الإعجاز فى إختيار اللفظ القرآنى 4
هَامِدَةً / خَاشِعَةً - يَعْقِلُونَ / يَعْلَمُونَ
مقدمة:
القرآن الكريم .. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاماً وأوزانا ، ويجعل منها الله قرآناً وفرقاناً ، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات ، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض .. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة.
فهذا القرآن ليس ألفاظاً وعبارات يحاول الإنس والجن أَن يحاكوها . إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أَن يصنعوه . هو الروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل ، وإن أَدركوا بعض أَوصافه وخصائصه وآثاره.
إن لكتاب الله، الذي أنزله سبحانه ليكون نورًا وهدًى وشفاءً ورحمةً للمؤمنين، أسرار وعجائب لا تنتهي ولا يعلمها إلا الله كلما ازدادت البحوث في هذا العصر كلما ازدادت البراهين على المعجزة القرآنية.
إن البارئ سبحانه وتعالى رتب جميع كلمات كتابه بنظام محكَم، وكلما تعمّقنا وتدبّرنا في كلمات القرآن رأينا إعجازاً أكبر وأكبر.
القرآن الكريم كتاب الله ومعجزته الخالدة تحدى به الثقلين من الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله ، فعجزوا وما استطاعوا وما استحقوا على عجزهم لوما ولا عتابا.فأنى لهم أن يأتوا بكلام كالقرآن ، وامتاز بالسمو، وتكامل فيه الشكل والمضمون وتآلفـا فكل منهما يخدم الآخر ويقويه . . فكان ذلك إعجازا ما بعده إعجاز.
من ذلك الإعجاز القرآني الدقة في اختيار المفردات ، فكل كلمة تأتي في مكانها المناسب لها ، فلو غير موضعها بتقديم أو تأخير أوجمع أو تثنية أو إفراد لتأثر المعنى ولم يؤد ما أريد منه ، وكذلك لو جيء مكانه بكلمة خرى ترادفه لم تقم بالمطلوب أبدا.
هو نظام محكم وأي كلمة من كلمات القرآن تُستخدمُ استخداما دقيقا جدا في موضعها من أول القرآن حتى آخره والانسجام البياني المبهر يتجلى في كل آيات القرآن الكريم وتأتى الكلمة ليس لتوضيح المعنى فقط ولكن أيضا تصور الحالة تصويرا وكأنه حدث نشاهده فى الدنيا أو على شاشات التلفاز ليعطى المتدبر حقيقة هذه الصورة كما اراده الخالق سبحانه وتعالى. البيان القرآني يقوم على: الألفاظ، المعاني البليغة، الايقاع، الصور والظلال التي تشعّها الألفاظ، النظم القرآني البديع ولكننا سنأخذ مثالين فقط على ذلك.
المثال الأول:
1- فى سورة الحج نقرأ: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 22:5
2- وفى سورة فصلت نقرأ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.... " 41:39
ولنتدبر سويا فى هتان الآياتان حتى يمكننا أن نحيط ببعض من أسرار ترتيب القرآن للألفاظ والكلمات وصَوْرَها تصويرا يدل دلالة حقيقية لما يريد سبحانه أن يصوره لنا وبذلك يتم التدبر السليم والفهم الصحيح. فلنبدأ بالآية من سورة الحج.
* لمحة سريعة عن بداية سورة الحج ثم نتبعها بالتدبر فى الآية موضع البحث:
يجري سياق السورة من البداية بنداء الناس جميعا إلى تقوى الله وتخويفهم من زلزلة الساعة ووصف الهول المصاحب لها وهو هول عنيف . ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال . ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان وحياة النبات مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . . وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود.
أم إن الناس في ريب من البعث ؟ وفي شك من زلزلة الساعة ؟. إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة ولينظروا في أنفسهم وفي الأرض من حولهم حيث تنطق لهما لدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْ فَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6-22:5
إن البعث إعادة لحياة كانت فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة . وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب . فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له:كن فيكون ".
