِك بصدِقٍ؛ فإنَّ الله أكرَم الكُرماء يُنادي للمُجافي المُعرِض، فكيفَ بالوامِق المُحب؟! فَمن يُردِ الله أن يهديَه يشرَح صَدرَه للإسلام ومَن يُرد أن يُضلَّه يجعَل صَدره ضيِّقا حرِجا كأنَّما يصَّعد في السَّماء!

 وفي الرَّعد نقرأ قَوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد : 27].

- نَعم المُنيبُ المُخبِت هُو الذي يستَحقُّ الهِدايَة، وأمَّا المُعرض المُستنكف الثَّاني لعطفِه فلا هدايَة ولا هُم يحزنُون! إنِّي ذاهِبٌ إلى ربِّي سيَهدين! إلاَّ الذي فَطرني فإنَّه سيَهدين!

في يُونس نقرأ قَوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس: 9]...

-  يهديهم ربُّهم بإيمانِهم وإخلاصِهم لا بادِّعائِهم وأمانيهِم! والذين اهتَدوا زادَهُم هُدى وآتاهُم تَقواهُم! إنَّهُم فتية آمنُوا بربِّهِم وزدناهُم هُدى! وهكذا! الهِدايَة ليسَت بالمَجّان؛ لابُدَّ أن يتفصَّد جبينُ المَرءِ عرقًا مِن أجلِها! والجَزاءُ مِن جنسِ العَمل! ولَنا في إخوانِنا الجنِّ عِبرَة ومَوعِظة لمَّا أعلنُوها صَراحَة للعالَمين: وإنَّا لمَّا سَمعنا الهُدَى آمنَّا بِهن فمَن يُؤمن بربِّه فلا يَخافُ بَخسًا ولا رَهقا!

    يقُول تعالى في سُورة المائِدة: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة :15- 16].

- يعني مَن تحرَّى رِضوان الله تَعالى في كُلِّ ما يأتي وما يَذر مُستنيرا بِنُور الكِتابِ وآياتِه؛ كانَ حريًّا بالله سُبحانَه وتَعالى أن يُخرِجَه مِن سماديرِه، ويُحرِّره مِن ظُلماتِه! ومَن أضلُّ ممَّن اتَّبع هَواه بِغيرِ هُدى مِن الله إنَّ الله لا يَهدي القَوم الظَّالِمين!

وأختِم بِهذه الآيَة في سُورة البَقَرة؛ يقُول فيها الباري سُبحانَه: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26].

- أمَّا الذين آمنُوا فآياتُ الله في حقِّهِم زيادَة في الخَير، وزيادَة في الإيمان واليَقين، وأمَّا الذين في قُلوبِهم مَرض فتَزيدُهم – والعياذُ بالله – رِجسا إلى رِجسِهم! فكَما أنَّ للقُرآن مُكافآت فكذلِك لَه عُقوبات! فلا حياديَّة مَع القُرآن! إمَّا أن تكُونَ مَعه أو يكُون عليك! ولَكن حاشا ربُّنا أن يَظلِم أحدًا! فالذي عَلِم الله مِن قلبِه خَيرا آتاهُ خَيرا ولَو كانَ يعيشُ في أخبث البيئات على وَجه الأَرض! ومَن علِم مِن قلبِه فُسوقًا وإعراضًا وكِبرا ومُعاجَزَة، أضلَّه عَن سواءِ السَّبيل ولَو كانَ مُسامِتًا مسجِد الله الحَرام!! الله جدُّ دَقيقٍ في أمرِ الهِدايَة مِثلَما هُو دَقيقٌ في تسيير النُّجوم والأَجرامِ في السَّماء!

{وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 258]... {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 264].

{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة : 108]...{ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف : 52].

{فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل : 37]...{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر : 3].

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل : 104].

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر : 28].

* يَعني مَن كانَ مُتَّصفًا بِهذه الصِّفات المذكُورة في الآيات وشَرح بِها صَدرًا – طواعيَّة مِن نَفسِه واختيارًا -  فلَن يملِك أحدٌ أن يَهديَه مِن دُونِ الله ولَو كانَ رسُول الله صَلوات ربِّي وسَلامُه عَليه ذي البَلاغِ المُبينِ والخُلقِ العَظيم! فسُبحانَ الهادي المُضل جلَّ جلالُه!

{وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يونس : 43].

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص : 56].

{أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء : 88].

{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ} [الزمر : 37].

* لكُلِّ مَن أرادَ أن يسلُكَ سَبيلَ الهِدايَة بِصدِقٍ وشَوق؛ فلَه في سيرَة المَهديِّين مِن الأنبياءِ والصَّالِحين سَلفًا وأُسوَة! فهذا خَليلُ الرَّحمن بَحثَ عَن الهِدايَة بِصدقٍ وتجرُّد ومَوضوعيَّة، ونبذَ جَميع الوَثنيَّات والآبائيَّات وراءَ ظَهرهِ فجَعل الله مِنه ومِن ذُرِّيته نماذِج تُحتذَى، ويُقتَفى أثرُها، وأمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم وأتابعَه بأن يستَمسِكوا بِغرزِهم، ويقتفُوا خُطاهُم!

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ؟؟} الأنعام.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} الأنعام.

* وختاما أقُول أنَّ الهِدايَة ليسَت نُقطَة في الزَّمان؛ يمرُّ بِها المَرء فيَهتَدي – بِعامِلٍ مِن العَوامِل – فيبقَى مَهديًّا أبدَ الدَّهر! بل إنَّ الشَّيطان اللَّعين بالمِرصاد لا يترُكُ الإِنسان وشأنَه؛ ولا يهنَأ نَفسا حتَّى يَراه مُرتدًّا على أدبارِه، ناكِصًا على عَقبيه!

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد : 25].

- فلذا ليسَ مِن الصُّدفَة أن نسأل ربَّنا في كُلِّ ركَعة لَدى قراءَتنا لسُورة الفاتِحَة {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، فالطَّريقُ طَويل ذُو أشواك، وشُعبه كثيرَة نحتاجُ في كُلِّ مرَّة إلى هِدايَة؛ بل هِدايات مِن خالِقنا الرَّحيم الوَدُود! وكَفى بِه هاديًا ونصيرا! وعسى ربُّنا أن يَهديَنا سواءَ السَّبيل؛ إنَّه سميع قريبٌ مُجيب.

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 213].

والحَمد لله ربِّ العالمين

اجمالي القراءات 29238