ولكن أين التراب وأين الإنسان؟ إنها نقلة سريعة تشهد بالقدرة التى لا يعجزها البعث وهى أنشأت ذلك الخلق من تراب.
فمن يتصور أو يصدق أن كل خصائص هذا الإنسان، ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة"نطفة"؟ وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب. ثم يمضى السياق مع أطوار الجنين ويا للقدرة الإلهية بين الطور الأول " نطفة" والطور الأخير" ثم نخرجكم طفلا ".
ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان . " وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ "
" هامدة " والهمود درجة بين الحياة والموت . وهكذا تكون الأرض قبل الماء وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء . فإذا نزل عليها الماء (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات "مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ". .
ذلك . . أي إنشاء الإنسان من التراب وتطور الجنين في مراحل تكونه وتطور الطفل في مراحل حياته وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود . ذلك متعلق بأن الله هو الحق . فهو من السنن المطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحق الذي لا تختل سنته ولا تتخلف . فهناك ارتباط وثيق بين أن الله هو الحق وبين هذا الاطراد والثبات والاتجاه الذي لا يحيد . (وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ) فإحياء الموتى هو إعادة للحياة . والذي أنشأ الحياة الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء . فهذا البعث تقتضيه حكمة الخلق والتدبير.
فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة . فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير الإنسان في الدار الآخرة . وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة ونواميس الحياة والبعث ونواميس الحساب والجزاء وتشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر الذي ليس في وجوده جدال.
* لمحة سريعة عن بداية سورة فصلت ثم نتبعها بالتدبر فى الآية موضع البحث:
الشوط الثاني من السورة، يتحدث عن آيات الله من الليل والنهار والشمس والقمر والملائكة العابدة والأرض الخاشعة والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ينتقل الله سبحانه وتعالى من الآية 37 يتجه الحديث إلى مجال الدعوة وهو ما بدأت بها السورة هى قضية العقيدة بحقائقها الأساسية، الألوهية الواحدة، والحياة الأخرى.... . وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق وتحذير من التكذيب بها وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة وعرض لمشاهد المكذبين يوم القيامة وبيان أن المكذبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسِّلمون بهذه الحقائق ولا يستسلمون لله وحده ; بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة . . . كلهم يسجدون لله ويخشعون ويسِّلمون ويستسلمون.
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
ومن هنا يبدأ السياق بجولة مع آيات الله الكونية:الليل والنهار والشمس والقمر وفي المشركين من كان يسجد للشمس وللقمر مع الله . وهما من خلق الله . ويعقب على عرض هذه الآيات بأنهم إن استكبروا عن عبادة الله فهناك من هم أقرب منهم إلى الله يعبدونه . ثم هناك الأرض كلها في مقام العبادة وهي تتلقى من ربها الحياة كما تلقوها فلم يتحركوا بها إلى الله إنما هم يلحدون في آيات الله الكونية ويجادلون في آياته القرآنية وهو قرآن عربي غير مشوب بأعجمية . وينتقل بهم إلى مشهد من مشاهد القيامة . ثم يعرض عليهم أنفسهم عارية بكل ما فيها من ضعف وتقلب ونسيان وبكل ما فيها من حرص على الخير وجزع من الضر . ثم هم لا يقون أنفسهم من شر ما يصيبها عند الله . وتنتهي السورة بوعد الله سبحانه أن يكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ويذهب ما في قلوبهم من ريب وشك.
وهى صورة من صور الإنحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا . فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه ! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الإنحراف ; ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة . ويقول لهم:إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر . . (واسجدوا لله الذي خلقهن)فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين . والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه . ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً:(خلقهن) باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم ; ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل ويصورهن شخوصاً ذات أعيان.
" فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38"
فإن استكبروا بعد عرض هذه الآيات وبعد هذا البيان فلن يقدم هذا أو يؤخر ; ولن يزيد هذا أو ينقص . فغيرهم يعبد غير مستكبر. هؤلاء الذين عند ربك وهم أرفع وهم أكرم وأمثل . لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون، الضالون في الأرض . ولا يغترون بقرب مكانهم من الله . ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً (وهم لا يسأمون). . فماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف في حقيقة العبودية لله من الجميع؟
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة فصلت 41:39
الخلاصة:المثال الأول...
ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع . فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها . فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة . ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح فجيء بالأرض في هذا المشهد تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة.
عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر . وقبل تفتحها بالنبات , مرة بأنها(هامدة) ومرة بأنها(خاشعة). وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير . فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان.
"لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو
وردت(هامدة) في هذا السياق: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة , ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة . لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ; ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ; ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً . وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ "
ووردت(خاشعة) في هذا السياق: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون .
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39
وعند التأمل السريع في هذين السياقين يتبين وجه التناسق في(هامدة)و(خاشعة). إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج ; فمما يتسق معه تصوير الأرض(هامدة) ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج . وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود يتسق معه تصوير الأرض(خاشعة) فإذا نزل عليها الماءاهتزت وربت.
ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا ( سورة فصلت39 ) الإنبات والإخراج كما زاد هناك ( سورة الحج 5 ) لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود . ولم تجىء (وأنبتت من كل زوج بهيج)هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك . إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها . وهذه الحركة هي المقصودة هنا لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً وكل الأجزاء تتحرك من حوله . وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير.
المثال الثانى:
1- نقرا فى سورة البقرة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " 2:170
2- ونقرأ فى سورة المائدة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " 5:104
* لمحة سريعة عن السياق الذى جاء فيه الآية 170 من سورة البقرة:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَيَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَيَعْقِلُونَ(2:171
بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة والبعد عن خبائثها محذرا من اتباع الشيطان الذي يأمرهم بالخبائث والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع ; ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع . . وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق.
بين الله - سبحانه - أنه الإله الواحد وأنه الخالق الواحد - في الفقرات السابقة - وأن الذين يتخذون من دون الله أندادا سينالهم ما ينالهم . . شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام . . وهذا فرع عن وحدانية الألوهية . فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل . وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك. وهنا يبيح الله للناس جميعا أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالا طيبا - إلا ما شرع لهم حرمته وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا لأنه عدوهم.
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا "..وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام. وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام . أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا . . سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله ; وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك.
" أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ " أولو كان الأمر كذلك يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم ? فأي جمود هذا وأي تقليد؟
ومن ثم يرسم لهم صورة مزرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود صورة البهيمة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة فالبهمية ترى وتسمع وتصيح وهم صم بكم عمي.
" وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والْسِنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون. وهذه منتهى الإهانة بمن يعطل تفكيره ويغلق منافذ المعرفة والهداية ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة.
* والآن ننتقل فى لمحة سريعة عن السياق الذى جاء فيه الآية 104 من سورة المائدة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " 101-104: 5
هذه الصنوف من الأنعام التي كانوا يطلقونها لآلهتهم بشروط خاصة منتزعة من الأوهام المتراكمة في ظلمات العقل والضمير . البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. من الذي شرع لهم هذه الأحكام فيها ؟
وحين تكون الأوهام والأهواء هي الحكم لا يكون هناك حد ولا فاصل ولا ميزان ولا منطق . وسرعان ما تتفرع الطقوس ويضاف إليها وينقص منها بلا ضابط . وهذا هو الذي كان في جاهلية العرب والذي يمكن أن يحدث في كل مكان وفي كل زمان حين ينحرف الضمير البشري عن التوحيد المطلق وهو التلقي من غير الله في أي شأن من شؤون الحياة.وإننا لنشهد اليوم - بعد أربعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن بهذا البيان - أنه حيثما انفك رباط القلب البشري بالإله الواحد تاه في منحنيات وخضع لربوبيات شتى وفقد حريته وكرامته ومقاومته.
" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ " والذين يتبعون ما شرعه غير الله هم كفار . كفار يفترون على الله الكذب . مرة يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون:شريعة الله . . ومرة يقولون:إننا نشرع لأنفسنا ولا ندخل شريعة الله في أوضاعنا . . ونحن مع هذا لا نعصي الله . وكله كذب على الله: " وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " إن شرع الله هو الذي قرره في كتابه وهو ليس مبهما. ولذلك يصم الله الذين ادعوا هذا الادعاء بالكفر . ثم يصمهم كذلك بأنهم لا يعقلون ! ولو كانوا يعقلون ما افتروا على الله . ولو كانوا يعقلون ما حسبوا أن يمر هذا الافتراء.
ثم يزيد فى كفرهم قولهم وفعلهم إيضاحا: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاإِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ". فاتبعوا ما شرعه العبيد وتركوا ما شرعه رب العبيد . ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد واختاروا عبودية العقل والضمير للآباء والأجداد. وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون أن لو كان يعلمون شيئا لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول ! إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم من قبلهم . فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم . ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه وبين يديه شرع الله إلا وهو لا يعلم شيئا ولا يهتدي.
الخلاصة: المثال الثانى...
كيف نحصل على العلم؟ هناك طريقتان للحصول على العلم:
الأولى، هو أن يهديك عقلك إلى الحق بعد أن تبين الشواهد والأدلة اليقينية، لأن الله سبحانه خلق الإنسان على الفطرة التى أرادها سبحانه وخلق العقل والسمع والبصر ليدلك على الحق اليقينى. وهذا هو الحصول على العلم المباشر.
الثانية: هو أن تحصل على العلم بواسطة كتاب مبين أو شخص آخر يعلمك ما لم تكن تعلم. وهنا الحصول على العلم بطريقة غير مباشرة. عن طريق آخر غير العقل ككتاب مبين أو رسول يعلمك.
" وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " 2:170
هنا فى هذه الاية الكريمة نجد انهم برغم أن الله سبحانه خلق لهم العقل والسمع والأعين ولكن لم يستخدموها لجلب العلم، وما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤديوظيفتها التي خلقت لها وهذه منتهى الإهانة بمن يعطل تفكيره ويغلق منافذ المعرفة والهداية ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة صم بكم عمي لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. فجائت كلمة لا يعقلونفى المكان المناسب للسياق لأن فى هذا الموضع يلزم إستخدام العقل للحصول على العلم والهداية بطريق مباشر.
أما آية سورة المائدة: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " 5:104
هنا تأتى الطريقة الثانية فى الحصول على العلم بطريق غير مباشر من كتاب مبين أو شخص آخر يعلمك. الله سبحانه يناديهم إلى الهداية والعلم عن طريق القرآن الكريم والرسول عليه السلام، فإزديادا فى الكفر بقولهم وفعلهم " بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا" فاتبعوا ما شرعه العبيد وتركوا ما شرعه رب العبيد . ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد واختاروا عبودية العقل والضمير للآباء والأجداد. وهنا جاء التعليق على هذا الكفر " أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَشَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ". جاءت كلمة لا يعلمون فى هذا الموضع لتناسب السياق وتوضح الطريقة الثانية فى الحصول على العلم والذى رفضه الكافرون بشريعة الله برغم أن الله سبحانه وضح لهم الطريق السليم للحصول على الهداية بإتباع القرآن الكريم وإطاعة الرسول عليه السلام فكانت النتيجة " لا يهتدون ".
الخاتمة:
إنه الإعجاز الإلهي الذي يتجلى في الكون كله، ويحف بالقرآن كله، مجموعه وجزئياته، كلماته وحروفه، معانيه وأسراره، ليكون النور الذي أراد الله أن يهدي ويسعد به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. هو نظام محكم وأي كلمة من كلمات القرآن تُستخدمُ استخداما دقيقا جدا في موضعها من أول القرآن حتى آخره والانسجام البياني المبهر يتجلى في كل آيات القرآن الكريم وتأتى الكلمة ليس لتوضيح المعنى فقط ولكن أيضا تصور الحالة تصويرا وكأنه حدث نشاهده فى الدنيا أو على شاشات التلفاز ليعطى المتدبر حقيقة هذه الصورة كما اراده الخالق سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين